الأهوار.. بطائح سومر في التراث العالمي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأهوار.. بطائح سومر في التراث العالمي

    الأهوار.. بطائح سومر في التراث العالمي
    وارد بدر السالم 17 مارس 2022
    آثار
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    يومَ عزم جلجامش على البحث عن عشبة الخلود بصحبة صديقه القوي أنكيدو، من مدينته أوروك إلى غابات الأرز، مرورًا بالبطائح المسفوحة في طريقه لينتصر على خمبابا، في تلك الملحمة المعروفة باسمه، والمكتوبة بالخط المسماري القديم، وقتها كانت عيناه الواسعتان تكتظان بخضرة المكان، من القصب والبردى والنباتات التي ملأت المياه على مد البصر. وكان قلبه المتين يُدرك عظمة الأسفار التي اجتازها في تلك الممرات المعقدة، بحثًا عن تلك النبتة التي تبقيه على قيد الحياة.

    كان ذلك في عصر سلالة أور الثالثة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، بحسب المدونات التاريخية، التي سجلت هذا السفر البعيد، كأول ملحمة أسطورية في التاريخ البشري القديم. وإذا كانت العصور تتعاقب بعد جلجامش الذي لم يدرك سر البقاء الأزلي والخلود الدائم، فإن المكان، وإن تتالت عليه الدهور والعصور والقرون، بقي مثلما هو، بمياهه الوفيرة، ونباتاته الكثيرة، وطيوره المهاجرة، وناسه الذين يرثونه بالبساطة والفطرة ذاتها التي دأب عليها أهل سومر القدماء، حتى العصر الحديث.
    "لم تكن تسمية "فينيسيا الشرق" الحديثة طارئة على هذا الامتداد المائي الطويل والعريض في أهوار العراق الجنوبية، في دورانه التاريخي حول بيوت القصب "الصرائف" التي تُركت رسوماتها على ألواح الطين السومرية"
    ولم تكن تسمية " فينيسيا الشرق" الحديثة طارئة على هذا الامتداد المائي الطويل والعريض في أهوار العراق الجنوبية، في دورانه التاريخي حول بيوت القصب "الصرائف" التي تُركت رسوماتها على ألواح الطين السومرية، مثلما تُركت رسومات القوارب الصغيرة "المشاحيف" وعُدد الصيد وأغطية الرأس، وشبكات الصيد المشابهة لتلك الأغطية التي ما تزال تُستعمل حتى اليوم في العراق والأردن وفلسطين ودول الخليج العربي. وقد يكون لمدينة البصرة مثل تلك التسمية، بسبب كثرة الأنهار التي تحيطها أو تتداخل مع تفاصيلها اليومية؛ غير أن أنهار البصرة أصابها الجفاف، وابتعدت كثيرًا عن يوميات الحياة، بينما ظلت مياه البطائح جارية وسارية حتى اليوم، بالرغم مما لحق بها من جفاف في ثمانينيات القرن الماضي.

    ولا شك في أن أهوار العراق، بسبب الطبيعة الفطرية البدائية التي هي عليها، استقطبت السياح من كل مكان، والمستشرقين والقناصل والسفراء المعتمدين في البلاد منذ وقت بعيد، ومثلها البعثات الآثارية والمنقبين والدارسين. ومعظم هؤلاء تركوا مؤلفات أدبية وعلمية وبحثية كثيرة، مستطلعين المكان، ومكتشفاته السومرية العديدة، من لقى وألواح ونقوش وأختام أسطوانية ومنحوتات صغرة وكبيرة، ومهما تكن التسمية فقد شاع اسم سومر، وارتبط بالماء والبر معًا على هذه البقعة مترامية الأطراف، والتي ازدهرت بين عامي 3000 و2000 قبل الميلاد، حتى جاء الآشوريون بعد السومريين، وأطلقوا عليها تسمية نار موتو (أي الماء المر) وما يزال الباحثون والمنقبون يبحثون في التلال و"اليشن" عن أي لقى أو فخار أو متروكات أثرية، ليستطلعوا ما سقط من الماضي وانغمر تحت المياه. في مكونات الأهوار الساحرة وجزرها الكثيرة؛ الغريبة أحيانًا في جمالها البدائي الفريد.







