أطلال العصر الحجري الحديث المختبئة تحت جزر أوركني
سناء عبد العزيز 22 فبراير 2022
آثار
شارك هذا المقال
حجم الخط
قبالة الساحل الشمالي لاسكتلندا، حيث تجتاح الرياح بضراوة سفوح الجبال وتلطمها الأمواج، ثمة برزخ يفصل بين بحيرتين، واحدة مالحة وواحدة مياهها عذبة، تنتصب عليه مجموعة من الأحجار تشبه البوابة التي تفضي بك إلى عالم سحري، ما إن تلجها حتى تجد نفسك أمام نصب تذكاري ضخم من العصر الحجري الحديث، يقف شامخًا كما لو كان على خشبة مسرح.
هذه هي جزر أوركني التي تتكون من 67 جزيرة وبعض الجزر الصغيرة، منها 21 جزيرة فقط آهلة بالسكان، ليسوا السكان الحاليين فحسب، بل والسالفين أيضًا، فقد استوطنت الشعوب النيوليتية هذه الجزر منذ 4 آلاف سنة كما كشفت لنا الأعاصير والعواصف خلال القرن التاسع عشر حين راحت تعرّي القرى القديمة واحدة تلو أخرى جاذبة إليها علماء الآثار للتنقيب عن المزيد. فإذا كنت تتخيل أنه لم يتبق الكثير لاكتشافه من العصر الحجري لبريطانيا، أو أن بقاياه عبارة من مخابئ وكسر من عظام لا قيمة لها، فسوف تذهلك حقيقة ما تعريه الرياح الهادرة كل عام من ثقافة العصر الحجري في بريطانيا.
مدن غارقة تحت المنازل
ذات يوم من عام 2003، كان هناك سيدة تقوم بغسل بعض الخضروات في حوضها وإذا بها تلمح من نافذة بيتها الصغير حركة المحراث المتحشرجة وقد تعثرت شفراته في شيء ما، إنه حجر من العصر النيوليتي. على الفور اتصلت المرأة بعلماء الآثار المحليين الذين لم يكن ليخطر على بالهم أن تلك المنازل مكدسة على أنقاض أطلال قديمة تختبئ على مرأى من الجميع. يقول مارك إدموندز، أستاذ علم الآثار بجامعة يورك لصحيفة "الغارديان" البريطانية: "كنا جميعًا نتجاوز المكان لسنوات مفترضين أنه سلسلة من التلال الطبيعية".
على مدى عقدين من التنقيب، استطاع عالم الآثار نيك كارد وفريقه تمشيط ما يقرب من 10% فقط من مساحة أوركني، وحوالي 5% من حجمها، ليسفر بحثهم المتواصل عن مستوطنة ضخمة من العصر الحجري الحديث يعود أقدم محتوياتها إلى عام 3300 قبل الميلاد، جدرانها ومداخنها سليمة تمامًا، وأوانيها وأدواتها الحجرية متناثرة بوفرة هنا وهناك، وكلها محاطة بجدران ضخمة بعرض ستة أمتار. وقد تم وضع لافتة على الموقع المغطى حاليًا بالقماش المشمّع لحمايته من عواصف الشتاء تقول: "يمكنك الاستمرار لعدة حيوات دون الوصول إلى القاع".
الإحساس الحميمي لليد البشرية
عثر فريق كارد أيضًا على فؤوس من العصر الحجري الحديث مصنوعة من الجاديت أو اليَشْميت المستخرج من جبال الألب الإيطالية، ويُعتقد أن الفخار المميز - "الأواني المحززة" - الذي يعد من أبسط الفنون جميعًا وأكثرها صعوبة وهو من الناحية التاريخية من بين أوائل الفنون التي ظهرت على الأرض، يعتقد أنه تم صنعه لأول مرة في أوركني. جمع كارد وفريقه 100 ألف شقفة من الفخار حتى الآن، وقاموا بإخراجها من بين أكوام النفايات القديمة باستخدام سكين الكيك وصفائح ألمنيوم تم انتشالها من طائرة هليكوبتر قديمة.
يوجد الكثير من هذه الشقوف في صناديق مكدسة من الأرض إلى السقف في المقر الرئيسي، وهو منزل من طابق واحد في الموقع كدسوه بالمواد المكتشفة. بعض الفخار متفتت إلى حد ما - مثل "البسكويت"، كما يقول خبير الخزف روي تاورز، أحد المتطوعين في هذا الحفر الممول من التبرعات. أما لي جان بلاتشفورد، وهو متطوع آخر ذو مهارات عالية، فيشرح كيف يمكن لتصوير التحول الانعكاسي - تقنية التصوير الرقمي باستخدام زوايا الكاميرا المتعددة - كشف التفاصيل التي بالكاد تتراءى للعين المجردة، مشيرًا إلى الأثر الذي تركته سجادة مضفرة على قاعدة إناء مصنوع حديثًا وغير محروق، فقد صنعت أقدم الأواني بالأيدي كما يوجد أثر لبصمة إبهام صانع على عجلة المغزل، مما يجلب الإحساس الحميمي المذهل لليد البشرية التي شكلت الوعاء منذ 5000 عام.
