أيام ثقافية في لندن.. تعدّد الأعراق والهويات
بوعلام رمضاني 7 نوفمبر 2022
تغطيات
أول ميكروفون لإذاعة BBC (إلى اليسار)
شارك هذا المقال
حجم الخط
إقبال الشعب البريطاني على كل ما هو ثقافي وفني وحضاري تأكد لي بشكل لا يقبل أدنى طعن بعد زيارتي إلى المتحف البريطاني الذي لا ينفصل ثقافيًا وتاريخيًا ووظيفيًا عن المكتبة الوطنية، كما مر معنا في الحلقة الأولى (26/ 10/ 2022). في هذين المعلمين التاريخيين الشامخين، تتجلى أمثلة عديدة تثبت أن لا شيء يحول الشعب بكافة فئاته بما فيها الفقيرة من اعتبار الثقافة حاجة حتمية في حياة ينشد صاحبها التوازن النفسي والجسماني. إنها كثيرة، وأقتصر على الحاملة رمزيات ثقيلة فقط، ومن بينها مجانية الدخول لأحد أهم متاحف العالم في دولة غير اشتراكية، وتوفير إمكانية مشاهدة مسرحية "جعجعة دون طحن" لشكسبير وقوفًا بسعر رخيص. ذوو الحاجات الخاصة يدخلون المسارح والمتاحف مثلهم مثل الأصحاء بدنيًا بشكل كامل، والسيدة الحامل تدخلها أيضًا مثل الأم الحديثة جدًا التي تشاهد المسرحية محتضنة رضيعها. الزوج، أو الرفيق السليم صحيًا، يدفع الكرسي المتحرك للزوجة، أو الرفيقة. التمتع مجانًا بغناء وعزف فنان على ضفاف نهر التايمز تحت النجوم والقمر على بعد أمتار من مسرح شكسبير، والحصول على بطاقة قراءة مجانية لقضاء ساعات في المكتبة الوطنية، وأمثلة أخرى تؤكد تجذر الحاجة الثقافية في حياة المواطنين الفقراء والأغنياء.
أول متحف وطني عام في العالم
في المتحف الوطني البريطاني الذي يدخله الزوار عبر رواق يضمن الانسياب مثل ما تفعل مياه نهر التايمز، يقف المرء منبهرًا بالاهتمام الذي توليه كافة الشرائح للتاريخ باعتباره المفتاح الأول لشتى أشكال المعرفة. من بين القطع المتحفية التي يقف عندها الزوار في صمت جنائزي قطع المجموعة المكونة من 71 ألف قطعة من حول العالم، والتي أضحت الأساس الذي قام عليه عام 1753 بعد أن أوصى الطبيب وجامع المقتنيات السير هانز سلون الأيرلندي الأصل قبل وفاته بأن تؤول إلى الشعب. بداية المتحف البريطاني، الذي أصبح لاحقًا أول متحف وطني عام في العالم، كانت في قصر مونتياغو الذي يعود إلى القرن السابع عشر، وكان موجودًا ـ حسب دليل المتحف الذي يباع مترجمًا إلى اللغة العربية إلى جانب اللغات العالمية الأخرى ـ في الموقع ذاته، حيث شيّد المبنى الحالي، وهو يتيح إمكانية الدخول المجاني إلى كل الناس المولعين بالدراسة، ومن يحدوهم الفضول. شملت مجموعة سلون الأصلية قطعًا أثرية وعملات نقدية وميداليات، ونماذج من التاريخ الطبيعي، بالإضافة إلى مكتبة ضخمة في الثمانينيات من القرن التاسع عشر. تم نقل مجموعة التاريخ الطبيعي إلى ساوث كنزنغتون، في حين نقلت المكتبة إلى موقع آخر عام 1997. حاليًا، تضم ممتلكات المتحف ما يزيد على 8 ملايين قطعة تغطي تاريخ ثقافات العالم، بدءًا من الأدوات الحجرية التي استخدمها الإنسان القديم، إلى مطبوعات القرن الحادي والعشرين. الدليل الذي اشتريته بسعر 6 يورو قمة في الطبع، ويمكن وضعه في مكتبة مثله مثل أي كتاب فاخر المظهر، ولا بد للزائر غير المتسرع من اقتنائه باعتباره وسيلة عملية فعالة تساعده على تنظيم زيارته والتخطيط لها، وهو الذي يصحبه نحو أكثر من سبعين قاعة تضم مجموعات هائلة من القطع الاستثنائية. الساحة الكبرى التي تستقبل الزوار توحي بالجلال والهيبة بكل المعايير، وأول ما يلفت الانتباه فيها قاعة القراءة التي صممت في شكل قبة زجاجية صممت عام 1757 (وليس عام 1857، وهو الخطأ الذي لاحظناه في الدليل، والذي نتج عن قلب رقم 7 مكتوبًا باللغة العربية)، وهي واحدة من الأجنحة الأربعة التي تشكل أساس المبنى الحالي الذي صمم عام 1723.
