نهب الآثار السوريّة.. تغيير ملامح المستقبل بتغيير ملامح الماضي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نهب الآثار السوريّة.. تغيير ملامح المستقبل بتغيير ملامح الماضي

    نهب الآثار السوريّة.. تغيير ملامح المستقبل بتغيير ملامح الماضي
    مناهل السهوي 5 سبتمبر 2020
    آثار
    "داعش" دمر وسرق الأماكن الأثرية التي سيطر عليها بسورية
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    جميعنا يتذكر المشهد التراجيدي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وهو يعدم ضحاياه فوق مسرح تدمر. بدا المشهد قادمًا من مسرحية تراجيدية، وبدت عناصر المسرحية حاضرة ابتداءً من المشاهدين من أبناء المدينة، والمسرح، والممثلين من الضحايا، ومقاتلي التنظيم، والنص المسرحي، والمكان، بلا شكّ.
    لكن هذا العرض كان حقيقيًا، ولم يكن دم ضحاياه مجرد صبغة حمراء. في ذلك المشهد التاريخي، كان التنظيم يدمر فكرة التاريخ، كما يدمر الحاضر تمامًا.
    التنظيم لم يتعامل مع المكان على أنه آثار وحضارة، بل وسيلة، وعدو، في الوقت ذاته، قبل أن يدرك القيمة المادية العالية للقطع الأثرية. في وقت الحروب، تتراجع أهمية الحضارة، وتقيس الشعوب مكانتها بقولها "لن تكون الحجارة والآثار أهم من أرواح الناس". يبدو أن الحديث عن خسارة المعابد، والكنائس التاريخية، والقطع الأثرية، مربكٌ أمام ضحايا الحرب، والمعتقلين، والجثث تحت الأنقاض. لكن، وبنظرة شاملة لأثر الحرب، والنزاعات المسلحة، ندرك أن التدمير والخسارة هي كليّة حين تتعلق بالحضارة، فموت أيّ شخص هو موت لجزء من هذه الحضارة، واندثار وتدمير أيّ معلم تاريخي هو كذلك قتلٌ لإنسان آخر. قد تبدو الفكرة طوباوية، لكن الإنسان السوري يندثر بقدر اندثار الأوابد التاريخية.
    حين لم تكن الآثار محمية تمامًا
    يُظهِرُ الماضي في سورية حجم دمار الحاضر، وفي الصورة الجميلة والمثالية يبدو حجم الكارثة التي حصلت. قبل عام 2011، كانت الآثار محمية نوعًا ما، وعندما نتحدث عن أماكن تعود إلى أكثر من 75 ألف عام، تبدو هذه البلاد كطبقات لا تنتهي من الإنسان والحضارة، فمدينة إيبلا الواقعة قرب حلب بنيت حوالي 3000 ق.م، ومدينة أفاميا على ضفاف نهر العاصي بنيت حوالي عام 300 ق.م، أما مدينة بصرى فقد ذُكِرَت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وهذه الأوابد ومثيلاتها مليئة بالألواح المسمارية، ولوحات الفسيفساء، والتماثيل، والقطع النفيسة، والمدافن. وفي حقيقة الأمر، لم تكن هذه في أفضل أحوالها قبل 2011، لكن أقله كانت محمية من الدمار النهائي، فتهريب الآثار كان يتم عبر شخصيات نافذة، لكن لم يُهدم معبد، أو معلَم، عن بكرة أبيه. نعم، يبدو أن دمارًا يختلف عن دمار آخر، ونحن في سورية نريد الدمار الأقل وطأة، الذي لا يهزمنا بشكل كامل. لم تكن الآثار محمية دومًا، ففي المنطقة الجنوبية، درعا والسويداء، التي لا تزال أرضًا غنية بالكنوز والذهب، لا يزال السكان المحليون يقومون بعمليات حفرٍ بدائية للحصول على تلك الكنوز وبيعها لوسطاء.
    كانت الآثار السورية قبل 2011 بعيدة عن الأيدي التكفيرية التي اتجهت نحو تفجير وهدم وتكسير أجزاء كبيرة من الأوابد الواقعة تحت سيطرتها، فدمرتْ "الأصنام" لحماية العقيدة، ولجعل سلطتها أكثر رسوخًا في المناطق المسيطر عليها، فكانت التماثيل أوّل الخاسرين، قبل أن يكتشف التنظيم قيمتها المادية، وربما فكر وهو يبيعها كم أن هذه الشعوب ساذجة، فهي تشتري الحجر بثمن كبير!
    تنتشر الأوابد الأثرية حرفيًا في كلّ جزء من سورية، وتعدُّ مدينة حلب من أقدم مدن العالم، التي ظلت مأهولةً على مدار 5000 سنة، حيث استوطنتها معظم الإمبراطوريات الكبرى، كالحيثيين، والآشوريين، والمغول، والعثمانيين. وتقع قلعة الحصن في محافظة حمص، وهي واحدة من أهم قلاع القرون الوسطى التي بنيت حوالي عام 1170 م. أمّا في الجنوب السوري، فالآثار المكتشفة في مدينة السويداء تعود إلى إنسان ما قبل التاريخ، كما استوطنها الأنباط والآراميون والصفويون، ولاحقًا اليونانيون، والرومان.





