ألبير كامو.. الغريب، الوحيد و"الخاسر الأكبر"
فائزة مصطفى 9 يونيو 2022
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا يزال صاحب رائعة "الطاعون" (1947) حاضرًا في الجزائر وفرنسا رغم مرور ستة عقود على رحيله التراجيدي، وإن كانت صورته كأديب منفرد لا يختلف بشأنها أي أحد في البلدين، إلا أن مواقفه السياسية تثير جدلًا وانقسامًا كبيرين، فالجزائريون لا يغفرون له عدم مناصرة ثورتهم التحريرية (1954-1962)، في حين يتهمه الفرنسيون بالتخلي عن المجتمع الأوروبي في الجزائر، وباختياره الصمت والانعزال في عز تلك الحرب، لكن بين هذا وذاك، قلة من يتحدثون عن قصة "الهدنة المدنية" التي أطلقها ألبير كامو، وعن معارضته الشرسة للاستعمار.
جدل وشغف حول صاحب "الرجل الأول"
يحرص المؤرخ الفرنسي من أصل جزائري بنجامين ستورا على الحديث دائمًا عن هذه المرحلة المغيبة في حياة صاحب رائعة "الغريب" (1942)، بل هو يعيش حاليًا نفس الظروف التي واجهها الأديب ألبير كامو في خمسينيات القرن الماضي، فمنذ أن كلفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعداد تقرير حول "تاريخ الاستعمار وحرب الجزائر"، وجد ستورا نفسه في مرمى الانتقادات في البلدين، كل طرف يتهمه بصياغة توصيات وفق نظرة الآخر لتلك الأحداث، في حين يصر المؤرخ على أن هناك ذاكرات متعددة لحرب واحدة. وقبل ذلك، تحديدًا في عام 2013، وبمناسبة مئوية ميلاد كامو، تعرض ستورا لحملة مناهضة لتعيينه كمشرف على معرض خاص بالكاتب في مدينة مارسيليا، حيث رأى أنصار الجزائر الفرنسية بأن المؤرخ لا يملك مواصفات تلك المهمة. إن ذلك يشير إلى الخيبات المتتالية التي تطال الشخصيتين معًا، نظرًا لعلاقتهما الخاصة بالجزائر، فستورا ولد عام 1950 في مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري، والثاني ولد بضواحي مدينة الطارف المجاورة في عام 1913.
وبالعودة الى علاقة صاحب رواية "السقوط" (1956) مع أرضه الأصلية، نجد أن البلد هو الحاضر الأكبر في أعماله الإبداعية وكتاباته الصحافية، ومع ذلك لا يغفر الجزائريون معارضته لفكرة الاستقلال، ويستدلون بتصريح له على هامش تسلمه لجائزة نوبل للأدب عام 1957، حينما قال عبارته الشهيرة: "لو خُيرت بين العدالة وأمي، لاخترت أمي"، ما فسر آنذاك على أن الكاتب الكبير انحاز إلى الاستعمار بدلًا من مساندة الثوار، وإن كان سياق تصريحه جاء تعقيبًا على مقتل المدنيين خلال معركة الجزائر الشهيرة، إلا أن موقف صاحب كتاب" الإنسان المتمرد" (1951) من حرب التحرير كان واضحًا ومعلنًا، لكن هل هذا يعني أنه وقف في صف المستعمر فعلًا؟ الإجابة هي لا، لأنه قضى حياته كلها في مناهضة استبداد الاستعمار الفرنسي، مما تسبب في نفيه إلى باريس.
