بيليه: الأسطورة الشعبية في أوفى تجلياتها
محمد جميل خضر 7 يناير 2023
تغطيات
بيليه بعد الفوز بكأس العالم الثالثة في المكسيك (21/6/1970/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
خلال حفل افتتاح مونديال قطر 2022، تذكرتُ بيليه، الجوهرة الكروية البرازيلية الأسطورية السوداء. مرّ على خاطري طيفه وهو يعلن بركلة من قدمه الساحرة افتتاح كثير من المونديالات السابقة. قلت لنفسي لولا أن المانع جلل، لما ترددت قطر في استضافته، فهو علامة المجد والعنوان الجامع لكرة القدم على امتداد كوكب الأرض. وهذا ما تبيّن لاحقًا، فعلًا كان المانع كما انجلى جللًا، والرجل كان قبل انطلاق المونديال الأبدع من كل ما سبقه في لحظات المرض الحرجة التي يتبعها في كثير من الحالات موت ودموع ووداع، كما حدث في حالة بيليه الذي رحل في الرمق الأخير من عام 2022، تاركًا وراءه إرثًا لا يشبه غيره، ومنجزًا رياضيًا وثقافيًا يتجاوز بعده الوطنيّ البرازيليّ، نحو أفقه الإنسانيّ الأمميّ الخالد.
كان يا ما كان...
كان يا ما كان في قديم الزمان طفل موهوب يملك موهبة فريدة، عرف كيف يحوّل كرة القدم إلى فكرةٍ سحريةٍ من الكريستال. هذا الطفل هو أديسون أرانتيس دونا سيمينتو، الملقب بـ"بيليه"، اللقب الذي لا يعرف، حتى هو نفسه، معنى واضحًا محددًا له. ولد بيليه في بلدة تريس كراكوس جنوبي ولاية ميناس جيرايس، هو المسكون منذ أعوام طفولته الأولى بشغف لا يشبه غيره، إنه شغف كرة القدم، اللعبة التي يمارسها الناس هناك في حواضر البرازيل داخل الصالات، وفي الحارات، وعند جنبات الطريق السريعة والصغيرة، ويكبرون وهم يعانقون الهوس الطالع من استدارتها، ولا يكبرون قبل أن يكونوا حددوا فريقهم ورقمهم ومكانهم في الدفاع، أو الوسط، أو الهجوم. الطفل بيليه مبكرًا حدد فريقه، إنه نادي سانتوس الفريق الذي اختاره له أصدقاء والده، حيث ترعرع هناك في جوٍّ أسريٍّ مكّنه من الكشف عن كل مهاراته دون وجل، أو تردد، في وسطٍ مُحب، في ظل إدارة ضامنة، وحاملة، وراعية لموهبة لا تشبه غيرها، حيث مبكرًا التقط كثير من أصحاب الكار البرازيليين نبوغ بيليه الكروي، وأدركوا أن الفتى سيذهب بعيدًا في أكثر الرياضات التي تأسر قلوب أبناء الأنديز والأمازون. ربما لم يتوقعوا كل هذا المجد، ولكن كثيرًا من محيط بيليه وأقاربه وأصدقاء والده عرفوا أن مسيرة المجد سوف تبدأ في وقت مبكر من عمر الفتى وانطلاق مسيرته في ملاعب كرة القدم، سواء على صعيد النادي، أو على صعيد منتخب بلاده الوطني.
وكان ما كان. أحرز الأهداف لفريق الكبار في نادي سانتوس وهو في عمر 15 عامًا، وأحرز الأهداف لمنتخب بلاده الأول وهو لم يتجاوز 17 عامًا، وأين؟ في نهائيات كأس العالم، وإذا به من أول مشاركة دولية يصبح هداف كأس العالم، وإذا به يحرز لمنتخب بلاده هدفين في المباراة النهائية ضد السويد، واحدًا منهما سيحفظه التاريخ، حتى أن اللاعب السويديّ الذي تخطاه بيليه قبل إحرازه الهدف، صرّح ذات مرّة، أنه كاد يصفق للهدف.
