الغُربة والأسى في شعرِ آنا أخماتوفا
ملاك أشرف 15 سبتمبر 2022
تغطيات
(آنا أخماتوفا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
وأسيرُ حيثُ لا حاجةً بي لشيءٍ
حيثُ ظلّي وحدهُ.. أعزُّ رفيقِ طريقٍ لي
والرّيح تهبُّ من الحديقةِ المُقفرة
والدّرجة الباردة تحتَ قدمي!
كتبوا الكثير عن الشّاعرةِ الرّوسيّة آنا أخماتوفا. وعندما نقولُ كتبوا نقصد وصفوا بشكلٍ مُفرطٍ تلكَ الغُربة ومرارة الوحدة، وبإسهابٍ تكلّموا عن وحشتها وكربتها، وعن الاتهامات الّتي اعترتها والمُحاربات الّتي طالتها. ونحنُ اليوم عندَ حديثنا عنها يحيلنا كُلُّ هذا إلى مَن كانَ يُشابهها من المُتعرضات لنفسِ المنوال.
حيّنما نذكّرُ الغربةَ لا مناصَ من معرفةِ أنواعها ودرجة تفاوتها بينَ الشّاعرةِ وغيرها من المُعاصرين، علينا الشّرح والإطناب عن حياةِ الشّاعرة أوّلًا، لكي نصلُ إلى سببِ كتابة النّصوص الشّعريّة، الزّاخرة بالكَمَد والسّخط!
الشّاعر حسب الشّيخ جعفر في كتابٍ مُترجمٍ من قبله (مُختارات من الشّعرِ الرّوسيّ)، جعلنا أمامَ ضربين لهذهِ الغُربة المُلازمة لها بصورةٍ دائمةٍ والتّي تؤجّج شاعريتها، وينبغي أن يعرفَ الجميع بادئ ذي بدء أن الشّاعرة الرّوسيّة عاشت غربتين رهيبتين طيلة حياتها، أوّلهما غُربتها الفكريّة، كونها شاعرةٌ برزت من أفقٍ لَمْ يعدّ مرغوبًا وجليًّا وقضي أن يغلقَ إلى الأبد - على حدِّ تعبير حسب الشّيخ- وهو يتداخلُ مع غُربتها الأُخرى وهي الزّمنيّة وبمعنى غيرِ بعيدٍ بل قريبٍ يرتبطُ مع غربةِ الفكرِ، وما المُعاش في الحينِ ذاكَ سوى نتاجِ الأفكار والخيال وتكوين الرؤى ووجهات النّظر من منظورٍ ما!
وما كانت سوى شبحٍ منفيّ وتمّ تأطيرها من قبلُ الأعين بهذا الشّكلِ، كانت في عالمٍ غير عالمها المُراد والّتي ترغبُ بهِ وتطالبُ بنيلهِ وإن طالَ الزّمان وعذابهُ الفتَّاك والمُهلك للمرءِ في مرورِ الأيّام، وبتعبير حسب الشّيخ (إنها في عالمٍ غير عالمها الرّوحيّ)، ولفرادتها الشّخصيّة الحقيقيّة وبراعتها الأسلوبيّة مع بهائها الأخّاذ، حاوطتها حملات انتقاديّة فائقة المعقول، وهي حملات إعلانية مُستمرة، تتخذُ من حزنها وتشاؤمها ونصوصها المُترعة بالجَزَع واللّوعات حجةً؛ لتهلكتِها وتهميشها والقضاء عليها. وكل هذا بجانبِ المُحاولات الدَّؤُوبة لاتحاد الكتّاب السّوفيات لطردِ أخماتوفا منهُ، ناهيك بإعدام زوجها السّابق. رغمَ أن هذا دفعها إلى أن تعيشَ وتنظّمَ حياتها على مقامٍ وَاجِفٍ ومُضطربٍ، مُتبَرّمٍ، إلّا إنّها حافظت على أصالتها وبصيرتها وأسلوبها الفذّ، مع ذلك الذّوق الأدبيّ والفنّيّ السّامق، باعتبارها شجرةٌ لا تبرحُ مكانها وجذورها.
