في المشهد الثّقافيّ العربيّ الراهن: النقد الصحافيّ والمسابقات الأدبيّة
أحمد عزيز الحسين 4 يناير 2023
هنا/الآن
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
بغية الاطلاع على بعض جوانب المشهد الثقافي العربيّ الراهن بادرتُ إلى توجيه مجموعة من الأسئلة إلى أدباء ونقّاد وأصحاب دور نشر عرب، على النحو التالي:
1- ما مسؤوليّة الأنظمة العربيّة عن التّرويج للكتاب الرّديء والدّورية المتهافتة؟
2- ما رأيك بما تنشره دور النّشر العربيّة من كتب تنأى بالمتلقّي العربيّ عن الاهتمام بالجوهريّ والأساسيّ، وتحثّه على الاهتمام بالنّافل والعرضيّ، وتُبعِده عن امتلاك رؤية جماليّة حصيفة تنأى به عن وعْيِ واقعه، والخلاص ممّا هو فيه؟
3- ما تقييمك للنّقد الصحافيّ في الوطن العربيّ، وهل تراه قادرًا على تزويد المتلقّي العربيّ بالخبرة الجماليّة التي تؤهِّله للحكم على ما يقرأ، أو يسمع، أو يتذوّق؟
4- ما مدى موضوعيّة لجان التّحكيم في المسابقات الأدبية، وهل تمتلك في رأيك المعايير الكافية للحكم على النّصّ وتقييمه؟
5- ما السّبيل لتلافي التّردّي العربيّ الحاصل في سوق الكتاب، والدّوريّة الثّقافيّة، والنّقد الصحافيّ، وآليّة منح الجوائز؟
هنا الجزء الثاني والأخير من الإجابات والتي تتطرّق إلى الأسئلة من 3 إلى 5:
النقد الصحافيّ و"الوسائطي"
يرى حاتم الصّكر أنّ النّقد الصحافيّ يمثّل إحدى أقوى معضلات الوضع النّقديّ في بلداننا بسبب عجالته ومجاملاته، وبسبب لا مسؤوليّة محرِّريه وتدنّي مستوى كتّابه، وهو ما شجّع على ازدراء النّقد، وارتفاع نبرة رفضه واتّهامه بالتّغيُّب، فضلا عن اتّهام النُّقّاد بالفشل، ووصم النّقد بالعزلة والضّعف. ويرى أنّ الصحافة الثّقافيّة يمكن أن تُوصَم اليوم بالتّساهُل في التّقييم والمتابعة، والتّسرُّع في إطلاق الأحكام، وتسويق الأفكار التّقليديّة، وغضّ النّظر عن النّتاج الهشّ، كما أنّها تتّسم من ناحية أخرى بمَهمّة تقليديّة لا تتعدّى (جمْعَ) موادّ متنوِّعة مختلفة لتملأ بها فراغ صفحاتها. ويذهب الصّكر إلى أنّ هناك نوعًا قريبًا من النّقد الصحافيّ يؤازره في الكيفيّة والتّوجُّه، هو النّقد الوسائطيّ (نسبة إلى وسائط التّواصُل الاجتماعيّة) وقد تبنّى هذا النقدُ الأدبَ كأسهل الفرائس، فعمد إلى نشر خواطر وبذاءات وإشاعات ثقافيّة وتعليقات غير مسؤولة، ضمنت لنفسها الانتشار مستغلّةً جماهيريّة تلك الوسائط، بخلاف المطبوع الذي تراجع كثيرًا، وأصبحت تلك المنشورات مُتاحةً لكلّ من يشاء، لا لجودتها، ولا من خلال تقنينها بمُسميَّات لم تستقرّ أو تتبلور بعد، كالأدب الرّقميّ، والرّواية الرّقميّة، والشّعر التّشاركي والتّرابُطيّ، وسوى ذلك، بل تسيّدَتْ بسبب التّقصير في الإنفاق على المطبوعات، وضعف توزيعها لأسباب سياسيّة تحول دون تداولها عربيًّا، كما كانت الحال في القرن الماضي. ثمّ جاءت جائحة كورونا لتُوقِف المطبوعات الثّقافيّة، وتنشّط المواقع والأنشطة الرّقميّة واجهات المجلّات والصّحف ودور النّشر لتصدر مطبوعاتها إلكترونيًّا. ولذلك يرى أنّه من الضّرورة أن يتوجّه السُّؤال أساسًا إلى الصحافة الثّقافيّة لا إلى النّقد وحده؛ لأنّها هي التي تُسهِم في حفل تنقصه الجديّة والعمق والمشاريع الكبيرة التي كانت حتّى زمن قريب من أولويّات المشتغلين فيها. ولا ننسى أنّ مجلّات كـ(الفكر المعاصر، والأقلام، وشعر، والآداب، وفصول، والثّقافة العالميّة) وسواها ذات مشروع تجديديّ وتحديثيّ واضح. اشتغلت على أساسه، وتواطأ كتّابُها وقرّاؤها على بنوده كعقد قراءة وكتابة، أمّا ما توقّف من تلك الدّوريّات وما استمرّ منها، فيظلُّ متمسّكًا بحدود معقولة من تلك البرامج والمبادئ التي عرفت بها.
ومن منظور آخر يرى محمد تحريشي أنّ النّقد الصحافيّ هو فعل مواكب للحركة الإبداعيّة الفنيّة، بل هو المسوِّق الشّرعيُّ لها، وتقوم مرافقته هذه على التّرويج للأعمال الجيّدة وتقريبها للقارئ، وقد مرّ زمان كان للنّقد الصحافيّ دور رياديّ في تربية الذّوق الفنيّ والجماليّ الجمعيّ، بل إنّه في هذا الزّمان استطاع أن يرافق الكثير من الكتّاب في مشوراهم الفنّيّ، وقدّم للقرّاء الكثير من الأعمال الفنيّة التي تجلّت فيها عناصر الإبداع والجمال والمتعة. ولكن في السّنوات الأخيرة لم تعد الكثير من وسائل الإعلام والصحافة تنهض بهذا الدّور، وأغلبها أصبح معنيًّا بالإشهار وعائده الماديّ على الجريدة أو الصّحيفة، ومن ثمّ فقد تخلّت بعض الصُّحف عن ملاحقها الثّقافيّة لصالح صفحات الإعلان والإشهار. بل الأكثر من ذلك فقد أعلنت بعض الصُّحف إفلاسها نتيجة محافظتها على خطِّها التّنويريّ. ومع ذلك لم يمنع هذا بعض الصُّحف المكرَّسة والمؤسّسة من المحافظة على دورها في تربية الذّوق الفنّيّ والجماليّ للقرّاء.
أمّا نبيل سليمان فيرى أنّ هناك أمشاجًا عديدة لِمَا يُسمى بالنّقد الصحافيّ، ويذكر أنّ جمع (أمشاج) في اللُّغة هو (مشيج ومشج)، وهو ما يجمع بين الحمرة والبياض، وما تمّ خلطه من ألوان أو أشياء، وهو أوساخ...
وفي النّقد الصحافيّ يأتي عرض الحكاية (رواية، أو شعر، أو نقد أدبيّ، أو...) ممّا قد يقوم به صحافيّ أو أكاديميّ أو كاتب مشهود له بطول الباع في الكتابة النقديّة... وفي النّقد الصحافيّ تجد التّلخيص المخلّ أو الوافي، كما تجد التماعات نقديّة، ومقارنات مفيدة تنمّ عن سعة اطّلاع ودراية، أو عن اجترار ونقل (لصوصيّة بالأحرى) واستعلاء...
وفي النّقد الصحافيّ العربيّ وكما في الأمشاج، تجد زهوّ الألوان كما تجد الأوساخ. علينا أن نتذكّر دائمًا أنّ كبريات الصّحف اليوميّة والدّوريّات غير المحكَّمة تستكتب كبار الكتاب والنّقّاد لكي يكتب واحدهم (نقدًا صحافيًّا)، أو عرضًا أو مراجعة لرواية، وما أكثر ما أطلق مثل هذا النّقد الصحافيّ كتّابًا من المجهول إلى القمّة.