    ومثل هذه الديكورات الطبيعية تحتاج إلى لمسات الإنسان الفنية والجمالية، وهي بسيطة في الغالب، لتكون واجهة تاريخية آثارية، تستقطب الأنظار والدارسين والسياح، لما لها من حضور قديم، يكتنز في طياته وأعماقه أسرارًا كثيرة وكبيرة، ما تزال قيد التنقيب والبحث والدراسة. وهذه الكائنات التاريخية التي قاومت ظروف الطبيعة ومشتقاتها الصعبة، وبقيت إلى اليوم، هي أمثولة تاريخية، تجاوزت العديد من المفاهيم الحديثة في عولمة الحياة ومبتكراتها، وظلت شاخصة في هذا العصر الحديث المعروف بتطوراته العلمية والإلكترونية والجمالية. لتكون شاهدًا على الماضي وتراثه وأرجحيته في أن يبقى كما هو على الأرض الإنسانية في تقادمها هنا وهناك. فالطبيعة أم البشر، وحاضنة التاريخ والجغرافية؛ فهي التي تهيئ مكونات الأمكنة بطريقة ساحرة، وأحيانًا غريبة لا تخلو من الجمال والتميز والفرادة.

    فاصلة: يعترض البحّاثة والعلامة طه باقر على اسم سومر ويقول بأنها "شومر على الأصح" وأن بلاد السومريين اسمها: مات شومريم. ويعترض حتى على تسمية (بلاد النهرين) السومرية، ويرى بأنها ليست من أصل سامي أو سومري، بل هي تراث لغوي لقومٍ مجهولين، سبقوا السومريين والساميين في استيطان السهل الرسوبي. ويذهب د. نائل حنون، في كتابه المهم "حقيقة السومريين"، إلى أن اللغة السومرية قد وضعها الأكديون، لأغراض التدوين، وأن اللغة السومرية لغة (كتابة فقط) وليست لغة مخاطبة. ومثلهما قال المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي من أنه لا توجد أدلة واضحة على وجود السومريين. بل يرى أن السومرية لغة سرية، ابتكرها البابليون.. ومن الطبيعي أن تتجه الآراء إلى غير ما تعودناه من حقائق تاريخية؛ إذ لا حقيقة تثبت مع الزمن، وإن الوجود التاريخي القديم، معرّض لتعددية في الآراء، والتباينات الكثيرة. وهذه مرهونة باكتشافات أركيولوجية جديدة، ستغيّر الكثير والعديد من النظريات بنشأة المكان، والسكان المتعاقبين الذين عاشوا فيه جيلًا بعد جيل.
    "في 17 يوليو/ تموز 2016 وافقت منظمة اليونسكو العالمية على إدراج مناطق الأهوار العراقية، ضمن لائحة التراث العالمي كمحمية طبيعية دولية، تتيح لها أن تكون مرفقًا سياحيًا عالميًا، وتكون حاضنة للتنقيب والبحث والدراسة"
    عالمية الأهوار في اليونسكو

    في 17 يوليو/ تموز 2016 وافقت منظمة اليونسكو العالمية على إدراج مناطق الأهوار العراقية، ضمن لائحة التراث العالمي كمحمية طبيعية دولية، تتيح لها أن تكون مرفقًا سياحيًا عالميًا، وتكون حاضنة للتنقيب والبحث والدراسة، التي يجب الحفاظ عليها وإبعاد خطر اندثارها، بالإضافة إلى المدن الأثرية القديمة الموجودة بالقرب منها مثل أور وإريدو والوركاء. وهذا تأكيد على ملامسة مثل هذه المناطق دوليًا، والموصوفة بأنها مجموعة من المسطحات المائية تغطي الأراضي المنخفضة الواقعة في جنوبي السهل الرسوبي العراقي، ووضعها على لوائح التراث العالمي، لكونها من أقدم الحضارات التي سكنتها البشرية، التي يُطلق عليها في العهود القديمة (جنات عدن) وقد سكنها السومريون من قبل، الذين أنتجوا حضارة راقية كما توضح ذلك آثارهم وبقاياهم في المكان، من نقوش ولقى وآثار وألواح طينية وأختام أسطوانية.