أول مثقف فضح مجازر الاستعمار الفرنسي وناصر حقوق الجزائريين
ندّد ألبير كامو في كتابه "بؤس القبائل" (1939) بالظروف المعيشية المزرية للجزائريين أو من عرفوا آنذاك باسم الأهالي أو الأنديجان، كما طالب في مقاله المنشور في 10 مايو/ أيار من العام نفسه بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وبالأخص مصالي الحاج، مؤسس حزب الشعب الجزائري، الملقب بأبي الوطنية، حيث انتقد صاحب مسرحية "العادلون" (1949) ما وصفه بتناقض الديمقراطيات التي لا تترجم قيمها إلى أفعال، مذكرًا بمبادئ الجمهورية التي تمنع محاكمة أشخاص بسبب عدم مواكبة أفكارهم للسياسة السائدة، حيث كتب: "يوجد حاليًا عدة معتقلين سياسيين في سجوننا. جريمتهم هو التعبير عن رأيهم بحرية".
بعد بضعة أشهر، كتب كامو مقالًا في صحيفة " ألجي ريبوبليكان" في 18 أغسطس/ آب 1939، منتقدًا رفع دعوى قضائية ضد نفس الحزب، وكشف عن أفكاره حول الحركة الوطنية، حينما كتب: "من المدهش أن نرى عمى أولئك الذين يلاحقون هؤلاء الرجال، لأنه في كل مرة يتعرض فيها الحزب للضربات، يتزايد تأثيره أكثر، إن صعود التيار الوطني الجزائري جاء من خلال الاضطهاد الذي يسلط عليه. ويمكنني القول دون مفارقة إن الفضل الهائل والعميق الذي يتمتع به هذا الحزب اليوم مع الجماهير راجع لما يقوم به كبار المسؤولين في هذا البلد. (...) دعونا نحرر هؤلاء الأشخاص التعساء الذين يريدون أن يعيشوا بشكل أفضل".
ويرى المؤرخ بنجامين ستورا أن كامو راهن على الاستجابة لمطالب الأهالي كسبيل لكبح الحركة الوطنية الجزائرية التي ولدت حسبه من ظلم المحتل. فبالنسبة له يكفي فقط القضاء على التعسف لإضعاف قوة أنصار مصالي. يكشف الأديب في كتابه "يوميات جزائرية" (1939-1958) عن رفضه للنظام الاستعماري القائم على التمييز بين الجزائريين والأوروبيين. في نفس الوقت، كان من المثقفين القلائل وربما الوحيد من كتب عن مجازر الثامن من مايو/ أيار عام 1945 في شرق الجزائر، عبر مقالات منشورة من 13 مايو/ أيار الى 23 من الشهر نفسه في صحيفة "كومبا" الفرنسية. ويمكن أن نفهم بأن الكاتب لم يدعم الحركة الوطنية لكنه ساند حرية عملها السياسي. يقول ستورا في حوار نشرته صحيفة لوفيغارو: "لقد عارض كامو استخدام ترهيب المدنيين كسلاح سياسي عادي، لكونه يدمر النضال السياسي الحقيقي"، ففي مسرحيته "العادلون" مثلًا، جعل إحدى شخصياته تقول: "وافقت على القتل لإسقاط الاستبداد. لكن خلف ما تقوله، أرى بزوغ فجر الاستبداد، والذي إذا حدث، سيجعلني قاتلًا بينما أحاول إحقاق العدالة". إذن هل ألبير كامو الرافض لفكرة الجزائر المستقلة، تخندق مع أنصار "الجزائر الفرنسية"؟. الإجابة هي لا أيضًا، لأنه ظل منبوذًا في نظرهم.