تواصلت محاولاتي في مثل هذا النّقد. ومنه ما شكلّ كتبًا نقديّة عديدة لي، متوسِّمًا فيه أن يكون قراءة حرّة، لا ينقصها العمق ولا تتحذلق ولا تتفيهق. هي محاولات تروم أن تكون كتابة (القارئ المتمرِّس)؛ ولذلك سمّيْتُ عام 1996 كتابًا لي بـ (سيرة القارئ) وفيه ما كتبت من (النّقد الصحافيّ) والمقالة النّقديّة منذ 1970، مما لم يضمّه أيٌّ من كتبي. وفي صدر (سيرة القارئ) استعدْتُ ما كنْتُ قد صدّرْتُ به كتابًا آخر لي عام 1980 في نقد النّقد، هو (النّقد الأدبيّ في سورية). هذا التّصدير هو قول ستانلي هايمن: إنّ المراجعات تقع على إحدى جهتي النّقد الأدبيّ، بينما يقع علم الجمال على الجهة الأخرى. ويضيف هايمن أّنّ التّفرقة بين النّاقد الأدبيّ وكاتب المراجعة والجماليّ هي تفرقة في الدَّور الوظيفيّ الذي يؤدِّيه كلٌّ منهم، وليست التّفرقة صارمة، فقد يتجاوز كلٌّ من هؤلاء الثّلاثة مجاله إلى غيره.
وماذا تقول في المقالات النّقديّة شبه الأسبوعيّة التي كتبها في الصّحف اليوميّة صلاح فضل أو جابر عصفور أو كتبْتَها أماني فؤاد، وشكّلت كتبًا لكلٍّ من هؤلاء؟ تلك هي اليوم كثرة كاثرة من المقالات الّنقديّة لعدد من النقاد.
ويقدّم عمّار علي حسن رؤية مغايرة للنّقد الصحافيّ، ويرى أنّه نوع من النّقد الانطباعيّ أو العابر أو المختزَل، وفي رأيه أنّ بعض هذا النّقد يخضع لتوجُّهات الصّحيفة التي يصدر عنها. ومع قلّة الدّوريّات النّقديّة أو سوء توزيعها، وضآلة المكافأة الماديّة التي يحصل عليها النّقّاد الذين يكتبون دراسات معمَّقة حول النّصوص الأدبيّة، وفي رأيه أنّ النّقد الصحافيّ تبوّأ مكانة متميِّزة، وأخذ كثيرٌ من الأدباء يتقبّلونه بوصفه مجرّدَ لمحةٍ أو إعلان عن أعمالهم. والمشكلة أيضًا أنّ بعض النّقّاد البارعين تكيّفوا مع النّقد الصحافيّ؛ لأنّ فرص نشره أوسع وأسرع، كما أنّ عائده الماديّ، قياسًا إلى الجهد الذي يُبذَل فيه والوقت الذي يستغرقه، يُعَدُّ مقبولا بالنِّسبة إليهم. وهنا لا بدّ أن نلفت الانتباه إلى آفة يعاني منها العالم العربيّ من المحيط إلى الخليج، وهي أنّ كثيرًا من الدّوريّات الجامعيّة، التي أطلِقَتْ بغرض نشر أبحاث التّرقية لأعضاء هيئات التّدريس، صارت تطلب من المؤلِّف مقابلا ماديًّا لنشر بحثه، وهو مضطرٌّ إلى الدّفع، حتى يترقّى في موعده.
أمّا أحمد م. أحمد فلا يعترف بأنّ هناك (نقدًا صحافيًّا عربيًّا)، ويقول: أعطِني أتفه كتاب يصدر في العالم العربيّ، وأنا أضمن لك بأنّ ناقدًا مأجورًا ما سيقبل بتدبيج مقالة تُقرِّظه، ويرى أنّ ذلك ليس بغريب في مجتمعنا العربيّ؛ فالنّاقد هو الآخر كائنٌ بشريّ يريد أن يعيش، ويحافظ على وظيفته، كما أنّ هذا (النّاقد) يخشى أن يخسر أصدقاءَ أصدقاءِ الكاتب المنقود، وقد يكون هذا النّاقد ضحلًا وأمّيًّا- في معظم الأحيان- شأنه في ذلك شأن الكاتب المنقود، ويختم كلامه بالقول: إنّنا في عصر انحطاط ثقافيّ منذ نهاية السّبعينيّات، ولا سبيل لنا للخروج منه في المدى المنظور.
لجان التّحكيم
عن دور لجان التّحكيم في منح جوائز الإبداع في المسابقات (على غرار كتارا، والبوكر، ومانديلا العالميّة وغيرها)، يرى حاتم الصكر أنّ الموضوعيّة والتّجرُّد والحكم بالنّزاهة والمسؤوليّة أمور تتبادر إلى العقل فورًا عند التّفكير بلجان التّحكيم، وما تمنحه من جوائز للأعمال الفائزة في المسابقات المذكورة، إلا أنّ تحقيق ذلك مطلب عزيز آخر؛ ذلك أنّ الجوائز تُمنَح لعمل منشور ومتميّز في مجاله، أو غير مطبوع في حينه. وهذه الجوائز، مع ما لنا عليها من ملاحظات، تظلّ حقًّا طبيعيًّا للكتاب الأدبيّ؛ وإلّا ماذا نسمِّي منح كرة ذهبيّة للاعب كلّ عام، وعشرات الجوائز التي تمنحها جهاتٌ متعدّدة في مسمَّيات وأوصاف مختلفة، يبعث بعضها على التّساؤل، ولا سيّما أنّ قيمة تلك الجوائز كبيرة جدًا. ويذهب الصّكر إلى أنّ الفوضى الثّقافيّة تلقي بظلالها على ماهيّات الجوائز وآليّات اشتغالها ومَنْحِها، لكنّ الأهمّ عنده هو ما تخصِّصه للأنواع الأدبيّة؛ وفي رأيه أنّ هذه الجوائز أسهمت في إشاعة مقولة خلافيّة مثل (زمن الرّواية)، بما تمنحه للأعمال السّرديّة، وللرِّواية تحديدًا، ويرى أنّه لا ضير في ذلك مطلقًا، على ألّا ينتج عنه الغضُّ عن الأنواع السّرديّة الأخرى، كالقصّة القصيرة، والمسرحيّات المكتوبة مثلًا، أو تطعيمها بأنواع المكتوب أو المحتوى السّرديّ، كأن تكون مثيرة لمسألة جندريّة، أو تتناول الحقوق والحريّات، ناهيك عن الأنواع الأخرى التي نالها الإقصاءُ، وفي مقدّمتها النّقد والقصّة القصيرة. كما أنّ الجوائز يتمُّ تعميمُها تحت عنوان غير محدَّد أحيانًا؛ كأنْ تكون للكتاب مطلقًا، أو للعمل المسرحيّ دون تحديد شكله، أو محتواه، أو هدفه.
