موت الأم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • موت الأم

    موت الأم
    فيصل خرتش 23 مارس 2021
    سير
    (يوسف عبدلكي)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    صاح الحاجز: قف، فوقفت السيارة السوزوكي. كنا ستة أشخاص، وأنا أتربع إلى جانب السائق، وبجانبي زوج أختي، الذي يملك السوزوكي، والذي طفش ابنه إلى لبنان. وفي الخلف، وقوفًا، زوج أختي الذي كان ابنه يخدم الخدمة الإلزامية، وانفجر به لغم تحت السيارة التي كانت تقلهم، إنه الآن مصاب لا يستطيع حركة، وأمه ترعى شؤونه، والزعيم أبو بشار الذي فقد ابنه في اليونان، فقد هوى الشاب من الطابق الرابع وسقط على ظهره. عندما فارق الحياة، وجاء خبره إلى أبيه، صنع من نفسه زعيمًا على العشيرة، إذ وضع عباءة على كتفيه، والبريم والحطاطة على رأسه، وصار بين الناس وجيهًا يشار إليه بالبنان، وأخي الذي جاء مهرولًا، وجثة أمي الموضوعة على أرض السوزوكي، والملفوفة بشراشف وتحتها بطانية من إعانة الأمم المتحدة.
    لم أكن أعرف ما هو اليوم الذي ماتت فيه أمي الحاجة بديعة، كل الذي أعرفه أنهم أخبروني، بواسطة الهاتف، أنها ماتت، فقلت: إنا لله وإنا إليه لراجعون، سآتي فورًا. وفعلًا، لم أحلق ذقني، ولم آخذ دشًا، فقط أخبرت زوجتي، وهي بدورها أخبرت من بقي من الأولاد، وأنا انطلقت إلى حيث تسكن أمي.
    قال الحاجز: ماذا عندكم؟ وتقدم ليرى، كان متأبطًا بارودة روسية، ويرتدي ثيابًا مموهة، وحذاء بلاستيكيًا، وله تحت السترة ما يشبه الكنزة لونها رُماني.
    قال زوج أختي أبو خليل، الذي تحدر من فوق السوزوكي: معنا ميت. نظر العسكري إلى الجثة، وقال: أين ستأخذونها، قلت إلى جامع الشيخ أبو بكر لندفنها. استغرب العسكري: وهل يدفنون الموتى في الجوامع؟ قال العسكري. ردَ زوج أختي الذي لديه ابن لا يستطيع الحركة، وأين سندفنها؟ قال العسكري: في المقبرة. قلت: ولكن البلد محاصرة، والناس يدفنون موتاهم في الحدائق. قال العسكري، أهي امرأة، قلت إنها والدتي، فقال: يحملها أربعة فقط. قال أبو بشار: والخامس ابنها. نظر العسكري إلي، ثم قال: طالما أنت ابنها، اذهبوا أنتم الخمسة. كان أخي الأصغر قد غادرنا لا أعرف إلى أين؟
    صعدنا إلى تكية الشيخ أبو بكر، كانت تقع على مرتفع من الأرض، ولها درج عال وواسع يصل إليها، قلنا جميعًا: وحدوا الله.. الفاتحة.
    وصلنا إلى حديقة الجامع. كان أخي الأصغر هناك. يظهر أنه سبقنا، وجاء من طريق آخر لا يمر على الحواجز. أنا لم أكن أحملها، الأربعة يحملونها، أزواج أخواتي. كان القبر مفتوحًا إلى السماء، وقد صادف أن أسرة قد ماتت، وهم يتألفون من خمسة أشخاص، ماتوا متسممين بالغاز، فحفروا لهم القبور، لكن بنتًا من هؤلاء الخمسة أفاقت، ولم يصبها الموت، فبقي قبرها مفتوحًا، وأعطي لأمي، والحفرة، أقصد القبر، كانت بطول 175، وعرض 50، وعمق 75، لتكون قبرًا لأمي.
    صاح أحد أزواج أخواتي: "وحدوه"، وبدأ بقراءة سورة من القرآن، ثم بدأ برواية حديث عن أنكر ونكير، وأخذ جثة أمي وأنزلها إلى القبر، ابتعدت قليلًا لأنني لا أطيق أن أرى أمي وهي تدفن، وفجأة سالت دموعي "أهكذا يا أمي تتركينا وسط الوحوش". ثم انتبهت، لم يكن هنا وحوش، ولا من يحزنون، المكان عبارة عن حديقة مسورة تابعة للجامع، وفيها أشجار ونباتات وشهداء، وغيرهم. لقد دفنت في المكان الذي أحبته، فقد كانت تأتي إلى هنا كل يوم جمعة، تزور المكان، وتمسك شباك الولي، إنها تسميه هكذا، وتهزه وتقول له: فلانة من بناتي لم تحبل هذا العام، فاجعلها تحبل، وليكن ذكرًا، وفلانة من بناتها التي سجن ولدها، فترجوه أن يفك الله سجنه، حتى أن بناتها يقلن لها: أمي ألن تذهبي إلى جامع الشيخ أبو بكر، فتقول هي: إن شاء الله يوم الجمعة، فتقول ابنتها: امسكي شباكه واطلبي منه أن تتزوج ابنتي، فتقول أمي: بعد غد إن شاء الله، أصلي الصبح وأنطلق إليه.
    تم دفن جسد أمي، ثم بدأنا بقراءة سورة يس والقرآن الحكيم، وعندما انتهينا وضع حجر كبير تحت رأسها، وردم التراب فوقها، وجمعنا كل ما جئنا به، واندفعوا يريدون المدخل. قلت لهم: سأبقى قليلًا هنا، اذهبوا فأنتم الطلقاء، ثم وجدت أنه لا مجال لأن أقول ذلك، فتراجعت، واكتفيت بأنني سأبقى هنا.
    تقع منطقة الشيخ أبو بكر على مرتفع من الأرض، في مدينة حلب، وهي عبارة عن تكية للصوفية سابقًا وجامع، واتخذها بعض الأتراك سكنًا لهم، أيام حكمهم لنا، وهي تشتمل على إيوان كبير في صدره قبلية صغيرة، وعلى يمينه حجرة واسعة لها قبة مرتفعة، وفي وسطها ضريح الشيخ الذي كانت أمي تهز شباكه، والمتوفى عام 991 للهجرة، و1583 للميلاد.
    عدت إلى حديقة الجامع التي امتلأت بأضرحة الشهداء والموتى، وقفت عند قبر أمي، قرأت سورة الفاتحة، كادت الدموع أن تنهمر من عينيَ، لكني تداركت ذلك، ومشيت نازلًا الدرج.
يعمل...
X