مهرجان كارلوفي فاري.. حبّ ومحرمات الراهن وقهر الحزب بالماضي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مهرجان كارلوفي فاري.. حبّ ومحرمات الراهن وقهر الحزب بالماضي

    مهرجان كارلوفي فاري.. حبّ ومحرمات الراهن وقهر الحزب بالماضي
    ندى الأزهري 13 يوليه 2022
    تغطيات
    لقطة للمشتركين في فيلم "حدود الحب" أمام قاعة المهرجان
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    كتابات وآراء عنه تصل قبل الوصول، مهرجان رائع في مدينة ساحرة قد لا يضاهيه مهرجان آخر في خصوصيته، أفضل المهرجانات لدى البعض... أقوال تحرّك فضول من سيذهب للمرة الأولى إلى مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي في جمهورية التشيك. المهرجان يعقد في فترة سياحية (1-9 تموز/ يوليو 2022) حيث يغادر الجميع أو هم على وشك المغادرة لا سيما في البلدان الأوروبية. فترة قد لا يفضلها كارهو الازدحام، فكيف سيكون الأمر حين يضاف إلى هذا إعلان نقابات إضرابات عامة في بعض المدن الأوروبية؟

    مطار شارل ديغول الفرنسي بالطبع منها، ومن يتفوق على الفرنسيين في المبادرات الاحتجاجية؟ منظموها يختارون غالبًا أحرج الأوقات للمطالبة برفع الرواتب أو تحسين ظروف العمل. صفوف طويلة تبدأ من خارج المطار للدخول من بوابة واحدة فقط والتسجيل، ثم أخرى تماثلها، إن لم تتفوق عليها في الطول أمام الإجراءات الأمنية. هذا على الرغم من وصول مبكر جدا فاق الثلاث ساعات فبل موعد انطلاق الطائرة، بناء على نصائح من شركة الطيران، التزم بها الجميع على ما يبدو فأتوا كلهم في نفس الآن. كأن هذا لم يكن كافيًا فقد أصيبت الأجهزة الإلكترونية بعطل جعلها تعمل على أكثر من مهلها، فوقف الجميع في صفوف طويلة للمرة الثالثة. هذا أسوأ الأعطال. فالبشر ومن تبقّى منهم للعمل يحاولون تسيير الأمور بسرعة وحل المشاكل الطارئة، ولكن ماذا بشأن هذه الكائنات الآلية ذات النزوات التي لا يستطيع الإنسان حيالها شيئًا في أحيان كثيرة؟
    "مهرجان رائع في مدينة ساحرة قد لا يضاهيه مهرجان آخر في خصوصيته، أفضل المهرجانات لدى البعض... مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي في جمهورية التشيك. المهرجان يعقد في فترة سياحية (1-9 تموز/ يوليو 2022)"
    بالتالي فترات الانتظار الطويلة هي فرصة، للمرء المجبر على الخضوع لاحتجاج الإنسان وعطل الآلة، لإلقاء نظرة على ما ينتظره في مهرجان كارلوفي فاري. ليكتشف برنامجا سينمائيا مذهلا بغناه ومدينة تبدو مدهشة بطبيعتها وتصاميم أبنيتها المعمارية.

    تبعد المدينة عن براغ العاصمة 130 كم، تقطعها السيارة على طريق سريع غاية في الجمال بطبيعته الوفيرة الخضرة تحت سماء ملبدة. كارلوفي فاري كانت مبللة بمطر كان يهطل ويتوقف بمزاجية مستمرة قبل أن يأتي الصباح بشمس مشرقة زاد من إشراقها لمعان كل شيء بعد مطرة الأمس. مركز المهرجان الواقع في أحد الفنادق الكبرى، يهتز تحت أقدام رواح ومجيء لا ينقطعان. ضيوف بأمتعتهم يسعون لتسجيل حضورهم لدى مكاتب المهرجان، وفضوليون ومهتمون متجمعون أمام السجادة الحمراء بانتظار وصول نجوم، وآخرون بأزياء سهرة يستعدون لدخول قاعة الاحتفالات. حركة في كل صوب ورؤوس تدور معها بعد نهار متعب قُضي في التنقل. لكن حسن التنظيم ودقته يُسرّعان من معاملات القدوم ليجد الضيف نفسه في الفندق أخيرًا مع حقيبة المهرجان الضخمة الملأئ بنشرات وكتالوجات وهدايا صغيرة دعائية. هناك حين تسأل موظفة الاستقبال عن تبديل عملة تقول هناك دكاكين صغيرة "لصينين وفيتناميين" يقومون بهذا، وحين تسأل موظفة في المهرجان عن مطاعم جيدة تذكر لك كل الأنواع من هندي وصيني وياباني وإيطالي. والتشيكي؟.. تشيكي؟ ترد باستغراب من لم يتوقع على الإطلاق طلبا كهذا. هو أكل ثقيل يناسب الشتاء يشبه الطعام الألماني أتعرفينه؟ تسألني.