مغزى الأنماط
لم تكن أوركني الزاخرة ببقايا العصر الحجري الحديثة، هامشية أو منعزلة آنذاك؛ فالمياه المحيطة بها من كل اتجاه لم تشكل حواجز بينها وبين العالم كما هي الحال الآن، بل كانت بالأحرى ممرات إلى أيرلندا والبر الرئيسي لبريطانيا وما وراءها. أجرى إدموندز مقابلة مع عائلات أوركادية، وسألهم عن الفؤوس الحجرية القديمة والاكتشافات الأخرى التي يضعونها على أرففهم، ليستكشف إلى جانب تلك الآثار وفرة من القصص الرائعة لهذا الجد الأكبر أو ذاك. بعض هذه الاكتشافات مثل الكرات الحجرية المنحوتة بشكل معقد التي تظهر هنا وفي أي مكان آخر، أو "طبل" بيرتون أغنيس وفولكتون المذهل المكتشف حديثًا، وهي أسطوانات حجرية صغيرة عثر عليها مدفونة مع رفات ثلاثة أطفال في شمال يوركشاير وهو ما يدل على أن تلك القطعة تتعلق بطقوس الحداد، فليس لها أي غرض عملي واضح، وتعتبر من أهم الاكتشافات في القرن الواحد والعشرين، وهي مزينة بتصاميم غامضة، كثيفة لا يمكن فك شفرتها، الشيء نفسه ينطبق على علامات "الكأس والحلقة" وهو شكل من أشكال فن ما قبل التاريخ الموجود في ساحل المحيط الأطلسي في أوروبا موجودة على النتوءات التي تحدث بشكل طبيعي في المناظر الطبيعية البريطانية، بكميات كبيرة في أماكن مثل كيلمارتين جلين في آرجيل. "تعجبني فكرة أن كل منها عبارة عن صلاة أو تعويذة... أعتقد أن المعنى قد يكون قيد الإنشاء"، هذا ما قاله نيل ويلكين، أمين معرض المتحف البريطاني عن إحساسه بهذه الأنماط. بينما ذكرت آن ميتشل زميلة كارد أنهم سيعاودن الحفر مرة ثانية في الصيف حيث "يمكنك الهبوط لأسفل لتصبح من ضمن أشباح الماضي".
قصة التأثير والتواصل
هذه الاكتشافات في أوركني تروي قصة طويلة عن التأثير والتواصل وانتقال الأفكار من خلال المصنوعات اليدوية بدءًا من غطاء الرأس المؤلم الذي صنعه الصيادون من قرون الغزلان في ستار كار، يوركشاير، وصولًا إلى القبعات المخروطية الغريبة الفاحشة المصممة من الذهب في فرنسا وألمانيا، ناهيك عن الإناء الرائع بحجم فنجان الشاي، والذي تم تشكيله من كتلة واحدة من الكهرمان حوالي عام 1750 قبل الميلاد.
ولكن، لماذا بنت شعوب أوركني وويلتشاير والعديد من الأماكن الأخرى في بريطانيا آثارًا ضخمة من الحجر منذ 5000 عام، سؤال لا يمكن الإجابة عليه نهائيًا - وعندما نحاول، فإننا من شبه المؤكد ندّعي أننا نستطيع النفاذ إلى نوايا أسلافنا البعيدين. يرد إدموندز على مثل تلك الأفكار بكلمة واحدة تنتهي بعلامة استفهام: "الكبرياء؟" وهو يجادل بأن البشر يبدو وكأنهم يبنون آثارًا هائلة حينما يرغبون في ترسيخ قوتهم أو يشعرون بالتهديد أو الضغط. ربما يجد هؤلاء الأشخاص البعيدون، حياتهم غريبة جدًا ولا يمكن الوصول إليها، "أمر نتعرف عليه فينا، بعد كل شيء".
هذه الاكتشافات وغيرها سيتم عرض الكثير منها في المتحف البريطاني هذا الشهر في معرض جديد عن "عالم ستونهنج"، الذي يفاجئنا كل عام باكتشاف مذهل، وفي هذا العام يقدم المتحف مسحًا لعصور ما قبل التاريخ في شمال أوروبا بدءًا من عصر الصيادين وجامعي الثمار وحتى العصر البرونزي المبكر، مستفيدًا من التاريخ الطويل والمعقد لأشهر المعالم الأثرية في العصر الحجري الحديث في بريطانيا باعتبارها العمود الفقري للقصة.