    العرب الأوائل أطلقوا عليها اسم "البطائح" لأن المياه سالت في الأرض وتبطّحت، دلالة على سعتها التي كانت تغمر العراق القديم حتى البحر. وكان ينبت فيها القصب، وما يزال، إضافة إلى "البردي" وأنواع نباتية كثيرة مثلما هي قديمًا، وحتى اليوم تعد مصدرًا رئيسيًا للمواد الغذائية، وكذلك من الأسماك والطيور والغلات الزراعية المختلفة. وحتى وقت قريب كان يقال عن الثروة السمكية في الأهوار إنها تكفي لتكون سلة غذائية لكل الوطن العربي، قبل أن يتم تجفيفها من قبل النظام السابق.







    في الطريق إليها

    باعدنا عنها أكثر من ربع قرن. وكان الطريق إلى أهوار الـﭽبايش ما يزال يشي بفطرته الأولى وبراءته، بل حتى بدائيته الأولى التي كان عليها قبل آلاف السنوات. فكل شيء يمر هنا، نعرفه منذ زمن بعيد؛ سوى من أشياء بسيطة عمّرت المكان، لكنّ الزمن بقي كما هو؛ بالرغم من حداثة الحياة وتطوراتها الجوهرية؛ حيث البيوت القصبية المنتشرة على "اليشن" والجاموس الذي يقطع الطريق الوحيد بضخامته الأسطورية، والأبقار السمينة، وقطعان الأغنام المتراصفة، وصبيان الصرائف ورجالها ونسائها في عمل يومي لا يتوقف، لتوفير الأعلاف والأرزاق المتعددة بين الماء والبر المتاخم له. ومع استتباب الأمن النوعي، تقودنا (الشخاتير) وهي الزوارق السريعة إلى أعماق المكان: رائحة الماء والبردي والتاريخ السومري البعيد، حيث مر جلجامش من هنا، قاصدًا عشبة الخلود.

    وإن كان هور الجبايش هو الأكثر سياحية الآن، فلا بد أن نحيط علمًا بأن أهوار العراق متعددة وكثيرة، تقع بين شرقي دجلة وغربه، فالأهوار الشرقية يتقدمها من حيث السعة (هور الحويزة) والغربية منها يتقدمها (هور الحمّار). أما أهوار الفرات التي تمتد بين فرعي الفرات فتتألف من عدد من الأهوار الصغيرة. وفي العموم فإن الأهوار الرئيسية تتوسط محافظات البصرة وذي قار وميسان، وأهمها سياحيًا أهوار الـﭽبايش في الناصرية التي تُعد اليوم واجهة سياحية كبيرة، تزدحم بالوفود والسياح والأهالي من محافظات العراق كلها، إضافة إلى السياح العرب والأجانب الذين تبهرهم مثل هذه الأماكن الفطرية بطبيعتها الخلابة.
    "ترجح الباحثة الفرنسية جيرالدين شاتلار أن خريطة الأهوار قبل ستة آلاف سنة كانت أوسع بكثير مما هي عليه حتى قبل ألفَي سنة، بما يعني أن الجنوب العراقي كان مغمورًا بالمياه في زمن بعيد، وأن الحضارات التي تشكلت هنا هي حضارات مائية"
    ولما كانت هذه الأهوار تشغل حوالي 2000 كيلومتر مربع، فمن الأكيد أن لها مسميات أخرى، مناطقية وعشائرية ربما. ومن أبرزها: هور السناف/ هور أبو زرك/ هور العدل/ أهوار الفهود/ هور غموكة/ هور الميمونة/ هور أم البقر/ هور السعدية. ولمعظم الأهوار مشتركات مناطقية فيما بينها، بسبب محاذاتها لبعضها، كما الحال في الأهوار المشتركة بين الناصرية والبصرة مثل: هور السنية/ هور أم نعاج/ هور الترابة/ هور العْظيم/ هور السودة/ هور المالح/ هور أم نعاج / هور الجكة/ هور الصحين. ولتعميم الصورة السياحية والمناطقية، فإن أهوارًا أخرى تشغل الدراسات والتحقيقات الاستقصائية والبحوث العلمية في جغرافيتها الطبيعية، في محافظات الفرات الأوسط (الديوانية - كربلاء واسط - بابل) ومن أمثلتها هور زجري/ هور عليوي/ أهوار السينية/ أهوار الساعدية/ هور الشيب/ هور الكرماشية/ هور الشويجة/ هور الدلمج/ أهوار الشامية/ هور أبو دبس/ هور الشنافية/ هور ابن نجم، ومثل هذه التعددية الإسمية، هي نتاج المساحات المائية الكبيرة واتساعها وشمولها محافظات كثيرة من العراق، لا سيما الجنوبية والفرات الأوسط منها، حيث أن معظم القسم الجنوبي والأوسط من العراق كان مغمورا بمياه البحر، كما يقول العلّامة طه باقر. وهذه الوفرة المائية، سببها أنها كانت معرضة لعملية البناء الجيولوجي التي تسبب الارتفاع والانخفاض في مستوى الساحل.. وأن درجة الانخفاض أو الانخساف تعادل عملية الملء أو الردم الناتجة من ترسبات الطمي والغرين، ولهذا ظلت الأهوار في منطقة العراق الجنوبية منذ تكوينها بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين، معرضة للانخساف لتجمع هذه المياه على مر الزمن.. وهو أمر حاول الباحث والعلامة طه باقر إثباته، عندما استعرض نظريات أركيولوجية كثيرة في كتابه الشهير "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة" وكما ترجح الباحثة الفرنسية جيرالدين شاتلار أن خريطة الأهوار قبل ستة آلاف سنة كانت أوسع بكثير مما هي عليه حتى قبل ألفَي سنة، بما يعني أن الجنوب العراقي كان مغمورًا بالمياه في زمن بعيد، وأن الحضارات التي تشكلت هنا هي حضارات مائية على الأغلب.