في قصيدةِ (أنتَ تعلم)، تبدأُ الشّاعرةُ قصيدتها بتذكيرِ الآخر عن شقائها وقيودها المُتَجَبِّرة، الّتي تدفعُها نحوَ طلبِ الموت؛ للخلاصِ والنّجاة، هذهِ الفلسفة، الّتي تبيّن كم أن الموت هو أعظم انتصارات الإنسان، وأهونُ من العيشِ بمشقّةٍ وإمْلاقٍ كالّذي جلسَ تحتَ أشجارِ الخريف ليؤنس بالطبيعةِ ونسيّ ميعاد الخريف وأيلول!
وهي في مُقدّمةِ القصيدة تذكرِ الأرض الشّحيحة وعدم سخاء الحياة، الّتي تجعلُها تُرافق الوجع ولا تنساهُ وتكّبلها بالأصفاد وهي الطّليقة الآسرة فتقولُ:
أنتَ تعلم أيّة شقيةٍ، مُكبلة أنا
أتضرّع إلى اللّه أن يميتني.
غير أنني أتذكر، حتّى الوجع، كُلّ شيء
عن أرضِ تغيّر الشّحيحة
بعدها تنقلُ لنا مشهدَ الطّائر الغرنيق وهو يقفُ عندَ البئرِ المُحطّمة، هذا الطّائر ذو السّلوك الاجتماعيّ الحرّ، نقيض أخماتوفا المُفردة والوحيدة، فكانَ رمزًا للحزنِ واِلتِماس الحُرّية، كونهُ خارج سرب أقرانهُ وبمفردهِ عندَ بئرٍ عميقة مُفتتة، تدلُّ على الخراب، المُماثل لروحها الذّاوية، مع دوي الماكينات في الحقولِ ورائحة القمم المُوحشة والسّحب الهائجة وكآبة المشهد، وكأنّها تصفُ أعماقها، الشاهقةٌ كالقممِ لكنّها ضبابيّة مُعتِمة، تغلي.
طائر الغرنيق عندَ البئر المنهدمة
والسّحبَ من فوقهِ كزبدِ الغليان الأبيض،
صريرِ الماكنة في الحقول
ورائحة القمم والكآبة..
وفي قصيدةٍ أُخرى لها كانت بعنوان (آه ثانيةً تعود)، تكرّرُ هذا النّوع من الطّيور وتشيرُ إلى سوادِ الحقول، الّتي تريدُ بهِ شيئًا آخرَ وهو ظلام ما هي عليهِ، فترى سوادَ واقعها معكوسًا حتّى على الطّبيعةِ أو هي مَن تعكسُ سوادَ حقيقتها على الطّبيعةِ النّقيّة الزّاهيّة، فردّدت فيها:
لا أتذكرُ غير الحديقةِ الخريفيّةِ النّاعمة الشّفيفة،
وصراخ الغرانيق، والحقولِ السّوداء..
ليسَ من الغريبِ أن تختمَ القصيدة بأشطرٍ هي كصفيرِ قطارٍ، تُنبه المارَّ بوطأةِ الأنظار المُتحذلقة عليها، النّظرات المُستنكرة لها، العالقة في ذاكرةِ الشّاعرة، وباتت مُقتنعةً بها وتشعرُ أنها تستحقُّها وجديرة بأن تعلقَ في ذهنها وعلى شرفاتِ فُؤَادها، فغدت تشكلها بقصائدها بطرائقٍ يائسة وخافتة، مُتماهية مع الحقيقةِ كريحٍ هادئةٍ تمرُّ ووجهات واسعة باهتة وشاحبة، غير مُضيئةٍ ومُتوهّجة، فتصيغُها لنا بهذهِ الهيئة:
وتلكَ الجهاتِ الفسيحة الباهتة،
حيثُ الرّيح نفسها خافتةً تمرُّ
ونساء القرية الهادئات، المُلوّحات
يلقين عليّ نظراتِ استنكار!