وفي السّياق نفسه يقول نبيل سليمان: منذ سنين وسنين كُلِّفتُ بالتّحكيم في (جائزة مالك حدّاد) في الجزائر. ولمّا أُعْلِنَتْ نتائجُ التّحكيم، كانت مفاجأة سارّة لي أنْ كانت يمنى العيد قد اختارت الرِّواية التي اخترتُها، ولم يكن أحدنا يعلم أنّ الآخر محكِّم في الجائزة. ألا يعني ذلك أنّ الآراء تتقاطع وتتلاقى عندما يكون التّحكيم نزيهًا وجديًا، بلا أيّ حسابات كبيرة أو صغيرة؟
وفي ظنّي أنّ بعض الجوائز العربيّة تكاد تكشف عن عوراتها عندما تعلن عن نتائجها و/ أو عن بعض المحكِّمين فيها. ولبعض الجوائز مصداقيّة أكبر فأكبر، تترسّخ من دورة إلى دورة. وإنّني لأشهد على ذلك من خلال تحكيمي في (جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الرِّوائيّ)، و(جائزة الملتقى نفسه للإبداع القصصيّ)، و(جائزة الطّيِّب صالح) و(جائزة دار الصّدى للرِّواية)، و(جائزة الشّارقة للرِّواية / الإصدار الأوّل)... ولا يعني ذلك أنّه لم يكن في الكواليس ما لا يجب أن يكون. وبالطّبع، لا يعزِّينا أنّ جوائز عالميّة مرموقة كان لها من العورات أحيانًا ومرارًا ما كان. كما لا يعزِّينا أنّ الفساد عميم والتّقصير عميم، فلماذا تتنزّه الجوائز؟ بل هل يمكن أن تتنزّه مائة بالمئة؟ ولماذا نلعن بعض الجوائز، ولا نلعن بعض المحكِّمين وبعض الفائزين؟
ويتبنّى محمّد تحريشي وجهة نظر أخرى في تقييم هذه الجوائز، ويرى أنّ المسابقات التي تمنحها موضوعيّة إلى حدّ بعيد، ومرتبطة بشروط تحكيميّة خاصّة بكلّ جائزة، إلا أنّ فوز كتاب بهذه الجائزة أو تلك لا يعني بالضّرورة أنّه الأجود على الإطلاق، وإنّما يكون الفوز قياسًا إلى الأعمال المرشَّحة من دور النّشر، والتي قد تراهن على أعمال دون أخرى، وهو يعتقد أنّ التّحكيم في حدّ ذاته يخضع لمتغيِّرات كثيرة بين محكِّم وآخر؛ فيقع التّبايُن حول الجيّد والأجود من هذه الأعمال المقدَّمة للجائزة، وطبيعيّ أن يشعر الفائز بنشوة ومتعة، و يدافع عن موضوعيّة التّحكيم، في حين يشعر الذي لم يحالفه الحظّ بالمرارة، خاصّة إذا عُزِّزت الجائزة قليلا بفقرة غير لائقة، أو بتعبير غير سليم، أو بناء دراميّ مرتبك، أو تصوُّر فكريّ أو أيديولوجيّ لا يتناسب وطبيعة الجائزة وشروط التّرشُّح لها. ولذا أعتقد جازمًا أنّ هذه الجوائز قدّمت خدمة جليلة للأدب العربيّ، وحفّزت الكتّاب أكثر نحو بلوغ أفق إبداعيّ رحب، وفي الوقت ذاته جعلت بعض الكتّاب يكتبون وعينهم على الجائزة، وقيمتها الماليّة، ومالها من اعتبار معنويّ، وبذلك تحدُّ نيّة التّرشُّح هذه من طواعية الكتابة، وكياسة المبدع، وحريّة الإبداع.
أمّا عمّار علي حسن فيرى أنّه لو افترضنا نزاهة لجان التّحكيم، وهو أمرٌ صعب في عالمنا العربيّ، فإنّ حكمها في النّهاية يخضع لذائقة الّذين يشكّلونها أو يمثِّلونها. والمشكلة في كلِّ هذه الجوائز أنّنا لا نعرف قائمة الأعمال المُقدَّمة إليها ابتداء، لكي يكون بوسعنا أن نقول: إنّ اللّجان قد أهملت روايات كانت جديرة بأن تكون في قوائمها الطّويلة أو القصيرة. ومع هذا فمن بين هذه القوائم لا تفوز، في كلّ الأحوال، الأعمال الأكثر جدارة أو استحقاقًا وفق ما نتابع، ونعرف، ونقدِّر. ويكمل قائلا: يجب ألّا يفوتنا هنا أنّ كثيرًا من الجوائز، إنْ لم تكن جميعُها، لها أهدافٌ مُعلَنة أو خفيّة، مقبولة أو مرفوضة، متَّفَق عليها أو مختَلف حولها، وهذه الأهداف تتحكّم كثيرًا في غربلة الأعمال المقدَّمة للجائزة منذ الوهلة الأولى، وتسهم في انتقاء ما يتوافق منها مع توجُّهات الجائزة، أو مع ما قصده من أطلقوها. ومع ذلك فهناك جوائز يبذل القائمون عليها جهدًا كبيرًا لكي تتّسم بأقصى قدر ممكن من النّزاهة والعدالة، وهنا إنْ وقع خطأ، فهو يُسنَد إلى ما يعتري حكم البشر من نقص، وإنْ ابتغوا الكمال، أو آثروا السّلامة.
أمّا أحمد م. أحمد فيذكر أنّه لا يعرف، في الغالب، أسماء أعضاء اللّجان التّحكيميّة في تلك المسابقات، وإنْ كان يحرص على قراءة الكتب الفائزة. وهو يستنبط من خلال هذه القراءة أنّ ثمّة أهواءً تسيطر على أحكام المشتغلين في هذه اللّجان، ويشكّ في مدى أهليّتهم للحكم على ما يقرؤون، ويرى أنّهم يفتقرون إلى فهم الحداثة، وآليّة تموضُعها فيما يقرؤون، ويحكّمون.
سُبُل الخروج
السُّبل التي يجب أن تُسلَك للخلاص من هذه الأزمة والفوضى المنظَّمة يرى الصّكر أنّها مهمّة جدًّا، وتُعالِج (إشكاليّة) متعدِّدة الجوانب تساهم في تخلُّقها عدّة أطراف، ويذهب إلى أنّ الثّقافة، كحراك وحيويّة ومظهر حضاريّ، تتمدّد على وسائط ووسائل وكيفيّات تصعب الإحاطة بها، بغية فكّ الاشتباك بين هدفها المعلَن، كوسيلة لرفع وعي الذّات والمجتمع للتّعبير والإبداع والبحث، وكونها تتعرّض للادّعاء والتّسطيح وتحقيق أهداف غير ثقافيّة. ويرى أنّ أساس الإشكاليّة يكمن في وهم الحريّة التي تتيحها وسائلُ التّواصل الاجتماعيّ، والمفهوم الغامض للحريّة الذي أرسَتْه، والهجمة الشّعبويّة عليها، والمُعضَّدة من المقولات التي تقوم بالتّنظير لها، تحت مسمَّيَات كبيرة مجلوبة من منابتها دون استيعاب واضح لخطرها أو محتواها حتّى تغدو النّسخ العربيّة لها نُسخًا فجّة وهلاميّة تتيح للجميع النّشاط باسمها، وضخّ نصوص أو مظاهر أو أنشطة فارغة من أدبيّتها؛ ولذلك يتعيّن التّحقُّق من الهُويّة النّظريّة للأنشطة والممارسات الثّقافيّة التي تنبني عليها، أو تنطلق من حاضنتها بفهم قاصر أو ملتوٍ ومعوَّج لأسسها.
وفي رأيه أنّ النّقد الصحافيّ لا يتمّ اصلاحُ شأنه إلا من خلال الاستعانة بمزيد من الكفاءات الأدبيّة والنّقديّة المبصِرة والمتطوِّرة في وعيها وثقافتها، وإحاطتها بالمعرفة والحداثة. وكذلك استكتاب النُّقّاد الرّاسخين والواعدين وذوي المشروعات الجادّة، والكتّاب المثابرين على مناهجهم وأدواتهم، والاعتناء بالكيفيّات التي تتّخذها الموادّ والملفّات والتّرجمات وغيرها. ولا يُكلَّف للمتابعة والنّقد من لا صلة به. وابتكار زوايا تضع القارئ في صميم حركة النّقد ومستجدّاته في العالم. أمّا (السُّوق) المقصودة في السُّؤال مضافةً للكتب، فربما تعني معارض الكتاب تحديدًا. وهي تتلاحق بحيويّة واضحة في الأعوام الأخيرة، حتّى غدت من الثّقافة الكتبيّة المتواترة والتي تجتذب النّاشر والمؤلِّف والقارئ. وهي تتّبع أمزجة القرّاء ورغباتهم أكثر من قيادتهم وتوجيههم لقراءة الجديد والمهمّ. ويمكن أن يسري ذلك على السُّوق بمعنى النّشر خارج المعارض أيضًا، كون الكتاب سلعة يتاجر بها ناشروه. وهذه تخضع أيضًا لأهداف يضع مخطَّطَها والطّريقَ إليها الناشرُ غالبًا. فقليل أو نادر بين النّاشرين من يضع هيئة مساعدة، أو يستعين بمستشار ثقافيّ متخصِّص. والتّخطيط السّيّء واضح في تهافت دور النّشر على ترجمة كتب الفائزين بجائزة نوبل بسرعة البرق بعد إعلان فوزهم، بينما لا نجد إلّا القليل من أعمالهم بالعربيّة قبل الفوز، أو لا نجد شيئًا، وهذا ينطبق على الفائزين بالجوائز العربيّة أيضًا.
