كرى ثربانتس.. "مسكين من ليس فيه من دون كيخوته"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كرى ثربانتس.. "مسكين من ليس فيه من دون كيخوته"

    كرى ثربانتس.. "مسكين من ليس فيه من دون كيخوته"
    وائل سعيد 29 أبريل 2022
    تغطيات
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    في عام 1605 صدر الجزء الأول من الرواية الأشهر في تاريخ السرد الروائي "دون كيخوته" التي تُعد أم الروايات. وسرعان ما أحدثت ضجة هائلة في الأوساط الأدبية والفنية لم يخمد صداها إلى الآن وجلبت لكاتبها شهرة عريضة ارتبط دوامها بدوام فن السرد نفسه، فقد استطاع الكاتب من خلالها تمثيل الإنسان تمثيلا يصلح لشتى العصور، بتطلعاته وآماله التي كثيرًا ما تتعارض مع إمكانياته الحقيقية، فهو بطل ولكنه "بطل من ورق" كما يُقال، وربما يكون صورة من الكاتب نفسه الذي تحل ذكرى رحيله في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، 1616، إلا أن أبعاد الصورة في حياة ثربانتس لم تكن قطعية بالمرة، فقد خاض عددًا من المغامرات والتجارب والأهوال لا تتُاح بسهولة، ولولاها لما خرجت إلى النور رائعة النبيل البارع "دون كيخوته دلامنتشا".



    يوم أن طرق شبح الفارس الهزيل باب ثربانتس

    الحكايات المُتشعبة في الرواية والتي تتولد منها حكايات فرعية؛ جعلت الكثير يتعجبون "كيف فعل ثربانتس ذلك بمفرده"، وهو الكاتب المعروف بتأليف الرواية، وكيف دخل بها ضمن صفوف كتب التراث الإنساني مثل "ألف ليلة وليلة" ومثيلاتها في الثقافات الأخرى، حتى أن بعض النقاد أواخر القرن العشرين اعتبروها ليست نتاجًا فرديًا؛ فهي حكايات موجودة في بلدان وأزمنة مختلفة ولأسباب مختلفة أيضًا، وما كان على ثربانتس سوى تجميعها في كتاب، لا سيما وهو حين يُقدم استهلالًا للقارئ يقول له بتهكمه المعهود: "لا أود أن أبالغ في تمجيد الخدمة التي اصطنعها عندك بتعريفي إياك بفارس نبيل شريف كهذا، حاملًا سلاحه، وفيه سترى فيما أعتقد، كل مناقب المهنة مجتمعة بعد أن كانت مشتتة في هذا الحشد الهائل الزائف من كتب الفروسية- ترجمة عبد الرحمن بدوي".

    "الحكايات المُتشعبة في الرواية جعلت الكثير يتعجبون "كيف فعل ثربانتس ذلك بمفرده"، وكيف دخل بها ضمن صفوف كتب التراث الإنساني مثل "ألف ليلة وليلة" ومثيلاتها في الثقافات الأخرى، حتى أن بعض النقاد أواخر القرن العشرين اعتبروها ليست نتاجًا فرديًا؛ فهي حكايات موجودة في بلدان وأزمنة مختلفة"
    أما على مستوى البناء الدرامي فإن حبكة الرواية يتخللها الكثير من الحكايات العارضة، وقد قسم ثربانتس الرواية إلى أربعة أجزاء في البداية إلا أنه عدل عن ذلك في الجزء الثاني منها مكتفيًا بجزأين فقط. كما وردت في الرواية بعض الأخطاء التاريخية في سرد الأحداث، كأن يأتي بمساعده وهو يعتلي حماره وفي فصل سابق يحكي عن سرقة الحمار! ثم يعتذر هو نفسه عن هذا الخطأ، وكان من الممكن تدارك ذلك قبل الطبع، إلا أن ثربانتس أراد تقديم حالة التشظي الكامل للحياة، فبعد أن "صار الإنسان الذي ارتقى سابقًا مع ديكارت مرتبة سيد الطبيعة ومالكها مجرد شيء بسيط في نظر القوى – السياسية والتاريخية- التي تتجاوزه وترتفع فوقه وتمتلكه"....، حينها "خرج دون كيخوته من بيته ولم يعد قادرًا على التعرف على العالم، فقد بدا هذا العالم فجأة غامضًا غموضًا رهيبًا، لقد تفتت الحقيقة المُطلقة إلى مئات الحقائق النسبية يتقاسمها الناس، هكذا ولد عالم الأزمنة الحديثة- ميلان كونديرا؛ ثلاثية الرواية، ترجمة بدر الدين عرودكي".