تكادُ في الشّطرِ الأخير مُمتقعة الوجه وهي تلمحُ حتّى الأُناس الأشدّ هدوءًا ووداعةً ينكرونها ويرمقوها بشزرٍ، ينفونها وهي بينهم تحدّقُ على تلوّيحاتهم للعابرين والأقرباء، ونقدهم اللّاذع غير العادلِ كما الحياة؛ وهذا من أجلِ غموضٍ وضبابٍ، لا يفهمونه، يجهلون نزعتها الصّوفية ورهافة مُهجتها وميولها، وادّعاءاتهم هي على وفقِ تصوّراتهم ليست هامّةً ولا يجبُ أن تؤخذَ بعينِ الاعتبار.
هذا ما حرّكها فعادت وكتبت عن الأمرِ ذاتهِ في إحدى قصائدها قائلةً:
أعطني من الأتربةِ السّامّة
ما يجعلُني بكماءَ،
وازحْ شهرتي الذّميمة
بالنسيانِ الوضيء.
كانت قصيدة الشّاعرة الأساسيّة (أنتَ تعلم) مبنيةً على خفةٍ وموسيقى وأجراس باطنيّة غير ظاهريّة كُليًّا ممّا أفضى بالقصيدةِ نحوَ الانسياب والتّماشي مع المُفرداتِ بألقٍ وليونة.
نلاحظُ انتقاءها للمعاني وصياغتها المُشرقة للأحداثِ، الصّياغة الدّاحضة للضجرِ والالتباس المُلبِّك.
وحتّى في بقيةِ المقاطع الشّعريّة، الّتي تلت القصيدة الأوّلى وشرعت بكشفها بسِمَةٍ أكبر، نلتمسُ سهولةَ تركيبها وبريقها الأسلوبيّ، وخفتها النّاتجة عن موسيقى وتناغم الشّجن الأبديّ لقلبِ أخماتوفا، ووصفها لمشاعر الإنسان الفعليّة، هذهِ المشاعر المُتولِّدة من مأساةِ الوجود، تعلن عن واقعيتها وواقع غيرها من الّذين ينازعونَ للبقاءِ والعيش بفضاءٍ أقلِّ ضنى، وفسحةً لا تجثمُ عليهم بانبثاقاتٍ فُجائيّةٍ مُنهكة ومُكَدَرة لجسدِ المرء.
لا نستطيعُ أن نخفي أثر هذا الماضي والأسى في قصائدَ أخماتوفا، فقوّة شاعريتها تكمنُ في استحضار مآسيها ويأسها ونحيبها وتوظيفها لهُم من خلالِ مُفردات الخيبة المُتتالية في يومياتها والجمل الحادّة القصيرة، بيد أن هذا أدى بها في بعضِ مواطن بيت القصيد إلى الإسهاب واستهلاك الصّور الشّعريّة والتّرداد، فتبدو لي رتيبة وبديلًا عن ينابيع إبداعها وفكرها الحيويّ المُشتعل، فلَمْ تحرص الشّاعرة على خروجها من ميدانِ ما اعتادت عليهِ في تجربتها الشّعريّة إلّا ما ندر ورُبّما التّرجمات العديدة تضيفُ شيئًا من نكهةِ المنفى والأنين ولذّة الألم على النّصّ الأصليّ، باعتبارِهم وقعوا في فخِ سيرتها التّعسة المُناقضة للبهجةِ.