    لقطة من افتتاح المهرجان

    افتتاح عاطفي وجمهور حماسي

    على كل لا وقت لكل هذا فالمهم في أمسية الوصول الحصول على بطاقة لحضور فيلم الافتتاح. كان إيطاليًا عاطفيًا حيث قدّم باولو جينوفيس في "سوبر روا"( أنتج ككل أفلام المسابقتين في 2022) على نحو رقيق فيه لمسة شجن تهيئ لمصير قادم، غرام زوجين ببعضهما ومحاولاتهما للحفاظ على هذه الشعلة التي تنطفئ غالبًا لدى الأزواج لكن القدر بالمرصاد دون أن يقضي على كل أمل.
    "بعض الأفلام المشاركة في المسابقتين الرئيسيتين، "الكرة البلورية (كريستالية)" و"بروكسيما" نجحت في استنفاد صبر هذا الجمهور الصبور والذي يعرب دائمًا بحماسة التصفيق عن إعجابه بما يرى عامة"
    بعد هذا العرض المكرّس للضيوف غالبًا ولكن أيضًا لجزء من الجمهور، تبدأ عروض المهرجان المفتوحة بالكامل للجمهور في صالة كبرى تتسع بطابقيها لـ 1131 مشاهدًا. يتجلّى بوضوح أن كارلوفي فاري ليس من المهرجانات التي تعاني من قلة الجمهور والتفكير في كيفية احضاره، بل على العكس. في كل صالة من صالاته المخصصة وعددها 12 (ما يجعل عدد المقاعد المتاحة يوميًا 3188 مقعدًا)، هناك على الدوام منتظرون لأي غياب في اللحظة الأخيرة، ليندفعوا خمس دقائق قبل بدء الفيلم لاحتلال مقعد لم يأت صاحبه. حين يأتي هذا متأخرًا يُحلّ الإشكال بهدوء. رؤية هذا الجمهور متعة حقيقية لا سيما أنه نادرًا ما يغادر أحدهم الصالة قبل انتهاء الفيلم، إنّما هذا لا يمنع أن بعض الأفلام المشاركة في المسابقتين الرئيسيتين، "الكرة البلورية (كريستالية)" و"بروكسيما" نجحت في استنفاد صبر هذا الجمهور الصبور والذي يعرب دائمًا بحماسة التصفيق عن إعجابه بما يرى عامة.