قاعة القراءة كانت في الأصل مكتبة المتحف، وتُعدُّ واحدة من أعظم معالم لندن، وذاعت شهرتها كمركز عالمي للدراسة، حيث ارتادها كبار القراء، من أمثال برام ستوكر، والسير آرثر كونان دوبل، وحتى لينين. أصبحت قاعة القراءة اليوم محاطة بالساحة الكبرى التي أضيفت عام 2000، وصمّم اللورد نورمان فوستو هذه المساحة التي حولت الفناء الداخلي للمتحف إلى أكبر ساحة عامة مغطاة في أوروبا.
نتيجة الاستعمار البريطاني
استقبل المتحف الوطني البريطاني الذي يقع في شارع راسل العظيم على امتداد 750 ألف متر مربع العام الماضي حوالي مليون ونصف مليون زائر، وتوسع على مدى الـ250 عامًا التالية نتيجة الاستعمار البريطاني إلى حد كبير، وأدى ذلك إلى انشاء مؤسسات فرعية له، مثل متحف التاريخ الطبيعي في عام 1881، والذي مررت أمامه منهكًا قبل أن يغلق أبوابه بقليل بعد زيارتي المكتبة الوطنية، مشاء محترف وحده يستطيع زيارة متاحف لندن ويعود إلى بيته سالمًا. في دليل المتحف المعزز بمطوية داخلية عريضة، نقرأ أن الطوابق العليا تتضمن معارض مصر القديمة، واليونان القديمة، وروما، وآسيا، وأوروبا، وأفريقيا، والشرق الأوسط (لاحظوا معي خلفية التسمية السائرة نحو التحقق بعد الاتفاق اللبناني الإسرائيلي حول ترسيم الحدود البحرية)، وموضوعات التنوير، والمقتنيات العالمية، وإرث إديسون، والحياة والموت، وساعات اليد والحائط، والمال، وما أدراك ما المال، والمطبوعات والرسوم. الطابق الأرضي خصص للأميركيتين، أما السفلي فخصص كاملًا لحاجات الزوار، بما فيها حاجات العناية بالأطفال وإطعامهم، ومتجر يبيع كل التحف الممكنة ذات العلاقة المباشرة بمقتنيات المتحف، وغرفة المعاطف. ويفهم من توفير هذه الخدمات، أن الزوار يرتادون المتحف مع الأبناء وهم في سن الرضاعة والطفولة، وهو الأمر الذي وقفت عنده لحظة وقوع نظري على زائر أجنبي مع طفليه اللذين وقفا مذهولين أمام التماثيل المصرية الضخمة.
إقبال الجمهور القوي يوم زيارتي المتحف لم يسمح لي بالتفرقة بين نسب إقبال جمهور هذا الجناح أو ذاك من فرط الاهتمام شبه المتساوي بكل أجنحة الحضارات بفارق طفيف لصالح جناحي مصر القديمة والشرق الأوسط بوجه عام والتماثيل الآشورية بوجه خاص.