ومن ناحيةٍ مُغايرة لهذا، كانت أخماتوفا أصدق من غيرها عندَ الكتابةِ فهي لَمْ تبالِ بالعزوفِ عن سالف ما كتبت ولبثت تضفي الكثير عليهِ، ناسيةً التّجديد والاستحداث في الموضوعات والمضامين على الدّوام، ماكثةً تعبرُ عن هواجسها وما يختلجُ في أعماقها فضلًا عن أهوائها ووقائع أيّامها وتجرّدها من العبوديّة بسعيها الحثيث للتحرّرِ من كُلِّ شيءٍ ما دامت طوال حياتها تقترنُ بالوجودِ والشّروع بمُغادرةِ العدم لظاهر ما تَطَلُّعت إليهِ عبرَ الاقتران بالطبيعةِ والمُحيط، فأمست قريبةً على القارئ في لحظاتِ التّذمر والتّشاؤم، مُبتعدةً عن ميدان الكذب والزيّف والألاعيب الشّعريّة المُعقّدة، الجارفة للقارئ نحوَ شواطئ الغموض والتّيه سعيًا لكسبِ جولاتٍ أدبيّة مرموقة، وارضاء للقارئ، الباحث عن الرّاحةِ والخدمات الشّعريّة المُحدّدة حسب مزاجهِ، دونَ الأخذِ بالقيمة الأدبيّة وقواعد الشّعر وسمات الشّاعر الأصيل.
أما المكان فهو أقوى حضورًا ربما من أيّ شيءٍ آخرَ في قصائدها، فلا بُدَّ من ذكر مدينة أو قرية أو مساحة كونيّة مُعيّنة كأنّ تكون طرقًا أو سفوحًا أو منطقةً، تضعُها مهدًا هانئًا أو سريرًا أو منفى مُتقلِّبًا مُقفرًا أو ملاذًا ومأوى لها، وتنشدُ أشطر المُعاناة من حدثٍ ما وتختصرُ مسافات العالم بينَ الكلمات، وتحجمُ ما هو أكبر وبعيد عن الأعين بيديها.
فمثلًا في قصيدةِ (ينهزمُ الألم) نشاهدُ دهشتها إزاء المدن والأمكنة وفرادتها التّعبيريّة:
إنّني لأُحبّ هذهِ البقاع
حُبًّا مكينًا، هادئًا لا فكاكَ منهُ
إن قطرة من حياة المدن في دمي
كقطعةِ جليدٍ في خمرةٍ مزبدة.
وهذا شيءٌ لا يمكن رأبهُ بأيّ شكلٍ
ولَمْ يُذب القيظُ العظيم هذهِ القطعة
أيُّتها القرى الهادئة
يا إشراقةً في مديحي.
وفي قصيدتها (ثانيةً تمنحُ لي) تصف الخريف بأوراقهِ الحمراء، الّذي سيخلدُ أُغنيةَ الأوجاع والتَأَوُّه ويسهمُ في ازديادِ العذاب والعلّل:
لكي تعيشَ طويلًا في ذاكرتي
أُغنيةُ الوداع الأليم
جلبَ الخريف الأسمر بذيلِ ثوبه
أوراقه الحمراء المُتساقطة..
تبقى القصائدُ قلقةً وخائفة ومُتوترة وبعض أشطرها متين وبعضها عاديّ ولكن لا يمكننا أن نتجاوزَ أو ننكرَ كيف أن شعرَ أخماتوفا حيّ، نرى ونسمعُ مشاهدَهُ ورسومه وتحرّكاته؛ ولذلك هي اليوم خالدةٌ، تسيرُ وحيدةً بيننا، تئنُّ مُستيقظةً وهي تتوارى خلفَ كتاباتنا، الّتي تنزفُ وجوُمًا وحيرةً.
لم يكن حزنها عبثًا، وإن طالبت بأن نغفر لها:
اغفرْ لي أنني حزينةً
وقليلًا ما ابتهجتُ بالشمسِ.
اغفرْ لي، اغفرْ لي أنني
تقبلتُ تلكم الزّياراتِ العديدة.
(*) ملاحظة: جميع القصائد في هذهِ المقالة هي من كتابِ (مُختارات من الشّعر الرّوسيّ)، والذي نقله عن الرّوسيّةِ الشّاعر العراقيّ حسب الشّيخ جعفر.
*كاتبة عراقية.
