بين فوز وخسارة.. عن "معارك العمران المصري" بعشرة أعوام
هشام أصلان 16 سبتمبر 2021
عمارة
قصر أندراوس خلال الهدم
شارك هذا المقال
حجم الخط
منذ أيام أثار هدم قصر أندراوس التاريخي، في مدينة الأقصر المصرية، غضب المنشغلين بأمور العمارة التاريخية والأثرية والثقافة بشكل عام، وأشعل الموضوع مواقع السوشيال ميديا قبل أن يخفُت صوت الاحتجاج وتواصل المواقع اشتعالها اليومي بموضوع تلو آخر، وخفوت تلو آخر.
ولم تذهب مسألة قصر أندراوس من تفكيري، ليس فقط بسبب الخسارة الثقافية وما إلى ذلك، ولكن بسبب الحكاية التاريخية لقصة الهدم وما تشير إليه من دلالات ومفارقات غريبة ومحزنة.
ساهمت خصائص عصرنا وأثر السوشيال ميديا في انتشار قصة الهدم، لكن كثيرين ممن غضبوا لا يعرفون أصل الحكاية التي بدأت عام 2008، حيث كان للقصر توأم منتصب بجانبه. نعم، قصر أندراوس التاريخي الذي تم هدمه منذ أيام هو ثاني قصرين كانا مجاورين لمعبد الأقصر، أحد أشهر آثار العالم، في ضفيرة تاريخية جميلة تطل على نهر النيل في واحدة من أروع وأشهر المناطق التي يمر بها من المنبع إلى المصب. وكانا لنفس المالك: توفيق باشا أندراوس، أحد قيادات حزب الوفد، قبل استحواذ الحزب الوطني الحاكم، وقتها، عليهما.
تم هدم القصر الأول في إطار توسعات وتطوير أرادتهما الحكومة وقتها بعد معركة كبيرة لمحاولة وقف هذا الهدم دون جدوى. وقتها وعد المسؤولون عن الهدم بأن يهدموا أحد القصرين، ويتركوا الآخر شاهدًا على الأحداث التاريخية المرتبطة بهما، حيث شهدا اجتماعات لساسة عصرهما، وإشارة للقيمة المعمارية للقصرين، ورغم ما تحمله تلك الفكرة من مرارة مضحكة، مر الأمر بمنطق "ما لا يؤخذ كله لا يترك كله"، قصر واحد أفضل من لا شيء، لتمر السنوات ويتم هدم القصر الثاني منذ أيام، في تجل لمعنى عبارة "التاريخ يعيد نفسه"، لكن الخسارة هذه المرة أكبر بكثير، لأن الهدم الثاني يعد نسفًا كاملًا لكل الملامح التاريخية والجمالية والسياسية المرتبطة بالمبنيين. من المفارقات أيضًا أن المعركة الأولى كانت بين أجهزة الحكومة نفسها، حيث أن المؤيدين للهدم هم موظفو جهة رسمية هي محافظة الأقصر، كما أن المعارضين للهدم هم خبراء ينتمون إلى جهة رسمية هي الجهاز القومي للتنسيق الحضاري بوزارة الثقافة المصرية.
إن حكاية المبنيين التاريخيين كاملة، مرورًا بجريمة قتل حفيدات أندراوس باشا سنة 2012 في أحد القصرين، نقرأها في "معارك العمران"، أحدث إصدارات الكاتب والناقد الفني المعروف سمير غريب، والذي صدر، مصادفة، واستقبل باحتفاء، قبل وقت قليل من هدم القصر الثاني وتبعاته. جاءت الحكاية مع حكايات أخرى كثيرة، في شهادة طويلة للمؤلف على ما حدث للعمران المصري خلال عشر سنوات كان غريب طرفًا في أحداثها الخاصة بهذا الشأن، عبر رئاسته للجهاز القومي للتنسيق الحضاري.
وهذا الجهاز أنشأته وزارة الثقافة منذ حوالي ستة عشر عامًا، وكان من المشاريع التي بدأت نبيلة في هذا البلد، وكان سمير غريب أول رؤسائه، هو من أسس هيكله الفني والإداري، ثم بذل مجهودًا كبيرًا في التعريف به ونشر فكرته ومحاولات الخروج بقوانين عمله. عاصرت تلك الأيام حيث بدأت حياتي بالعمل في المكتب الصحافي لذلك الجهاز، ما جعل من قراءتي للكتاب استعادة لمساحة كبيرة من الذكريات الشخصية.