مبادرة السلام المستحيلة بين الجزائريين والفرنسيين
يستحضر المؤرخ بنجامين ستورا في كتابه "كامو المحترق"، الصادر في عام 2013، مساعي صاحب كتاب" أسطورة سيزيف" (1951) لجعل الجزائريين يتمتعون بنفس حقوق المعمرين، متبنيًا نفس مقترح الاندماج الذي دعا إليه المناضل فرحات عباس. وما قد تجهله شريحة واسعة من الجزائريين اليوم في مسيرة المفكر العبثي، هو مشروعه حول "نداء من أجل هدنة مدنية في الجزائر"، حينما أطلق "ليبراليو الجزائر" وبطلب منه مبادرة السلام في عام 1956، أي بعد سنتين على اندلاع الثورة التحريرية. حينها راهن أعضاء المبادرة من مثقفين ورجال دين وسياسيين من الطرفين على ألبير كامو باعتباره رجل الفرصة الأخيرة، والمثقف الأكفأ للتنديد بالظلم والتمييز المسلطين على الجزائريين، والشخصية الأكثر إقناعًا لتحقيق مصالحة بين طرفي النزاع، خاصة وأنه كان قريبًا من مرشح جبهة الجمهوريين بيار منديس فرانس (1907-1982). صاغ الأديب الكبير بنود خطابه بإشراك جبهة التحرير الوطني سرًا، ثم ألقى كلمته تاريخية داخل قاعة مكتظة وسط العاصمة في 22 يناير/ كانون الثاني 1956، في جو ساده الصراخ واستهجان المتطرفين من أنصار المستعمر. جاء في خطابه: "بالنسبة لأولئك الذين لم يستسلموا لرؤية هذا البلد العظيم ينقسم إلى قسمين ويمضون دون أن نستذكر مجددًا أخطاء الماضي، وهم قلقون فقط على المستقبل، نود أن نقول إنه من الممكن، اليوم، أن نتحد أولاً، ثم أن ننقذ حياة الناس، وبعدها، نهيئ مناخًا أكثر ملاءمة لمحادثات عقلانية"، ثم أضاف: "مهما كانت الجذور القديمة والعميقة للمأساة الجزائرية، تبقى هناك حقيقة واحدة: لا يوجد سبب يبرر موت الأبرياء".
لكن هتافات "الموت لكامو"، ثم لجوء القوات الفرنسية بعدها لقمع وتعذيب المناضلين، قضى على حلم صاحب "المنفى والملكوت" (1957)، بل تعرض الكثير من أعضاء "ليبراليو الجزائر" للاغتيال على يد المنظمة العسكرية الفرنسية السرية "أواس".
وفي خضم ذلك الفشل والتجاذبات السياسية العقيمة والاغتيالات، اختار ألبير كامو الصمت وتفرغ لكتابة عدد هائل من الرسائل وتدوين الملاحظات، إلى أن توفي في حادث سير مروع وغامض عام 1960 بمنطقة اليون شمال فرنسا، وفي صندوق السيارة مخطوط روايته الأخيرة، التي عبر فيها عن مشاعره المتناقضة والكآبة التي سيطرت عليه في تلك المرحلة المصيرية، كأنه أراد توثيق هواجس اندثار تاريخ أسلافه بعد رحيلهم عن الجزائر، كما يقول بنجامين ستورا.
رافق المنفى صاحب رواية "الموت السعيد" (1971) حتى يومنا هذا، إذ ينظر إليه الفرنسيون دائما كرجل من الجنوب بسبب قناعاته المتناقضة إزاء بلادهم، فيما يعتبره الجزائريون غريبًا من الشمال، لأنه صورهم في رواياته كأجانب، وجعل منهم مجرد مشهد ثانوي في بطاقة بريدية. بينما يظل الكاتب العالمي الذي استحضر الجزائر بأسلوب فني منفرد.. يقول ستورا: "كان كامو أسير القوالب النمطية الاستعمارية"، ويضيف: "لقد منحه الموت المفاجئ شبابًا أبديًا". فمثلما عاش معشوقًا لدى النساء، هو يخطف قلوب القراء في ضفتي البحر الأبيض المتوسط في كل مكان وزمان، بل يمثل جسرًا بين الذاكرة المشتركة والثقافات المنصهرة لتلك الشعوب، ويعبّر عن مشاعر تعيشها أجيال متتالية من الجزائريين والفرنسيين.