شكسبير رغم النار والأعداء
شكسبير الذي خصصت له حلقة كاملة في علاقته بثقافة بلد أوروبي كبير، طاردني هذه المرة في عقر داره للترفيه عني بشكل لم يسبق منذ أن وطئت قدماي عاصمة وطنه يوم الحادي عشر من الشهر الماضي. استقبلني في المسرح الذي يحمل اسمه ألا وهو "شكسبير غلوب" صاحب التاريخ التليد، والأصلح للتشغيل ليلًا في فصل الصيف بحكم إطلالته على نهر التايمز، وتمكينه الجمهور من استراحة قبالة قوارب السياح الآتين من كل أصقاع الدنيا والمعالم السياسية والتاريخية والسياحية والحضارية. الليلة التي شاهدت فيها مسرحية "جعجعة دون طحن" في ليلة خريفية غير باردة، كان الطقس معتدلًا، الأمر الذي سمح لي أن أخرج إلى بهو المسرح لتناول ما يوقف جوعًا داهمًا بدعوة من الصديق نور، ريثما أعود إلى الفندق. مسرح غلوب وحده يلخص رمزية الرجل الغارق في تاريخ حضارة شعب يذكر مقترنًا باسمه، ولا أدل على ذلك مسرح غلوب الذي بني عام 1599 من قبل شركته، ورجال اللورد تشامبرلين، بعد أن فكك شكسبير وممثلوه المسرح وسرقوه ليلة الاحتفال بعيد المسيح في غياب مالك أرضية المسرح الذي رفض تجديد عقد الإيجار. أعيد بناء المسرح في منطقة ساوثوارك جنوب نهر التايمز، إلى جانب مسارح "الأمل"، و"الوردة"، و"البجعة"، وتم تعميده باسم مسرح غلوب في شكل إليزابيتي. ويعنى بالمسرح الإليزابيتي المسرحيات التي كتبت وأديت في إنكلترا، وفي لندن تحديدًا، من عام 1652، حتى حظر العروض المسرحية عام 1642، وتشمل الفترة حكم الملكة إليزابيث الأولى، ومن هنا جاء اسم المسرح الإليزابيتي. دمر المسرح إثر نشوب حريق مهول بالخطأ في التاسع والعشرين من يوليو/ تموز 1613، وتم بناء مسرح آخر في الموقع نفسه بحلول شهر يونيو/ حزيران 1614 في شكل كوكب يتسع لحوالي 3000 متفرج، وظل مفتوحًا حتى اندلاع الحرب الأهلية الإنكليزية الأولى، حين أغلق البرلمان جميع مسارح لندن بمرسوم مؤرخ في السادس سبتمبر/ أيلول 1642. المسرح الذي اشتهر تاريخيًا باستضافته العديد من مسرحيات اسم صاحبه، يستقبل الجمهور بشعار مكتوب بأحرف لاتينية "العالم مسرح وكل الناس تمثل فيه"، وهو الشعار الذي لا تخطئه عيون العشرات من المتفرجين، كما لاحظت وأنا في طابور طويل لم يدم طويلًا لدقة تنظيم محسوب، مثل دقة ساعة "بيغ بن" اللندنية الشهيرة. أغلق المسرح الشكسبيري عام 1642 المطهرون، أو البيوريتان، أو المتشددون دينيًا، مثل ما تم مع جميع المسارح، وهدم عام 1644. المسرح الحالي بني على بعد 230 مترًا من الموقع التاريخي الأول، وافتتح عام 1977 بشكل مماثل للخطط الإليزابيتية.
متعة "جعجعة"
كتبت عن شكسبير القليل النادر قبل أن أشد الرحال إلى باريس بسبب تأثر معظم المسرحيين العرب ببرتولد بريخت، رائد المسرح الملحمي والثوري، وبالمسرحيين الكبار الروس، والفرق شاسع بين قراءة كاتب عظيم في حجم شكسبير، وبين الحلول ضيفًا على مسرح يحمل اسمه وسط جمهور دفعني إلى الضحك، رغم أنني لم أفهم إلا القسط القليل مما تفوه به ممثلون وممثلات من ذهب ولؤلؤ. عجزي عن فهم اللغة لم يحل دون تمتعي بمسرحية "جعجعة دون طحن". يعني عنوان المسرحية الغارقة في رومانسية كوميدية قوامها الحب المشوب بالغيرة والحسد والدسائس، ما يقابل عندنا في الجزائر مثل "المندبة كبيرة والميت فأر"، أو عند الفرنسيين (أشباه الأشقاء عند البعض والأعداء حتى الآخرة عند البعض الآخر) "الكثير من الضجيج من أجل لا شيء".
