"أنا آشوربانيبال، ملك آشور، ملك العالم" بالمتحف البريطاني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "أنا آشوربانيبال، ملك آشور، ملك العالم" بالمتحف البريطاني

    "أنا آشوربانيبال، ملك آشور، ملك العالم" بالمتحف البريطاني
    إبراهيم قعدوني 27 نوفمبر 2018
    آثار
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    قبل ما يزيد على مئة وسبعين عامًا مضت، وفي غمرة التدافع الاستعماري على صيدِ الكنوز واللّقى الأثرية في بلاد الحضارات القديمة، أزاحت بعثة تنقيب أثريّ يرأسها الرحالة وعالم الآثار البريطاني المستشرق أوستن هنري لايارد (مستعينًا بالعراقي الآشوري هرمز رسّام) الترابَ عن واحدٍ من كنوز البشرية الذي ظلّت حبيسةَ الأرض لنحو ألفين وخمسمئة سنة في كيونجيك، نينوى القديمة وعاصمة آشوريا، التي أقيمت عليها مدينة نينوى الحالية في الضفة اليسرى من مدينة الموصل. ولم يكن ذلك الكنز سوى مكتبة آشوربانيبال التي احتوت ما يقرُب من ثلاثين ألفًا من ألواح الصلصال ذات النقوش المسمارية مبوّبةً في نحو ألفٍ وخمسمئة بابٍ من أبواب المعرفة الإنسانية من الفلك والطب والهندسة والزراعة والأدب وصولًا إلى ملحمة جلجامش ذائعة الصيت، التي ترجمها أندرو آر جورج عن الأكدية، وهي محفوظة بألواحها الاثني عشر في المتحف البريطاني في لندن.
    "
    كان آشوربانيبال (وتعني آشور خالق وريثه) ابن أسرحدون، الذي سمّى نفسه "مَلِك آشور، ملكُ العالم"، والذي امتدت رقعة حكمه من شواطئ شرق المتوسط حتى قِمَم غرب فارس، ومن سواحل الخليج إلى جبال الأناضول وسهول مصر، ملِكًا مولَعًا بالمعرفة أراد لدولته أن تستند إلى دعائم معرفية وتقنية على نحوٍ ينسجم مع ترامي أطرافها وبأس جيوشها، بذلك فقد بنى المكتبة في قصره وعلى مقربةٍ منه، لا في مكانٍ آخر.

    "







    كان آشوربانيبال (وتعني آشور خالق وريثه) ابن أسرحدون، الذي سمّى نفسه "مَلِك آشور، ملكُ العالم"، والذي امتدت رقعة حكمه من شواطئ شرق المتوسط حتى قِمَم غرب فارس، ومن سواحل الخليج إلى جبال الأناضول وسهول مصر، ملِكًا مولَعًا بالمعرفة أراد لدولته أن تستند إلى دعائم معرفية وتقنية على نحوٍ ينسجم مع ترامي أطرافها وبأس جيوشها، بذلك فقد بنى المكتبة في قصره وعلى مقربةٍ منه، لا في مكانٍ آخر. في كتابه الذي نقله أحمد. م. أحمد إلى العربية وصدر عن دار الساقي 2005، يقول ألبرتو مانغويل إن آشوربانيبال أمر بكتابة النص التالي تحت كل واحدٍ من الألواح الصلصالية: "قصر آشور بانيبال، ملك العالم، ملك الآشوريين، الذي يؤمن بآشور وننليل، الذي أنعم عليه نابو وتاشميتو بأذنين مفتوحتين ومُنح الرؤية السديدة... حكمة نابو، إشارات الكتابة، بعديد ما قد استُنبِط من قبل، كتبتُ على الألواح، رتبتُ الألواح في سلاسل، فحصتُـ(-ها)، وخدمةً لتأمُّلي الملكيّ وتلاوتي أوردتُها قصري".




    حسبَما نطالعه في المنحوتات والنقوش الجدارية فإنَّ آشوربانيبال يفتخر بمعرفته، فهو يظهر في العديد منها حاملًا قلمه، لا سيفه فحسب. ثمَّة ما يشبه سيرةً ذاتيةً تقول إنَّ هذا الحاكم ليس مجرّد طاغية مغرم بالقوة، فإلى جانب التركيز على قوة آشوربانيبال من خلال النقوش التي تُظهِرُه بعضلات صدره المكتنزة يمتطي صهوة جواده غامدًا رمحه في صدرِ أسدٍ ضَيغَم، نرى تفصيلاتٍ تُبرِزُ صورةَ آشورَ المغرَم بالمعرفة والتدوين والذي يقول إنَ "أحدًا من أسلافي لم يكن له هذا الفنّ من قبلي". وسواء كان هذا جزءًا مما قد يصفه المرء بدعاية السلطة، فإنه قبل كلّ شيءٍ يعكس درجة التقدم التي بلغتها حضارة آشوريا آنذاك. وإذ يُنعِمُ المرء النظر في تفاصيل الوجوه الرخامية وتقاسيهما، سيرى فيما يرى ما يشبه نصفَ ابتسامةٍ تنمُّ عن بالغِ ثقةٍ ورضى. نصفُ الابتسامةُ نفسها، تراها على وجوه الخدَمِ والجنودِ مثلما على وجهِ مليكِهم العظيم.

