"بينالي فينيسيا" في نسخته الـ59.. أنماط جديدة للتعايش
سناء عبد العزيز 5 مايو 2022
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
في فترة من أكثر الفترات تقلبًا في تاريخ الإنسان، أُجبر "بينالي فينيسيا (البندقية)" على تأجيل نسخته العام الماضي جراء تفشي كوفيد 19 وتحوراته المتتالية، وهو أمر لم يحدث منذ عام 1895 إلا خلال الحربين العالميتين. لذا فإن انطلاق دورته الحالية فاقت كل دوراته السابقة أهمية، ليس فقط لأنها تعد إيذانُا بعودة الحياة إلى جريانها الطبيعي، بل لكونها استطاعت أن تبلور كل الأشياء المفتقدة بشدة في العامين الماضيين، حرية الالتقاء بأشخاص من جميع بقاع العالم، إمكانية السفر، فرحة قضاء الوقت في جماعة، ممارسة الاختلاف، استيعاب الآخر من مسافة قريبة، التبادل الحيوي، وتطور الذات.
"حليب الأحلام"
تحت عنوان "حليب الأحلام" افتتح المعرض الفني الدولي التاسع والخمسون للجمهور يوم السبت 23 أبريل/ نيسان، برعاية سيسيليا أليماني، أول امرأة إيطالية تتولى هذا المنصب على الإطلاق. أقيم حفل الافتتاح الذي تضمن توزيع الجوائز في قصر جوستينيان في سان ماركو في مدينة البندقية بإيطاليا مستلهمًا عنوانه من كتاب الفنانة المكسيكية بريطانية المولد والرسامة السريالية والروائية ليونورا كارينجتون (1917-2011). وهو كتاب جامح الخيال وبالغ الإضحاك يجمع بين كتابات كارينجتون الخيالية ورسومها السريالية للأطفال. كانت كارينجتون رسامة وروائية استثنائية تحب اختلاق القصص ورسم الصور لأطفالها. عاشت معظم حياتها في المكسيك، ويتذكر أبناؤها جلوسهم معها في غرفة كبيرة جدرانها مغطاة بصور مخلوقات رائعة وجبال شاهقة ونباتات عملاقة بينما تحكي حكايات رائعة ونوادر مرحة. هذه الجدران طليت فيما بعد، مع الحفاظ على بعض روائعها في دفتر صغير أطلقت عليه كارينجتون اسم "حليب الأحلام". بهذا العنوان يقترح بينالي فينيسيا أنه يمكن للفن والفنانين مساعدتنا في تخيل أنماط جديدة من التعايش وإمكانيات جديدة لا حصر لها للتحول.
تصرح أليماني بأن الفنانة السريالية تصف عالمًا سحريًا بوسعه أن يعيد تصور الحياة باستمرار من منظور الخيال حيث يمكن للجميع أن يتغير، ويتحول، ويصبح شيئًا أو شخصًا آخر. يستفيد المعرض من مخلوقات كارينجتون من العالم الآخر، جنبًا إلى جنب مع شخصيات أخرى متحولة، كرفاق في رحلة خيالية عبر تحولات الأجساد وتعريفات الإنسان. وهو يرتكز في الأساس على العديد من المحادثات مع الفنانين التي عقدت في السنوات القليلة الماضية. يبدو أن الأسئلة التي استمرت في الظهور من هذه الحوارات تلتقط هذه اللحظة في التاريخ عندما يكون بقاء النوع نفسه مهددًا، ولكن أيضًا تلخص العديد من الاستفسارات الأخرى التي تسود العلوم والفنون والأساطير في عصرنا. كيف يتغير تعريف الإنسان؟ ما هي مكونات الحياة، وما الذي يفرق بين النبات والحيوان والبشر وغير البشر؟ ما هي مسؤولياتنا تجاه كوكب الأرض والأشخاص الآخرين وأشكال الحياة الأخرى؟ وكيف ستبدو الحياة بدوننا؟ هذه بعض الأسئلة الإرشادية لهذه الطبعة من "بينالي فينيسيا"، والتي تتمحور حول ثلاثة موضوعات: تمثيل الأجسام وتحولاتها؛ العلاقة بين الأفراد والتكنولوجيا؛ العلاقة بين الأجسام والأرض.
في عام 2021، أطلق "بينالي فينيسيا" خطة لإعادة النظر في جميع أنشطته في ضوء المبادئ المعترف بها والموحدة للاستدامة البيئية. وهذا العام يتمثل الهدف في توسيع نطاق تحقيق شهادة "حيادية الكربون"، التي حصل عليها مهرجان البندقية السينمائي الدولي الثامن والسبعون في عام 2021، لتشمل جميع أنشطة البينالي المقررة، منها هذا المعرض الفني الدولي، والمسرح ومهرجانات الموسيقى والرقص ومهرجان السينما في دورته التاسعة والسبعين.