وهذه النُّقطة تفضي بي إلى الإجابة عن الشّقّ الأخير من سؤالك المتشعِّب حول (آليّة) منح الجوائز التي ازدادت سوءًا في أعوام (التّحكيم عن بُعد) بعد جائحة كورونا؛ إذ ليس هناك من تفاهم مباشر بين المحكِّمين، كما أنّ هناك غيابًا شبه كامل لوجهات نظرهم المقترنة بالشّفافية والمسؤوليّة. وبعضهم لا يكاد يعلم كيف تمّ اعتماد النّتائج وبأيّة آليّة. وهم، في الغالب، يكتفون بالتّحكيم وإعطاء الدّرجات أو التّقييمات المطلوبة. وربّما فوجِئوا بفوز أعمالٍ لهم عليها ملاحظاتٌ جوهريّةٌ، كالاختلال السّرديّ في الرّوايات، والعيوب الفنّيّة في القصائد، ويكون الضّعف اللّغويّ والأسلوبيّ عاملًا مهمًّا في التّقويم والتّحكيم، لكنّه لا يُراعَى في المراحل الأخيرة عند جمع شتات الآراء للمحكِّمين. كما أنّ هناك خللا مماثلا في اللِّجان الأوليّة التي يُفترض أنّها (تُغربِل) ما يصل إليها؛ وهذا لا يتمّ بصورة مُتقنَة أيضًا؛ إذ تُرشَّح أعمال تعاني من الضّعف، ولا يجدر أن تُحال للمنافسة.
هذه ملاحظاتي- وبعضها من تجربة حول الآليّات المعلنة، أمّا الجوائز التي لا نعرف خططها، فمانحوها أحرارٌ في تقديمها لمن يرون، ولهذا تكون المفاجآت أكثر غرابة. وكي لا أضع اللّوم كلَّه على وضع الجوائز في سنوات التّحكيم الرّقميّ أو المتّصل بأعوام المنح الأخيرة، أستذكر مناسبات سابقة كانت الجوائز فيها تُمنح بطريقة تصويت أعضاء اللّجان، بعد تداولهم ولقاءاتهم عقب الانتهاء من التّحكيم عن بُعد. ولا سيّما تلك التي تُمنَح لكاتب أو شاعر عن مجمل أعماله. فهنا أيضًا نجد للمؤثّرات غير الثّقافيّة دورًا لا يخفى، وتحت الدّوافع المتنوِّعة والشّائعة، كالانحياز للانتماء القُطريّ أو السِّياسيّ، أو احتكامًا للأعراف الاجتماعيّة، وفي مقدِّمتها العلاقات الإخوانيّة والمجاملات.
ومع ذلك كلّه فإنّ للجوائز- إنْ تمّ ترشيدُها وتنويعُها والتّدقيق في اختيار لجانها وآليّات عملها - دورًا لا يغفل في التّنمية الثّقافيّة، وتأهيل المتلقّين، وتبنّي التّنوير والحداثة.
ويرى محمّد تحريشي أنّ الفوضى الثّقافيّة المنظَّمة تأتي في سياق عالميّ ضمن مُخرَجات تتعلّق بالفوضى الخلّاقة، ولكن قبل الحديث عن هذه المُخرَجات لا بدّ لنا من الوقوف عند مُدخَلاتها، ومنها سيطرةُ ثقافة الصّورة، وكسادُ سوق الكتاب، وتردِّي أخلاقيّات الطّباعة والنّشر، وغلاءُ المنتج الورقيّ في مقابل المنتَج الرّقميّ في مواقع الويب، والمنصّات الرّقميّة لبعض المؤسَّسات ذات الصِّلة بالثّقافة والأدب.
ويذهب عمّار علي حسن إلى أنّه ليس هناك من سبيل نزيه خالص مقتدر لمواجهة هذا كلِّه، لكن يمكن، في رأيه، التّقليل من الفوضى والتّردِّي والتّحيُّز، من خلال اتّخاذ بعض الإجراءات المنطقيّة أو العلميّة التي تضمن تصعيد من يستحقُّون أولا، حتّى لو جاءت ذائقة المحكِّمين فيما بعد، لتمنح أحد هؤلاء المستحقِّين جائزة ما. وأوّل هذه الإجراءات، في رأيه، هو الشّفافية؛ بحيث تعلنُ كلُّ جائزة الأعمالَ المتقدِّمة إليها دون استثناء، إن كانت الجائزة تُمنح لكتاب، وكلّ الأسماء إن كانت تُمنَح على مجمل الأعمال. ويجب أن تكون هناك سريّة للتّحكيم في مختلف المراحل، وحتّى إعلان النّتيجة النّهائيّة، وأنْ تُعَدَّ نماذج صارمة للتّقييم، لا بدّ للمحكِّمين من أن يخضعوا لها.
وبالنّسبة إلى النّقد الصحافيّ، فهو لا يطالب بوقفه، لأنّه يلعب، في رأيه، دورًا في التّعريف بالأعمال، إنّما يجب التّوسُّع في إصدار الدّوريّات النّقديّة الجادّة في داخل الجامعات والمعاهد العلميّة، وخارجها في المؤسَّسات الثقافيّة الأهليّة والحكوميّة. أمّا معالجة ما يعتري سوق الكتاب من مشكلات، فقد تبدأ بتقديم دعم لدور النّشر، يمكن أن يكون عبر تخفيف الجمارك التي تُفرَض على الورق الذي ارتفعت أسعاره في السّنوات الأخيرة بشكل مخيف، أو قيام المدارس والجامعات بشراء الكتب الجيّدة وتوزيعها على مكتباتها، وكذلك المكتبات التّابعة لقصور وبيوت الثّقافة. ومن الضّروري أن تكون هناك برامج إذاعيّة ومُتلفَزة للتّعريف بكلّ جديد من الكتب الصّادرة. ولا بدَّ للموسِرين العرب من أن يلعبوا دورًا في دعم الثّقافة على غرار ما يفعله أمثالهم في الغرب. لكنّ الحلّ الأفضل، والذي يُعتَقد بأنّ نتائجه مضمونة على المدى البعيد، هو ربط التّعليم بالثّقافة، وأوّل خطوة في ذلك هو حضُّ التّلاميذ والطُّلاب على القراءة، سواء في حصص مطالعة مخصَّصة للكتب الجديدة، أو فيما هو أوسع من هذا، وهذا يتطلّب بالطّبع وجود نخبة مثقَّفة من المعلِّمين القادرين على القيام بهذا الدّور المهم.
وبرأي نبيل سليمان فإن السّبيل لتلافي ذلك كلِّه يمكن أن يتمّ بإزالة الأسباب، ووضوح البدائل، لأنّ التّردِّي لن يزول، ولن تصلح آليّة الجوائز، ولن ولن... إلا بمعجزة في زمنِ ليس بزمن المعجزات. ويكمل قائلًا: ماذا تريد من الملايين السوريّة المشرَّدة في الخيام، مثلًا؟ أن تقرأ أم تتدفّأ؟ ماذا عن ملايين الأطفال السُّوريّين الذين لم يعرفوا المدرسة منذ عشر سنوات، وربّما إلى عشرٍ أمرّ وأدهى؟ من هنا، من هذا اللّيل العربيّ البهيم، من الفساد والجهالة والدّيكتاتوريّة، من العماء المذهبيّ والطّائفيّ والفكريّ والثّقافيّ، يبدأ التّردِّي الفادح والعميم. هنا الجذر، هنا الأسّ، ولكنّ هذا بالطّبع لا يعفينا من المسؤوليّة عن أن نحاول ونحاول ونحاول. ليس لنا أن نتذرّع بأيّة ذريعة حتّى نستكين، أو نصمت، أو نبرِّر، أو نكتفي بالخلاص الفرديّ.