    القطع الأثريّة والأعضاء البشريّة
    ما الفارق بين قتل إنسان وتدمير معبد، أو سرقة الأعضاء البشرية وبيعها كما القطع الأثرية؟ بدأ هذا العبث منذ السنوات الأولى للحرب، ولم يتوانَ أي طرف عن استغلال الآثار الموجودة في المناطق التي يسيطر عليها. وكان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من أكثر التنظيمات المسلحة التي دمرت وسرقت الأماكن الأثرية التي سيطرت عليها، واستخدمها تبعًا لمصالحه، فحين احتاج إلى الأموال لتمويل عملياته، باع تلك القطع الأثرية (وفي الحقيقة لم يكن دومًا بحاجة إلى عائدات الآثار بوجود نفط الشمال). وحين رغب في تشويه الحضارة، وفرض الرعب، والأثر القبيح للسلفية، دمر تماثيل نادرة، وفجَّر معابد، كمعبد بيل، ومعبد بعل شمين، وقوس النصر، في تدمر، فلا مشكلة لدى التنظيم في الازدواجية التي قدمها على طبق من دمٍ وتدميرٍ، بما أنّها تخدم فكرة الخوف التي يبنيها. ذهب أبعد، حيث أعدم عالم الآثار خالد الأسعد (82 عامًا)، وهو واحد من أهم علماء الآثار في العالم، ونكل به، ثم علقه على عمود كهرباء، في صورة لا تقل مأساوية عن الإعدامات على مسرح تدمر.
    باتت القطع الأثرية تعرض على صفحات "فيسبوك"، كأيّ منتج يسوّق له على الإنترنت، وغدت تركيا ولبنان معابر لتهريب هذه القطع، ففي مدينة عفرين سمحت الفصائل الموالية لتركيا لمنقبي الآثار بالعمل داخل المنطقة التي سيطرت عليها، كما فعلت في مدينة "النبي هوري" التاريخية، وقرية براد، التي تحوي كنائس يعود بعضها إلى العصر الروماني. أما في المنطقة الشرقية، فأشارت "الإدارة الذاتية" لشمال سورية وشرقها إلى أن التنظيم نهب جميع الآثار بشكل كامل في المناطق الشرقية، كما سمحت "هيئة تحرير الشام" للمنقبين بالعمل داخل المناطق التي سيطرت عليها في إدلب وحماة. وهو ما حصل لمدينة إيبلا في تل مرديخ. وبحسب مصادر حكومية، فإن عشرات آلاف القطع أُدخِلت إلى تركيا، وبيعت هناك. وخلال المعارك، وتبادل إطلاق النار، والقصف بين الجيش، وفصائل المعارضة، والفصائل المسلحة، كانت تلك الأوابد تحت القصف المباشر، ولم يراع أيّ طرف أهمية وضرورة حمايتها. تمّ نهب كنيس جوبر اليهودي في العاصمة دمشق، الذي يحوي مخطوطات هامة، ناهيك عن المعارك التي دارت وسط مبانٍ تاريخية، كما حدث في مدينة بصرى، ما تسبب في تخريب أجزاء كبيرة منها.
    في منتصف عام 2014، أعلنت منظمة اليونسكو أن عمليات تنقيب عن الآثار شديدة الخطورة تجري في مواقع أثرية مهمة، في موقع مدينة ماري السومرية، ومدن إيبلا، وتدمر الصحراوية، وأفاميا. وهكذا باتت مئات المواقع الأثرية الإسلامية واليونانية والرومانية تحت يد النهب والحفر والكسر.