المسرحية التي كتبها شكسبير بين عامي 1598 و1599 عند اقترابه منتصف مسيرته الإبداعية، تعد واحدة من أفضل كوميدياته بحكم جمعها بين عناصر المرح القوي وجدية التفكير في الشرف والعار والسياسة داخل البلاط، واستوعبت هذه الحقيقة وأنا أضحك ممثلًا دور الفاهم المزيف بفضل قدرة تمثيلية خارقة ساعدتني على استيعاب مواقف الكوميديا التي نطقت بها المسرحية، وخاصة عند انكشاف أمر المتآمرين والمتآمرات. "جعجعة بلا طحن" تتمحور حول زوجين من العشاق، هما بنديكت وبياتريس، وزوجين ثانويين هما كلوديو وهيرو، والجدال بين بنديكت وبياتريس هو الذي جعل "جعجعة بلا طحن" محبوبة بفضل حبكة شكسبير التي قامت على الطرافة السارة والعداء والمحبة الخالصة والفكاهة والدعابة في الوقت نفسه. ضحكت جنب عون الأمن الذي انغمس في المسرحية على حساب مهمته، وصفّقت وسط جمهور ملأ كل المقاعد والفضاءات جالسًا وواقفًا ومستمتعًا بمسرحية بديعة، رغم طول فصولها الكلاسيكية على إيقاع أزيز طائرات كانت تحلق تحت نجوم محتشمة في ليلة خريفية حالمة.
انتهت زيارتي إلى لندن بدخول مقر قناة "بي بي سي"، التي تأسست عام 1932، ومقابلتي زميلات وزملاء جزائريين وغير جزائريين اختلفوا في مقاربتهم لأسباب غلق القسم العربي الإذاعي مؤخرًا، واتفقوا حول الوقع الوجداني الذي تركه موت صوت إذاعة خرافية ترعرعت أجيال كاملة على إيقاع ورونق وأصالة الكثير من البرامج والشخصيات الإعلامية المرموقة، ومن بينهم نور الدين زورقي، الذي أصبح نجمًا تلفزيونيًا، بعد أن قضى أكثر من عقدين مذيعًا من الطراز الأول. برفقته، زرت مقر التلفزيون الذي حظيت فيه باستقبال حار، وتحدثت للزميلة سامية كراشة، التي حاورتني حول كتابي "أنوار في ليل كورونا". لا يمكن زيارة قناة "بي بي سي" من دون الوقوف أمام تمثال وصور الجنرال ديغول، الذي دعا في خطاب تاريخي عبر أمواجها الشعب الفرنسي إلى المقاومة في 1940، وأمام تمثال الصحافي والكاتب الشهير جورج أورويل. أورويل الروائي الذي اشتهر بروايتي "مزرعة الحيوانات"، و"1984". وحسب المتخصصين، فقد تنبأ في الرواية الثانية بعالم الرقابة الدكتاتورية. عمل صحافيًا في القناة من أغسطس/ آب عام 1941 حتى نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1943، وتوفي عام 1950 عن عمر يناهز السادسة والأربعين، واستضاف كتابًا مرموقين من أمثال ت. إس إليوت.
بهذه المعلومات، أنهي تحقيقي الثقافي عن لندن، التي قال لي عنها محقًا كبير المذيعين، وزميلي المرشد والمترجم نور زروقي: "من الصعب جدًا ألا يندمج المرء في هذه المدينة الرائعة، متعددة الأعراق والهويات وصاحبة البنية الثقافية الخرافية والمبهرة". أخبرني أن عدد المتاحف في لندن يبلغ 173، يتم الدخول إلى معظمها مجانًا، كما أنها عاصمة المكتبات التي بلغ عددها 400، رغم الصعوبات المالية التي عرفتها في الأعوام الأخيرة. والبريطانيون المنحدرون من أصول أجنبية يصنعون مجد لندن الثقافي في لندن. بيد أن ترميم مقر جمعية الشعر لم يسمح لي بدخولها، واكتفيت بالوقوف عند مدخلها الذي قرأت عليه خبر نشرها مجلة شعرية شهرية.