    لقطة من الفيلم التشيكي "الكلمة" الذي نال جائزة الإخراج والتمثيل



    حدود مشوشة

    تتضمن كلّ واحدة من هاتين المسابقتين اثني عشر فيلمًا، منها خمسة أفلام من دول أوروبا الشرقية مثل تشيكيا وبولندا وبلغاريا وكرواتيا فيما أتت البقية من اليونان وإيران والبرازيل والأرجنتين وكندا وإسبانيا وألمانيا والنمسا. مع حضور قوي للسينما التشيكية بوجود فيلمين في كل مسابقة. استحدثت "بروكسيما" هذا العام كبديل عن مسابقة سابقة كانت مكرسة لأفلام أوروبا الشرقية. رأى المنظمون أن دورهم قد استُكمل في التعريف بتلك السينما عبر مهرجان كارلوفي فاري وأن مهرجانات عديدة ووسائل تواصل جديدة باتت اليوم تقوم بهذا الغرض وبالتالي عليهم اليوم الانفتاح على بلدان أخرى. لكن ما زالت الحدود بين المسابقتين الرئيسيتين مشوشة على الرغم من أن "بروكسيما"، برأي المنظمين، مكرّسة أكثر للسينما الفنية التي لا تتردد في تجريب لغة سينمائية مبتكرة على صعيد الشكل والمضمون. أما "الكرة الكريستالية" فأفلامها موجّهة أكثر للجمهور العريض. إنمّا ما زالت الفوارق غير ملموسة تمامًا، فهناك أفلام شاركت في "الكرة البلورية" كان مكانها ربما في "بروكسيما" حسب التعريف الجديد له. على سبيل المثال فيلم " العاديون" للألمانية صوفي لينينبوم، التي رسمت بأسلوب بعيد عن العادية وثقيل الوطء في تركيبته وبنائه وأجوائه وشخصياته مجريات الأمور في السينما، وهؤلاء المهمّشون في عالمها المرسومون للأدوار الثانوية من ملونين ومثليين. كذلك فيلم اليوناني خريستو باسيليس "صمت من 6 إلى 9" الذي يلتقي فيه آريس وآنا ذات مساء في بلدة نصف مهجورة محاطة بالهوائيات وأشرطة الكاسيت. عالم غريب شبيه بالحلم تبدأ فيه الروحان المنفردتان تدريجيًا في تطوير مشاعر قصة حب حزينة ضمن أجواء غريبة وصور مذهلة.

    "بعض جوائز المسابقة جاء مفاجئًا كفوز الفيلم الكندي الإيراني "الصيف مع الأمل" لصدف فروغي بالجائزة الكبرى. فيلم أنتجته كندا وفرض موضوعه التصوير في إيران لأنه أراد كشف محارمها في إيحاء إلى علاقة بين شاب ومدرب سباحة تثير غضبًا وتسبب جريمة"
    فوز المُحرّم والمُقاوم

    بعض جوائز المسابقة جاء مفاجئًا كفوز الفيلم الكندي الإيراني "الصيف مع الأمل" لصدف فروغي بالجائزة الكبرى. فيلم أنتجته كندا وفرض موضوعه التصوير في إيران لأنه أراد كشف محارمها في إيحاء إلى علاقة بين شاب ومدرب سباحة تثير غضبًا وتسبب جريمة في مدينة ساحلية سياحية. موضوعٌ مضمون رابح لفيلم متواضع، مقابل أفلام أكثر نضجًا وعمقًا وامتاعًا بما لا يقاس مثل الفيلم التشيكي "حدود الحب" للمخرج البولندي توماش فينسكي. فاز هذا بجائزة النقاد (فيبرسي). فيلم لا يخشى الإعلان عن رأيه في مجال تجارب الجنس مع غير الشريك لكن بمعرفته ورضاه، في محاولة عميقة لسبر غور زوجين وعلاقتهما وأبعاد الذهاب في الحرية الجنسية ليستنتج أن هناك حدودًا ترغم حتى من أراد تجاوزها على الوقوف عندها إن لم يكن على الندم. تنوع العلاقات وكثرتها واكتشاف الذات وما يعنيه أن تكون حرًا وأن تكون الفتاة قادرة على اتخاذ قراراتها بنفسها دون الاعتماد على الرجال، موضوع الفيلم الجيورجي "غرفة تخصني" للوسب بليادز. تينا شابة ضلّت طريقها في الحياة، تستأجر غرفة من ميجي النابضة بالحياة، وبفضلها تبدأ تدريجيًا في اكتشاف ذاتها والحياة والعلاقة مع الجنس المماثل في تبليسي المعاصرة. استحقت الممثلتان تاكي ماملادز ومريم خندادز جائزة التمثيل عنه.
    "جاءت المتعة الكبرى من قسم "من الماضي" مع فيلم "المزحة" (1968) للمخرج التشيكوسلوفاكي جاروميل يريش المأخوذ عن رواية بنفس العنوان لميلان كونديرا حين كان في تشيكوسلوفاكيا قبل أن يغادر إلى فرنسا"
    جائزة الإخراج نالها فيلم بدا موضوعه أكثر ندرة في المسابقتين أمام مواضيع أخرى كالحرية الفردية والجنسية. تعود بياتا باركونوفا في الفيلم التشيكي "الكلمة" إلى الماضي وقهر الحزب وضغوطه على حقوقي وكاتب بالعدل عرف باستقامته في مدينة صغيرة، محنة صعبة للعائلة بعد أن فضّل المقاومة في سبيل مبادئه، دراما حميمية عن قوة كلمة "لا" في وجه القمع. نال عنها الممثل مارتان فينغر جائزة التمثيل.