ملاك أشرف 15 سبتمبر 2022
تغطيات
(آنا أخماتوفا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
وأسيرُ حيثُ لا حاجةً بي لشيءٍ
حيثُ ظلّي وحدهُ.. أعزُّ رفيقِ طريقٍ لي
والرّيح تهبُّ من الحديقةِ المُقفرة
والدّرجة الباردة تحتَ قدمي!
كتبوا الكثير عن الشّاعرةِ الرّوسيّة آنا أخماتوفا. وعندما نقولُ كتبوا نقصد وصفوا بشكلٍ مُفرطٍ تلكَ الغُربة ومرارة الوحدة، وبإسهابٍ تكلّموا عن وحشتها وكربتها، وعن الاتهامات الّتي اعترتها والمُحاربات الّتي طالتها. ونحنُ اليوم عندَ حديثنا عنها يحيلنا كُلُّ هذا إلى مَن كانَ يُشابهها من المُتعرضات لنفسِ المنوال.
حيّنما نذكّرُ الغربةَ لا مناصَ من معرفةِ أنواعها ودرجة تفاوتها بينَ الشّاعرةِ وغيرها من المُعاصرين، علينا الشّرح والإطناب عن حياةِ الشّاعرة أوّلًا، لكي نصلُ إلى سببِ كتابة النّصوص الشّعريّة، الزّاخرة بالكَمَد والسّخط!
الشّاعر حسب الشّيخ جعفر في كتابٍ مُترجمٍ من قبله (مُختارات من الشّعرِ الرّوسيّ)، جعلنا أمامَ ضربين لهذهِ الغُربة المُلازمة لها بصورةٍ دائمةٍ والتّي تؤجّج شاعريتها، وينبغي أن يعرفَ الجميع بادئ ذي بدء أن الشّاعرة الرّوسيّة عاشت غربتين رهيبتين طيلة حياتها، أوّلهما غُربتها الفكريّة، كونها شاعرةٌ برزت من أفقٍ لَمْ يعدّ مرغوبًا وجليًّا وقضي أن يغلقَ إلى الأبد - على حدِّ تعبير حسب الشّيخ- وهو يتداخلُ مع غُربتها الأُخرى وهي الزّمنيّة وبمعنى غيرِ بعيدٍ بل قريبٍ يرتبطُ مع غربةِ الفكرِ، وما المُعاش في الحينِ ذاكَ سوى نتاجِ الأفكار والخيال وتكوين الرؤى ووجهات النّظر من منظورٍ ما!
وما كانت سوى شبحٍ منفيّ وتمّ تأطيرها من قبلُ الأعين بهذا الشّكلِ، كانت في عالمٍ غير عالمها المُراد والّتي ترغبُ بهِ وتطالبُ بنيلهِ وإن طالَ الزّمان وعذابهُ الفتَّاك والمُهلك للمرءِ في مرورِ الأيّام، وبتعبير حسب الشّيخ (إنها في عالمٍ غير عالمها الرّوحيّ)، ولفرادتها الشّخصيّة الحقيقيّة وبراعتها الأسلوبيّة مع بهائها الأخّاذ، حاوطتها حملات انتقاديّة فائقة المعقول، وهي حملات إعلانية مُستمرة، تتخذُ من حزنها وتشاؤمها ونصوصها المُترعة بالجَزَع واللّوعات حجةً؛ لتهلكتِها وتهميشها والقضاء عليها. وكل هذا بجانبِ المُحاولات الدَّؤُوبة لاتحاد الكتّاب السّوفيات لطردِ أخماتوفا منهُ، ناهيك بإعدام زوجها السّابق. رغمَ أن هذا دفعها إلى أن تعيشَ وتنظّمَ حياتها على مقامٍ وَاجِفٍ ومُضطربٍ، مُتبَرّمٍ، إلّا إنّها حافظت على أصالتها وبصيرتها وأسلوبها الفذّ، مع ذلك الذّوق الأدبيّ والفنّيّ السّامق، باعتبارها شجرةٌ لا تبرحُ مكانها وجذورها.