يقام المعرض في الجناح المركزي "جيارديني" وفي "أرسينال"، ومواقع مختلفة حول البندقية. ومن بين 213 فنانًا من 58 دولة هناك 21 رجلا فقط، على عكس الدورات السابقة، فعبر كل نصف ميل يلوح عمل لفنان ذكر في الأفق. يضم المعرض 1433 من الأعمال والقطع الفنية، منها 80 مشروعًا جديدًا أنجز خصيصًا لدورة هذا العام.
وبينما يتنقل الزوار خلال المعرض تقابلهم خمسة أقسام تاريخية أصغر؛ نماذج مصغرة من أعمال فنية، أشياء وأدوات تم العثور عليها، وثائق، مجتمعة معًا بهدف استكشاف موضوعات بعينها. توفر العروض المصممة على شكل كبسولات زمنية، أدوات إضافية للتحقيق والاستبطان، وتنسج شبكة من المراجع والأصداء التي تربط الأعمال الفنية من الماضي - بما في ذلك إعارات المتاحف الكبرى والاختيارات غير التقليدية - بأعمال لفنانين معاصرين في الفضاء المحيط. يتتبع هذا النهج المتجاوز للتاريخ الواسع الصلات والمصاهرة بين الأساليب والممارسات الفنية، حتى عبر الأجيال، توليد طبقات جديدة من المعنى وجسر بين الحاضر والماضي من خلال سرد تاريخي لا يتمحور حول أنظمة الميراث المباشر أو الصراع، بل بالأحرى حول أشكال التعايش والتضامن والأخوة.
"إنجاز العمر" لألمانيا وتشيلي
قام مجلس إدارة "بينالي فينيسيا"، برئاسة روبرتو سيكوتو، بمنح الأسد الذهبي عن إنجاز العمر للألمانية كاتارينا فريتش، المشهورة بمنحوتاتها وتركيباتها التي تعيد ابتكار الأشياء المألوفة بحساسية متناقضة وخارقة في الآن ذاته. تستمد فريتش أيقونات أعمالها من عدة مصادر مختلفة، بما في ذلك المسيحية وتاريخ الفن والفولكلور. ولقد جذبت أعمالها بالحجم الطبيعي الاهتمام الدولي لأول مرة في منتصف الثمانينيات مثل تصميم فيل حقيقي. وتعتقد أليماني "بأن مساهمة فريتش في مجال الفن المعاصر، وخاصة النحت، لا تضاهى. إنها تبتكر أعمالًا تصويرية واقعية للغاية وخيالية؛ نسخ من الأشياء والحيوانات والأشخاص، تم تقديمها بشكل متميز في كل التفاصيل وحولتها إلى ظهورات خارقة".
حين شاهدت أليماني لأول مرة أحد أعمال فريتش ضمن دورة عام 1999 للبينالي قالت: "وجدت قطعة ضخمة تملأ الغرفة الرئيسية فى الجناح المركزي تحمل عنوان "ملك الجرذان"، وهو منحوت مثير للقلق حيث تجلس مجموعة من القوارض العملاقة فى دائرة مع ذيولها المعقودة معًا، مثل بعض الطقوس السحرية الغريبة".
وحصلت الفنانة التشيلية سيسيليا فيكونيا هي الأخرى على الأسد الذهبي عن إنجاز العمر، للغتها الفنية المبنية على افتتان عميق بتقاليد السكان الأصليين ونظريات المعرفة غير الغربية. وتوضح أليماني أن "فيكونيا كرست عدة سنوات للحفاظ على أعمال كثير من كتاب أميركا اللاتينية، وهي أيضًا ناشطة ناضلت طويلًا من أجل حقوق الشعوب فى تشيلي وأميركا اللاتينية، تراوحت أعمالها فى الفنون المرئية من الرسم إلى الأداء وصولًا إلى التركيبات المعقدة".
الجناح الفرنسي
هنا تعرض الفنانة الجزائرية المولد زينب سديرة عرضًا حيًا مفعمًا بالرومانسية. لقد حوّلت الجناح الفرنسي إلى ستوديو للأفلام، وألغت الحدود بين الخيال والواقع، بين الذاكرة الشخصية والجمعية. تدخل سديرة مباشرة في أداء مغوي: زوجان يرتديان فستان سهرة يتمايلان على أكورديون في حانة باريسية على غرار الأفلام الكلاسيكية. تظهر غرف المعيشة في الجزائر في خمسينيات القرن الماضي، وفي باريس في الستينيات والثمانينيات عبر شاشة دار سينما عتيقة الطراز في الجزء الخلفي من الجناح.