دور الجهاز هو الاعتناء بكل ما يخص الفراغ العمراني المصري، عبر لجان فنية تتكون من خبراء حقيقيين في فنون العمارة بكل أنواعها. الهدف الكبير كان الوصول لنشر ثقافة التنسيق الحضاري عبر ترسيخ مبدأ استعانة المسؤولين في كل الأحياء والمدن بهؤلاء الخبراء في أي تجميل أو ترميم أو تطوير أو إنشاء تخص العمران المصري، ليحدث ذلك بدون الإخلال بالبُعد الجمالي من ناحية وبدون تشويه المباني والمساحات التاريخية وذات القيمة المعمارية المتميزة من ناحية أخرى، فضلاً عن مراعاة العلاقة بين المبنى وطبيعة المكان بشكل علمي.
"شدّة الغربال" في البدايات، ومهارة سمير غريب في العلاقات العامة، وكتاباته الصحافية، حيث استغل زاويته الأسبوعية بجريدة "الأخبار" المصرية، عناصر كانت سببًا في التواصل مع مسؤولي المدن، واستجابة بعضهم في الاستعانة بخبراء التنسيق الحضاري في تطوير بعض الميادين العامة. الحكاية كانت تسير بالمحبة، وعندما تم إصدار قانون "التنسيق الحضاري"، المُلزم للمسؤولين باستشارة الجهاز في تخصصاته، لم يتم الالتزام به نظرًا لوجود ثغرات دائمة يتحايل بها المتضررون من الفكرة، وأمور تعرّض لها تفصيليًا كتاب "معارك العمران". مرت سنوات على إنشاء الجهاز، وتحوّل من مشروع قومي يشبه الحلم إلى هيئة متربة شأن مثيلاتها من الهيئات الحكومية.
المصادفة زامنت صدور الكتاب مع هدم قصر أندراوس وجدله، غير أن الكتاب مليء بالحكايات المشابهة، وهو إن جاز التعبير يعتبر نوعًا من أدب المذكرات أو السيرة الذاتية، متركزة على فترة زمنية بعينها وجانب بعينه من حياة الكاتب. يبدأ بمسحة سردية مطولة شيّقة، اعتبرها كشف حساب، مر فيها سريعًا على عدد من المحطات المهمة منذ تكليفه برئاسة جهاز التنسيق الحضاري وتأسيس هيكله الوظيفي، مارًا على أبرز المشاكل التي تفاجأ بوجودها رغم النصاعة المفترضة للبدايات، وزاد سرديته تشويقًا ذكر أطراف تلك المشاكل والمعارك بأسمائهم ومناصبهم، من رئيسه المباشر وزير الثقافة فاروق حسني بمساعديه المقربين، إلى المحافظين الذين هم رجال الدولة وقتها، قبل أن يدخل إلى فصول الكتاب مقسمًا إياها إلى معارك فاز الجهاز وخبراؤه ورئيسه في بعضها، وخسروا في بعضها، ورغم أن الفوز لم يكن قليلًا، إلا أن نبرة الكاتب لا تخلو من حزن على الخسارات، ذلك أنها خسارات لا تسقط تداعياتها بالتقادم.
والمهتمون بأمور العمارة والعمران في مصر سيتذكرون، مع تصفح الكتاب، عناوين تلك المعارك ببساطة، حيث أنها شغلت الصحف كثيرًا فيما قبل. من أشهرها معركة جراج رمسيس، الذي نجح خبراء التنسيق الحضاري ومعهم سمير غريب ومقالاته في الوقوف أمام استكمال بنائه وتشويه المنطقة التي هي حرم مبنى محطة قطارات مصر التاريخي، ومعركة أبراج القلعة، ومعركة توسعات الأقصر، وغيرها.