أصل الحكاية
يبدو أن الحكاية تتجاوز الشغف بِلعبةٍ ما. ويبدو أن عوامل أخرى كثيرة أسهمت بما كانه بيليه، وما وصل إليه. ولعل في مقدمة هذه العوامل لون بشرته، وهو اللون الذي كان يُعامل أصحابه في البرازيل معاملة العبيد، تمامًا كما كانوا يُعامَلون في الولايات المتحدة الأميركية. عامل آخر أسهم في تحقيق الفتى إنجازات لافتة في وقت قصير، ونيله مع باقي لاعبي منتخب بلاده كأس العالم عام 1958، وهو أول كأس عالم تفوز به البرازيل، إنه العامل المتعلق بالحزن الوطني الجارف الذي انتاب البرازيليين جميعهم بعد صدمة، أو زلزال، عام 1950. وإليكم الحكاية: قرر الاتحاد الدولي في اللحظات الأخيرة تكليف البرازيل باستضافة كأس العالم في عام 1950، وهي أول بطولة تقام بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولم يكن في الإمكان تنظيم البطولة في بلد أوروبي. وافقت البرازيل على استضافة البطولة، وخاض البنّاؤون البرازيليون سباقًا مع الزمن لإنجاز استاد الماراكانا (أكبر ملعب في العالم) في غضون شهرين فقط لا غير. لم يكن لينجح ذلك لولا تدخل الجيش المسكون (كما كل جيش) بفكرة الطاعة العمياء، والتنفيذ من دون مناقشة، وهذا ما كان، حيث عُيِّنَ ضابط كبير لإنجاز المهمة، وقد كان للحكومة البرازيلية ما أرادت، وأصبح ملعب الماراكانا، الذي يتسع لزهاء 200 ألف شخص، جاهزًا قبل البطولة التي سوّل البرازيليون لأنفسهم أنها لهم حتى قبل انطلاق منافساتها. ليس بعيدًا عن البرازيل، وفي قلب القارة اللاتينية الجنوبية، كانت الأوروغواي ما تزال ترزح تحت نير العبودية، وعندما تأهل منتخبها للنهائيات، أو عندما تقرر مشاركة منتخبها بالنهائيات، فأيامها لم يكن الأمر تصفيات بشكل حرفي، انبرى قائد المنتخب الأوروغوياني برباطة جأش وثبات وإيمان بقضيته وقضية شعبه، واشترط أن تلغى العبودية، ويُحرَّر اللاعبون الواقعون في نيرها، قبل أن يتوّجه لاعبو المنتخب إلى البرازيل للمشاركة هناك في النهائيات. بعد أخذ ورد، وتجاذبات، وتململات، وافقت حكومة الأوروغواي على شرط قائد منتخب بلادهم، وألغيت العبودية، وسافر اللاعبون إلى البرازيل أحرارًا كاملي الإنسانية والمسؤولية، وجاهزين بكل عنفوان ذلك ومعانيه لأحسن تمثيل لبلادهم الأوروغواي. بإمكانيات شحيحة جدًّا، وفي ظروف صعبة، وصلت الأوروغواي للدور الثاني، وفي هذا الدور، ولكي تزداد الضغوط على قائد المنتخب الذي انتزع الحرية قبل المشاركة، فلقد انسحب في الدور الثاني، وبسبب شح الإمكانيات، أربعة من إداريي المنتخب، من بينهم المدرب، وعادوا أدراجهم إلى الأوروغواي، جمع القائد فريقه، وقال لهم "إن الذين غادروا كانوا عبئًا أراحنا الرب منه، واصلِوا الانتصارات"، فواصلوها وصولًا إلى المباراة النهائية، وأمام من؟ أمام البرازيل منظمة البطولة، ضامنة اللقب، المهووسة حتى النخاع بكرة القدم. أكثر من 180 ألف متفرج برازيلي ملأوا ملعب الماراكانا، في مقابل أقل من عشرة آلاف من جمهور الأوروغواي. الألعاب النارية بدأت الاحتفال باللقب قبل انطلاق صافرة المباراة النهائية أمام منتخب صغير لا يبلغ عدد سكان بلده أيامها المليوني نسمة. وليزيد يقين البرازيليين باللقب والكأس والذهب، أحرز منتخبهم هدف التقدم، وظل الأمر على ذلك حتى الشوط الثاني. ووسط احتفالات البرازيل، أحرز لاعبو المنتخب الذي صنعه قائده هدف التعادل. وفي الهزيع الأخير من الشوط الثاني، وبينما كان الجميع ينتظر هدف الفوز في مرمى الأوروغواي، وإذا بالهدف الصاعقة يدخل في مرمى البرازيل، ليخطف لاعبو الأورغواي كأس حريتهم، وليبرهنوا أنهم استحقوا تلك الحرية التي عضوا عليها بالنواجذ.
على الجهة الأخرى من المشهد، وفي بيت متواضع صغير في بلدة منسية، لمح طفل دموع والده الذي كان لاعب كرة قدم، دموع والده ودموع البرازيل جميعها على ضياع كأس حسبوه في متناول أيديهم. وإذا بهذا الفتى الذي صار اسمه بيليه، يعد والده أن يحقق للبرازيل كأس العالم، وأن يحوّل دموع قهر البرازيليين جميعهم وخيبتهم إلى دموع فرح، وهو ما تحقق له بعد ثمانية أعوام من "كارثة" عام 1950.
المفارقة أن بيليه الحالم الواعد القافز على الكرات مثل نمر مفترس، لم يكتف بكأس واحدة تعويضًا عن أحزان عام 1950، بل هو اللاعب الوحيد في العالم الذي نال مع منتخبه كأس العالم ثلاث مرّات: 1958، 1962 و1970.
آفاق البطولة
في تقرير له عن بيليه عرضته قناة الجزيرة، يتساءل الزميل فوزي بشرى عن ماهية البطولة؛ هل هي بطولة الفرد الذي يخرج من قاع الحياة ليصعد إلى قممها في فنٍّ من الفنون، فإذا به صاحب مجده وسلطان زمانه؟
إنه العنوان الأزليّ حول البطولة الفردية بوصفها طفرةً اجتماعيةً تنتخب لها الظروف واحدًا يصعد بجماعته على نحوٍ يصعب تفسير حدوثه.