    رأى المؤرخ الأسباني مننديث بيدال أن الفصول الأولى من الرواية متأثرة بمسرحية قصيرة قديمة لكاتب مجهول، وفيها تشابه كبير بين البطلين خصوصًا في رؤيتهما لأنفسهما ضمن أبطال الأغاني الملحمية الشعبية، فيما ذهب بعض معاصري ثربانتس إلى استلهامه شخصية الدون من أحد الكتب التي تروي حكايات عن الجنون، أبطالها كانوا على نفس الشاكلة، فلا "شيء أعجب بين حوادث عصرنا العجيبة من فارس هادئ جدًا، عاقل جدًا، ومحترم جدًا. ولكنه خرج مجنونًا من القصر بغير سبب وبدأ في ارتكاب الحماقات". وأثناء إقامة ثربانتس بإيطاليا أُعجب بالشاعر لودوفيكو أريوستو، صاحب الملحمة الشهيرة "أورلاندو الغاضب، 1516"، وتحكي عن قصة الفارس المسيحي المعروف أثناء حرب دارت بين الإمبراطور المسيحي شارلمان، وملك أفريقيا المسلم أغرامانتي الذي غزا أوروبا انتقامًا لمقتل والده ترويانو.
    "ظهرت الرواية بمثابة رد على طغيان قصص الفروسية والملاحم وحتى للرواية البيكارسكية بأبطالها من الصعاليك؛ فالكاتب يقول في مقدمة الرواية بأن هدفه من كتابتها كان بغرض "كبح، بل تحطيم ما لكتب الفروسية من تأثير وسلطان عند عامة الناس""
    على جانب آخر، لن تكون هناك قائمة بأهم الروايات العالمية إلا وستجد على رأسها "دون كيخوته"، فقد تُرجمت لمعظم لغات العالم تقريبًا حتى الآن واحتلت طبعاتها المتوالية ملايين النسخ. واعتبرها الفيلسوف المجري جورج لوكاش "أول رواية عظيمة في الأدب العالمي"، ووصف الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس ثربانتس بأنه "الأب المؤسس" لأدب أميركا اللاتينية في شكله الجديد "للواقعية السحرية". ظهرت الرواية بمثابة رد على طغيان قصص الفروسية والملاحم وحتى للرواية البيكارسكية بأبطالها من الصعاليك؛ فالكاتب يقول في مقدمة الرواية بأن هدفه من كتابتها كان بغرض "كبح، بل تحطيم ما لكتب الفروسية من تأثير وسلطان عند عامة الناس"، فقد تمثل ثربانتس حكاية كل واحد فينا، إخفاقاته، توهماته المتعددة، وجوده الخفيف الذي لا يُحتمل كما يُشير كونديرا في "خفة الكائن".