    الملاذ الآمن.. قصة تجفيف الأهوار

    في زمن النظام العراقي السابق حدثت مأساة تجفيف الأهوار، والذريعة هي وقف التسلل العسكري الإيراني أيام الحرب. وفي باطن الأمر هو أن لا تكون الأهوار ملاذًا آمنًا للمعارضة العراقية، لكونها منطقة شاسعة، تغمرها المياه. ويحيط بها القصب والبردي وبقية النباتات ذات الأطوال المثالية للتخفي، بحيث تشكل مأوىً آمنًا للمعارضة. وأيضًا تُعد عقابًا جماعيًا لأهل الأهوار الذين كانوا عادة يتضامنون مع فكرة المعارضة ورجالها. وكان ذلك التجفيف القاتل عاملًا مساعدًا لخراب البيئة الفطرية، والتأثير على الحيوانات بمختلف أنواعها، حتى أن الطيور الموسمية المهاجرة من الأماكن الباردة في سيبيريا وغيرها عزفت عن الهجرة إلى هذا المكان، لافتقادها إلى الحضن المائي الدائم لها في موسمي الصيف والربيع. لكن فكرة التجفيف هذه قديمة في تقارير المستشرقين والسياسيين تعود إلى عام 1911 في تقرير وليم ويلكوكس وهو (ربط نهاية نهر الفرات في منطقة الطار مع مخرج هور الحمّار في مدينة الجبايش ووضع سداد لهذا المجرى على الجانبين ليحرم هور الحمّار من أهم مصادره المائية..) ويبدو أن النظام السابق أخذ بهذا التقرير، ونفّذه بإتقان من خلال الجهد العسكري، وقتل الحياة في هذا المكان الفريد بنسبة أكثر من 95% وهذا يعني تحويل الأهوار إلى صحراء تجتازها السيارات بسهولة، فاندثرت الزوارق الصغيرة، والصرائف القصبية. وهاجر سكان الأهوار إلى المحافظات القريبة طلبًا للمعيشة والرزق.
    "في زمن النظام العراقي السابق حدثت مأساة تجفيف الأهوار، والذريعة هي وقف التسلل العسكري الإيراني أيام الحرب. وفي باطن الأمر هو أن لا تكون الأهوار ملاذًا آمنًا للمعارضة العراقية"
    هذا التجفيف الكارثي يعود بنا إلى محطات قديمة جدًا، لما كانت الأهوار ملاذًا طبيعيًا للهاربين والمعارضة والمناوئين للسلطات المحلية. وقد أمكن إحصاء بعض المواقف التاريخية التي كانت فيها البطائح - الأهوار ملاذًا آمنًا للمعارضين والهاربين من سطوة السلطات:
    • يخبرنا التاريخ القديم بمطاردة الملك الآشوري سنحاريب لمعارضيه، من الذين تحصنوا في البطائح الواسعة، وقد لا يبدو هذا أكيدًا، لكن المكان بسعته وامتداداته، لن يكون قابلًا للتشكيك بأن تكون ثمة معارضة متوقعة للملك وسلطته. وهذا ما أظهرته تحفة فنية لجنود آشوريين راكبين السيمريات- الزوارق بين غابات القصب.
    • يذكر الطبري وابن كثير بعض الأحداث في توثيق معارك الزنج المعروفة مع العباسيين، حيث كان الزنج يحتمون ببطائح الأهوار، ومنها يشنّون غاراتهم، مما حدا بالعباسيين إلى تجفيفها بعد أن علموا بأن الأهوار أصبحت ملاذًا للزنج الثوريين.
    • هرب عمران بن شاهين من أمير واسط، متخفيًا في تلك البطائح بين المياه والقصب لمدة أربعين عامًا حتى مات ولم يلقوا القبض عليه.
    • لجوء الأمير الأموي يزيد بن المهلب، بعد هروبه من سجن الحجاج إلى البطائح.
    • هرب الخليفة القادر بالله العباسي قبل توليه الخلافة، وأقام في البطائح ثلاث سنوات تقريبًا.
    • لجوء القاضي أبو علي التنوخي إلى البطائح.
    • في العهد العثماني لجأ حسين باشا إلى الأهوار، بعد عزله وتعيين ولده أميرًا على البصرة بدلًا عنه.
    • في العصر الحديث، اتخذت المعارضة العراقية، والهاربين من الخدمة العسكرية، الأهوار مكانًا للفرار والهرب من بطش السلطة.