"في البرازيل، حيث الفقر، وما يرتّبه من عنصرية اجتماعية هي بقية من تاريخ الرقّ في البلاد، صنعت الظروف للمخيال الشعبي بطلًا يعوّض عن بؤس الحياة، ولؤم الفاقة، وانحسار المستقبل أمام عيون الملايين من البشر المعدمين".
لم يكن البطل سوى صبي أسود اسمه بيليه. آفاق بطولة لا تشبه غيرها، توّجته نجمًا في سماء البرازيل، فلا مال، ولا طبقة، ولا عرق يسعفه. "لقد صعد الفتى بقدميه الساحرتين، حتى ملأ الأفق البرازيلي لا يزاحمه عليه أحد. البطل الفرد، غالبًا، صنيعة نفسه. كأن إرادة الله جاءت به ليضيء الطريق المعتمة أمام ملايين الصبية الذين يكتنفهم السواد، فأصبح، سريعًا، ملهمًا، ومعزيًا للذين تموت أحلامهم في أزقة الحواري الفقيرة، فالولد الذي لم يتجاوز عمره سبعة عشر عامًا، سيعود بكأس العالم إلى بلاده من البطولة الذي نظمتها السويد عام 1958، يصير اسمه على كل لسان، ويتجلى بوصفه مصدرًا لمسرّات السحن السوداء والبيضاء على السواء".
سيغدو مجده أكبر من طاقة عمره الغض، فلا يعرف أن يذهب بهذه النجومية خارج ملاعب كرة القدم.
بطولة بيليه صنعها المخيال الشعبي، إنها تلك اللحظات الاستثنائية من عمر التاريخ "حين يصنع المخيال الشعبي بطلًا وحين يقدّسه".
بيليه والعسكر
لسوء حظ بيليه أن نجوميته التي ملأت الدنيا وشغلت الناس كانت خلال أكثر سنوات البرازيل ديكتاتورية بعد انقلاب العسكر في عام 1964، على الحكم الديمقراطي، فعاشت البلاد تحت حكم عسكريٍّ لم يتردد في قتل معارضيه وتعذيبهم وإخفائهم على مدى عشرين عامًا. حكمٌ ديكتاتوريٌّ استثمر على نحو ما في نجومية بيليه وشعبيته كأنه منجز عسكري. الناقدون سيرة بيليه يقولون إنه سكت حيث ينبغي الكلام في وجه العسكر، فلم يستغل شعبيته ونفوذه الكبير، وصار إلى حيادٍ تام تجاه ما يحدث في البلاد، وقد كشفت وثائق سرية حديثة عن تلك الفترة أن بيليه كان تحت المراقبة من العسكر، وأنه ربما كان قد تعرّض لبعض الضغوط. أما بيليه فيدفع عن نفسه تهمة الحياد بأنه لا يفهم في السياسة شيئًا! والسؤال الملح هنا هو: هل يحتاج الإنسان درجة أكاديمية كي يصرخ في وجه الظلم؟ هل يحتاج إلى نظّارات سياسية كي يرى كيف ملأت البزّات العسكرية أفق بلاده، وبما قد يفوق أفق البطولة التي حققها هو شخصيًا؟
صمتَ بيليه على العسكر، وهو الآن في دار الحق، لم يعد اللوم يجدي، إلا أن التوثيق ضرورة للتاريخ، والذين حاولوا نزع كرة القدم من دسمها الشعبيّ ودفقها التأثيريّ كثرٌ، والمسارات تعلّمنا في كل مرّة كيف تغيّر، في اللحظة الأخيرة، وجهتها، والمنارات تبقى منارات بغض النظر عن بعض هفواتها.
بيليه الذي علّم الأميركان الشماليين كيف يلعبون كرة القدم، كشف في كلمات وداعه في مباراة اعتزاله عام 1977، مدى انحيازه للحب، ومدى إيمانه به، يقول في كلمة الوداع المؤثرة:
"أنا أومن أن الحب هو أجمل ما يمكن أن نناله في الحياة ونمنحه للآخرين. كل شيء غيره يمضي. أرجوكم رددوا معي ثلاث مرّات: الحب... الحب... الحب".
بيليه ونيويورك
في عام 1975، سيترك بيليه البرازيل، وناديه سانتوس، ليبدأ تجربة غاية في المخاطرة والإثارة، بانضمامه إلى فريق نادي كوزوموس النيويوركيّ لكرة القدم، وكرة القدم لعبة لا تثير الأميركيّ في شيء، لأن حماسته مرتبطة بلعبة الرغبي العنيفة، كأنها تمثّلٌ لعنفٍ آخر متوحش يتمظهر على نحو ما في اللعبة الأكثر شعبية. لم يبق بيليه عامين في كوزوموس حتى جاءت نجوميته بعشرات الآلاف إلى ملاعب كرة القدم، خاصة بعد انضم إليه نجوم كأس العالم السابقون، مثل الهولندي كرويف، والألماني بكنباور، والبرازيلي كارلوس ألبرتو. بيليه إن شئت هو مؤسس كرة القدم في أميركا، أما الإنكليز الذين صنعوا كرة القدم ثم رموا بها العالم، ستنتهي مهمتهم هنا، فسحرة كرة القدم وأساطينها، الآتون من أميركا الجنوبية، هم وحدهم من سيمنحون هذه الكرة معنى أن تكون فنًّا، وأن تكون موسيقى، بيليه كان إمامهم، وإمام قرنه، في ذلك الفن.