    فيما ورد عن عدوى الفارس النبيل ومتلازمة دون كيخوته

    يتردد صدى ثربانتس بين جنبات السرد العالمي منذ صدور روايته وتحتل شخصية الرواية مكانًا كبيرًا في مخيلة الشعوب، ذلك الرجل النحيل الذي لم يتزوج وينحدر من أصول برجوازية، حين ذهبت قصص الفروسية بعقله فقرر الخروج لمعترك الحياة كي يدافع عن مفاهيم الحق والعدالة ويأتي للمظلومين بحقوقهم، متخذًا له درعًا وسيفًا ومن فوق حماره استطاع إقناع "سانشو"، وهو أحد الفلاحين، باتباعه على وعد بأن يعطيه نصيبًا من الغنائم حين يُفرجها الله. يصطدم الفارس في أرض المعركة بالطواحين الشهيرة التي يحسبها كائنات خرافية فيشرع في محاربتها، وفي حالة أخرى يواجه قطيعًا من الأغنام فيظنهم الأعداء قادمين ومن ثم يتقدم للقتال فلا يجد سوى رعاة الغنم يرشقونه بالحجارة هو وتابعه، اعتُبر ذلك في علم النفس كنوع من المتلازمة التي تُصاحب مرضى الكبت النفسي الذين يشعرون بالمذلة وقله الحيلة، وقتها يُحاول المريض تبديد هذه المشاعر بسلوك يشبه ما قام به دون كيخوته، تجاه قدراته المحدودة وتعاظم القوى الخارجية من حوله.

    خرجت من هذه الأجواء روايات عديدة وفلسفات أيضًا تخص فكرة العبث على سبيل المثال، فليس بعيدًا ما قام به ألبير كامو في بداية الأربعينيات عن عبثية ثربانتس؛ حين استدعى "أسطورة سيزيف" الذي كان أحد أكثر الشخصيات مكرًا بحسب الميثولوجيا الإغريقية، فقد استطاع خداع إله الموت ثاناتوس مما أغضب الإله زيوس فأنزل عليه عقابًا يتمثل في أن يحمل صخرة ضخمة لأعلى قمة الجبل وحين يصل تبدأ الصخرة في التدحرج لأسفل وبالتالي يقوم بنفس الفعل من جديد كمعادل لفكرة العذاب الأبدي، الأمر الذي جسده كامو في فلسفته حول عبثية الوجود البشري في عالم غير مفهوم لا يعتمد على حقائق قاطعة.
    "خرجت من أجواء الرواية روايات عديدة وفلسفات أيضًا تخص فكرة العبث على سبيل المثال، فليس بعيدًا ما قام به ألبير كامو في بداية الأربعينيات عن عبثية ثربانتس؛ حين استدعى "أسطورة سيزيف" الذي كان أحد أكثر الشخصيات مكرًا بحسب الميثولوجيا الإغريقية"
    على مستوى الأعمال الأدبية، اعتبر النقاد رواية "روبنسون كروزو، 1719" هي أم الروايات الإنكليزية للكاتب دانييل ديفو، ويتناول فيها قصة شاب ينعزل في جزيرة لفترة طويلة مع خادمه وكيف يحدث تصادم بينهما وبين المجتمع في نهاية القصة حين يعودا إلى أوروبا حيث العالم المتحضر، وفي عوالم مُشابهة يمضي الإيرلندي جوناثان سويفت ببطل روايته "رحلات غوليفر، 1726". وكذلك "حياة وآراء تريسترام الجنتلمان- لورنس ستيرن، 1759" و"جاك القدري- دنيس ديدرو، 1796" و"بعثة همفري كلنكر، 1771"... وحتى رحلة جيمس جويس "عوليس، 1922" في أطول يوم بتاريخ البشرية، الجميع يُصارع طواحين الهواء بشكل أو بآخر.