في قصيدةِ (أنتَ تعلم)، تبدأُ الشّاعرةُ قصيدتها بتذكيرِ الآخر عن شقائها وقيودها المُتَجَبِّرة، الّتي تدفعُها نحوَ طلبِ الموت؛ للخلاصِ والنّجاة، هذهِ الفلسفة، الّتي تبيّن كم أن الموت هو أعظم انتصارات الإنسان، وأهونُ من العيشِ بمشقّةٍ وإمْلاقٍ كالّذي جلسَ تحتَ أشجارِ الخريف ليؤنس بالطبيعةِ ونسيّ ميعاد الخريف وأيلول!
"في قصيدةِ (أنتَ تعلم)، تبدأُ الشّاعرةُ قصيدتها بتذكيرِ الآخر عن شقائها وقيودها المُتَجَبِّرة، الّتي تدفعُها نحوَ طلبِ الموت؛ للخلاصِ والنّجاة، هذهِ الفلسفة، الّتي تبيّن كم أن الموت هو أعظم انتصارات الإنسان" |
أنتَ تعلم أيّة شقيةٍ، مُكبلة أنا
أتضرّع إلى اللّه أن يميتني.
غير أنني أتذكر، حتّى الوجع، كُلّ شيء
عن أرضِ تغيّر الشّحيحة
بعدها تنقلُ لنا مشهدَ الطّائر الغرنيق وهو يقفُ عندَ البئرِ المُحطّمة، هذا الطّائر ذو السّلوك الاجتماعيّ الحرّ، نقيض أخماتوفا المُفردة والوحيدة، فكانَ رمزًا للحزنِ واِلتِماس الحُرّية، كونهُ خارج سرب أقرانهُ وبمفردهِ عندَ بئرٍ عميقة مُفتتة، تدلُّ على الخراب، المُماثل لروحها الذّاوية، مع دوي الماكينات في الحقولِ ورائحة القمم المُوحشة والسّحب الهائجة وكآبة المشهد، وكأنّها تصفُ أعماقها، الشاهقةٌ كالقممِ لكنّها ضبابيّة مُعتِمة، تغلي.
طائر الغرنيق عندَ البئر المنهدمة
والسّحبَ من فوقهِ كزبدِ الغليان الأبيض،
صريرِ الماكنة في الحقول
ورائحة القمم والكآبة..
وفي قصيدةٍ أُخرى لها كانت بعنوان (آه ثانيةً تعود)، تكرّرُ هذا النّوع من الطّيور وتشيرُ إلى سوادِ الحقول، الّتي تريدُ بهِ شيئًا آخرَ وهو ظلام ما هي عليهِ، فترى سوادَ واقعها معكوسًا حتّى على الطّبيعةِ أو هي مَن تعكسُ سوادَ حقيقتها على الطّبيعةِ النّقيّة الزّاهيّة، فردّدت فيها:
لا أتذكرُ غير الحديقةِ الخريفيّةِ النّاعمة الشّفيفة،
وصراخ الغرانيق، والحقولِ السّوداء..
الشّاعر حسب الشّيخ جعفر في كتابٍ مُترجمٍ من قبله (مُختارات من الشّعرِ الرّوسيّ)، جعلنا أمامَ ضربين لهذهِ الغُربة المُلازمة لآنا أخماتوفا والتّي تؤجّج شاعريتها |
ليسَ من الغريبِ أن تختمَ القصيدة بأشطرٍ هي كصفيرِ قطارٍ، تُنبه المارَّ بوطأةِ الأنظار المُتحذلقة عليها، النّظرات المُستنكرة لها، العالقة في ذاكرةِ الشّاعرة، وباتت مُقتنعةً بها وتشعرُ أنها تستحقُّها وجديرة بأن تعلقَ في ذهنها وعلى شرفاتِ فُؤَادها، فغدت تشكلها بقصائدها بطرائقٍ يائسة وخافتة، مُتماهية مع الحقيقةِ كريحٍ هادئةٍ تمرُّ ووجهات واسعة باهتة وشاحبة، غير مُضيئةٍ ومُتوهّجة، فتصيغُها لنا بهذهِ الهيئة:
وتلكَ الجهاتِ الفسيحة الباهتة،
حيثُ الرّيح نفسها خافتةً تمرُّ
ونساء القرية الهادئات، المُلوّحات
يلقين عليّ نظراتِ استنكار!