لقد غير بيليه أميركا الشمالية، ولكن أميركا الشمالية أيضًا غيرته حين حوّلته إلى ماركة تجارية. وكلاهما غيّرا الرياضة بتحميلها بعدًا شخصيًا وكتابة أسماء اللاعبين على القمصان، وبث روح جديدة فيها لها معطياتها وقوانينها. لا شك في أن كرة القدم بصيغتها الحالية مدينة لمغامرة بيليه الأميركية.
قالوا فيه
ـ "لعل المسيح وحده قد يكون أفضل من بيليه. أو ربما الرب"... اللاعب الأرجنتيني سيزار لويس مينوتي (1938).
ـ "لا أصدق أن كائنًا بشريًا يمكنه فعل شيء كهذا"... المدرب الإيطالي نيريو روكو (1912 ـ 1979).
ـ النجم الأميركي روبرت ردفورد هتف قائلًا له "واو، أنت مشهور يا رجل"، حين رأى المئات يطلبون توقيع بيليه، في حين لا أحد يطلب توقيع ردفورد.
ـ" لا نعرف أبدًا إن كان بيليه قد خرج من باطن الأرض، أو هبط من السماء ليضرب الكرة برأسه"... اللاعب الأرجنتيني خورخي فالدانو.
ـ "الجوهر والإبداع، كم هو رائع يا رفاق"... اللاعب الإيطالي ماريو كورسو (1941 ـ 2020).
ـ "بيليه هو لاعب كرة القدم الوحيد الذي تجاوز حدود المنطق"... الجناح الهولندي الطائر يوهان كرويف (1947 ـ2016).
ـ "كيف تتهجى اسم بيليه: ألف، لام، هاء: إله"... صحيفة "صاندي تايمز" الإنكليزية.
ـ "كان بيليه جيدًا جدًا لدرجة أنك لا ترغب في عرقلته"... اللاعب الإيطالي جيوفاني تراباتوني (1938).
ـ اللاعب الأرجنتيني دييغو ماردونا (1960 ـ 2020) لم يكن يحبذ مقارنته ببيليه: "لا أود أن أقارن به"، علمًا أن أي مقارنة كانت ستصب حتمًا في صالح الجوهرة السوداء.
ـ "متى سيولد بيليه الجديد؟ لن يولد أبدًا، فقد أغلق والداي المصنع"... بيليه.
تلويحة بدمع الحارات
الملك. الجوهرة السوداء. الأسطورة. الهدّاف. بطل الشعب. اللؤلؤة السمراء. البرازيل. ألقاب حازها بيليه خلال مسيرة محتشدة بالألقاب والبطولات والإنجازات التي لا تشبه غيرها. وبيليه لغةً هي الأرض الجرداء والمائلة التي حوّلها بفنونه إلى أخصب بقاع الدنيا وأينع أشجار الأرض.
أدار ظهره لأوروبا، وظل وفيًا لنادي سانتوس باستثناء العامين ونصف العام الفترة التي لعب خلالها لنادي كوزوموس النيويوركي، وحتى في مباراة اعتزاله لعب الشوط الأول مع كوزوموس، والشوط الثاني مع سانتوس، فكان سانتوس أول القول وآخره. وكما لم يحب الأوروبيين ولعبهم، فهم في دورهم لم يحبوه، ففي مونديال 1966، دُبّرت له أكبر مذبحة إصابات، فإنكلترا لا تريد أي منغص على حلمها أن تنال الكأس الذي تنظم بنفسها بطولة سباق الظفر به. تغاضى حكام البطولة عن العنف المفرط نحوه، ما دفعه إلى التفكير في الاعتزال المبكر بعد مونديال 1966، مبررًا عزمه هذا أن الحكام لا يحمون اللاعبين، وأنه لم يعد يستوعب كل هذا العنف الذي تسببت فيه مهاراته، كما لو أن المدافعين يضمرون الحقد ضد لاعبي الهجوم. عدل بيليه عن قراره في الاعتزال، وحسنًا فعل، فقد توّج مسيرته مع منتخب بلاده بثلاثية كأس العالم. وأما على صعيد ناديه، فلم يبق شيء يمكن أن يفعله لاعب مع ناديه إلا وحققه بيليه مع سانتوس.
عدم حب الأوروبيين لبيليه جعلهم يشكّكون في كثير من الأرقام التي حققها خلال مسيرته المزهرة بالعطاء والإنجازات. وأدخلوا العالم في دوامة الأرقام الرسمية، والأخرى غير الرسمية. على كل حال، الآن، وبما أن العلاقة بينهم وبين بيليه أصبحت علاقة تأبين وترحُّم، فلن يقر أحد بالحقيقة، ولكن الحقيقة الساطعة أن بيليه هو الأسطورة الشعبية في أوفى تجلياتها.