سناء عبد العزيز 22 فبراير 2022
آثار
شارك هذا المقال
حجم الخط
قبالة الساحل الشمالي لاسكتلندا، حيث تجتاح الرياح بضراوة سفوح الجبال وتلطمها الأمواج، ثمة برزخ يفصل بين بحيرتين، واحدة مالحة وواحدة مياهها عذبة، تنتصب عليه مجموعة من الأحجار تشبه البوابة التي تفضي بك إلى عالم سحري، ما إن تلجها حتى تجد نفسك أمام نصب تذكاري ضخم من العصر الحجري الحديث، يقف شامخًا كما لو كان على خشبة مسرح.
هذه هي جزر أوركني التي تتكون من 67 جزيرة وبعض الجزر الصغيرة، منها 21 جزيرة فقط آهلة بالسكان، ليسوا السكان الحاليين فحسب، بل والسالفين أيضًا، فقد استوطنت الشعوب النيوليتية هذه الجزر منذ 4 آلاف سنة كما كشفت لنا الأعاصير والعواصف خلال القرن التاسع عشر حين راحت تعرّي القرى القديمة واحدة تلو أخرى جاذبة إليها علماء الآثار للتنقيب عن المزيد. فإذا كنت تتخيل أنه لم يتبق الكثير لاكتشافه من العصر الحجري لبريطانيا، أو أن بقاياه عبارة من مخابئ وكسر من عظام لا قيمة لها، فسوف تذهلك حقيقة ما تعريه الرياح الهادرة كل عام من ثقافة العصر الحجري في بريطانيا.
"على مدى عقدين من التنقيب، استطاع عالم الآثار نيك كارد وفريقه تمشيط ما يقرب من 10% فقط من مساحة أوركني، وحوالي 5% من حجمها، ليسفر بحثهم المتواصل عن مستوطنة ضخمة من العصر الحجري الحديث يعود أقدم محتوياتها إلى عام 3300 قبل الميلاد" |
ذات يوم من عام 2003، كان هناك سيدة تقوم بغسل بعض الخضروات في حوضها وإذا بها تلمح من نافذة بيتها الصغير حركة المحراث المتحشرجة وقد تعثرت شفراته في شيء ما، إنه حجر من العصر النيوليتي. على الفور اتصلت المرأة بعلماء الآثار المحليين الذين لم يكن ليخطر على بالهم أن تلك المنازل مكدسة على أنقاض أطلال قديمة تختبئ على مرأى من الجميع. يقول مارك إدموندز، أستاذ علم الآثار بجامعة يورك لصحيفة "الغارديان" البريطانية: "كنا جميعًا نتجاوز المكان لسنوات مفترضين أنه سلسلة من التلال الطبيعية".
على مدى عقدين من التنقيب، استطاع عالم الآثار نيك كارد وفريقه تمشيط ما يقرب من 10% فقط من مساحة أوركني، وحوالي 5% من حجمها، ليسفر بحثهم المتواصل عن مستوطنة ضخمة من العصر الحجري الحديث يعود أقدم محتوياتها إلى عام 3300 قبل الميلاد، جدرانها ومداخنها سليمة تمامًا، وأوانيها وأدواتها الحجرية متناثرة بوفرة هنا وهناك، وكلها محاطة بجدران ضخمة بعرض ستة أمتار. وقد تم وضع لافتة على الموقع المغطى حاليًا بالقماش المشمّع لحمايته من عواصف الشتاء تقول: "يمكنك الاستمرار لعدة حيوات دون الوصول إلى القاع".
الإحساس الحميمي لليد البشرية
عثر فريق كارد أيضًا على فؤوس من العصر الحجري الحديث مصنوعة من الجاديت أو اليَشْميت المستخرج من جبال الألب الإيطالية، ويُعتقد أن الفخار المميز - "الأواني المحززة" - الذي يعد من أبسط الفنون جميعًا وأكثرها صعوبة وهو من الناحية التاريخية من بين أوائل الفنون التي ظهرت على الأرض، يعتقد أنه تم صنعه لأول مرة في أوركني. جمع كارد وفريقه 100 ألف شقفة من الفخار حتى الآن، وقاموا بإخراجها من بين أكوام النفايات القديمة باستخدام سكين الكيك وصفائح ألمنيوم تم انتشالها من طائرة هليكوبتر قديمة.