تكادُ في الشّطرِ الأخير مُمتقعة الوجه وهي تلمحُ حتّى الأُناس الأشدّ هدوءًا ووداعةً ينكرونها ويرمقوها بشزرٍ، ينفونها وهي بينهم تحدّقُ على تلوّيحاتهم للعابرين والأقرباء، ونقدهم اللّاذع غير العادلِ كما الحياة؛ وهذا من أجلِ غموضٍ وضبابٍ، لا يفهمونه، يجهلون نزعتها الصّوفية ورهافة مُهجتها وميولها، وادّعاءاتهم هي على وفقِ تصوّراتهم ليست هامّةً ولا يجبُ أن تؤخذَ بعينِ الاعتبار.
هذا ما حرّكها فعادت وكتبت عن الأمرِ ذاتهِ في إحدى قصائدها قائلةً:
أعطني من الأتربةِ السّامّة
ما يجعلُني بكماءَ،
وازحْ شهرتي الذّميمة
بالنسيانِ الوضيء.
كانت قصيدة الشّاعرة الأساسيّة (أنتَ تعلم) مبنيةً على خفةٍ وموسيقى وأجراس باطنيّة غير ظاهريّة كُليًّا ممّا أفضى بالقصيدةِ نحوَ الانسياب والتّماشي مع المُفرداتِ بألقٍ وليونة.
نلاحظُ انتقاءها للمعاني وصياغتها المُشرقة للأحداثِ، الصّياغة الدّاحضة للضجرِ والالتباس المُلبِّك.
وحتّى في بقيةِ المقاطع الشّعريّة، الّتي تلت القصيدة الأوّلى وشرعت بكشفها بسِمَةٍ أكبر، نلتمسُ سهولةَ تركيبها وبريقها الأسلوبيّ، وخفتها النّاتجة عن موسيقى وتناغم الشّجن الأبديّ لقلبِ أخماتوفا، ووصفها لمشاعر الإنسان الفعليّة، هذهِ المشاعر المُتولِّدة من مأساةِ الوجود، تعلن عن واقعيتها وواقع غيرها من الّذين ينازعونَ للبقاءِ والعيش بفضاءٍ أقلِّ ضنى، وفسحةً لا تجثمُ عليهم بانبثاقاتٍ فُجائيّةٍ مُنهكة ومُكَدَرة لجسدِ المرء.
لا نستطيعُ أن نخفي أثر هذا الماضي والأسى في قصائدَ أخماتوفا، فقوّة شاعريتها تكمنُ في استحضار مآسيها ويأسها ونحيبها وتوظيفها لهُم من خلالِ مُفردات الخيبة المُتتالية في يومياتها والجمل الحادّة القصيرة، بيد أن هذا أدى بها في بعضِ مواطن بيت القصيد إلى الإسهاب واستهلاك الصّور الشّعريّة والتّرداد، فتبدو لي رتيبة وبديلًا عن ينابيع إبداعها وفكرها الحيويّ المُشتعل، فلَمْ تحرص الشّاعرة على خروجها من ميدانِ ما اعتادت عليهِ في تجربتها الشّعريّة إلّا ما ندر ورُبّما التّرجمات العديدة تضيفُ شيئًا من نكهةِ المنفى والأنين ولذّة الألم على النّصّ الأصليّ، باعتبارِهم وقعوا في فخِ سيرتها التّعسة المُناقضة للبهجةِ.