محمد جميل خضر 7 يناير 2023
تغطيات
بيليه بعد الفوز بكأس العالم الثالثة في المكسيك (21/6/1970/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
خلال حفل افتتاح مونديال قطر 2022، تذكرتُ بيليه، الجوهرة الكروية البرازيلية الأسطورية السوداء. مرّ على خاطري طيفه وهو يعلن بركلة من قدمه الساحرة افتتاح كثير من المونديالات السابقة. قلت لنفسي لولا أن المانع جلل، لما ترددت قطر في استضافته، فهو علامة المجد والعنوان الجامع لكرة القدم على امتداد كوكب الأرض. وهذا ما تبيّن لاحقًا، فعلًا كان المانع كما انجلى جللًا، والرجل كان قبل انطلاق المونديال الأبدع من كل ما سبقه في لحظات المرض الحرجة التي يتبعها في كثير من الحالات موت ودموع ووداع، كما حدث في حالة بيليه الذي رحل في الرمق الأخير من عام 2022، تاركًا وراءه إرثًا لا يشبه غيره، ومنجزًا رياضيًا وثقافيًا يتجاوز بعده الوطنيّ البرازيليّ، نحو أفقه الإنسانيّ الأمميّ الخالد.
كان يا ما كان...
كان يا ما كان في قديم الزمان طفل موهوب يملك موهبة فريدة، عرف كيف يحوّل كرة القدم إلى فكرةٍ سحريةٍ من الكريستال. هذا الطفل هو أديسون أرانتيس دونا سيمينتو، الملقب بـ"بيليه"، اللقب الذي لا يعرف، حتى هو نفسه، معنى واضحًا محددًا له. ولد بيليه في بلدة تريس كراكوس جنوبي ولاية ميناس جيرايس، هو المسكون منذ أعوام طفولته الأولى بشغف لا يشبه غيره، إنه شغف كرة القدم، اللعبة التي يمارسها الناس هناك في حواضر البرازيل داخل الصالات، وفي الحارات، وعند جنبات الطريق السريعة والصغيرة، ويكبرون وهم يعانقون الهوس الطالع من استدارتها، ولا يكبرون قبل أن يكونوا حددوا فريقهم ورقمهم ومكانهم في الدفاع، أو الوسط، أو الهجوم. الطفل بيليه مبكرًا حدد فريقه، إنه نادي سانتوس الفريق الذي اختاره له أصدقاء والده، حيث ترعرع هناك في جوٍّ أسريٍّ مكّنه من الكشف عن كل مهاراته دون وجل، أو تردد، في وسطٍ مُحب، في ظل إدارة ضامنة، وحاملة، وراعية لموهبة لا تشبه غيرها، حيث مبكرًا التقط كثير من أصحاب الكار البرازيليين نبوغ بيليه الكروي، وأدركوا أن الفتى سيذهب بعيدًا في أكثر الرياضات التي تأسر قلوب أبناء الأنديز والأمازون. ربما لم يتوقعوا كل هذا المجد، ولكن كثيرًا من محيط بيليه وأقاربه وأصدقاء والده عرفوا أن مسيرة المجد سوف تبدأ في وقت مبكر من عمر الفتى وانطلاق مسيرته في ملاعب كرة القدم، سواء على صعيد النادي، أو على صعيد منتخب بلاده الوطني.
وكان ما كان. أحرز الأهداف لفريق الكبار في نادي سانتوس وهو في عمر 15 عامًا، وأحرز الأهداف لمنتخب بلاده الأول وهو لم يتجاوز 17 عامًا، وأين؟ في نهائيات كأس العالم، وإذا به من أول مشاركة دولية يصبح هداف كأس العالم، وإذا به يحرز لمنتخب بلاده هدفين في المباراة النهائية ضد السويد، واحدًا منهما سيحفظه التاريخ، حتى أن اللاعب السويديّ الذي تخطاه بيليه قبل إحرازه الهدف، صرّح ذات مرّة، أنه كاد يصفق للهدف.