    استحقت الممثلتان تاكي ماملادز ومريم خندادز جائزة التمثيل عن الفيلم الجيورجي "غرفة تخصني"

    تشيكوسلوفاكيا وقهر الحزب

    برنامج مهرجان حافل فيه عروض موازية لا تقل أهمية، إن لم تفق أفلام المسابقة. منها "عروض خاصة" وتحيات إلى إيفا زاورالوفا، المديرة الفنية للمهرجان التي رحلت العام الفائت، والممثل الأوسترالي جيفري روش الذي ألهب القاعات بحضوره، والممثل والمخرج البورتوريكي بيانكيو دل تورو والممثل التشيكي بوليسلاف بوليفكا الذي أسعدنا الحظ بمشاهدة فيلم رائع كان بطله. في "الضوء المنسي"(1996) لفلادمير ميخاليك، شهادة دقيقة عن التدهور الشامل في العهد التشيكوسلوفاكي، معززة بأداء موح من بوليسلاف بوليفكا وبقية الممثلين وبلاغة سينمائية حيث يقف الأب هولي، وهو كاهن شاب لطيف ومحبوب، أمام حفنة من رعيته المخلصين في كنيسة القرية المهجورة. ليسأل ساخرًا: هل الله موجود؟ هل الأمر متروك لبعض اللجان لتقرر ما إذا كان أم لا؟ " سؤال يلخص ركود العصر عندما كان كل شيء، بما في ذلك مصير تراث الكنيسة، في أيدي مسؤولي الحزب غير المبالين بالقيم الروحية والمادية الماضية والحالية. يعرف هولي أنه لا يمكن كسب أي معركة ضدهم أو ضد أتباعهم، لكنه يقاوم مع أشخاص طيبين من حوله.
    "في "الضوء المنسي"(1996) لفلادمير ميخاليك، شهادة دقيقة عن التدهور الشامل في العهد التشيكوسلوفاكي، معززة بأداء موح من بوليسلاف بوليفكا وبقية الممثلين وبلاغة سينمائية"
    وجاءت المتعة الكبرى من قسم "من الماضي" مع فيلم "المزحة" (1968) للمخرج التشيكوسلوفاكي جاروميل يريش المأخوذ عن رواية بنفس العنوان لميلان كونديرا حين كان في تشيكوسلوفاكيا قبل أن يغادر إلى فرنسا. حين سئل الجمهور الذي ملأ الصالة الكبرى عمن لم يشاهد بعد هذه الفيلم ارتفعت أيد قليلة نسبيًا. الفيلم عن الحقبة الشيوعية حين طُرد لودفيك، وهو طالب وناشط شيوعي، من الحزب والجامعة وجُنِّد في الجيش مع "السود" وهم "المنحرفون السياسيون والأعداء الطبقيون للنظام الاشتراكي التشيكي" وهذا بسبب ارساله بطاقة بريدية لصديقته كتب فيها "التفاؤل أفيون الجنس البشري! والعقل السليم نتنٌ من الهراء! يعيش تروتسكي!". لذلك وحين يقع لودفيك على هيلينا زوجة بافل، الذي كان سبب طرده من الجامعة، يحاول إغراءها بهدف الانتقام من بافل. لكن الانتقام يقود دوما إلى معاقبة أناس أبرياء. وفي أسلوب ساخر يليق بما هو معروف عن سخرية ودعابة تمثل كتابات كونديرا ينتهي الفيلم بأروع مشهد حيث لودفيك يضرب شخصًا بريئًا بعنف ليقول له في النهاية: "ولكن، لم تكنْ أنتَ من رغبتُ بضربه"!


يعمل...
X