غير أنّ أحمد م. أحمد يرى أنّ ذلك كلّهلا يمكن تلافيه إلا باتّخاذ إجراءات جذريّة وحاسمة تضمن التّخلُّص من الاستبداد السّياسيّ، وتحرير الأراضي العربيّة المغتصَبة، وتحقيق النّهوض الاقتصاديّ، وتوفير العدالة الاجتماعيّة، وإشاعة العلمنة، وإنْ كان يشكّ في إمكانيّة تحقيقها بسبب تبعيّة الأنظمة العربيّة للغرب الذي يكرّس استبدادَها ويحميها، مع الإشارة إلى أنّ هذا الغرب متنبِّه لضرورة تكريس التّخلّف والفرقة بين هذه الشُّعوب، ويخشى من نهوضها؛ وبذلك لن يبقى لدينا إلّا الحلمُ بثورة جذريّة تنقذ العرب من الاندثار، وتُعيد قيامتهم من الرّماد.
أحمد عزيز الحسين 4 يناير 2023
هنا/الآن
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
بغية الاطلاع على بعض جوانب المشهد الثقافي العربيّ الراهن بادرتُ إلى توجيه مجموعة من الأسئلة إلى أدباء ونقّاد وأصحاب دور نشر عرب، على النحو التالي:
1- ما مسؤوليّة الأنظمة العربيّة عن التّرويج للكتاب الرّديء والدّورية المتهافتة؟
2- ما رأيك بما تنشره دور النّشر العربيّة من كتب تنأى بالمتلقّي العربيّ عن الاهتمام بالجوهريّ والأساسيّ، وتحثّه على الاهتمام بالنّافل والعرضيّ، وتُبعِده عن امتلاك رؤية جماليّة حصيفة تنأى به عن وعْيِ واقعه، والخلاص ممّا هو فيه؟
3- ما تقييمك للنّقد الصحافيّ في الوطن العربيّ، وهل تراه قادرًا على تزويد المتلقّي العربيّ بالخبرة الجماليّة التي تؤهِّله للحكم على ما يقرأ، أو يسمع، أو يتذوّق؟
4- ما مدى موضوعيّة لجان التّحكيم في المسابقات الأدبية، وهل تمتلك في رأيك المعايير الكافية للحكم على النّصّ وتقييمه؟
5- ما السّبيل لتلافي التّردّي العربيّ الحاصل في سوق الكتاب، والدّوريّة الثّقافيّة، والنّقد الصحافيّ، وآليّة منح الجوائز؟
هنا الجزء الثاني والأخير من الإجابات والتي تتطرّق إلى الأسئلة من 3 إلى 5:
النقد الصحافيّ و"الوسائطي"
يرى حاتم الصّكر أنّ النّقد الصحافيّ يمثّل إحدى أقوى معضلات الوضع النّقديّ في بلداننا بسبب عجالته ومجاملاته، وبسبب لا مسؤوليّة محرِّريه وتدنّي مستوى كتّابه، وهو ما شجّع على ازدراء النّقد، وارتفاع نبرة رفضه واتّهامه بالتّغيُّب، فضلا عن اتّهام النُّقّاد بالفشل، ووصم النّقد بالعزلة والضّعف. ويرى أنّ الصحافة الثّقافيّة يمكن أن تُوصَم اليوم بالتّساهُل في التّقييم والمتابعة، والتّسرُّع في إطلاق الأحكام، وتسويق الأفكار التّقليديّة، وغضّ النّظر عن النّتاج الهشّ، كما أنّها تتّسم من ناحية أخرى بمَهمّة تقليديّة لا تتعدّى (جمْعَ) موادّ متنوِّعة مختلفة لتملأ بها فراغ صفحاتها. ويذهب الصّكر إلى أنّ هناك نوعًا قريبًا من النّقد الصحافيّ يؤازره في الكيفيّة والتّوجُّه، هو النّقد الوسائطيّ (نسبة إلى وسائط التّواصُل الاجتماعيّة) وقد تبنّى هذا النقدُ الأدبَ كأسهل الفرائس، فعمد إلى نشر خواطر وبذاءات وإشاعات ثقافيّة وتعليقات غير مسؤولة، ضمنت لنفسها الانتشار مستغلّةً جماهيريّة تلك الوسائط، بخلاف المطبوع الذي تراجع كثيرًا، وأصبحت تلك المنشورات مُتاحةً لكلّ من يشاء، لا لجودتها، ولا من خلال تقنينها بمُسميَّات لم تستقرّ أو تتبلور بعد، كالأدب الرّقميّ، والرّواية الرّقميّة، والشّعر التّشاركي والتّرابُطيّ، وسوى ذلك، بل تسيّدَتْ بسبب التّقصير في الإنفاق على المطبوعات، وضعف توزيعها لأسباب سياسيّة تحول دون تداولها عربيًّا، كما كانت الحال في القرن الماضي. ثمّ جاءت جائحة كورونا لتُوقِف المطبوعات الثّقافيّة، وتنشّط المواقع والأنشطة الرّقميّة واجهات المجلّات والصّحف ودور النّشر لتصدر مطبوعاتها إلكترونيًّا. ولذلك يرى أنّه من الضّرورة أن يتوجّه السُّؤال أساسًا إلى الصحافة الثّقافيّة لا إلى النّقد وحده؛ لأنّها هي التي تُسهِم في حفل تنقصه الجديّة والعمق والمشاريع الكبيرة التي كانت حتّى زمن قريب من أولويّات المشتغلين فيها. ولا ننسى أنّ مجلّات كـ(الفكر المعاصر، والأقلام، وشعر، والآداب، وفصول، والثّقافة العالميّة) وسواها ذات مشروع تجديديّ وتحديثيّ واضح. اشتغلت على أساسه، وتواطأ كتّابُها وقرّاؤها على بنوده كعقد قراءة وكتابة، أمّا ما توقّف من تلك الدّوريّات وما استمرّ منها، فيظلُّ متمسّكًا بحدود معقولة من تلك البرامج والمبادئ التي عرفت بها.
ومن منظور آخر يرى محمد تحريشي أنّ النّقد الصحافيّ هو فعل مواكب للحركة الإبداعيّة الفنيّة، بل هو المسوِّق الشّرعيُّ لها، وتقوم مرافقته هذه على التّرويج للأعمال الجيّدة وتقريبها للقارئ، وقد مرّ زمان كان للنّقد الصحافيّ دور رياديّ في تربية الذّوق الفنيّ والجماليّ الجمعيّ، بل إنّه في هذا الزّمان استطاع أن يرافق الكثير من الكتّاب في مشوراهم الفنّيّ، وقدّم للقرّاء الكثير من الأعمال الفنيّة التي تجلّت فيها عناصر الإبداع والجمال والمتعة. ولكن في السّنوات الأخيرة لم تعد الكثير من وسائل الإعلام والصحافة تنهض بهذا الدّور، وأغلبها أصبح معنيًّا بالإشهار وعائده الماديّ على الجريدة أو الصّحيفة، ومن ثمّ فقد تخلّت بعض الصُّحف عن ملاحقها الثّقافيّة لصالح صفحات الإعلان والإشهار. بل الأكثر من ذلك فقد أعلنت بعض الصُّحف إفلاسها نتيجة محافظتها على خطِّها التّنويريّ. ومع ذلك لم يمنع هذا بعض الصُّحف المكرَّسة والمؤسّسة من المحافظة على دورها في تربية الذّوق الفنّيّ والجماليّ للقرّاء.
أمّا نبيل سليمان فيرى أنّ هناك أمشاجًا عديدة لِمَا يُسمى بالنّقد الصحافيّ، ويذكر أنّ جمع (أمشاج) في اللُّغة هو (مشيج ومشج)، وهو ما يجمع بين الحمرة والبياض، وما تمّ خلطه من ألوان أو أشياء، وهو أوساخ...