أصل الحكاية
يبدو أن الحكاية تتجاوز الشغف بِلعبةٍ ما. ويبدو أن عوامل أخرى كثيرة أسهمت بما كانه بيليه، وما وصل إليه. ولعل في مقدمة هذه العوامل لون بشرته، وهو اللون الذي كان يُعامل أصحابه في البرازيل معاملة العبيد، تمامًا كما كانوا يُعامَلون في الولايات المتحدة الأميركية. عامل آخر أسهم في تحقيق الفتى إنجازات لافتة في وقت قصير، ونيله مع باقي لاعبي منتخب بلاده كأس العالم عام 1958، وهو أول كأس عالم تفوز به البرازيل، إنه العامل المتعلق بالحزن الوطني الجارف الذي انتاب البرازيليين جميعهم بعد صدمة، أو زلزال، عام 1950. وإليكم الحكاية: قرر الاتحاد الدولي في اللحظات الأخيرة تكليف البرازيل باستضافة كأس العالم في عام 1950، وهي أول بطولة تقام بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولم يكن في الإمكان تنظيم البطولة في بلد أوروبي. وافقت البرازيل على استضافة البطولة، وخاض البنّاؤون البرازيليون سباقًا مع الزمن لإنجاز استاد الماراكانا (أكبر ملعب في العالم) في غضون شهرين فقط لا غير. لم يكن لينجح ذلك لولا تدخل الجيش المسكون (كما كل جيش) بفكرة الطاعة العمياء، والتنفيذ من دون مناقشة، وهذا ما كان، حيث عُيِّنَ ضابط كبير لإنجاز المهمة، وقد كان للحكومة البرازيلية ما أرادت، وأصبح ملعب الماراكانا، الذي يتسع لزهاء 200 ألف شخص، جاهزًا قبل البطولة التي سوّل البرازيليون لأنفسهم أنها لهم حتى قبل انطلاق منافساتها. ليس بعيدًا عن البرازيل، وفي قلب القارة اللاتينية الجنوبية، كانت الأوروغواي ما تزال ترزح تحت نير العبودية، وعندما تأهل منتخبها للنهائيات، أو عندما تقرر مشاركة منتخبها بالنهائيات، فأيامها لم يكن الأمر تصفيات بشكل حرفي، انبرى قائد المنتخب الأوروغوياني برباطة جأش وثبات وإيمان بقضيته وقضية شعبه، واشترط أن تلغى العبودية، ويُحرَّر اللاعبون الواقعون في نيرها، قبل أن يتوّجه لاعبو المنتخب إلى البرازيل للمشاركة هناك في النهائيات. بعد أخذ ورد، وتجاذبات، وتململات، وافقت حكومة الأوروغواي على شرط قائد منتخب بلادهم، وألغيت العبودية، وسافر اللاعبون إلى البرازيل أحرارًا كاملي الإنسانية والمسؤولية، وجاهزين بكل عنفوان ذلك ومعانيه لأحسن تمثيل لبلادهم الأوروغواي. بإمكانيات شحيحة جدًّا، وفي ظروف صعبة، وصلت الأوروغواي للدور الثاني، وفي هذا الدور، ولكي تزداد الضغوط على قائد المنتخب الذي انتزع الحرية قبل المشاركة، فلقد انسحب في الدور الثاني، وبسبب شح الإمكانيات، أربعة من إداريي المنتخب، من بينهم المدرب، وعادوا أدراجهم إلى الأوروغواي، جمع القائد فريقه، وقال لهم "إن الذين غادروا كانوا عبئًا أراحنا الرب منه، واصلِوا الانتصارات"، فواصلوها وصولًا إلى المباراة النهائية، وأمام من؟ أمام البرازيل منظمة البطولة، ضامنة اللقب، المهووسة حتى النخاع بكرة القدم. أكثر من 180 ألف متفرج برازيلي ملأوا ملعب الماراكانا، في مقابل أقل من عشرة آلاف من جمهور الأوروغواي. الألعاب النارية بدأت الاحتفال باللقب قبل انطلاق صافرة المباراة النهائية أمام منتخب صغير لا يبلغ عدد سكان بلده أيامها المليوني نسمة. وليزيد يقين البرازيليين باللقب والكأس والذهب، أحرز منتخبهم هدف التقدم، وظل الأمر على ذلك حتى الشوط الثاني. ووسط احتفالات البرازيل، أحرز لاعبو المنتخب الذي صنعه قائده هدف التعادل. وفي الهزيع الأخير من الشوط الثاني، وبينما كان الجميع ينتظر هدف الفوز في مرمى الأوروغواي، وإذا بالهدف الصاعقة يدخل في مرمى البرازيل، ليخطف لاعبو الأورغواي كأس حريتهم، وليبرهنوا أنهم استحقوا تلك الحرية التي عضوا عليها بالنواجذ.
"في محيط بيليه وأقاربه وأصدقاء والده عرفوا أن مسيرة المجد سوف تبدأ في وقت مبكر من عمر الفتى وانطلاق مسيرته في ملاعب كرة القدم" |
على الجهة الأخرى من المشهد، وفي بيت متواضع صغير في بلدة منسية، لمح طفل دموع والده الذي كان لاعب كرة قدم، دموع والده ودموع البرازيل جميعها على ضياع كأس حسبوه في متناول أيديهم. وإذا بهذا الفتى الذي صار اسمه بيليه، يعد والده أن يحقق للبرازيل كأس العالم، وأن يحوّل دموع قهر البرازيليين جميعهم وخيبتهم إلى دموع فرح، وهو ما تحقق له بعد ثمانية أعوام من "كارثة" عام 1950.
المفارقة أن بيليه الحالم الواعد القافز على الكرات مثل نمر مفترس، لم يكتف بكأس واحدة تعويضًا عن أحزان عام 1950، بل هو اللاعب الوحيد في العالم الذي نال مع منتخبه كأس العالم ثلاث مرّات: 1958، 1962 و1970.
آفاق البطولة
بيليه ومارادونا في غاردن دو باليه رويال في باريس عشية بطولة أوروبا لكرة القدم 2016(9/ 6/ 2016/فرانس برس) |
إنه العنوان الأزليّ حول البطولة الفردية بوصفها طفرةً اجتماعيةً تنتخب لها الظروف واحدًا يصعد بجماعته على نحوٍ يصعب تفسير حدوثه.
"في البرازيل، حيث الفقر، وما يرتّبه من عنصرية اجتماعية هي بقية من تاريخ الرقّ في البلاد، صنعت الظروف للمخيال الشعبي بطلًا يعوّض عن بؤس الحياة، ولؤم الفاقة، وانحسار المستقبل أمام عيون الملايين من البشر المعدمين".