بوعلام رمضاني 7 نوفمبر 2022
تغطيات
أول ميكروفون لإذاعة BBC (إلى اليسار)
شارك هذا المقال
حجم الخط
إقبال الشعب البريطاني على كل ما هو ثقافي وفني وحضاري تأكد لي بشكل لا يقبل أدنى طعن بعد زيارتي إلى المتحف البريطاني الذي لا ينفصل ثقافيًا وتاريخيًا ووظيفيًا عن المكتبة الوطنية، كما مر معنا في الحلقة الأولى (26/ 10/ 2022). في هذين المعلمين التاريخيين الشامخين، تتجلى أمثلة عديدة تثبت أن لا شيء يحول الشعب بكافة فئاته بما فيها الفقيرة من اعتبار الثقافة حاجة حتمية في حياة ينشد صاحبها التوازن النفسي والجسماني. إنها كثيرة، وأقتصر على الحاملة رمزيات ثقيلة فقط، ومن بينها مجانية الدخول لأحد أهم متاحف العالم في دولة غير اشتراكية، وتوفير إمكانية مشاهدة مسرحية "جعجعة دون طحن" لشكسبير وقوفًا بسعر رخيص. ذوو الحاجات الخاصة يدخلون المسارح والمتاحف مثلهم مثل الأصحاء بدنيًا بشكل كامل، والسيدة الحامل تدخلها أيضًا مثل الأم الحديثة جدًا التي تشاهد المسرحية محتضنة رضيعها. الزوج، أو الرفيق السليم صحيًا، يدفع الكرسي المتحرك للزوجة، أو الرفيقة. التمتع مجانًا بغناء وعزف فنان على ضفاف نهر التايمز تحت النجوم والقمر على بعد أمتار من مسرح شكسبير، والحصول على بطاقة قراءة مجانية لقضاء ساعات في المكتبة الوطنية، وأمثلة أخرى تؤكد تجذر الحاجة الثقافية في حياة المواطنين الفقراء والأغنياء.
أول متحف وطني عام في العالم
في المتحف الوطني البريطاني الذي يدخله الزوار عبر رواق يضمن الانسياب مثل ما تفعل مياه نهر التايمز، يقف المرء منبهرًا بالاهتمام الذي توليه كافة الشرائح للتاريخ باعتباره المفتاح الأول لشتى أشكال المعرفة. من بين القطع المتحفية التي يقف عندها الزوار في صمت جنائزي قطع المجموعة المكونة من 71 ألف قطعة من حول العالم، والتي أضحت الأساس الذي قام عليه عام 1753 بعد أن أوصى الطبيب وجامع المقتنيات السير هانز سلون الأيرلندي الأصل قبل وفاته بأن تؤول إلى الشعب. بداية المتحف البريطاني، الذي أصبح لاحقًا أول متحف وطني عام في العالم، كانت في قصر مونتياغو الذي يعود إلى القرن السابع عشر، وكان موجودًا ـ حسب دليل المتحف الذي يباع مترجمًا إلى اللغة العربية إلى جانب اللغات العالمية الأخرى ـ في الموقع ذاته، حيث شيّد المبنى الحالي، وهو يتيح إمكانية الدخول المجاني إلى كل الناس المولعين بالدراسة، ومن يحدوهم الفضول. شملت مجموعة سلون الأصلية قطعًا أثرية وعملات نقدية وميداليات، ونماذج من التاريخ الطبيعي، بالإضافة إلى مكتبة ضخمة في الثمانينيات من القرن التاسع عشر. تم نقل مجموعة التاريخ الطبيعي إلى ساوث كنزنغتون، في حين نقلت المكتبة إلى موقع آخر عام 1997. حاليًا، تضم ممتلكات المتحف ما يزيد على 8 ملايين قطعة تغطي تاريخ ثقافات العالم، بدءًا من الأدوات الحجرية التي استخدمها الإنسان القديم، إلى مطبوعات القرن الحادي والعشرين. الدليل الذي اشتريته بسعر 6 يورو قمة في الطبع، ويمكن وضعه في مكتبة مثله مثل أي كتاب فاخر المظهر، ولا بد للزائر غير المتسرع من اقتنائه باعتباره وسيلة عملية فعالة تساعده على تنظيم زيارته والتخطيط لها، وهو الذي يصحبه نحو أكثر من سبعين قاعة تضم مجموعات هائلة من القطع الاستثنائية. الساحة الكبرى التي تستقبل الزوار توحي بالجلال والهيبة بكل المعايير، وأول ما يلفت الانتباه فيها قاعة القراءة التي صممت في شكل قبة زجاجية صممت عام 1757 (وليس عام 1857، وهو الخطأ الذي لاحظناه في الدليل، والذي نتج عن قلب رقم 7 مكتوبًا باللغة العربية)، وهي واحدة من الأجنحة الأربعة التي تشكل أساس المبنى الحالي الذي صمم عام 1723.