وفي النّقد الصحافيّ يأتي عرض الحكاية (رواية، أو شعر، أو نقد أدبيّ، أو...) ممّا قد يقوم به صحافيّ أو أكاديميّ أو كاتب مشهود له بطول الباع في الكتابة النقديّة... وفي النّقد الصحافيّ تجد التّلخيص المخلّ أو الوافي، كما تجد التماعات نقديّة، ومقارنات مفيدة تنمّ عن سعة اطّلاع ودراية، أو عن اجترار ونقل (لصوصيّة بالأحرى) واستعلاء...
وفي النّقد الصحافيّ العربيّ وكما في الأمشاج، تجد زهوّ الألوان كما تجد الأوساخ. علينا أن نتذكّر دائمًا أنّ كبريات الصّحف اليوميّة والدّوريّات غير المحكَّمة تستكتب كبار الكتاب والنّقّاد لكي يكتب واحدهم (نقدًا صحافيًّا)، أو عرضًا أو مراجعة لرواية، وما أكثر ما أطلق مثل هذا النّقد الصحافيّ كتّابًا من المجهول إلى القمّة.
يقول ستانلي هايمن: إنّ المراجعات تقع على إحدى جهتي النّقد الأدبيّ، بينما يقع علم الجمال على الجهة الأخرى |
وماذا تقول في المقالات النّقديّة شبه الأسبوعيّة التي كتبها في الصّحف اليوميّة صلاح فضل أو جابر عصفور أو كتبْتَها أماني فؤاد، وشكّلت كتبًا لكلٍّ من هؤلاء؟ تلك هي اليوم كثرة كاثرة من المقالات الّنقديّة لعدد من النقاد.
ويقدّم عمّار علي حسن رؤية مغايرة للنّقد الصحافيّ، ويرى أنّه نوع من النّقد الانطباعيّ أو العابر أو المختزَل، وفي رأيه أنّ بعض هذا النّقد يخضع لتوجُّهات الصّحيفة التي يصدر عنها. ومع قلّة الدّوريّات النّقديّة أو سوء توزيعها، وضآلة المكافأة الماديّة التي يحصل عليها النّقّاد الذين يكتبون دراسات معمَّقة حول النّصوص الأدبيّة، وفي رأيه أنّ النّقد الصحافيّ تبوّأ مكانة متميِّزة، وأخذ كثيرٌ من الأدباء يتقبّلونه بوصفه مجرّدَ لمحةٍ أو إعلان عن أعمالهم. والمشكلة أيضًا أنّ بعض النّقّاد البارعين تكيّفوا مع النّقد الصحافيّ؛ لأنّ فرص نشره أوسع وأسرع، كما أنّ عائده الماديّ، قياسًا إلى الجهد الذي يُبذَل فيه والوقت الذي يستغرقه، يُعَدُّ مقبولا بالنِّسبة إليهم. وهنا لا بدّ أن نلفت الانتباه إلى آفة يعاني منها العالم العربيّ من المحيط إلى الخليج، وهي أنّ كثيرًا من الدّوريّات الجامعيّة، التي أطلِقَتْ بغرض نشر أبحاث التّرقية لأعضاء هيئات التّدريس، صارت تطلب من المؤلِّف مقابلا ماديًّا لنشر بحثه، وهو مضطرٌّ إلى الدّفع، حتى يترقّى في موعده.
"ع. ع. حسن: الجوائز أسهمت في إشاعة مقولة خلافيّة مثل (زمن الرّواية)، بما تمنحه للأعمال السّرديّة، وللرِّواية تحديدًا، ولا ضير في ذلك مطلقًا، على ألّا ينتج عنه الغضُّ عن الأنواع السّرديّة الأخرى، كالقصّة القصيرة، والمسرحيّات المكتوبة مثلًا" |
لجان التّحكيم
عن دور لجان التّحكيم في منح جوائز الإبداع في المسابقات (على غرار كتارا، والبوكر، ومانديلا العالميّة وغيرها)، يرى حاتم الصكر أنّ الموضوعيّة والتّجرُّد والحكم بالنّزاهة والمسؤوليّة أمور تتبادر إلى العقل فورًا عند التّفكير بلجان التّحكيم، وما تمنحه من جوائز للأعمال الفائزة في المسابقات المذكورة، إلا أنّ تحقيق ذلك مطلب عزيز آخر؛ ذلك أنّ الجوائز تُمنَح لعمل منشور ومتميّز في مجاله، أو غير مطبوع في حينه. وهذه الجوائز، مع ما لنا عليها من ملاحظات، تظلّ حقًّا طبيعيًّا للكتاب الأدبيّ؛ وإلّا ماذا نسمِّي منح كرة ذهبيّة للاعب كلّ عام، وعشرات الجوائز التي تمنحها جهاتٌ متعدّدة في مسمَّيات وأوصاف مختلفة، يبعث بعضها على التّساؤل، ولا سيّما أنّ قيمة تلك الجوائز كبيرة جدًا. ويذهب الصّكر إلى أنّ الفوضى الثّقافيّة تلقي بظلالها على ماهيّات الجوائز وآليّات اشتغالها ومَنْحِها، لكنّ الأهمّ عنده هو ما تخصِّصه للأنواع الأدبيّة؛ وفي رأيه أنّ هذه الجوائز أسهمت في إشاعة مقولة خلافيّة مثل (زمن الرّواية)، بما تمنحه للأعمال السّرديّة، وللرِّواية تحديدًا، ويرى أنّه لا ضير في ذلك مطلقًا، على ألّا ينتج عنه الغضُّ عن الأنواع السّرديّة الأخرى، كالقصّة القصيرة، والمسرحيّات المكتوبة مثلًا، أو تطعيمها بأنواع المكتوب أو المحتوى السّرديّ، كأن تكون مثيرة لمسألة جندريّة، أو تتناول الحقوق والحريّات، ناهيك عن الأنواع الأخرى التي نالها الإقصاءُ، وفي مقدّمتها النّقد والقصّة القصيرة. كما أنّ الجوائز يتمُّ تعميمُها تحت عنوان غير محدَّد أحيانًا؛ كأنْ تكون للكتاب مطلقًا، أو للعمل المسرحيّ دون تحديد شكله، أو محتواه، أو هدفه.