ومن ناحيةٍ مُغايرة لهذا، كانت أخماتوفا أصدق من غيرها عندَ الكتابةِ فهي لَمْ تبالِ بالعزوفِ عن سالف ما كتبت ولبثت تضفي الكثير عليهِ، ناسيةً التّجديد والاستحداث في الموضوعات والمضامين على الدّوام، ماكثةً تعبرُ عن هواجسها وما يختلجُ في أعماقها فضلًا عن أهوائها ووقائع أيّامها وتجرّدها من العبوديّة بسعيها الحثيث للتحرّرِ من كُلِّ شيءٍ ما دامت طوال حياتها تقترنُ بالوجودِ والشّروع بمُغادرةِ العدم لظاهر ما تَطَلُّعت إليهِ عبرَ الاقتران بالطبيعةِ والمُحيط، فأمست قريبةً على القارئ في لحظاتِ التّذمر والتّشاؤم، مُبتعدةً عن ميدان الكذب والزيّف والألاعيب الشّعريّة المُعقّدة، الجارفة للقارئ نحوَ شواطئ الغموض والتّيه سعيًا لكسبِ جولاتٍ أدبيّة مرموقة، وارضاء للقارئ، الباحث عن الرّاحةِ والخدمات الشّعريّة المُحدّدة حسب مزاجهِ، دونَ الأخذِ بالقيمة الأدبيّة وقواعد الشّعر وسمات الشّاعر الأصيل.
"قوّة شاعرية أخماتوفا تكمنُ في استحضار مآسيها ويأسها ونحيبها وتوظيفها لهُم من خلالِ مُفردات الخيبة المُتتالية في يومياتها والجمل الحادّة القصيرة، بيد أن هذا أدى بها في بعضِ مواطن بيت القصيد إلى الإسهاب واستهلاك الصّور الشّعريّة والتّرداد" |
فمثلًا في قصيدةِ (ينهزمُ الألم) نشاهدُ دهشتها إزاء المدن والأمكنة وفرادتها التّعبيريّة:
إنّني لأُحبّ هذهِ البقاع
حُبًّا مكينًا، هادئًا لا فكاكَ منهُ
إن قطرة من حياة المدن في دمي
كقطعةِ جليدٍ في خمرةٍ مزبدة.
وهذا شيءٌ لا يمكن رأبهُ بأيّ شكلٍ
ولَمْ يُذب القيظُ العظيم هذهِ القطعة
أيُّتها القرى الهادئة
يا إشراقةً في مديحي.
وفي قصيدتها (ثانيةً تمنحُ لي) تصف الخريف بأوراقهِ الحمراء، الّذي سيخلدُ أُغنيةَ الأوجاع والتَأَوُّه ويسهمُ في ازديادِ العذاب والعلّل:
لكي تعيشَ طويلًا في ذاكرتي
أُغنيةُ الوداع الأليم
جلبَ الخريف الأسمر بذيلِ ثوبه
أوراقه الحمراء المُتساقطة..
تبقى القصائدُ قلقةً وخائفة ومُتوترة وبعض أشطرها متين وبعضها عاديّ ولكن لا يمكننا أن نتجاوزَ أو ننكرَ كيف أن شعرَ أخماتوفا حيّ، نرى ونسمعُ مشاهدَهُ ورسومه وتحرّكاته؛ ولذلك هي اليوم خالدةٌ، تسيرُ وحيدةً بيننا، تئنُّ مُستيقظةً وهي تتوارى خلفَ كتاباتنا، الّتي تنزفُ وجوُمًا وحيرةً.
لم يكن حزنها عبثًا، وإن طالبت بأن نغفر لها:
اغفرْ لي أنني حزينةً
وقليلًا ما ابتهجتُ بالشمسِ.
اغفرْ لي، اغفرْ لي أنني
تقبلتُ تلكم الزّياراتِ العديدة.
(*) ملاحظة: جميع القصائد في هذهِ المقالة هي من كتابِ (مُختارات من الشّعر الرّوسيّ)، والذي نقله عن الرّوسيّةِ الشّاعر العراقيّ حسب الشّيخ جعفر.
*كاتبة عراقية.