الفيلم ينسج قصة عائلتها في زمن ما بعد الاستعمار بأكثر الطرق جاذبية. يد تصل إلى مشهد وتعيد ترتيب الغرفة أمام عينيك. تظهر سديرة نفسها بين الجزائريين الذين وصلوا إلى فرنسا في الخمسينيات من القرن الماضي، قبل أن تولد، مع أصدقائها وعائلتها. إنها تستخدم التدفق السلس للفيلم للتساؤل عما هو حقيقي وما هو خيالي، في التاريخ كما في السينما، بتوظيف العمليات السينمائية مثل إعادة المعالجة وتضمين صورة داخل الصورة واستكناه الإلهام من أفلام مختلفة. في الخلفية، سلطت الضوء على فيلم "طليق اليدين /Les mains libres" للمخرج الإيطالي إنيو لورنزيني عام 1964؛ وهو أول إنتاج إيطالي / جزائري مشترك.
نوهت اللجنة بدور فرنسا الذي يستحق التقدير وذلك لقدرتها على التبادل المستمر للرؤى والأفكار، ومفهومها عن التضامن كفكرة في بناء مجتمعات في الشتات ولإلقائها الضوء على التاريخ المعقد للسينما خارج الغرب فضلًا عن تاريخ المقاومة المتعددة الأوجه.
ومنحت أوغندا أيضًا تنويهًا خاص، لأنه بلد طموح لديه رؤية والتزام بالفن، جسدته أكاي كيرونين في اختيارها للمواد النحتية مثل الرافيا المغطاة باللحاء، لتحويل الاستدامة كممارسة وليست مجرد سياسة أو مفهوم.
استقراء التاريخ من خلال الصوت
فازت بالأسد الذهبي لأفضل مشاركة وطنية سونيا بويس، أول امرأة سوداء تمثل بريطانيا في الجناح المجاور. تقترح بويس استقراء التاريخ من خلال الصوت بمساعدة خمس مطربات داكنات البشرة، يقمن بالغناء على نحو ارتجالي على شاشات منفصلة، لا يمكنهن رؤية بعضهن البعض، كما نراهن نحن، ومع ذلك فإن أصواتهن تتأرجح وتتكيف وتتناغم مع بعضها على موسيقى البلوز والموسيقى الشعبية، والبوب والجاز. يتألف معرضها المعنون بـ "تتحسس طريقها" من خلفيات فسيفساء، وهياكل هندسية ذهبية، وأعمال صور متحركة مكتنزة بالألوان تغمر المساحة بصوت المطربات البريطانيات السود، وتجسد مشاعر الحرية والقوة والضعف. على الأرض وضعت منحوتات بويس الذهبية ثلاثية الأبعاد كمقاعد للمستمعين.
هذه هي أوكرانيا
انسحب الفنانون والقيمون على الجناح الروسي في بداية الحرب، حتى لا يضطر البينالي إلى اتخاذ قرار باستبعادهم ومنهم ابنة سيرغي لافروف، وزير خارجية روسيا. في المقابل خصص البينالي لأوكرانيا حديقة صغيرة في جيارديني كجناح مؤقت، حيث رفع فنانونها نصبًا تذكاريًا لأكياس الرمل. يدعم المعرض، الذي تم تقديمه بالشراكة مع وزارة الثقافة وسياسة المعلومات في أوكرانيا، أعمال الفنانين المعاصرين مع وضع التاريخ والثقافة الأوكرانية في سياقهما.
الجناح الرسمي، حسب وصف الغارديان، ليس أكثر من جدار بين كوسوفو وتركيا في أرسنال. ولكن حتى في مثل هذه الظروف، فإن "نافورة" بافلو ماكوف المكونة من 78 قمعًا برونزيًا، والتي تتضاءل من خلالها المياه تدريجيًا إلى قطرات صغيرة، تتمتع بجمال عميق وحزين. تم تصميمها في الأصل عام 1995، ولكن لا أحد ينظر إليها الآن ولا تتملكه فكرة موت الأوكرانيين بسبب الجفاف في ماريوبول. على مسافات متباعدة عبر مبنى عصر النهضة، توجد لوحات ليزيا خومينكو من الحياة لمدنيين يرتدون ملابس عادية ويمسكون بمسدس في يد وباليد الأخرى يؤدون التحية العسكرية. وهناك مسلسل بعنوان "ماكس في الجيش 2022"، وهو أيضا فنان وزوج خومينكو.