"الفتى الذي صار اسمه بيليه وعد والده أن يحقق للبرازيل كأس العالم، وأن يحوّل دموع قهر البرازيليين جميعهم وخيبتهم إلى دموع فرح" |
لم يكن البطل سوى صبي أسود اسمه بيليه. آفاق بطولة لا تشبه غيرها، توّجته نجمًا في سماء البرازيل، فلا مال، ولا طبقة، ولا عرق يسعفه. "لقد صعد الفتى بقدميه الساحرتين، حتى ملأ الأفق البرازيلي لا يزاحمه عليه أحد. البطل الفرد، غالبًا، صنيعة نفسه. كأن إرادة الله جاءت به ليضيء الطريق المعتمة أمام ملايين الصبية الذين يكتنفهم السواد، فأصبح، سريعًا، ملهمًا، ومعزيًا للذين تموت أحلامهم في أزقة الحواري الفقيرة، فالولد الذي لم يتجاوز عمره سبعة عشر عامًا، سيعود بكأس العالم إلى بلاده من البطولة الذي نظمتها السويد عام 1958، يصير اسمه على كل لسان، ويتجلى بوصفه مصدرًا لمسرّات السحن السوداء والبيضاء على السواء".
سيغدو مجده أكبر من طاقة عمره الغض، فلا يعرف أن يذهب بهذه النجومية خارج ملاعب كرة القدم.
بطولة بيليه صنعها المخيال الشعبي، إنها تلك اللحظات الاستثنائية من عمر التاريخ "حين يصنع المخيال الشعبي بطلًا وحين يقدّسه".
بيليه والعسكر
لسوء حظ بيليه أن نجوميته التي ملأت الدنيا وشغلت الناس كانت خلال أكثر سنوات البرازيل ديكتاتورية بعد انقلاب العسكر في عام 1964، على الحكم الديمقراطي، فعاشت البلاد تحت حكم عسكريٍّ لم يتردد في قتل معارضيه وتعذيبهم وإخفائهم على مدى عشرين عامًا. حكمٌ ديكتاتوريٌّ استثمر على نحو ما في نجومية بيليه وشعبيته كأنه منجز عسكري. الناقدون سيرة بيليه يقولون إنه سكت حيث ينبغي الكلام في وجه العسكر، فلم يستغل شعبيته ونفوذه الكبير، وصار إلى حيادٍ تام تجاه ما يحدث في البلاد، وقد كشفت وثائق سرية حديثة عن تلك الفترة أن بيليه كان تحت المراقبة من العسكر، وأنه ربما كان قد تعرّض لبعض الضغوط. أما بيليه فيدفع عن نفسه تهمة الحياد بأنه لا يفهم في السياسة شيئًا! والسؤال الملح هنا هو: هل يحتاج الإنسان درجة أكاديمية كي يصرخ في وجه الظلم؟ هل يحتاج إلى نظّارات سياسية كي يرى كيف ملأت البزّات العسكرية أفق بلاده، وبما قد يفوق أفق البطولة التي حققها هو شخصيًا؟
"الحكم الديكتاتوري استثمر على نحو ما في نجومية بيليه وشعبيته كأنه منجز عسكري. الناقدون سيرة بيليه يقولون إنه سكت حيث ينبغي الكلام في وجه العسكر" |
صمتَ بيليه على العسكر، وهو الآن في دار الحق، لم يعد اللوم يجدي، إلا أن التوثيق ضرورة للتاريخ، والذين حاولوا نزع كرة القدم من دسمها الشعبيّ ودفقها التأثيريّ كثرٌ، والمسارات تعلّمنا في كل مرّة كيف تغيّر، في اللحظة الأخيرة، وجهتها، والمنارات تبقى منارات بغض النظر عن بعض هفواتها.
بيليه الذي علّم الأميركان الشماليين كيف يلعبون كرة القدم، كشف في كلمات وداعه في مباراة اعتزاله عام 1977، مدى انحيازه للحب، ومدى إيمانه به، يقول في كلمة الوداع المؤثرة:
"أنا أومن أن الحب هو أجمل ما يمكن أن نناله في الحياة ونمنحه للآخرين. كل شيء غيره يمضي. أرجوكم رددوا معي ثلاث مرّات: الحب... الحب... الحب".
بيليه ونيويورك
في عام 1975، سيترك بيليه البرازيل، وناديه سانتوس، ليبدأ تجربة غاية في المخاطرة والإثارة، بانضمامه إلى فريق نادي كوزوموس النيويوركيّ لكرة القدم، وكرة القدم لعبة لا تثير الأميركيّ في شيء، لأن حماسته مرتبطة بلعبة الرغبي العنيفة، كأنها تمثّلٌ لعنفٍ آخر متوحش يتمظهر على نحو ما في اللعبة الأكثر شعبية. لم يبق بيليه عامين في كوزوموس حتى جاءت نجوميته بعشرات الآلاف إلى ملاعب كرة القدم، خاصة بعد انضم إليه نجوم كأس العالم السابقون، مثل الهولندي كرويف، والألماني بكنباور، والبرازيلي كارلوس ألبرتو. بيليه إن شئت هو مؤسس كرة القدم في أميركا، أما الإنكليز الذين صنعوا كرة القدم ثم رموا بها العالم، ستنتهي مهمتهم هنا، فسحرة كرة القدم وأساطينها، الآتون من أميركا الجنوبية، هم وحدهم من سيمنحون هذه الكرة معنى أن تكون فنًّا، وأن تكون موسيقى، بيليه كان إمامهم، وإمام قرنه، في ذلك الفن.
