فرانز كافكا في يومياته ورسائله الغرامية.. وجود غنيّ ومتنوّع
محمود عبد الغني 24 مايو 2022
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
مع ظهور مجلدين يضمان الأعمال الكاملة لفرانز كافكا (1883-1924) عن "لابلياد" يكون قد اكتمل مشروع التحيين والترجمة الأكثر أهمية في السنوات الأخيرة. والمجلدان ليسا مجرد إنعاش ونفح روح الحياة في أعمال كافكا، بل مشروع ضخم ومثير تمَّ تحت إشراف المتخصص في اللغات الجرمانية جان- بيير لوفيفر، وفريقه الذي ضَمَّ أكبر المتخصّصين في المجال.
اختيارات النصوص في هذه الطبعة النقدية، التي ضمّت رسائل كافكا ويومياته، تضعنا في قلب تصميم جديد شبه كامل لنظرة القراء والباحثين لهذا المتن الأساسي الذي يمثل كل ما يمُتُّ بصلة للحداثة، لأنه إذا كان صحيحًا فإن كل تماسّ مع الخيال الأدبي لكافكا يمثّل كل ما هو جديد وحديث. وهذا بالضبط ما يمثله ويقترحه مشروع "لابلياد" هذا، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، كما يؤكّد الناقد الفرنسي نيكولا ويل، في مقالته في العدد الأخير من "ملحق الكتب" لجريدة "لوموند" الفرنسية (عدد الجمعة 13 مايو/ أيار 2022).
لم تكن المخطوطات الخاصة لصاحب "المسخ" لتنجو من الموت، الذي اختطفه باكرًا، لولا صديقه الكاتب ماكس برود (1884-1968). وبعد نجاتها وفرزها شكّلت ثلاث كُتل متمايزة ومختلفة. الكتلة الأولى تتكوّن من اليوميات، التي حرص كافكا على تسجيلها بانتظام منذ سنة 1912 حتى وفاته في يونيو/حزيران من سنة 1924. والثانية، تتكون من الرسائل التي وجهها لحبيبته ميلينا جيسينسكا (1896-1944)، وقد تمّت إحاطتها بالعناية (الرسائل) رغم ترحيل هذه الصحافية والمناضلة التشيكية. وضمّت الكتلة الثالثة، والأخيرة، الرسائل الموجّهة، بين 1912 و1916، من كافكا إلى خطيبته البولونية فيليس باور (1887-1960)، التي وجدت نفسها مضطرّة إلى تسليمها في سنة 1956 إلى منشورات "شوكن"، كي تتمكّن من تغطية مصاريف علاجها في الولايات المتحدة الأميركية. ولحدّ الآن، حسب جريدة لوموند، فإن "كتلة" الرسائل هذه تمنحُ مظهرًا أدبيًا قائم الذات، بل إنها تشكّل أشهر الرومانسيات الغرامية في القرن العشرين.
اختارت طبعة "لابلياد" ترتيبًا كرونولوجيًا، وإدماجًا لليوميات والرسائل مع وضع أسماء المستقبلين لها، وبذلك فهذه الطبعة كسّرت عادات القراءة منذ عصور. والترتيب المشار إليه يُلاحظ بقوة، لأن مترجم النصوص، جان- كلودرامباش، هو الذي منحنا مجموعة واحدة من النصوص: رسائل إلى فيليس باور. إيزابيل كالينوفسكي وكلير دي أوليفيرا تكلفتا بترجمة وتصنيف وترتيب "اليوميات" و"مذكرات السفر". أما لور بيرناردي فقد تكلّفت بباقي إنتاج كافكا التراسلي الذي لا ينتهي. وللور بيرناردي تجربة في ترجمة رسائل الأدباء الألمان، فقد قدمت إلى القراء الفرنسيين رسائل ستيفن تسفايغ (1932-1942). وفي طبعة "لابلياد" قامت المترجمة بتقديم توضيحات عن عملها كمحررة لرسائل كافكا، جاعلة من هذا العمل المكثّف مناسبة لتقديم تأملات عن فن التراسل.
سمحت هذه الطبعة الجديدة أيضًا بإعادة صياغة بعض المقاطع من اليوميات التي راجعها ماكس برود، لأنه وجدها "جريئة" مقارنة بالمرحلة التي كتبت فيها، أو أنها تكشف عن سر من أسرار صديقه التي كان يرفضها.
ذكّرت دار غاليمار الفرنسية أن النصوص الموجودة في الجزأين لم يكتبها كافكا من أجل النشر. بل إن أفضل ما قام به هو إنقاذها من الضياع حين سلّمها لماكس برود، يكتب: "كل ما تركته ورائي (...) من يوميات، ومخطوطات، ورسائل، كتبتها أنا أو كتبها غيري، ورسومات... إلخ يجب حرقها دون تردّد ودون أن تُقرَأ". ورغم ذلك نشر برود هذه الوثائق بشكل تدريجي وعبر أجزاء. وقد اعتُبر هذا التصرف خيانة حينًا، وعربونًا عن وفاء لصداقة متينة حينًا آخر. لكن تبقى هذه الكتابات "الخاصة"، مهما كان الظنّ، مُثرية لصوت كافكا وتجعلها أكثر فرادة. بل وتقدّم مفاتيح كانت مفقودة، أو مؤجّلة، لأعماله الأدبية في مجملها. فاليوميات، مثلًا، تقدّم صورة قوية وواضحة عن "أعماله الخاصة" (الذاتية)، لكنها أيضًا تضيء باقي أعماله. لقد ظلّت تشكّل لكاتبها حيزًا للحياة والنجاة داخل أعماق الكتابة، إنها شبكة سفلية للتراكم لكنها مفتوحة عن باقي الأروقة الجديدة. وتضيف دار غاليمار في وصف هذا العمل أنه مختلط جدًّا، ومتنوّع جدًا. فهذه الدفاتر الشخصية أنقذت أفكاره الشخصية وكتاباته الحُلمية. كما كانت أيضًا بذرة لفصل في رواية، أو بداية للعديد من القصص.