يعيد المعرض التأكيد على المرونة الثقافية لأوكرانيا التي لطالما عرفت بها، حتى في أكثر الأوقات تحديًا، من خلال قدرتها على التفكير والإبداع النقدي. الجميل أن الفنانين يرفضون فكرة روايات الحرب المباشرة وبدلًا منها يفكرون بعمق في معناها وأصلها وتأثيرها.
جوائز لجنة التحكيم الدولية
حصلت سيمون لي على الأسد الذهبي لأفضل فنان في المعرض الدولي، وذلك للانفتاح النحتي الضخم الذي أتاحته بأعمالها في جميع أرجاء المعرض.
سيمون لي، مثل بويس، هي أول امرأة سوداء تمثل بلدها في جناح الولايات المتحدة، الذي سقفته من القش ليبدو وكأنه مبنى تقليدي في غرب أفريقيا. تظهر منحوتات لي الضخمة وجهة نظرها بالأبيض والأسود - امرأة بيضاء ترتدي قماشًا من الخزف، يمكن تحطيمها بسهولة؛ عبدة سوداء تنحني فوق غسيل مصبوب في نحاس. ويتميز عمل سيمون لي في النحت والفيديو والأداء باهتمامه بالأداء والتأثير، محللا بناء شخصية المرأة السوداء. تنضم أعمال لي النحتية واسعة النطاق إلى أشكال مشتقة من العمارة الشعبية والجسد الأنثوي، مما يجعلها من خلال المواد والعمليات المرتبطة بالتقاليد الفنية لأفريقيا والشتات الأفريقي، تعيد تعريف مفاهيم المكان والزمان والوجود.
وحصل الفنان اللبناني علي شري على الأسد الفضي لفنان شاب واعد، عن عرضه التقديمي متعدد التخصصات ومتعدد المستويات. ويتركز عمل شيري على توثيق وتقديم التراث والبيئة في لبنان ودول الشرق الأوسط الأخرى.
تم منح تنويه خاص للفنانة شوفيني أشونا التي تكشف في رسوماتها ولوحاتها عمقًا كونيا لسكان الإسكيمو الأصليين وحياتهم التي تعتمد فيها كافة الكائنات على بعضها البعض، قبل انتهاكات المشروع الاستعماري. وتقترح أشونا في عملها احتمالات الهروب من الطريق المسدود من خلال الاستماع مرارا وتكرارا لمعرفة السكان الأصليين. وكذلك كان هناك تنويه خاص للفنانة لين هيرشمان ليسون لفهرسة الاهتمامات السيبرانية التي تتناثر عبر المعارض بطريقة مضيئة وقوية تتضمن أيضًا لحظات رؤية لممارسات مبكرة تنبأت بتأثير التكنولوجيا في حياتنا اليومية.
مصطلح الفنون البصرية بديلا عن الفنون التشكيلية
ضم المعرض عشرات الأجنحة من كل دول العالم منها عشرة أجنحة اختيرت كأفضل أجنحة بالبينالي هذا العام: الولايات المتحدة؛ فرنسا؛ أستراليا؛ رومانيا؛ البرازيل؛ البرتغال؛ المكسيك؛ إنكلترا؛ لاتفيا؛ قومية سامي وهم سكان المنطقة الشمالية في عدد من دول شمال أوروبا (يعرفون باللابيين نسبة إلى المنطقة اللابية).
وكتب الفنان التشكيلي صلاح بيصار على صفحته الشخصية عن هذا الاختيار: "نجد أن هناك دولًا صغيرة أو دويلات مثل لاتفيا وسامي مع بعض الدول الكبرى الأفضل في هذه الدورة... بعض الفنانين جاؤوا ومعهم مكوناتهم الثقافية وحاملين تراث الأجداد، وهناك أعمال من منطلق الحكايات الشعبية، أيضًا الطبيعة والانهيار البيئي الذى يشهده العالم حاليًا، وامتدت الأفكار إلى السياسة والحروب وحقوق الإنسان والخيال العلمي والارتباط بالبيئة المحلية وحتى الجنس وغيرها من موضوعات تمس الإنسان المعاصر، حيث تذوب الحدود بين مختلف الفنون فى امتزاج من النحت والتصوير والصوت والضوء وشرائح الكولاج والشرائح الجرافيكية مع دنيا الوسائط وقوة التكنولوجيا الحالية وحركة الليزر والإلكترون حتى الإنسان نفسه فى فن الأداء بما يمثل فى النهاية معنى مصطلح الفنون البصرية بديلًا عن الفنون التشكيلية".