فائزة مصطفى 9 يونيو 2022
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا يزال صاحب رائعة "الطاعون" (1947) حاضرًا في الجزائر وفرنسا رغم مرور ستة عقود على رحيله التراجيدي، وإن كانت صورته كأديب منفرد لا يختلف بشأنها أي أحد في البلدين، إلا أن مواقفه السياسية تثير جدلًا وانقسامًا كبيرين، فالجزائريون لا يغفرون له عدم مناصرة ثورتهم التحريرية (1954-1962)، في حين يتهمه الفرنسيون بالتخلي عن المجتمع الأوروبي في الجزائر، وباختياره الصمت والانعزال في عز تلك الحرب، لكن بين هذا وذاك، قلة من يتحدثون عن قصة "الهدنة المدنية" التي أطلقها ألبير كامو، وعن معارضته الشرسة للاستعمار.
"الجزائريون لا يغفرون له عدم مناصرة ثورتهم التحريرية (1954-1962)، في حين يتهمه الفرنسيون بالتخلي عن المجتمع الأوروبي في الجزائر، وباختياره الصمت والانعزال في عز تلك الحرب، لكن بين هذا وذاك، قلة من يتحدثون عن قصة "الهدنة المدنية" التي أطلقها ألبير كامو، وعن معارضته الشرسة للاستعمار" |
يحرص المؤرخ الفرنسي من أصل جزائري بنجامين ستورا على الحديث دائمًا عن هذه المرحلة المغيبة في حياة صاحب رائعة "الغريب" (1942)، بل هو يعيش حاليًا نفس الظروف التي واجهها الأديب ألبير كامو في خمسينيات القرن الماضي، فمنذ أن كلفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعداد تقرير حول "تاريخ الاستعمار وحرب الجزائر"، وجد ستورا نفسه في مرمى الانتقادات في البلدين، كل طرف يتهمه بصياغة توصيات وفق نظرة الآخر لتلك الأحداث، في حين يصر المؤرخ على أن هناك ذاكرات متعددة لحرب واحدة. وقبل ذلك، تحديدًا في عام 2013، وبمناسبة مئوية ميلاد كامو، تعرض ستورا لحملة مناهضة لتعيينه كمشرف على معرض خاص بالكاتب في مدينة مارسيليا، حيث رأى أنصار الجزائر الفرنسية بأن المؤرخ لا يملك مواصفات تلك المهمة. إن ذلك يشير إلى الخيبات المتتالية التي تطال الشخصيتين معًا، نظرًا لعلاقتهما الخاصة بالجزائر، فستورا ولد عام 1950 في مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري، والثاني ولد بضواحي مدينة الطارف المجاورة في عام 1913.
العمارة التي سكنها ألبير كامو في شارع أرزيو في وهران، وكتب فيها روايته الشهيرة "الطاعون" / وحجر تذكاري لكتاب أعراس تيبازة لألبير كامو في الجزائر |
وبالعودة الى علاقة صاحب رواية "السقوط" (1956) مع أرضه الأصلية، نجد أن البلد هو الحاضر الأكبر في أعماله الإبداعية وكتاباته الصحافية، ومع ذلك لا يغفر الجزائريون معارضته لفكرة الاستقلال، ويستدلون بتصريح له على هامش تسلمه لجائزة نوبل للأدب عام 1957، حينما قال عبارته الشهيرة: "لو خُيرت بين العدالة وأمي، لاخترت أمي"، ما فسر آنذاك على أن الكاتب الكبير انحاز إلى الاستعمار بدلًا من مساندة الثوار، وإن كان سياق تصريحه جاء تعقيبًا على مقتل المدنيين خلال معركة الجزائر الشهيرة، إلا أن موقف صاحب كتاب" الإنسان المتمرد" (1951) من حرب التحرير كان واضحًا ومعلنًا، لكن هل هذا يعني أنه وقف في صف المستعمر فعلًا؟ الإجابة هي لا، لأنه قضى حياته كلها في مناهضة استبداد الاستعمار الفرنسي، مما تسبب في نفيه إلى باريس.