"تضم ممتلكات المتحف ما يزيد على 8 ملايين قطعة تغطي تاريخ ثقافات العالم، بدءًا من الأدوات الحجرية التي استخدمها الإنسان القديم، إلى مطبوعات القرن الحادي والعشرين" |
قاعة القراءة كانت في الأصل مكتبة المتحف، وتُعدُّ واحدة من أعظم معالم لندن، وذاعت شهرتها كمركز عالمي للدراسة، حيث ارتادها كبار القراء، من أمثال برام ستوكر، والسير آرثر كونان دوبل، وحتى لينين. أصبحت قاعة القراءة اليوم محاطة بالساحة الكبرى التي أضيفت عام 2000، وصمّم اللورد نورمان فوستو هذه المساحة التي حولت الفناء الداخلي للمتحف إلى أكبر ساحة عامة مغطاة في أوروبا.
نتيجة الاستعمار البريطاني
استقبل المتحف الوطني البريطاني الذي يقع في شارع راسل العظيم على امتداد 750 ألف متر مربع العام الماضي حوالي مليون ونصف مليون زائر، وتوسع على مدى الـ250 عامًا التالية نتيجة الاستعمار البريطاني إلى حد كبير، وأدى ذلك إلى انشاء مؤسسات فرعية له، مثل متحف التاريخ الطبيعي في عام 1881، والذي مررت أمامه منهكًا قبل أن يغلق أبوابه بقليل بعد زيارتي المكتبة الوطنية، مشاء محترف وحده يستطيع زيارة متاحف لندن ويعود إلى بيته سالمًا. في دليل المتحف المعزز بمطوية داخلية عريضة، نقرأ أن الطوابق العليا تتضمن معارض مصر القديمة، واليونان القديمة، وروما، وآسيا، وأوروبا، وأفريقيا، والشرق الأوسط (لاحظوا معي خلفية التسمية السائرة نحو التحقق بعد الاتفاق اللبناني الإسرائيلي حول ترسيم الحدود البحرية)، وموضوعات التنوير، والمقتنيات العالمية، وإرث إديسون، والحياة والموت، وساعات اليد والحائط، والمال، وما أدراك ما المال، والمطبوعات والرسوم. الطابق الأرضي خصص للأميركيتين، أما السفلي فخصص كاملًا لحاجات الزوار، بما فيها حاجات العناية بالأطفال وإطعامهم، ومتجر يبيع كل التحف الممكنة ذات العلاقة المباشرة بمقتنيات المتحف، وغرفة المعاطف. ويفهم من توفير هذه الخدمات، أن الزوار يرتادون المتحف مع الأبناء وهم في سن الرضاعة والطفولة، وهو الأمر الذي وقفت عنده لحظة وقوع نظري على زائر أجنبي مع طفليه اللذين وقفا مذهولين أمام التماثيل المصرية الضخمة.
"قاعة القراءة كانت في الأصل مكتبة المتحف، وتُعدُّ واحدة من أعظم معالم لندن، وذاعت شهرتها كمركز عالمي للدراسة، حيث ارتادها كبار القراء، من أمثال برام ستوكر، والسير آرثر كونان دوبل، وحتى لينين" |
إقبال الجمهور القوي يوم زيارتي المتحف لم يسمح لي بالتفرقة بين نسب إقبال جمهور هذا الجناح أو ذاك من فرط الاهتمام شبه المتساوي بكل أجنحة الحضارات بفارق طفيف لصالح جناحي مصر القديمة والشرق الأوسط بوجه عام والتماثيل الآشورية بوجه خاص.