سناء عبد العزيز 5 مايو 2022
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
في فترة من أكثر الفترات تقلبًا في تاريخ الإنسان، أُجبر "بينالي فينيسيا (البندقية)" على تأجيل نسخته العام الماضي جراء تفشي كوفيد 19 وتحوراته المتتالية، وهو أمر لم يحدث منذ عام 1895 إلا خلال الحربين العالميتين. لذا فإن انطلاق دورته الحالية فاقت كل دوراته السابقة أهمية، ليس فقط لأنها تعد إيذانُا بعودة الحياة إلى جريانها الطبيعي، بل لكونها استطاعت أن تبلور كل الأشياء المفتقدة بشدة في العامين الماضيين، حرية الالتقاء بأشخاص من جميع بقاع العالم، إمكانية السفر، فرحة قضاء الوقت في جماعة، ممارسة الاختلاف، استيعاب الآخر من مسافة قريبة، التبادل الحيوي، وتطور الذات.
"حليب الأحلام"
تحت عنوان "حليب الأحلام" افتتح المعرض الفني الدولي التاسع والخمسون للجمهور يوم السبت 23 أبريل/ نيسان، برعاية سيسيليا أليماني، أول امرأة إيطالية تتولى هذا المنصب على الإطلاق. أقيم حفل الافتتاح الذي تضمن توزيع الجوائز في قصر جوستينيان في سان ماركو في مدينة البندقية بإيطاليا مستلهمًا عنوانه من كتاب الفنانة المكسيكية بريطانية المولد والرسامة السريالية والروائية ليونورا كارينجتون (1917-2011). وهو كتاب جامح الخيال وبالغ الإضحاك يجمع بين كتابات كارينجتون الخيالية ورسومها السريالية للأطفال. كانت كارينجتون رسامة وروائية استثنائية تحب اختلاق القصص ورسم الصور لأطفالها. عاشت معظم حياتها في المكسيك، ويتذكر أبناؤها جلوسهم معها في غرفة كبيرة جدرانها مغطاة بصور مخلوقات رائعة وجبال شاهقة ونباتات عملاقة بينما تحكي حكايات رائعة ونوادر مرحة. هذه الجدران طليت فيما بعد، مع الحفاظ على بعض روائعها في دفتر صغير أطلقت عليه كارينجتون اسم "حليب الأحلام". بهذا العنوان يقترح بينالي فينيسيا أنه يمكن للفن والفنانين مساعدتنا في تخيل أنماط جديدة من التعايش وإمكانيات جديدة لا حصر لها للتحول.
"في فترة من أكثر الفترات تقلبًا في تاريخ الإنسان، أُجبر "بينالي فينيسيا (البندقية)" على تأجيل نسخته العام الماضي جراء تفشي كوفيد 19 وتحوراته المتتالية، وهو أمر لم يحدث منذ عام 1895 إلا خلال الحربين العالميتين. لذا فإن انطلاق دورته الحالية فاقت كل دوراته السابقة أهمية" |
في عام 2021، أطلق "بينالي فينيسيا" خطة لإعادة النظر في جميع أنشطته في ضوء المبادئ المعترف بها والموحدة للاستدامة البيئية. وهذا العام يتمثل الهدف في توسيع نطاق تحقيق شهادة "حيادية الكربون"، التي حصل عليها مهرجان البندقية السينمائي الدولي الثامن والسبعون في عام 2021، لتشمل جميع أنشطة البينالي المقررة، منها هذا المعرض الفني الدولي، والمسرح ومهرجانات الموسيقى والرقص ومهرجان السينما في دورته التاسعة والسبعين.
يقام المعرض في الجناح المركزي "جيارديني" وفي "أرسينال"، ومواقع مختلفة حول البندقية. ومن بين 213 فنانًا من 58 دولة هناك 21 رجلا فقط، على عكس الدورات السابقة، فعبر كل نصف ميل يلوح عمل لفنان ذكر في الأفق. يضم المعرض 1433 من الأعمال والقطع الفنية، منها 80 مشروعًا جديدًا أنجز خصيصًا لدورة هذا العام.
وبينما يتنقل الزوار خلال المعرض تقابلهم خمسة أقسام تاريخية أصغر؛ نماذج مصغرة من أعمال فنية، أشياء وأدوات تم العثور عليها، وثائق، مجتمعة معًا بهدف استكشاف موضوعات بعينها. توفر العروض المصممة على شكل كبسولات زمنية، أدوات إضافية للتحقيق والاستبطان، وتنسج شبكة من المراجع والأصداء التي تربط الأعمال الفنية من الماضي - بما في ذلك إعارات المتاحف الكبرى والاختيارات غير التقليدية - بأعمال لفنانين معاصرين في الفضاء المحيط. يتتبع هذا النهج المتجاوز للتاريخ الواسع الصلات والمصاهرة بين الأساليب والممارسات الفنية، حتى عبر الأجيال، توليد طبقات جديدة من المعنى وجسر بين الحاضر والماضي من خلال سرد تاريخي لا يتمحور حول أنظمة الميراث المباشر أو الصراع، بل بالأحرى حول أشكال التعايش والتضامن والأخوة.