تلك السردية الطويلة مع فصول الكتاب، فضلًا عن كونها وثيقة للوقوف على ما حدث، تضع القارئ أمام إجابات قاطعة لسؤال حول كيف كان يؤخذ القرار الرسمي في مصر خلال هذه السنوات العشر على الأقل؟ وكيف أنه لا يوجد توجه موحد للأجهزة الحكومية المعنية بالأمر نفسه؟ وكيف يفسد تعارض المصالح الشخصية، أو التمسك بالآراء بافتراض حسن النية، المصلحة العامة؟ غير أن السؤال الذي لم أجد له إجابة أبدًا، هو سؤال عن جرأة المسؤول تجاه وضع توقيع على ورقة، يقيم بها الدنيا أو يقعدها ببساطة متسببًا في تبعات عمرها، قطعًا، أطول من عمر وجوده في منصبه، بل من عمره هو شخصيًا. يفعلها منحيًا كل نصائح ومناشدات الخبراء جانبًا، بثقة في النفس يأمل الواحد أن يمتلك نصفها أثناء شرائه قميصًا جديدًا.
هشام أصلان 16 سبتمبر 2021
عمارة
قصر أندراوس خلال الهدم
شارك هذا المقال
حجم الخط
منذ أيام أثار هدم قصر أندراوس التاريخي، في مدينة الأقصر المصرية، غضب المنشغلين بأمور العمارة التاريخية والأثرية والثقافة بشكل عام، وأشعل الموضوع مواقع السوشيال ميديا قبل أن يخفُت صوت الاحتجاج وتواصل المواقع اشتعالها اليومي بموضوع تلو آخر، وخفوت تلو آخر.
ولم تذهب مسألة قصر أندراوس من تفكيري، ليس فقط بسبب الخسارة الثقافية وما إلى ذلك، ولكن بسبب الحكاية التاريخية لقصة الهدم وما تشير إليه من دلالات ومفارقات غريبة ومحزنة.
ساهمت خصائص عصرنا وأثر السوشيال ميديا في انتشار قصة الهدم، لكن كثيرين ممن غضبوا لا يعرفون أصل الحكاية التي بدأت عام 2008، حيث كان للقصر توأم منتصب بجانبه. نعم، قصر أندراوس التاريخي الذي تم هدمه منذ أيام هو ثاني قصرين كانا مجاورين لمعبد الأقصر، أحد أشهر آثار العالم، في ضفيرة تاريخية جميلة تطل على نهر النيل في واحدة من أروع وأشهر المناطق التي يمر بها من المنبع إلى المصب. وكانا لنفس المالك: توفيق باشا أندراوس، أحد قيادات حزب الوفد، قبل استحواذ الحزب الوطني الحاكم، وقتها، عليهما.
"قصر أندراوس التاريخي الذي تم هدمه منذ أيام هو ثاني قصرين كانا مجاورين لمعبد الأقصر، تم هدم القصر الأول في إطار توسعات وتطوير أرادتهما الحكومة، وقتها وعد المسؤولون عن الهدم بأن يهدموا أحد القصرين، ويتركوا الآخر شاهدًا على الأحداث التاريخية المرتبطة بهما" |
إن حكاية المبنيين التاريخيين كاملة، مرورًا بجريمة قتل حفيدات أندراوس باشا سنة 2012 في أحد القصرين، نقرأها في "معارك العمران"، أحدث إصدارات الكاتب والناقد الفني المعروف سمير غريب، والذي صدر، مصادفة، واستقبل باحتفاء، قبل وقت قليل من هدم القصر الثاني وتبعاته. جاءت الحكاية مع حكايات أخرى كثيرة، في شهادة طويلة للمؤلف على ما حدث للعمران المصري خلال عشر سنوات كان غريب طرفًا في أحداثها الخاصة بهذا الشأن، عبر رئاسته للجهاز القومي للتنسيق الحضاري.
وهذا الجهاز أنشأته وزارة الثقافة منذ حوالي ستة عشر عامًا، وكان من المشاريع التي بدأت نبيلة في هذا البلد، وكان سمير غريب أول رؤسائه، هو من أسس هيكله الفني والإداري، ثم بذل مجهودًا كبيرًا في التعريف به ونشر فكرته ومحاولات الخروج بقوانين عمله. عاصرت تلك الأيام حيث بدأت حياتي بالعمل في المكتب الصحافي لذلك الجهاز، ما جعل من قراءتي للكتاب استعادة لمساحة كبيرة من الذكريات الشخصية.