شكسبير رغم النار والأعداء
شكسبير الذي خصصت له حلقة كاملة في علاقته بثقافة بلد أوروبي كبير، طاردني هذه المرة في عقر داره للترفيه عني بشكل لم يسبق منذ أن وطئت قدماي عاصمة وطنه يوم الحادي عشر من الشهر الماضي. استقبلني في المسرح الذي يحمل اسمه ألا وهو "شكسبير غلوب" صاحب التاريخ التليد، والأصلح للتشغيل ليلًا في فصل الصيف بحكم إطلالته على نهر التايمز، وتمكينه الجمهور من استراحة قبالة قوارب السياح الآتين من كل أصقاع الدنيا والمعالم السياسية والتاريخية والسياحية والحضارية. الليلة التي شاهدت فيها مسرحية "جعجعة دون طحن" في ليلة خريفية غير باردة، كان الطقس معتدلًا، الأمر الذي سمح لي أن أخرج إلى بهو المسرح لتناول ما يوقف جوعًا داهمًا بدعوة من الصديق نور، ريثما أعود إلى الفندق. مسرح غلوب وحده يلخص رمزية الرجل الغارق في تاريخ حضارة شعب يذكر مقترنًا باسمه، ولا أدل على ذلك مسرح غلوب الذي بني عام 1599 من قبل شركته، ورجال اللورد تشامبرلين، بعد أن فكك شكسبير وممثلوه المسرح وسرقوه ليلة الاحتفال بعيد المسيح في غياب مالك أرضية المسرح الذي رفض تجديد عقد الإيجار. أعيد بناء المسرح في منطقة ساوثوارك جنوب نهر التايمز، إلى جانب مسارح "الأمل"، و"الوردة"، و"البجعة"، وتم تعميده باسم مسرح غلوب في شكل إليزابيتي. ويعنى بالمسرح الإليزابيتي المسرحيات التي كتبت وأديت في إنكلترا، وفي لندن تحديدًا، من عام 1652، حتى حظر العروض المسرحية عام 1642، وتشمل الفترة حكم الملكة إليزابيث الأولى، ومن هنا جاء اسم المسرح الإليزابيتي. دمر المسرح إثر نشوب حريق مهول بالخطأ في التاسع والعشرين من يوليو/ تموز 1613، وتم بناء مسرح آخر في الموقع نفسه بحلول شهر يونيو/ حزيران 1614 في شكل كوكب يتسع لحوالي 3000 متفرج، وظل مفتوحًا حتى اندلاع الحرب الأهلية الإنكليزية الأولى، حين أغلق البرلمان جميع مسارح لندن بمرسوم مؤرخ في السادس سبتمبر/ أيلول 1642. المسرح الذي اشتهر تاريخيًا باستضافته العديد من مسرحيات اسم صاحبه، يستقبل الجمهور بشعار مكتوب بأحرف لاتينية "العالم مسرح وكل الناس تمثل فيه"، وهو الشعار الذي لا تخطئه عيون العشرات من المتفرجين، كما لاحظت وأنا في طابور طويل لم يدم طويلًا لدقة تنظيم محسوب، مثل دقة ساعة "بيغ بن" اللندنية الشهيرة. أغلق المسرح الشكسبيري عام 1642 المطهرون، أو البيوريتان، أو المتشددون دينيًا، مثل ما تم مع جميع المسارح، وهدم عام 1644. المسرح الحالي بني على بعد 230 مترًا من الموقع التاريخي الأول، وافتتح عام 1977 بشكل مماثل للخطط الإليزابيتية.
متعة "جعجعة"
كتبت عن شكسبير القليل النادر قبل أن أشد الرحال إلى باريس بسبب تأثر معظم المسرحيين العرب ببرتولد بريخت، رائد المسرح الملحمي والثوري، وبالمسرحيين الكبار الروس، والفرق شاسع بين قراءة كاتب عظيم في حجم شكسبير، وبين الحلول ضيفًا على مسرح يحمل اسمه وسط جمهور دفعني إلى الضحك، رغم أنني لم أفهم إلا القسط القليل مما تفوه به ممثلون وممثلات من ذهب ولؤلؤ. عجزي عن فهم اللغة لم يحل دون تمتعي بمسرحية "جعجعة دون طحن". يعني عنوان المسرحية الغارقة في رومانسية كوميدية قوامها الحب المشوب بالغيرة والحسد والدسائس، ما يقابل عندنا في الجزائر مثل "المندبة كبيرة والميت فأر"، أو عند الفرنسيين (أشباه الأشقاء عند البعض والأعداء حتى الآخرة عند البعض الآخر) "الكثير من الضجيج من أجل لا شيء".