"توفر العروض المصممة على شكل كبسولات زمنية، أدوات إضافية للتحقيق والاستبطان، وتنسج شبكة من المراجع والأصداء التي تربط الأعمال الفنية من الماضي - بما في ذلك إعارات المتاحف الكبرى والاختيارات غير التقليدية - بأعمال لفنانين معاصرين في الفضاء المحيط" |
قام مجلس إدارة "بينالي فينيسيا"، برئاسة روبرتو سيكوتو، بمنح الأسد الذهبي عن إنجاز العمر للألمانية كاتارينا فريتش، المشهورة بمنحوتاتها وتركيباتها التي تعيد ابتكار الأشياء المألوفة بحساسية متناقضة وخارقة في الآن ذاته. تستمد فريتش أيقونات أعمالها من عدة مصادر مختلفة، بما في ذلك المسيحية وتاريخ الفن والفولكلور. ولقد جذبت أعمالها بالحجم الطبيعي الاهتمام الدولي لأول مرة في منتصف الثمانينيات مثل تصميم فيل حقيقي. وتعتقد أليماني "بأن مساهمة فريتش في مجال الفن المعاصر، وخاصة النحت، لا تضاهى. إنها تبتكر أعمالًا تصويرية واقعية للغاية وخيالية؛ نسخ من الأشياء والحيوانات والأشخاص، تم تقديمها بشكل متميز في كل التفاصيل وحولتها إلى ظهورات خارقة".
حين شاهدت أليماني لأول مرة أحد أعمال فريتش ضمن دورة عام 1999 للبينالي قالت: "وجدت قطعة ضخمة تملأ الغرفة الرئيسية فى الجناح المركزي تحمل عنوان "ملك الجرذان"، وهو منحوت مثير للقلق حيث تجلس مجموعة من القوارض العملاقة فى دائرة مع ذيولها المعقودة معًا، مثل بعض الطقوس السحرية الغريبة".
وحصلت الفنانة التشيلية سيسيليا فيكونيا هي الأخرى على الأسد الذهبي عن إنجاز العمر، للغتها الفنية المبنية على افتتان عميق بتقاليد السكان الأصليين ونظريات المعرفة غير الغربية. وتوضح أليماني أن "فيكونيا كرست عدة سنوات للحفاظ على أعمال كثير من كتاب أميركا اللاتينية، وهي أيضًا ناشطة ناضلت طويلًا من أجل حقوق الشعوب فى تشيلي وأميركا اللاتينية، تراوحت أعمالها فى الفنون المرئية من الرسم إلى الأداء وصولًا إلى التركيبات المعقدة".
"حصلت الفنانة التشيلية سيسيليا فيكونيا على الأسد الذهبي عن إنجاز العمر، للغتها الفنية المبنية على افتتان عميق بتقاليد السكان الأصليين ونظريات المعرفة غير الغربية" |
الجناح الفرنسي
هنا تعرض الفنانة الجزائرية المولد زينب سديرة عرضًا حيًا مفعمًا بالرومانسية. لقد حوّلت الجناح الفرنسي إلى ستوديو للأفلام، وألغت الحدود بين الخيال والواقع، بين الذاكرة الشخصية والجمعية. تدخل سديرة مباشرة في أداء مغوي: زوجان يرتديان فستان سهرة يتمايلان على أكورديون في حانة باريسية على غرار الأفلام الكلاسيكية. تظهر غرف المعيشة في الجزائر في خمسينيات القرن الماضي، وفي باريس في الستينيات والثمانينيات عبر شاشة دار سينما عتيقة الطراز في الجزء الخلفي من الجناح.
الفيلم ينسج قصة عائلتها في زمن ما بعد الاستعمار بأكثر الطرق جاذبية. يد تصل إلى مشهد وتعيد ترتيب الغرفة أمام عينيك. تظهر سديرة نفسها بين الجزائريين الذين وصلوا إلى فرنسا في الخمسينيات من القرن الماضي، قبل أن تولد، مع أصدقائها وعائلتها. إنها تستخدم التدفق السلس للفيلم للتساؤل عما هو حقيقي وما هو خيالي، في التاريخ كما في السينما، بتوظيف العمليات السينمائية مثل إعادة المعالجة وتضمين صورة داخل الصورة واستكناه الإلهام من أفلام مختلفة. في الخلفية، سلطت الضوء على فيلم "طليق اليدين /Les mains libres" للمخرج الإيطالي إنيو لورنزيني عام 1964؛ وهو أول إنتاج إيطالي / جزائري مشترك.
