هناك كلمة لأحد الأساتذة الكبار علماً ومعرفة وتواضعاً كان يرددها عن نفسه وهي : (كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي)
لم أع ِ تماماً مقصده وقتها، لكني، ومع مرور الأيام، كلما تقدمتُ خطوة في مسيرة المعرفة والممارسة في مجال معين أو علم ما، أكتشف أن ما أتعلمه أقل بكثير مما لا زلت أجهله
وما أن اطلعت مؤخراً على هذه النظرية التي فسَّرت لي بوضوح ما كان يقوله أستاذنا الكبير إلا وأثلجت صدري
اسم النظرية:
(ظاهرة التفوق الوهمي)
وهي باختصار تشير إلى أن الأشخاص، الذين لديهم بعض المعرفة في علم ما، يأخذ منهم الغرور مأخذاً فيُفتون في كل ميدان وهم يعانون من ( وَهم التفوق ) يعمدون إلى المبالغة في إظهار قدراتهم بشكل يجعلونها تبدو أكبر مما هي عليه في الحقيقة، ويطلقون آرائهم وكأنها تعاليم لدُنِّيَّة أنزلها الله عليهم ويجب على الآخرين الأخذ بها وإلا فَالآخَرين هم الجاهلون
وتوضح نظرية: ظاهرة التفوق الوهمي
(وجود علاقة عكسية بين مستوى المعرفة ومستوى الثقة بالنفس)
فكلما كانت معرفة الشخص قليلة، تكون ثقته بنفسه عالية جداً، وكلما ازدادت معرفة الشخص تدريجياً، تبدأ ثقته بنفسه تتزعزع لأنه يبدأ يكتشف كم هو سطحي فيما يمتلكه من معرفة.
وتقول النظرية أن الشخص يمر بأربعة مراحل أساسية في طريقه نحو اكتساب المزيد والمزيد من المعرفة والخبرة :
1- مرحلة : المعرفة المحدودة، هنا تكون ثقة الشخص بنفسه عالية
2- مرحلة التعلم، هنا يبدأ الشخص بالإحساس بضحالة معرفته، وتبدأ ثقته بنفسه تتراجع ويصل إلى مرحلة (الشك).
3- مرحلة الشك بحد ذاتها مهمة جداً لطالب العلم ومحفذة له تشكل دافعاً للشخص لمزيد من المعرفة، فيزداد وعيه وتزداد معرفته وتزداد معها ببطء ثقته بنفسه، ليبدأ مرحلة المعرفة
4- بعد جهد كبير وبحث كثير يصل الشخص إلى مرحلة معرفية متقدمة هي مرحلة (العارف أو الخبير) تضمن له الاستمرار بالتعلم والتطور وتزداد الثقة بالنفس تدريجياً لأنها مدعومة بحقائق العلم الراسخ والمعرفة ويزداد معها نضجه وتدقيقه وتواضعه
والمفارقة أن الثقة بالنفس لدى أصحاب (وهْم التفوق) في المرحلة (1)، تكون أكبر من ثقة أصحاب المعرفة عندما يصلون مرحلة العالم أو الخبير (4)، بمعنى أن الجاهل يبدو واثقاً أكثر من العالم، ولعل هذا ما يفسر (تواضع العلماء وتطاول الجهلاء)
منقول (انتهت النظرية)
ويلخص تلك النظرية قول الإمام الشافعي رحمه الله: (ما جادلت عالماً إلا غلبته وما جادلت جاهلاً إلا غلبني)
خشيت بعد اطلاعي على هذه النظرية أن أكون من هؤلاء عندما أقوم بنشر بحث من فكري واستنباطي
ولكني رجعت وحمدت الله على أني لست مصاباً بهذا الداء لأني تعلمت من الإمام الشافعي رحمه الله سعة صدره وتواضعه فهو رغم اختياره في المسألة الإجتهادية أو تفسير آية في الكتاب مايراه راجحاً لقوة الدليل لديه لكنه يقول لمن يخالفه الرأي: (قَولي صحيح يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب)
لذا حرصت دائماً أن أضيف في نهاية أي بحث لي في كتاب الله يعتمد على التحليل والاستنباط من آيات الله هذه العبارات: (فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي)
وأضيف تأدباً مع الله واعترافاً بفضله: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
وما أنشر تلك النظرية إلا لأني أجد عند بعض المفكرين كِبراً وميلاً الى الجدل والتحدي وإصراراً على دحض آراء من خالفهم بحدة وازدراء وهي آراء اجتهادية أو علمية لا تمس جوهر الدين
وما ظواهر الخلاف وكثرة الجدل في هذا الزمن بالذات إلا مصائب ابتلينا بها
علينا جميعاً أن نتعلم أدب الحوار من القرآن من هذه الآية على لسان الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو الواثق والصادق الأمين:
{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ "إِجْرَامِي" وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ (35)} (هود : 34-35)
واعظم هذه المصائب هو ردود بعض علماء الفكر والدين على بعضهم وتراشقهم بالكلام والاتهام والسخرية على شاشات التواصل الاجتماعي في شبكة النت و(اليوتيوب) متجاهلين قواعد الحوار تكبراً وعناداً حتى وصل البعض الى تكفير الآخر
وأرجو الله الهداية للجميع وأن نتعلم من الشافعي رحمه الله ويتعظ الجميع ويتأدبوا ويتلطفوا في الحوار والخلاف فالمفروض أنكم تُعتَبرون قدوة للناس وتحملون فكراً وعلماً وديناً وأدباً ومهما كان ردكم وخلافكم فاحترموا كل صاحب رأي وردوا عليه بما هداكم الله إليه بالحجة والبرهان بدون تهكم وسخرية ولاتزيدوا إلى خلافات هذه الأمة التي مزقها الخلاف خلافاً جديداً
فمن لم ينصف خصومَه بالإحتجاج عليهم ... لم يُقبَل بيانُه ولا دليله ... فعدم الرد عليه أحوط وأفضل من الجدل العقيم
وهذا هو الخط البياني الذي وضعه صاحبا النظرية التي سميت باسمهما (دانينغ و كروجر) وهما من علماء النفس من أمريكا وهذه العلاقة هي بين شدة الثقة بالنفس وبين مقدار تحصيل العلم أو المعرفة
ولكم جميعاً مودتي واحترامي