"إقبال الجمهور القوي يوم زيارتي المتحف لم يسمح لي بالتفرقة بين نسب إقبال جمهور هذا الجناح أو ذاك من فرط الاهتمام شبه المتساوي بكل أجنحة الحضارات بفارق طفيف لصالح جناحي مصر القديمة والشرق الأوسط بوجه عام والتماثيل الآشورية بوجه خاص" |
المسرحية التي كتبها شكسبير بين عامي 1598 و1599 عند اقترابه منتصف مسيرته الإبداعية، تعد واحدة من أفضل كوميدياته بحكم جمعها بين عناصر المرح القوي وجدية التفكير في الشرف والعار والسياسة داخل البلاط، واستوعبت هذه الحقيقة وأنا أضحك ممثلًا دور الفاهم المزيف بفضل قدرة تمثيلية خارقة ساعدتني على استيعاب مواقف الكوميديا التي نطقت بها المسرحية، وخاصة عند انكشاف أمر المتآمرين والمتآمرات. "جعجعة بلا طحن" تتمحور حول زوجين من العشاق، هما بنديكت وبياتريس، وزوجين ثانويين هما كلوديو وهيرو، والجدال بين بنديكت وبياتريس هو الذي جعل "جعجعة بلا طحن" محبوبة بفضل حبكة شكسبير التي قامت على الطرافة السارة والعداء والمحبة الخالصة والفكاهة والدعابة في الوقت نفسه. ضحكت جنب عون الأمن الذي انغمس في المسرحية على حساب مهمته، وصفّقت وسط جمهور ملأ كل المقاعد والفضاءات جالسًا وواقفًا ومستمتعًا بمسرحية بديعة، رغم طول فصولها الكلاسيكية على إيقاع أزيز طائرات كانت تحلق تحت نجوم محتشمة في ليلة خريفية حالمة.
انتهت زيارتي إلى لندن بدخول مقر قناة "بي بي سي"، التي تأسست عام 1932، ومقابلتي زميلات وزملاء جزائريين وغير جزائريين اختلفوا في مقاربتهم لأسباب غلق القسم العربي الإذاعي مؤخرًا، واتفقوا حول الوقع الوجداني الذي تركه موت صوت إذاعة خرافية ترعرعت أجيال كاملة على إيقاع ورونق وأصالة الكثير من البرامج والشخصيات الإعلامية المرموقة، ومن بينهم نور الدين زورقي، الذي أصبح نجمًا تلفزيونيًا، بعد أن قضى أكثر من عقدين مذيعًا من الطراز الأول. برفقته، زرت مقر التلفزيون الذي حظيت فيه باستقبال حار، وتحدثت للزميلة سامية كراشة، التي حاورتني حول كتابي "أنوار في ليل كورونا". لا يمكن زيارة قناة "بي بي سي" من دون الوقوف أمام تمثال وصور الجنرال ديغول، الذي دعا في خطاب تاريخي عبر أمواجها الشعب الفرنسي إلى المقاومة في 1940، وأمام تمثال الصحافي والكاتب الشهير جورج أورويل. أورويل الروائي الذي اشتهر بروايتي "مزرعة الحيوانات"، و"1984". وحسب المتخصصين، فقد تنبأ في الرواية الثانية بعالم الرقابة الدكتاتورية. عمل صحافيًا في القناة من أغسطس/ آب عام 1941 حتى نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1943، وتوفي عام 1950 عن عمر يناهز السادسة والأربعين، واستضاف كتابًا مرموقين من أمثال ت. إس إليوت.
بهذه المعلومات، أنهي تحقيقي الثقافي عن لندن، التي قال لي عنها محقًا كبير المذيعين، وزميلي المرشد والمترجم نور زروقي: "من الصعب جدًا ألا يندمج المرء في هذه المدينة الرائعة، متعددة الأعراق والهويات وصاحبة البنية الثقافية الخرافية والمبهرة". أخبرني أن عدد المتاحف في لندن يبلغ 173، يتم الدخول إلى معظمها مجانًا، كما أنها عاصمة المكتبات التي بلغ عددها 400، رغم الصعوبات المالية التي عرفتها في الأعوام الأخيرة. والبريطانيون المنحدرون من أصول أجنبية يصنعون مجد لندن الثقافي في لندن. بيد أن ترميم مقر جمعية الشعر لم يسمح لي بدخولها، واكتفيت بالوقوف عند مدخلها الذي قرأت عليه خبر نشرها مجلة شعرية شهرية.