وفي السّياق نفسه يقول نبيل سليمان: منذ سنين وسنين كُلِّفتُ بالتّحكيم في (جائزة مالك حدّاد) في الجزائر. ولمّا أُعْلِنَتْ نتائجُ التّحكيم، كانت مفاجأة سارّة لي أنْ كانت يمنى العيد قد اختارت الرِّواية التي اخترتُها، ولم يكن أحدنا يعلم أنّ الآخر محكِّم في الجائزة. ألا يعني ذلك أنّ الآراء تتقاطع وتتلاقى عندما يكون التّحكيم نزيهًا وجديًا، بلا أيّ حسابات كبيرة أو صغيرة؟
وفي ظنّي أنّ بعض الجوائز العربيّة تكاد تكشف عن عوراتها عندما تعلن عن نتائجها و/ أو عن بعض المحكِّمين فيها. ولبعض الجوائز مصداقيّة أكبر فأكبر، تترسّخ من دورة إلى دورة. وإنّني لأشهد على ذلك من خلال تحكيمي في (جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الرِّوائيّ)، و(جائزة الملتقى نفسه للإبداع القصصيّ)، و(جائزة الطّيِّب صالح) و(جائزة دار الصّدى للرِّواية)، و(جائزة الشّارقة للرِّواية / الإصدار الأوّل)... ولا يعني ذلك أنّه لم يكن في الكواليس ما لا يجب أن يكون. وبالطّبع، لا يعزِّينا أنّ جوائز عالميّة مرموقة كان لها من العورات أحيانًا ومرارًا ما كان. كما لا يعزِّينا أنّ الفساد عميم والتّقصير عميم، فلماذا تتنزّه الجوائز؟ بل هل يمكن أن تتنزّه مائة بالمئة؟ ولماذا نلعن بعض الجوائز، ولا نلعن بعض المحكِّمين وبعض الفائزين؟
ويتبنّى محمّد تحريشي وجهة نظر أخرى في تقييم هذه الجوائز، ويرى أنّ المسابقات التي تمنحها موضوعيّة إلى حدّ بعيد، ومرتبطة بشروط تحكيميّة خاصّة بكلّ جائزة، إلا أنّ فوز كتاب بهذه الجائزة أو تلك لا يعني بالضّرورة أنّه الأجود على الإطلاق، وإنّما يكون الفوز قياسًا إلى الأعمال المرشَّحة من دور النّشر، والتي قد تراهن على أعمال دون أخرى، وهو يعتقد أنّ التّحكيم في حدّ ذاته يخضع لمتغيِّرات كثيرة بين محكِّم وآخر؛ فيقع التّبايُن حول الجيّد والأجود من هذه الأعمال المقدَّمة للجائزة، وطبيعيّ أن يشعر الفائز بنشوة ومتعة، و يدافع عن موضوعيّة التّحكيم، في حين يشعر الذي لم يحالفه الحظّ بالمرارة، خاصّة إذا عُزِّزت الجائزة قليلا بفقرة غير لائقة، أو بتعبير غير سليم، أو بناء دراميّ مرتبك، أو تصوُّر فكريّ أو أيديولوجيّ لا يتناسب وطبيعة الجائزة وشروط التّرشُّح لها. ولذا أعتقد جازمًا أنّ هذه الجوائز قدّمت خدمة جليلة للأدب العربيّ، وحفّزت الكتّاب أكثر نحو بلوغ أفق إبداعيّ رحب، وفي الوقت ذاته جعلت بعض الكتّاب يكتبون وعينهم على الجائزة، وقيمتها الماليّة، ومالها من اعتبار معنويّ، وبذلك تحدُّ نيّة التّرشُّح هذه من طواعية الكتابة، وكياسة المبدع، وحريّة الإبداع.
أمّا عمّار علي حسن فيرى أنّه لو افترضنا نزاهة لجان التّحكيم، وهو أمرٌ صعب في عالمنا العربيّ، فإنّ حكمها في النّهاية يخضع لذائقة الّذين يشكّلونها أو يمثِّلونها. والمشكلة في كلِّ هذه الجوائز أنّنا لا نعرف قائمة الأعمال المُقدَّمة إليها ابتداء، لكي يكون بوسعنا أن نقول: إنّ اللّجان قد أهملت روايات كانت جديرة بأن تكون في قوائمها الطّويلة أو القصيرة. ومع هذا فمن بين هذه القوائم لا تفوز، في كلّ الأحوال، الأعمال الأكثر جدارة أو استحقاقًا وفق ما نتابع، ونعرف، ونقدِّر. ويكمل قائلا: يجب ألّا يفوتنا هنا أنّ كثيرًا من الجوائز، إنْ لم تكن جميعُها، لها أهدافٌ مُعلَنة أو خفيّة، مقبولة أو مرفوضة، متَّفَق عليها أو مختَلف حولها، وهذه الأهداف تتحكّم كثيرًا في غربلة الأعمال المقدَّمة للجائزة منذ الوهلة الأولى، وتسهم في انتقاء ما يتوافق منها مع توجُّهات الجائزة، أو مع ما قصده من أطلقوها. ومع ذلك فهناك جوائز يبذل القائمون عليها جهدًا كبيرًا لكي تتّسم بأقصى قدر ممكن من النّزاهة والعدالة، وهنا إنْ وقع خطأ، فهو يُسنَد إلى ما يعتري حكم البشر من نقص، وإنْ ابتغوا الكمال، أو آثروا السّلامة.
أمّا أحمد م. أحمد فيذكر أنّه لا يعرف، في الغالب، أسماء أعضاء اللّجان التّحكيميّة في تلك المسابقات، وإنْ كان يحرص على قراءة الكتب الفائزة. وهو يستنبط من خلال هذه القراءة أنّ ثمّة أهواءً تسيطر على أحكام المشتغلين في هذه اللّجان، ويشكّ في مدى أهليّتهم للحكم على ما يقرؤون، ويرى أنّهم يفتقرون إلى فهم الحداثة، وآليّة تموضُعها فيما يقرؤون، ويحكّمون.
نبيل سليمان: ماذا تريد من الملايين السوريّة المشرَّدة في الخيام، مثلًا؟ أن تقرأ أم تتدفّأ؟ ماذا عن ملايين الأطفال السُّوريّين الذين لم يعرفوا المدرسة منذ عشر سنوات |
السُّبل التي يجب أن تُسلَك للخلاص من هذه الأزمة والفوضى المنظَّمة يرى الصّكر أنّها مهمّة جدًّا، وتُعالِج (إشكاليّة) متعدِّدة الجوانب تساهم في تخلُّقها عدّة أطراف، ويذهب إلى أنّ الثّقافة، كحراك وحيويّة ومظهر حضاريّ، تتمدّد على وسائط ووسائل وكيفيّات تصعب الإحاطة بها، بغية فكّ الاشتباك بين هدفها المعلَن، كوسيلة لرفع وعي الذّات والمجتمع للتّعبير والإبداع والبحث، وكونها تتعرّض للادّعاء والتّسطيح وتحقيق أهداف غير ثقافيّة. ويرى أنّ أساس الإشكاليّة يكمن في وهم الحريّة التي تتيحها وسائلُ التّواصل الاجتماعيّ، والمفهوم الغامض للحريّة الذي أرسَتْه، والهجمة الشّعبويّة عليها، والمُعضَّدة من المقولات التي تقوم بالتّنظير لها، تحت مسمَّيَات كبيرة مجلوبة من منابتها دون استيعاب واضح لخطرها أو محتواها حتّى تغدو النّسخ العربيّة لها نُسخًا فجّة وهلاميّة تتيح للجميع النّشاط باسمها، وضخّ نصوص أو مظاهر أو أنشطة فارغة من أدبيّتها؛ ولذلك يتعيّن التّحقُّق من الهُويّة النّظريّة للأنشطة والممارسات الثّقافيّة التي تنبني عليها، أو تنطلق من حاضنتها بفهم قاصر أو ملتوٍ ومعوَّج لأسسها.
وفي رأيه أنّ النّقد الصحافيّ لا يتمّ اصلاحُ شأنه إلا من خلال الاستعانة بمزيد من الكفاءات الأدبيّة والنّقديّة المبصِرة والمتطوِّرة في وعيها وثقافتها، وإحاطتها بالمعرفة والحداثة. وكذلك استكتاب النُّقّاد الرّاسخين والواعدين وذوي المشروعات الجادّة، والكتّاب المثابرين على مناهجهم وأدواتهم، والاعتناء بالكيفيّات التي تتّخذها الموادّ والملفّات والتّرجمات وغيرها. ولا يُكلَّف للمتابعة والنّقد من لا صلة به. وابتكار زوايا تضع القارئ في صميم حركة النّقد ومستجدّاته في العالم. أمّا (السُّوق) المقصودة في السُّؤال مضافةً للكتب، فربما تعني معارض الكتاب تحديدًا. وهي تتلاحق بحيويّة واضحة في الأعوام الأخيرة، حتّى غدت من الثّقافة الكتبيّة المتواترة والتي تجتذب النّاشر والمؤلِّف والقارئ. وهي تتّبع أمزجة القرّاء ورغباتهم أكثر من قيادتهم وتوجيههم لقراءة الجديد والمهمّ. ويمكن أن يسري ذلك على السُّوق بمعنى النّشر خارج المعارض أيضًا، كون الكتاب سلعة يتاجر بها ناشروه. وهذه تخضع أيضًا لأهداف يضع مخطَّطَها والطّريقَ إليها الناشرُ غالبًا. فقليل أو نادر بين النّاشرين من يضع هيئة مساعدة، أو يستعين بمستشار ثقافيّ متخصِّص. والتّخطيط السّيّء واضح في تهافت دور النّشر على ترجمة كتب الفائزين بجائزة نوبل بسرعة البرق بعد إعلان فوزهم، بينما لا نجد إلّا القليل من أعمالهم بالعربيّة قبل الفوز، أو لا نجد شيئًا، وهذا ينطبق على الفائزين بالجوائز العربيّة أيضًا.