"إن حكاية المبنيين التاريخيين كاملة، مرورًا بجريمة قتل حفيدات أندراوس باشا سنة 2012 في أحد القصرين، نقرأها في "معارك العمران"، أحدث إصدارات الكاتب والناقد الفني المعروف سمير غريب" |
"شدّة الغربال" في البدايات، ومهارة سمير غريب في العلاقات العامة، وكتاباته الصحافية، حيث استغل زاويته الأسبوعية بجريدة "الأخبار" المصرية، عناصر كانت سببًا في التواصل مع مسؤولي المدن، واستجابة بعضهم في الاستعانة بخبراء التنسيق الحضاري في تطوير بعض الميادين العامة. الحكاية كانت تسير بالمحبة، وعندما تم إصدار قانون "التنسيق الحضاري"، المُلزم للمسؤولين باستشارة الجهاز في تخصصاته، لم يتم الالتزام به نظرًا لوجود ثغرات دائمة يتحايل بها المتضررون من الفكرة، وأمور تعرّض لها تفصيليًا كتاب "معارك العمران". مرت سنوات على إنشاء الجهاز، وتحوّل من مشروع قومي يشبه الحلم إلى هيئة متربة شأن مثيلاتها من الهيئات الحكومية.
المصادفة زامنت صدور الكتاب مع هدم قصر أندراوس وجدله، غير أن الكتاب مليء بالحكايات المشابهة، وهو إن جاز التعبير يعتبر نوعًا من أدب المذكرات أو السيرة الذاتية، متركزة على فترة زمنية بعينها وجانب بعينه من حياة الكاتب. يبدأ بمسحة سردية مطولة شيّقة، اعتبرها كشف حساب، مر فيها سريعًا على عدد من المحطات المهمة منذ تكليفه برئاسة جهاز التنسيق الحضاري وتأسيس هيكله الوظيفي، مارًا على أبرز المشاكل التي تفاجأ بوجودها رغم النصاعة المفترضة للبدايات، وزاد سرديته تشويقًا ذكر أطراف تلك المشاكل والمعارك بأسمائهم ومناصبهم، من رئيسه المباشر وزير الثقافة فاروق حسني بمساعديه المقربين، إلى المحافظين الذين هم رجال الدولة وقتها، قبل أن يدخل إلى فصول الكتاب مقسمًا إياها إلى معارك فاز الجهاز وخبراؤه ورئيسه في بعضها، وخسروا في بعضها، ورغم أن الفوز لم يكن قليلًا، إلا أن نبرة الكاتب لا تخلو من حزن على الخسارات، ذلك أنها خسارات لا تسقط تداعياتها بالتقادم.
" يقسّم غريب فصول الكتاب إلى معارك فاز الجهاز وخبراؤه ورئيسه في بعضها، وخسروا في بعضها، ورغم أن الفوز لم يكن قليلًا، إلا أن نبرة الكاتب لا تخلو من حزن على الخسارات، ذلك أنها خسارات لا تسقط تداعياتها بالتقادم" |
تلك السردية الطويلة مع فصول الكتاب، فضلًا عن كونها وثيقة للوقوف على ما حدث، تضع القارئ أمام إجابات قاطعة لسؤال حول كيف كان يؤخذ القرار الرسمي في مصر خلال هذه السنوات العشر على الأقل؟ وكيف أنه لا يوجد توجه موحد للأجهزة الحكومية المعنية بالأمر نفسه؟ وكيف يفسد تعارض المصالح الشخصية، أو التمسك بالآراء بافتراض حسن النية، المصلحة العامة؟ غير أن السؤال الذي لم أجد له إجابة أبدًا، هو سؤال عن جرأة المسؤول تجاه وضع توقيع على ورقة، يقيم بها الدنيا أو يقعدها ببساطة متسببًا في تبعات عمرها، قطعًا، أطول من عمر وجوده في منصبه، بل من عمره هو شخصيًا. يفعلها منحيًا كل نصائح ومناشدات الخبراء جانبًا، بثقة في النفس يأمل الواحد أن يمتلك نصفها أثناء شرائه قميصًا جديدًا.