نوهت اللجنة بدور فرنسا الذي يستحق التقدير وذلك لقدرتها على التبادل المستمر للرؤى والأفكار، ومفهومها عن التضامن كفكرة في بناء مجتمعات في الشتات ولإلقائها الضوء على التاريخ المعقد للسينما خارج الغرب فضلًا عن تاريخ المقاومة المتعددة الأوجه.
ومنحت أوغندا أيضًا تنويهًا خاص، لأنه بلد طموح لديه رؤية والتزام بالفن، جسدته أكاي كيرونين في اختيارها للمواد النحتية مثل الرافيا المغطاة باللحاء، لتحويل الاستدامة كممارسة وليست مجرد سياسة أو مفهوم.
"فازت بالأسد الذهبي لأفضل مشاركة وطنية سونيا بويس، أول امرأة سوداء تمثل بريطانيا في الجناح المجاور" |
فازت بالأسد الذهبي لأفضل مشاركة وطنية سونيا بويس، أول امرأة سوداء تمثل بريطانيا في الجناح المجاور. تقترح بويس استقراء التاريخ من خلال الصوت بمساعدة خمس مطربات داكنات البشرة، يقمن بالغناء على نحو ارتجالي على شاشات منفصلة، لا يمكنهن رؤية بعضهن البعض، كما نراهن نحن، ومع ذلك فإن أصواتهن تتأرجح وتتكيف وتتناغم مع بعضها على موسيقى البلوز والموسيقى الشعبية، والبوب والجاز. يتألف معرضها المعنون بـ "تتحسس طريقها" من خلفيات فسيفساء، وهياكل هندسية ذهبية، وأعمال صور متحركة مكتنزة بالألوان تغمر المساحة بصوت المطربات البريطانيات السود، وتجسد مشاعر الحرية والقوة والضعف. على الأرض وضعت منحوتات بويس الذهبية ثلاثية الأبعاد كمقاعد للمستمعين.
"انسحب الفنانون والقيمون على الجناح الروسي في بداية الحرب، حتى لا يضطر البينالي إلى اتخاذ قرار باستبعادهم ومنهم ابنة سيرغي لافروف، وزير خارجية روسيا. في المقابل خصص البينالي لأوكرانيا حديقة صغيرة في جيارديني كجناح مؤقت، حيث رفع فنانونها نصبًا تذكاريًا لأكياس الرمل" |
انسحب الفنانون والقيمون على الجناح الروسي في بداية الحرب، حتى لا يضطر البينالي إلى اتخاذ قرار باستبعادهم ومنهم ابنة سيرغي لافروف، وزير خارجية روسيا. في المقابل خصص البينالي لأوكرانيا حديقة صغيرة في جيارديني كجناح مؤقت، حيث رفع فنانونها نصبًا تذكاريًا لأكياس الرمل. يدعم المعرض، الذي تم تقديمه بالشراكة مع وزارة الثقافة وسياسة المعلومات في أوكرانيا، أعمال الفنانين المعاصرين مع وضع التاريخ والثقافة الأوكرانية في سياقهما.
الجناح الرسمي، حسب وصف الغارديان، ليس أكثر من جدار بين كوسوفو وتركيا في أرسنال. ولكن حتى في مثل هذه الظروف، فإن "نافورة" بافلو ماكوف المكونة من 78 قمعًا برونزيًا، والتي تتضاءل من خلالها المياه تدريجيًا إلى قطرات صغيرة، تتمتع بجمال عميق وحزين. تم تصميمها في الأصل عام 1995، ولكن لا أحد ينظر إليها الآن ولا تتملكه فكرة موت الأوكرانيين بسبب الجفاف في ماريوبول. على مسافات متباعدة عبر مبنى عصر النهضة، توجد لوحات ليزيا خومينكو من الحياة لمدنيين يرتدون ملابس عادية ويمسكون بمسدس في يد وباليد الأخرى يؤدون التحية العسكرية. وهناك مسلسل بعنوان "ماكس في الجيش 2022"، وهو أيضا فنان وزوج خومينكو.
يعيد المعرض التأكيد على المرونة الثقافية لأوكرانيا التي لطالما عرفت بها، حتى في أكثر الأوقات تحديًا، من خلال قدرتها على التفكير والإبداع النقدي. الجميل أن الفنانين يرفضون فكرة روايات الحرب المباشرة وبدلًا منها يفكرون بعمق في معناها وأصلها وتأثيرها.