"يحرص المؤرخ الفرنسي من أصل جزائري بنجامين ستورا على الحديث دائمًا عن هذه المرحلة المغيبة في حياة صاحب رائعة "الغريب" (1942)، بل هو يعيش حاليًا نفس الظروف التي واجهها الأديب ألبير كامو في خمسينيات القرن الماضي" |
ندّد ألبير كامو في كتابه "بؤس القبائل" (1939) بالظروف المعيشية المزرية للجزائريين أو من عرفوا آنذاك باسم الأهالي أو الأنديجان، كما طالب في مقاله المنشور في 10 مايو/ أيار من العام نفسه بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وبالأخص مصالي الحاج، مؤسس حزب الشعب الجزائري، الملقب بأبي الوطنية، حيث انتقد صاحب مسرحية "العادلون" (1949) ما وصفه بتناقض الديمقراطيات التي لا تترجم قيمها إلى أفعال، مذكرًا بمبادئ الجمهورية التي تمنع محاكمة أشخاص بسبب عدم مواكبة أفكارهم للسياسة السائدة، حيث كتب: "يوجد حاليًا عدة معتقلين سياسيين في سجوننا. جريمتهم هو التعبير عن رأيهم بحرية".
بعد بضعة أشهر، كتب كامو مقالًا في صحيفة " ألجي ريبوبليكان" في 18 أغسطس/ آب 1939، منتقدًا رفع دعوى قضائية ضد نفس الحزب، وكشف عن أفكاره حول الحركة الوطنية، حينما كتب: "من المدهش أن نرى عمى أولئك الذين يلاحقون هؤلاء الرجال، لأنه في كل مرة يتعرض فيها الحزب للضربات، يتزايد تأثيره أكثر، إن صعود التيار الوطني الجزائري جاء من خلال الاضطهاد الذي يسلط عليه. ويمكنني القول دون مفارقة إن الفضل الهائل والعميق الذي يتمتع به هذا الحزب اليوم مع الجماهير راجع لما يقوم به كبار المسؤولين في هذا البلد. (...) دعونا نحرر هؤلاء الأشخاص التعساء الذين يريدون أن يعيشوا بشكل أفضل".
ويرى المؤرخ بنجامين ستورا أن كامو راهن على الاستجابة لمطالب الأهالي كسبيل لكبح الحركة الوطنية الجزائرية التي ولدت حسبه من ظلم المحتل. فبالنسبة له يكفي فقط القضاء على التعسف لإضعاف قوة أنصار مصالي. يكشف الأديب في كتابه "يوميات جزائرية" (1939-1958) عن رفضه للنظام الاستعماري القائم على التمييز بين الجزائريين والأوروبيين. في نفس الوقت، كان من المثقفين القلائل وربما الوحيد من كتب عن مجازر الثامن من مايو/ أيار عام 1945 في شرق الجزائر، عبر مقالات منشورة من 13 مايو/ أيار الى 23 من الشهر نفسه في صحيفة "كومبا" الفرنسية. ويمكن أن نفهم بأن الكاتب لم يدعم الحركة الوطنية لكنه ساند حرية عملها السياسي. يقول ستورا في حوار نشرته صحيفة لوفيغارو: "لقد عارض كامو استخدام ترهيب المدنيين كسلاح سياسي عادي، لكونه يدمر النضال السياسي الحقيقي"، ففي مسرحيته "العادلون" مثلًا، جعل إحدى شخصياته تقول: "وافقت على القتل لإسقاط الاستبداد. لكن خلف ما تقوله، أرى بزوغ فجر الاستبداد، والذي إذا حدث، سيجعلني قاتلًا بينما أحاول إحقاق العدالة". إذن هل ألبير كامو الرافض لفكرة الجزائر المستقلة، تخندق مع أنصار "الجزائر الفرنسية"؟. الإجابة هي لا أيضًا، لأنه ظل منبوذًا في نظرهم.