"صنعت أقدم الأواني بالأيدي كما يوجد أثر لبصمة إبهام صانع على عجلة المغزل، مما يجلب الإحساس الحميمي المذهل لليد البشرية التي شكلت الوعاء منذ 5000 عام" |
مغزى الأنماط
لم تكن أوركني الزاخرة ببقايا العصر الحجري الحديثة، هامشية أو منعزلة آنذاك؛ فالمياه المحيطة بها من كل اتجاه لم تشكل حواجز بينها وبين العالم كما هي الحال الآن، بل كانت بالأحرى ممرات إلى أيرلندا والبر الرئيسي لبريطانيا وما وراءها. أجرى إدموندز مقابلة مع عائلات أوركادية، وسألهم عن الفؤوس الحجرية القديمة والاكتشافات الأخرى التي يضعونها على أرففهم، ليستكشف إلى جانب تلك الآثار وفرة من القصص الرائعة لهذا الجد الأكبر أو ذاك. بعض هذه الاكتشافات مثل الكرات الحجرية المنحوتة بشكل معقد التي تظهر هنا وفي أي مكان آخر، أو "طبل" بيرتون أغنيس وفولكتون المذهل المكتشف حديثًا، وهي أسطوانات حجرية صغيرة عثر عليها مدفونة مع رفات ثلاثة أطفال في شمال يوركشاير وهو ما يدل على أن تلك القطعة تتعلق بطقوس الحداد، فليس لها أي غرض عملي واضح، وتعتبر من أهم الاكتشافات في القرن الواحد والعشرين، وهي مزينة بتصاميم غامضة، كثيفة لا يمكن فك شفرتها، الشيء نفسه ينطبق على علامات "الكأس والحلقة" وهو شكل من أشكال فن ما قبل التاريخ الموجود في ساحل المحيط الأطلسي في أوروبا موجودة على النتوءات التي تحدث بشكل طبيعي في المناظر الطبيعية البريطانية، بكميات كبيرة في أماكن مثل كيلمارتين جلين في آرجيل. "تعجبني فكرة أن كل منها عبارة عن صلاة أو تعويذة... أعتقد أن المعنى قد يكون قيد الإنشاء"، هذا ما قاله نيل ويلكين، أمين معرض المتحف البريطاني عن إحساسه بهذه الأنماط. بينما ذكرت آن ميتشل زميلة كارد أنهم سيعاودن الحفر مرة ثانية في الصيف حيث "يمكنك الهبوط لأسفل لتصبح من ضمن أشباح الماضي".
"هذه الاكتشافات في أوركني تروي قصة طويلة عن التأثير والتواصل وانتقال الأفكار من خلال المصنوعات اليدوية بدءًا من غطاء الرأس المؤلم الذي صنعه الصيادون من قرون الغزلان في ستار كار، يوركشاير، وصولًا إلى القبعات المخروطية الغريبة الفاحشة المصممة من الذهب في فرنسا وألمانيا" |
هذه الاكتشافات في أوركني تروي قصة طويلة عن التأثير والتواصل وانتقال الأفكار من خلال المصنوعات اليدوية بدءًا من غطاء الرأس المؤلم الذي صنعه الصيادون من قرون الغزلان في ستار كار، يوركشاير، وصولًا إلى القبعات المخروطية الغريبة الفاحشة المصممة من الذهب في فرنسا وألمانيا، ناهيك عن الإناء الرائع بحجم فنجان الشاي، والذي تم تشكيله من كتلة واحدة من الكهرمان حوالي عام 1750 قبل الميلاد.
ولكن، لماذا بنت شعوب أوركني وويلتشاير والعديد من الأماكن الأخرى في بريطانيا آثارًا ضخمة من الحجر منذ 5000 عام، سؤال لا يمكن الإجابة عليه نهائيًا - وعندما نحاول، فإننا من شبه المؤكد ندّعي أننا نستطيع النفاذ إلى نوايا أسلافنا البعيدين. يرد إدموندز على مثل تلك الأفكار بكلمة واحدة تنتهي بعلامة استفهام: "الكبرياء؟" وهو يجادل بأن البشر يبدو وكأنهم يبنون آثارًا هائلة حينما يرغبون في ترسيخ قوتهم أو يشعرون بالتهديد أو الضغط. ربما يجد هؤلاء الأشخاص البعيدون، حياتهم غريبة جدًا ولا يمكن الوصول إليها، "أمر نتعرف عليه فينا، بعد كل شيء".
هذه الاكتشافات وغيرها سيتم عرض الكثير منها في المتحف البريطاني هذا الشهر في معرض جديد عن "عالم ستونهنج"، الذي يفاجئنا كل عام باكتشاف مذهل، وفي هذا العام يقدم المتحف مسحًا لعصور ما قبل التاريخ في شمال أوروبا بدءًا من عصر الصيادين وجامعي الثمار وحتى العصر البرونزي المبكر، مستفيدًا من التاريخ الطويل والمعقد لأشهر المعالم الأثرية في العصر الحجري الحديث في بريطانيا باعتبارها العمود الفقري للقصة.