لهذه الأسباب، اعتُبرت هذه الطبعة مقنعة، لأن فريق جان- بيير لوفيفر أعاد إلى الحياة سياقًا بكامله وتنوعًا طبع وجودًا غنيًا لكاتب ظلّ مريضًا، ويجد صعوبة جمّة في اقتناص زمن للكتابة، والسفر اللامحدود، رغم أنه ظلّ مهدّدًا بالمرض الذي اختطفه باكرًا.
محمود عبد الغني 24 مايو 2022
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
مع ظهور مجلدين يضمان الأعمال الكاملة لفرانز كافكا (1883-1924) عن "لابلياد" يكون قد اكتمل مشروع التحيين والترجمة الأكثر أهمية في السنوات الأخيرة. والمجلدان ليسا مجرد إنعاش ونفح روح الحياة في أعمال كافكا، بل مشروع ضخم ومثير تمَّ تحت إشراف المتخصص في اللغات الجرمانية جان- بيير لوفيفر، وفريقه الذي ضَمَّ أكبر المتخصّصين في المجال.
اختيارات النصوص في هذه الطبعة النقدية، التي ضمّت رسائل كافكا ويومياته، تضعنا في قلب تصميم جديد شبه كامل لنظرة القراء والباحثين لهذا المتن الأساسي الذي يمثل كل ما يمُتُّ بصلة للحداثة، لأنه إذا كان صحيحًا فإن كل تماسّ مع الخيال الأدبي لكافكا يمثّل كل ما هو جديد وحديث. وهذا بالضبط ما يمثله ويقترحه مشروع "لابلياد" هذا، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، كما يؤكّد الناقد الفرنسي نيكولا ويل، في مقالته في العدد الأخير من "ملحق الكتب" لجريدة "لوموند" الفرنسية (عدد الجمعة 13 مايو/ أيار 2022).
"يكتب كافكا: "كل ما تركته ورائي (...) من يوميات، ومخطوطات، ورسائل، كتبتها أنا أو كتبها غيري، ورسومات... إلخ يجب حرقها دون تردّد ودون أن تُقرَأ". ورغم ذلك نشر برود هذه الوثائق بشكل تدريجي" |
اختارت طبعة "لابلياد" ترتيبًا كرونولوجيًا، وإدماجًا لليوميات والرسائل مع وضع أسماء المستقبلين لها، وبذلك فهذه الطبعة كسّرت عادات القراءة منذ عصور. والترتيب المشار إليه يُلاحظ بقوة، لأن مترجم النصوص، جان- كلودرامباش، هو الذي منحنا مجموعة واحدة من النصوص: رسائل إلى فيليس باور. إيزابيل كالينوفسكي وكلير دي أوليفيرا تكلفتا بترجمة وتصنيف وترتيب "اليوميات" و"مذكرات السفر". أما لور بيرناردي فقد تكلّفت بباقي إنتاج كافكا التراسلي الذي لا ينتهي. وللور بيرناردي تجربة في ترجمة رسائل الأدباء الألمان، فقد قدمت إلى القراء الفرنسيين رسائل ستيفن تسفايغ (1932-1942). وفي طبعة "لابلياد" قامت المترجمة بتقديم توضيحات عن عملها كمحررة لرسائل كافكا، جاعلة من هذا العمل المكثّف مناسبة لتقديم تأملات عن فن التراسل.
سمحت هذه الطبعة الجديدة أيضًا بإعادة صياغة بعض المقاطع من اليوميات التي راجعها ماكس برود، لأنه وجدها "جريئة" مقارنة بالمرحلة التي كتبت فيها، أو أنها تكشف عن سر من أسرار صديقه التي كان يرفضها.
"تبقى هذه الكتابات "الخاصة" مُثرية لصوت كافكا وتجعلها أكثر فرادة. بل وتقدّم مفاتيح كانت مفقودة، أو مؤجّلة، لأعماله الأدبية في مجملها. فاليوميات، مثلًا، تقدّم صورة قوية وواضحة عن "أعماله الخاصة" (الذاتية)، لكنها أيضًا تضيء باقي أعماله" |
لهذه الأسباب، اعتُبرت هذه الطبعة مقنعة، لأن فريق جان- بيير لوفيفر أعاد إلى الحياة سياقًا بكامله وتنوعًا طبع وجودًا غنيًا لكاتب ظلّ مريضًا، ويجد صعوبة جمّة في اقتناص زمن للكتابة، والسفر اللامحدود، رغم أنه ظلّ مهدّدًا بالمرض الذي اختطفه باكرًا.