    لم تقف عدوى ثربانتس عند حد الكلمة وفقط بل تسربت لبقية الفنون؛ فمن نفس البلد - إسبانيا- يرسم بابلو بيكاسو أشهر اللوحات للرواية، والتي نُشرت لأول مرة في مجلة فرنسية عام 1955 احتفالًا بالذكرى الـ 350 على صدور "دون كيخوته"، وقد رسمها بيكاسو بأسلوب مختلف عن فتراته السابقة سواء اللونية "الزرقاء والوردية" أو الفترة التكعيبية، بجانب ذلك احتل الرمز "الكيخوتي" مساحات في فن البوب والتصاميم الشعبية. وفي الموسيقى استلهمها النمساوي يوهان شتراوس في رائعته "طواحين الهواء"، بالإضافة إلى عدد من الأفلام السينمائية والمسرحيات وعروض الباليه.

    رسم بابلو بيكاسو أشهر اللوحات للرواية، ونُشرت لأول مرة في مجلة فرنسية عام 1955 احتفالًا بالذكرى الـ 350 لصدور "دون كيخوته"

    في تلاوة أخبار الأمور التي وقعت للنبيل ثربانتس

    يحتل الغموض بعضا من حياة ميغيل دي ثربانتس؛ فحتى يوم مولده هو بالتقريب 29 سبتمبر/ أيلول 1547، لكن موطنه مؤكد وهو مدريد بالطبع بإسبانيا. كان أبوه جراحًا وبرغم ذلك لا توجد معلومات مؤكده عن تعليمه؛ فالبعض يقول إنه درس مع اليسوعيين في "مدرسة الجماعة" بإشبيلية والبعض يُرجح أن يكون درس بمدينة سلمانكا حيث تضمنت مؤلفاته "إشارات غريبة إلى هذه المدينة المشهورة بجامعتها الدينية".

    وحين سافر إلى إيطاليا أرجع المؤرخون ذلك لأسباب مختلفة؛ منها هروبه خوفًا من توقيع عقوبة عليه بعد مبارزة بالسيف مع أحدهم، لكنه أعجب بالمدينة بدرجة كبيرة حتى أنه أطلق على روما "أم الدنيا" بصورها البديعة... "النظيفة، ذات الأبنية الفخمة، والنهر العذب والطُرقات الهادئة" فما كان منه إلا أن انخرط في الجندية واشترك في معركة الليبانتو البحرية 1571 وهي معركة وقعت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بين العثمانيين وبعض التحالفات من أوروبا، جراء ذلك أسرته القوات التركية وسجن في الجزائر لمدة خمس سنوات، لذلك فكثير من أحداث "دون كيخوته" تدور في أجواء المدينة العربية.
    "انخرط ثربانتس في الجندية واشترك في معركة الليبانتو البحرية 1571 وهي معركة وقعت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بين العثمانيين وبعض التحالفات من أوروبا، جراء ذلك أسرته القوات التركية وسجن في الجزائر لمدة خمس سنوات، لذلك فكثير من أحداث "دون كيخوته" تدور في أجواء المدينة العربية"
    حققت الرواية نجاحًا كبيرًا فور صدورها وقبل أن ينتهي العام كانت هناك طبعتان نُشرت واحدة في لشبونة والأخرى في فالنسيا تلتها طبعة خاصة ببروكسل ثم ميلان، وحين ظهرت الطبعة الإنكليزية عام 1612 بترجمة توماس شيلتون؛ فتحت الطريق أمام الرواية لترجمات أخرى وصلت لإنكلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من البلدان.

    كتب ثربانتس الشعر والقصة والمسرح أيضًا، وإن كان هناك بعض القصص الجيدة، يبقى الشعر عنده في أقل مرتبة ولا تختلف مسرحياته كثيرًا عن ذلك، من أهم مسرحياته "حمامات الجزائر. الجلف السعيد. أوردمالس"، ونُشرت آخر رواياته بعد رحيله بعام، 1617، بعنوان "محاكمات بيرسيليس وسيجيسموندا". على أي حال مكنته رواية واحدة من احتلال مكانة لم يحتلها سواه إلى يومنا هذا، حتى أن الكاتب الفرنسي بروسبير مريميه يقول عنها: "مسكين من ليس فيه شيء من دون كيخوته"!


يعمل...
X