    الأهوار في عيون أجنبية

    كثير من المستشرقين والصحافيين الأجانب زاروا مناطق الأهوار قديمًا وحديثًا، وكتبوا عنها الدراسات والتحقيقات الاستقصائية، والكتب الأدبية، والبحوث العلمية. لكن أكثر الكتب شيوعًا في أدب الرحلات والاستقصاءات الميدانية هو كتاب "العودة إلى الأهوار" لمؤلفه البريطاني غافن يونغ، الذي طُبع عددًا من المرات. وهو أثر ميداني تابع يونغ فيه الحياة الاجتماعية لجماعات قروية، تسكن المكان من زمن قديم، ربما التناوب الوراثي الذي طبع أهل الأهوار، لذلك كان يرى فيهم وفي المكان العمق التاريخي، مثلما يصف السكان الذين يرتدون الدشاديش كزي محلي يومي للرجال، وما يزالون حتى اليوم لا يفارقون هذا الزي، بالرغم من تطور الحياة من حولهم. كذلك وصف النساء وحليهنّ وأزياءهنّ وأدوارهنّ المتعاضدة مع الرجال، في الزرع والحصاد، وتلبية الحاجيات المنزلية. لذا فإن النسق الاجتماعي بعموم الكتاب، هو نسق وصفي في عزلة هذه الجماعات الفريدة في نشاطها الاجتماعي.
    "كثير من المستشرقين والصحافيين الأجانب زاروا مناطق الأهوار قديمًا وحديثًا، وكتبوا عنها الدراسات والتحقيقات الاستقصائية، والكتب الأدبية، والبحوث العلمية. لكن أكثر الكتب شيوعًا في أدب الرحلات والاستقصاءات الميدانية هو كتاب "العودة إلى الأهوار" لمؤلفه البريطاني غافن يونغ"
    ويكاد هدجكوك "فلانين" يقترب من هذه الوصفيات اليومية في كتابه (الحاج ركان - عرب الأهوار) بتسجيله دقائق الأمور من حياة القرويين في أهوار العمارة تحديدًا، ومن خلال علاقاته الوطيدة بالشيوخ والسراكيل والإقطاعيين، الذين كانوا يسيطرون على مناطق نفوذ غير قليلة. وهو بهذا يقدم صورة قديمة وواقعية عن الحياة في الأهوار، ومداخلاتها الكثيرة، في عاداتها القبلية والعشائرية. وما ساعد المؤلف على التفصيلات الكثيرة التي يحفل بها الكتاب، هو المعايشة الميدانية للمكان، والتشبع بالأحاديث الفطرية والحكيمة في مشاكل القرى والناس بطريقة مباشرة، وهو الذي أعطى زخمًا واقعيا للكتاب.