"ندّد ألبير كامو في كتابه "بؤس القبائل" (1939) بالظروف المعيشية المزرية للجزائريين، كما طالب في مقاله المنشور في 10 مايو/ أيار من العام نفسه بالإفراج عن المعتقلين السياسيين" |
يستحضر المؤرخ بنجامين ستورا في كتابه "كامو المحترق"، الصادر في عام 2013، مساعي صاحب كتاب" أسطورة سيزيف" (1951) لجعل الجزائريين يتمتعون بنفس حقوق المعمرين، متبنيًا نفس مقترح الاندماج الذي دعا إليه المناضل فرحات عباس. وما قد تجهله شريحة واسعة من الجزائريين اليوم في مسيرة المفكر العبثي، هو مشروعه حول "نداء من أجل هدنة مدنية في الجزائر"، حينما أطلق "ليبراليو الجزائر" وبطلب منه مبادرة السلام في عام 1956، أي بعد سنتين على اندلاع الثورة التحريرية. حينها راهن أعضاء المبادرة من مثقفين ورجال دين وسياسيين من الطرفين على ألبير كامو باعتباره رجل الفرصة الأخيرة، والمثقف الأكفأ للتنديد بالظلم والتمييز المسلطين على الجزائريين، والشخصية الأكثر إقناعًا لتحقيق مصالحة بين طرفي النزاع، خاصة وأنه كان قريبًا من مرشح جبهة الجمهوريين بيار منديس فرانس (1907-1982). صاغ الأديب الكبير بنود خطابه بإشراك جبهة التحرير الوطني سرًا، ثم ألقى كلمته تاريخية داخل قاعة مكتظة وسط العاصمة في 22 يناير/ كانون الثاني 1956، في جو ساده الصراخ واستهجان المتطرفين من أنصار المستعمر. جاء في خطابه: "بالنسبة لأولئك الذين لم يستسلموا لرؤية هذا البلد العظيم ينقسم إلى قسمين ويمضون دون أن نستذكر مجددًا أخطاء الماضي، وهم قلقون فقط على المستقبل، نود أن نقول إنه من الممكن، اليوم، أن نتحد أولاً، ثم أن ننقذ حياة الناس، وبعدها، نهيئ مناخًا أكثر ملاءمة لمحادثات عقلانية"، ثم أضاف: "مهما كانت الجذور القديمة والعميقة للمأساة الجزائرية، تبقى هناك حقيقة واحدة: لا يوجد سبب يبرر موت الأبرياء".
لكن هتافات "الموت لكامو"، ثم لجوء القوات الفرنسية بعدها لقمع وتعذيب المناضلين، قضى على حلم صاحب "المنفى والملكوت" (1957)، بل تعرض الكثير من أعضاء "ليبراليو الجزائر" للاغتيال على يد المنظمة العسكرية الفرنسية السرية "أواس".
وفي خضم ذلك الفشل والتجاذبات السياسية العقيمة والاغتيالات، اختار ألبير كامو الصمت وتفرغ لكتابة عدد هائل من الرسائل وتدوين الملاحظات، إلى أن توفي في حادث سير مروع وغامض عام 1960 بمنطقة اليون شمال فرنسا، وفي صندوق السيارة مخطوط روايته الأخيرة، التي عبر فيها عن مشاعره المتناقضة والكآبة التي سيطرت عليه في تلك المرحلة المصيرية، كأنه أراد توثيق هواجس اندثار تاريخ أسلافه بعد رحيلهم عن الجزائر، كما يقول بنجامين ستورا.
"هتافات "الموت لكامو"، ثم لجوء القوات الفرنسية بعدها لقمع وتعذيب المناضلين، قضى على حلم صاحب "المنفى والملكوت" (1957)، بل تعرض الكثير من أعضاء "ليبراليو الجزائر" للاغتيال على يد المنظمة العسكرية الفرنسية السرية "أواس"" |