جوائز لجنة التحكيم الدولية
حصلت سيمون لي على الأسد الذهبي لأفضل فنان في المعرض الدولي، وذلك للانفتاح النحتي الضخم الذي أتاحته بأعمالها في جميع أرجاء المعرض.
سيمون لي، مثل بويس، هي أول امرأة سوداء تمثل بلدها في جناح الولايات المتحدة، الذي سقفته من القش ليبدو وكأنه مبنى تقليدي في غرب أفريقيا. تظهر منحوتات لي الضخمة وجهة نظرها بالأبيض والأسود - امرأة بيضاء ترتدي قماشًا من الخزف، يمكن تحطيمها بسهولة؛ عبدة سوداء تنحني فوق غسيل مصبوب في نحاس. ويتميز عمل سيمون لي في النحت والفيديو والأداء باهتمامه بالأداء والتأثير، محللا بناء شخصية المرأة السوداء. تنضم أعمال لي النحتية واسعة النطاق إلى أشكال مشتقة من العمارة الشعبية والجسد الأنثوي، مما يجعلها من خلال المواد والعمليات المرتبطة بالتقاليد الفنية لأفريقيا والشتات الأفريقي، تعيد تعريف مفاهيم المكان والزمان والوجود.
وحصل الفنان اللبناني علي شري على الأسد الفضي لفنان شاب واعد، عن عرضه التقديمي متعدد التخصصات ومتعدد المستويات. ويتركز عمل شيري على توثيق وتقديم التراث والبيئة في لبنان ودول الشرق الأوسط الأخرى.
تم منح تنويه خاص للفنانة شوفيني أشونا التي تكشف في رسوماتها ولوحاتها عمقًا كونيا لسكان الإسكيمو الأصليين وحياتهم التي تعتمد فيها كافة الكائنات على بعضها البعض، قبل انتهاكات المشروع الاستعماري. وتقترح أشونا في عملها احتمالات الهروب من الطريق المسدود من خلال الاستماع مرارا وتكرارا لمعرفة السكان الأصليين. وكذلك كان هناك تنويه خاص للفنانة لين هيرشمان ليسون لفهرسة الاهتمامات السيبرانية التي تتناثر عبر المعارض بطريقة مضيئة وقوية تتضمن أيضًا لحظات رؤية لممارسات مبكرة تنبأت بتأثير التكنولوجيا في حياتنا اليومية.
"حصل الفنان اللبناني علي شري على الأسد الفضي لفنان شاب واعد، عن عرضه التقديمي متعدد التخصصات ومتعدد المستويات. ويتركز عمل شيري على توثيق وتقديم التراث والبيئة في لبنان ودول الشرق الأوسط الأخرى" |
مصطلح الفنون البصرية بديلا عن الفنون التشكيلية
ضم المعرض عشرات الأجنحة من كل دول العالم منها عشرة أجنحة اختيرت كأفضل أجنحة بالبينالي هذا العام: الولايات المتحدة؛ فرنسا؛ أستراليا؛ رومانيا؛ البرازيل؛ البرتغال؛ المكسيك؛ إنكلترا؛ لاتفيا؛ قومية سامي وهم سكان المنطقة الشمالية في عدد من دول شمال أوروبا (يعرفون باللابيين نسبة إلى المنطقة اللابية).
وكتب الفنان التشكيلي صلاح بيصار على صفحته الشخصية عن هذا الاختيار: "نجد أن هناك دولًا صغيرة أو دويلات مثل لاتفيا وسامي مع بعض الدول الكبرى الأفضل في هذه الدورة... بعض الفنانين جاؤوا ومعهم مكوناتهم الثقافية وحاملين تراث الأجداد، وهناك أعمال من منطلق الحكايات الشعبية، أيضًا الطبيعة والانهيار البيئي الذى يشهده العالم حاليًا، وامتدت الأفكار إلى السياسة والحروب وحقوق الإنسان والخيال العلمي والارتباط بالبيئة المحلية وحتى الجنس وغيرها من موضوعات تمس الإنسان المعاصر، حيث تذوب الحدود بين مختلف الفنون فى امتزاج من النحت والتصوير والصوت والضوء وشرائح الكولاج والشرائح الجرافيكية مع دنيا الوسائط وقوة التكنولوجيا الحالية وحركة الليزر والإلكترون حتى الإنسان نفسه فى فن الأداء بما يمثل فى النهاية معنى مصطلح الفنون البصرية بديلًا عن الفنون التشكيلية".