"محمّد تحريشي: الفوضى الثّقافيّة المنظَّمة تأتي في سياق عالميّ ضمن مُخرَجات تتعلّق بالفوضى الخلّاقة، ولكن قبل الحديث عن هذه المُخرَجات لا بدّ لنا من الوقوف عند مُدخَلاتها، ومنها سيطرةُ ثقافة الصّورة، وكسادُ سوق الكتاب، وتردِّي أخلاقيّات الطّباعة والنّشر، وغلاءُ المنتج الورقيّ" |
هذه ملاحظاتي- وبعضها من تجربة حول الآليّات المعلنة، أمّا الجوائز التي لا نعرف خططها، فمانحوها أحرارٌ في تقديمها لمن يرون، ولهذا تكون المفاجآت أكثر غرابة. وكي لا أضع اللّوم كلَّه على وضع الجوائز في سنوات التّحكيم الرّقميّ أو المتّصل بأعوام المنح الأخيرة، أستذكر مناسبات سابقة كانت الجوائز فيها تُمنح بطريقة تصويت أعضاء اللّجان، بعد تداولهم ولقاءاتهم عقب الانتهاء من التّحكيم عن بُعد. ولا سيّما تلك التي تُمنَح لكاتب أو شاعر عن مجمل أعماله. فهنا أيضًا نجد للمؤثّرات غير الثّقافيّة دورًا لا يخفى، وتحت الدّوافع المتنوِّعة والشّائعة، كالانحياز للانتماء القُطريّ أو السِّياسيّ، أو احتكامًا للأعراف الاجتماعيّة، وفي مقدِّمتها العلاقات الإخوانيّة والمجاملات.
ومع ذلك كلّه فإنّ للجوائز- إنْ تمّ ترشيدُها وتنويعُها والتّدقيق في اختيار لجانها وآليّات عملها - دورًا لا يغفل في التّنمية الثّقافيّة، وتأهيل المتلقّين، وتبنّي التّنوير والحداثة.
ويرى محمّد تحريشي أنّ الفوضى الثّقافيّة المنظَّمة تأتي في سياق عالميّ ضمن مُخرَجات تتعلّق بالفوضى الخلّاقة، ولكن قبل الحديث عن هذه المُخرَجات لا بدّ لنا من الوقوف عند مُدخَلاتها، ومنها سيطرةُ ثقافة الصّورة، وكسادُ سوق الكتاب، وتردِّي أخلاقيّات الطّباعة والنّشر، وغلاءُ المنتج الورقيّ في مقابل المنتَج الرّقميّ في مواقع الويب، والمنصّات الرّقميّة لبعض المؤسَّسات ذات الصِّلة بالثّقافة والأدب.
ويذهب عمّار علي حسن إلى أنّه ليس هناك من سبيل نزيه خالص مقتدر لمواجهة هذا كلِّه، لكن يمكن، في رأيه، التّقليل من الفوضى والتّردِّي والتّحيُّز، من خلال اتّخاذ بعض الإجراءات المنطقيّة أو العلميّة التي تضمن تصعيد من يستحقُّون أولا، حتّى لو جاءت ذائقة المحكِّمين فيما بعد، لتمنح أحد هؤلاء المستحقِّين جائزة ما. وأوّل هذه الإجراءات، في رأيه، هو الشّفافية؛ بحيث تعلنُ كلُّ جائزة الأعمالَ المتقدِّمة إليها دون استثناء، إن كانت الجائزة تُمنح لكتاب، وكلّ الأسماء إن كانت تُمنَح على مجمل الأعمال. ويجب أن تكون هناك سريّة للتّحكيم في مختلف المراحل، وحتّى إعلان النّتيجة النّهائيّة، وأنْ تُعَدَّ نماذج صارمة للتّقييم، لا بدّ للمحكِّمين من أن يخضعوا لها.
وبالنّسبة إلى النّقد الصحافيّ، فهو لا يطالب بوقفه، لأنّه يلعب، في رأيه، دورًا في التّعريف بالأعمال، إنّما يجب التّوسُّع في إصدار الدّوريّات النّقديّة الجادّة في داخل الجامعات والمعاهد العلميّة، وخارجها في المؤسَّسات الثقافيّة الأهليّة والحكوميّة. أمّا معالجة ما يعتري سوق الكتاب من مشكلات، فقد تبدأ بتقديم دعم لدور النّشر، يمكن أن يكون عبر تخفيف الجمارك التي تُفرَض على الورق الذي ارتفعت أسعاره في السّنوات الأخيرة بشكل مخيف، أو قيام المدارس والجامعات بشراء الكتب الجيّدة وتوزيعها على مكتباتها، وكذلك المكتبات التّابعة لقصور وبيوت الثّقافة. ومن الضّروري أن تكون هناك برامج إذاعيّة ومُتلفَزة للتّعريف بكلّ جديد من الكتب الصّادرة. ولا بدَّ للموسِرين العرب من أن يلعبوا دورًا في دعم الثّقافة على غرار ما يفعله أمثالهم في الغرب. لكنّ الحلّ الأفضل، والذي يُعتَقد بأنّ نتائجه مضمونة على المدى البعيد، هو ربط التّعليم بالثّقافة، وأوّل خطوة في ذلك هو حضُّ التّلاميذ والطُّلاب على القراءة، سواء في حصص مطالعة مخصَّصة للكتب الجديدة، أو فيما هو أوسع من هذا، وهذا يتطلّب بالطّبع وجود نخبة مثقَّفة من المعلِّمين القادرين على القيام بهذا الدّور المهم.
وبرأي نبيل سليمان فإن السّبيل لتلافي ذلك كلِّه يمكن أن يتمّ بإزالة الأسباب، ووضوح البدائل، لأنّ التّردِّي لن يزول، ولن تصلح آليّة الجوائز، ولن ولن... إلا بمعجزة في زمنِ ليس بزمن المعجزات. ويكمل قائلًا: ماذا تريد من الملايين السوريّة المشرَّدة في الخيام، مثلًا؟ أن تقرأ أم تتدفّأ؟ ماذا عن ملايين الأطفال السُّوريّين الذين لم يعرفوا المدرسة منذ عشر سنوات، وربّما إلى عشرٍ أمرّ وأدهى؟ من هنا، من هذا اللّيل العربيّ البهيم، من الفساد والجهالة والدّيكتاتوريّة، من العماء المذهبيّ والطّائفيّ والفكريّ والثّقافيّ، يبدأ التّردِّي الفادح والعميم. هنا الجذر، هنا الأسّ، ولكنّ هذا بالطّبع لا يعفينا من المسؤوليّة عن أن نحاول ونحاول ونحاول. ليس لنا أن نتذرّع بأيّة ذريعة حتّى نستكين، أو نصمت، أو نبرِّر، أو نكتفي بالخلاص الفرديّ.
غير أنّ أحمد م. أحمد يرى أنّ ذلك كلّهلا يمكن تلافيه إلا باتّخاذ إجراءات جذريّة وحاسمة تضمن التّخلُّص من الاستبداد السّياسيّ، وتحرير الأراضي العربيّة المغتصَبة، وتحقيق النّهوض الاقتصاديّ، وتوفير العدالة الاجتماعيّة، وإشاعة العلمنة، وإنْ كان يشكّ في إمكانيّة تحقيقها بسبب تبعيّة الأنظمة العربيّة للغرب الذي يكرّس استبدادَها ويحميها، مع الإشارة إلى أنّ هذا الغرب متنبِّه لضرورة تكريس التّخلّف والفرقة بين هذه الشُّعوب، ويخشى من نهوضها؛ وبذلك لن يبقى لدينا إلّا الحلمُ بثورة جذريّة تنقذ العرب من الاندثار، وتُعيد قيامتهم من الرّماد.