    هل هناك ما يمكن إنقاذه؟
    التحدث عن إنقاذ الحضارة يبدو أمرًا شبه مستحيل، فمع كلّ يوم يمضي كان حجم الكارثة يكبر. حاولت الحكومة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فنقلت مقتنيات من متحف حلب إلى المصرف المركزي في دمشق. ورغم مخاطبة الحكومة السورية الإنتربول الدولي بشأن ملايين القطع المهربة، لم تجد تعاونًا سوى من دولة لبنان، حيث تمكن الأمن من إلقاء القبض على بعض المهربين، وفي حوزتهم مئات القطع الأثرية. ورغم صدور قرارين من مجلس الأمن الدولي لمنع الاتجار بالآثار السورية والعراقية، كان ما يحدث على أرض الواقع مختلفًا، ولن ننسى القطع التي تم دفنها، أو تخبئتها، من قبل التنظيمات المسلحة، والمنقبين عن الآثار، ليعودوا إليها لاحقًا. وبسبب المعارك، أو خسارات التنظيمات المسلحة، بقيت تلك القطع مجهولة الأمكنة.
    من الأخبار الجيدة أن الحكومة، حسب قول مدير الآثار السورية، محمود الحمود، لوكالة الأنباء الألمانية، أخلت حوالي 24 متحفًا في كافة الأرجاء السورية، ووضعتها في أماكن آمنة منذ عام 2012. وبحسب المدير السابق، مأمون عبد الكريم، نقلت "الآثار السورية" أكثر من 300 ألف قطعة أثرية استثنائية لها قيمة تاريخية مهمة، بالإضافة إلى أكثر من مليون قطعة أخرى، من المتاحف، ووضعتها في أماكن آمنة. تعود كلّ هذه القطع واللقى إلى عصور ما قبل التاريخ، وحتى العصور الحديثة، مرورًا بالعصور التاريخية والكلاسّيكية والرومانية والإسلامية، وهي انعكاس لحجم الغنى الموجود في سورية.
    تبقى فكرة إنقاذ الحضارة عصية على التنفيذ، فالسوق السوداء تلتهم كلّ ما يلوح لها في الأفق، ويبدو أن الجميع يدرك أن لا شيء يعود كما كان، وأن المعابد التي دمرت لن تعود كما السابق، حتى لو رممت تمامًا، هذا التشوّه في الخارطة السكانية، كما الأثرية، سيلاحق السوريين لمئات السنين، فقد تغيرت ملامح المستقبل تمامًا، حين تغيرت ملامح الماضي.



    مصادر:

    ــ نهب وتدمير كنوز سورية/ فرانس24.
    ــ اليونسكو: الآثار السورية تنهب "على نطاق مذهل"/ BBC.
    ــ آثار سورية القديمة/ هورست كلينكل.
    ــPrès de 300 sites historiques gravement endommagés par la guerre en Syrie\ le Mond
يعمل...
X