    أما (عرب الأهوار) لويلفرد ثيسيغر، الذي عاش سبع سنوات في تلك البطائح التاريخية (حتى 1958)، فكان شهادة ميدانية مباشرة على تلك الفترة الخمسينية، التي كانت فيها الأهوار أكثر فطرة في علاقاتها الاجتماعية والنفسية. وقال المؤلف في مقدمته إنه بقي مستمتعًا في تلك الأجواء الطبيعية بين الناس، مسجلًا الكثير من يومياتهم الاجتماعية، الفردية والجماعية، العشائرية والشخصية، التي وجد فيها مفارقات كثيرة.

    وكتب المستشرقين كثيرة ووافية عن الأهوار العراقية، بحثًا ودراسةً واستقصاءً، لا يكفي الحيّز لعرضها جميعًا. ولعل كتاب "من ألواح سومر" لصموئيل كريمر هو الأكثر جدلًا بين الكتب التي وُضعت لدراسة تاريخية المكان. ومثله "تاريخ سومر وأكد" لـ كنك، و"تاريخ بابل" لمايسنر، و"وادي الرافدين" لديلابور، و"العراق القديم" لجورج رو.. وغيرها من المؤلفات الجادة في توثيق المكان واستراتيجيته الطبيعية.
    "(عرب الأهوار) لويلفرد ثيسيغر، الذي عاش سبع سنوات في تلك البطائح التاريخية (حتى 1958)، كان شهادة ميدانية مباشرة على تلك الفترة الخمسينية، التي كانت فيها الأهوار أكثر فطرة في علاقاتها الاجتماعية والنفسية"
    إحالات وهوامش:

    1- جلجامش: ملك تاريخي لدولة الوركاء السومرية، وبطل في ميثيولوجيا بلاد الرافدين القديمة. يُحتمل أنه حكم لفترة من الزمن بين 2800 و2500 قبل الميلاد.
    2- جيرالدين شاتلار: خبيرة التراث العالمي في منظمة اليونسكو.
    3- المشحوف: قارب صغير. يُصنع من أخشاب الأشجار. ويُطلى بالقار.
    4- اليشن: تلال صغيرة وسط المياه، تُتَّخذ عادة أمكنة لبناء البيوت القصبية.
    5- الشخاتير: زوارق خشبية، تسير بمحركات الديزل. وتمتاز بسرعتها.
    6- طه باقر: عالمَ آثارٍ عراقي ومؤلف ومسماري ولغوي ومؤرخ. ويُعد من أبرز علماء الآثار في العراق. ترجم ملحمة جلجامش من الأكدية، وفك رموز الألواح الرياضية البابلية. كان يتقن اللغات التاريخية الأربع (العربية والآرامية والأكدية والسومرية) إضافة إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية.
    7- ويليام ويلكوكس: مهندس بناء بريطاني. عمل في مصر والعراق وتركيا في إنشاء قطاع الري. ألّف كتابًا بعنوان "جنة عدن ـ إلى عبور الأردن" زعم فيه أن جنة عدن المذكورة في الكتب المقدسة موجودة في جنوب العراق، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات.
    8- سنحاريب: ثانِي مَلوك السُلالة السَرجونية ومَلِك الإمبِراطورية الآشورية الحَديثة منذ وفاة والده سرجون الثاني عام 705 قبل الميلاد.
    9- عمران بن شاهين: مِن أُمراء أهلِ العراق، عصى عضد الدّولة، فتخفى عنه في البطائح.
    10- القادر بالله العباسي: تولى الخلافة بعد خلع "الطائع".
    11- أبو علي التنوخي: القاضي والشاعر الأديب الإخباري، وُلِدَ في البصرة. وكان أديبًا شاعرًا إخباريًا.
    12- حسن باشا: مؤسس دولة المماليك في العراق، حكم بغداد لمدة عشرين سنة.
    13- مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، طه باقر- دار الوراق - 2009
    14- حقيقة السومريين، د. نائل حنوان- دار الزمان – دمشق – 2007
    15- الحاج ريكان- عرب الأهوار، هدجكوك- الدار العربية للموسوعات – 2006
    16- عرب الأهوار، ويلفيرد ثيسجر- منشورات الجمل - 2005
    17- الجبايش (دراسة أنثروبولوجية لقرية في أهوار العراق)، د. شاكر مصطفى سليم- دار المأون- ط3 – 2021
    18- صموئيل نوح كريمر: خبير في التاريخ السومري واللغة السومرية.
    19- ويكيبيديا- الموسوعة الحرة.
يعمل...
X