لقد غير بيليه أميركا الشمالية، ولكن أميركا الشمالية أيضًا غيرته حين حوّلته إلى ماركة تجارية. وكلاهما غيّرا الرياضة بتحميلها بعدًا شخصيًا وكتابة أسماء اللاعبين على القمصان، وبث روح جديدة فيها لها معطياتها وقوانينها. لا شك في أن كرة القدم بصيغتها الحالية مدينة لمغامرة بيليه الأميركية.
قالوا فيه
ـ "لعل المسيح وحده قد يكون أفضل من بيليه. أو ربما الرب"... اللاعب الأرجنتيني سيزار لويس مينوتي (1938).
ـ "لا أصدق أن كائنًا بشريًا يمكنه فعل شيء كهذا"... المدرب الإيطالي نيريو روكو (1912 ـ 1979).
ـ النجم الأميركي روبرت ردفورد هتف قائلًا له "واو، أنت مشهور يا رجل"، حين رأى المئات يطلبون توقيع بيليه، في حين لا أحد يطلب توقيع ردفورد.
ـ" لا نعرف أبدًا إن كان بيليه قد خرج من باطن الأرض، أو هبط من السماء ليضرب الكرة برأسه"... اللاعب الأرجنتيني خورخي فالدانو.
ـ "الجوهر والإبداع، كم هو رائع يا رفاق"... اللاعب الإيطالي ماريو كورسو (1941 ـ 2020).
ـ "بيليه هو لاعب كرة القدم الوحيد الذي تجاوز حدود المنطق"... الجناح الهولندي الطائر يوهان كرويف (1947 ـ2016).
ـ "كيف تتهجى اسم بيليه: ألف، لام، هاء: إله"... صحيفة "صاندي تايمز" الإنكليزية.
ـ "كان بيليه جيدًا جدًا لدرجة أنك لا ترغب في عرقلته"... اللاعب الإيطالي جيوفاني تراباتوني (1938).
ـ اللاعب الأرجنتيني دييغو ماردونا (1960 ـ 2020) لم يكن يحبذ مقارنته ببيليه: "لا أود أن أقارن به"، علمًا أن أي مقارنة كانت ستصب حتمًا في صالح الجوهرة السوداء.
ـ "متى سيولد بيليه الجديد؟ لن يولد أبدًا، فقد أغلق والداي المصنع"... بيليه.
تلويحة بدمع الحارات
الملك. الجوهرة السوداء. الأسطورة. الهدّاف. بطل الشعب. اللؤلؤة السمراء. البرازيل. ألقاب حازها بيليه خلال مسيرة محتشدة بالألقاب والبطولات والإنجازات التي لا تشبه غيرها. وبيليه لغةً هي الأرض الجرداء والمائلة التي حوّلها بفنونه إلى أخصب بقاع الدنيا وأينع أشجار الأرض.
أدار ظهره لأوروبا، وظل وفيًا لنادي سانتوس باستثناء العامين ونصف العام الفترة التي لعب خلالها لنادي كوزوموس النيويوركي، وحتى في مباراة اعتزاله لعب الشوط الأول مع كوزوموس، والشوط الثاني مع سانتوس، فكان سانتوس أول القول وآخره. وكما لم يحب الأوروبيين ولعبهم، فهم في دورهم لم يحبوه، ففي مونديال 1966، دُبّرت له أكبر مذبحة إصابات، فإنكلترا لا تريد أي منغص على حلمها أن تنال الكأس الذي تنظم بنفسها بطولة سباق الظفر به. تغاضى حكام البطولة عن العنف المفرط نحوه، ما دفعه إلى التفكير في الاعتزال المبكر بعد مونديال 1966، مبررًا عزمه هذا أن الحكام لا يحمون اللاعبين، وأنه لم يعد يستوعب كل هذا العنف الذي تسببت فيه مهاراته، كما لو أن المدافعين يضمرون الحقد ضد لاعبي الهجوم. عدل بيليه عن قراره في الاعتزال، وحسنًا فعل، فقد توّج مسيرته مع منتخب بلاده بثلاثية كأس العالم. وأما على صعيد ناديه، فلم يبق شيء يمكن أن يفعله لاعب مع ناديه إلا وحققه بيليه مع سانتوس.
عدم حب الأوروبيين لبيليه جعلهم يشكّكون في كثير من الأرقام التي حققها خلال مسيرته المزهرة بالعطاء والإنجازات. وأدخلوا العالم في دوامة الأرقام الرسمية، والأخرى غير الرسمية. على كل حال، الآن، وبما أن العلاقة بينهم وبين بيليه أصبحت علاقة تأبين وترحُّم، فلن يقر أحد بالحقيقة، ولكن الحقيقة الساطعة أن بيليه هو الأسطورة الشعبية في أوفى تجلياتها.