    قصة موت "مَلِك آشور"

    يكتنف الغموض قصة موت "مَلِك آشور"، الذي دُمِّرت حاضرته نينوى عام 612 ق. م وظلّتَ طيَّ النسيان حتى ثلاثينيات القرن العشرين، إلاَّ أنَّ بعض الروايات التاريخية تقول إن الملك ذهب إلى حرّان للتداوي من مرضٍ أصابه وأقام ابنه آشور- إيتلياني على الحكم ما أغاظَ ابنه التوأم سنشار إشكون الذي قادَ تمرّدًا أدخل البلاد في حربٍ أهلية لتبدأ ولاياتها بالانفصال تباعًا ومن ثمَّ لينقضّ الفرس والميديون والسكيثيون والبابليون وسواهم على المدن الآشورية بما فيها نينوى ونمرود (كالو تاريخيًا)، ويُضرِمون فيها النيران التي أتت عليها.

    مثلما تقول الحكمة الدارجة مثلًا، رُبَّ ضارَّةٍ نافعة، فيا للمفارقة المريرة، بعد ألفين وخمسمئة عام، انقضَّت همجية التطرف والخراب الشرق أوسطي على ما نجا من أوابد آشوريا وما تواصل من نسلِ الآشوريين الأُوَل مما دفع بالكثيرين إلى أن يحمَدوا الله أنَّ لايارد وصحبه نقلوا ما استطاعوا من آثارٍ إلى عاصمة الضباب حتى وإن كان ذلك نهبًا، فعلى الأقل نجَت تلك التحف من مطارق الجَهَلة الظلاميين.

    كانت أولى القطع الأثرية التي وصلت إلى "المملكة التي لا تغيب عنها الشمس" سنة 1850 م، هي تمثالٌ لأحد الأسدين المُجنَّحَين، اللذَين يحرسان بوابة قصر آشوربانيبال في موقع نمرود، فيما انتهى المطاف بالأسد المجنّح الثاني إلى متحف الميتروبوليتان في مدينة نيويورك، أسوةً بالكثير من كنوز الشرقِ البائد الذي انشغل أهله بفائض كوارثهم.

    ليست المكتبة بالطبع الاكتشاف الأوحد الذي عُثِرَ عليه في نينوى، بل حضارة بأكملها كانت قد شهِدت أوجَ صعودها في عهد آشوربانيبال (669-631 ق.م)، آخر الملوك الآشوريين العِظام، الذي يصِفه القائمون على معرض خاص يستضيفه المتحف البريطاني في العاصمة لندن بدءًا من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري وحتى الرابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط 2019 بالمحارب والباحث والمكتَبي والإمبراطور الباني مُبيدِ الملوك وصياد الأسود.

    وبحسب ما يقوله جون كيرتيس، رئيس المعهد البريطاني لدراسة العراق، فإنَّ فن التصوير الآشوري بالنحت على الجُدران فنٌّ آسر واحترافي، فالمشاهد التي تصوّر مطاردة الأسود في سهول بلاد الرافدين بينما تنغرس فيها سهام الملك ورماحه لهِيَ مناظر مفعمة بالدراما أكثر من أيَّة نقوشٍ عُثر عليها من قبل في ذلك الجزء من العالم.

    على الموقع الإلكتروني للمتحف البريطاني الذي ضمّ قُرابة سبعة ملايين قطعة أثرية من شتى أصقاع الأرض، وفي الصفحة المخصصة للمعرض، يقول القائمون عليه إنَّ آشوربانيبال أثبت جدارته في قيادة إمبراطوريته، ليس بالقوة الضاربة وحدها، وهو الذي عُرِف عنه بطشه الشديد بأعدائه مثلما يظهِرُه عديد النقوش التي تصور الملك الظافر ممسكًا برؤوس خصومه من الملوك ومُنقضًّا على الأسود يصيدها بلا وَجَل؛ وإنما أيضًا من خلال مهاراته كباحثٍ في الحضارات التي سبقته وكدبلوماسي بلغت آشوريا في عهده أوجَ ازدهارها لتصبح أعظم حضارةٍ في وقتها.

    يسردُ المعرضُ الكبير الذي خصَّته إدارة المتحف البريطاني بحملةٍ إعلانية لافتة، سيرة آشوربانيبال من خلال المجموعة الواسعة من نادِرِ الكنوز الأثرية الآشورية التي يحتفظ بها المتحف (منذ الحقبة الاستعمارية) وتلك التي استعارها من جهاتٍ أخرى من بينها الحكومة العراقية ومتحف اللوفر ومتحف الآرميتاج في سان بطرسبيرغ ومتحف فورديراشياتشيس في برلين ومتحف الفاتيكان، في ما يشبه روايةً مصوّرةً أو فيلمًا وثائقيًا مُجسَّمًا لسيرة واحدةٍ من أعظم حواضر البشرية منذ بزوغِ نجمها وحتى اندثارها الذي صوّره القائمون على المعرض من خلال إسقاطٍ ضوئي دخاني على أحد الجدران ربّما يُذكّرنا بأعمدة الدخان التي بالكاد تلاشت في أرجاء الموصل العراقية ونينواها.
يعمل...
X