"فراشات سوداء".. رواية غريبة كتبت في مسلسل
رشا عمران 3 نوفمبر 2022
تغطيات
ملصق الفيلم والكتاب الأصلي "فراشات سوداء" بالفرنسية
شارك هذا المقال
حجم الخط
قصة غريبة ومشوقة ومليئة بالأحداث المثيرة وغير المتوقعة، تلك القصة التي يقدمها مسلسل فرنسي في ست حلقات طويلة بعنوان "فراشات سوداء" من تأليف وإخراج أوليفييه آبو وبرونو ميرل، ومن بطولة نيكولا دوفتشيل ونيلز أريستروب وأكسيل غرانبيرغر. وهو من إنتاج 2022 ويعرض حاليا على شبكة نتفليكس العالمية.
بداية فإن رمز الفراشة يحمل العديد من الدلالات في معظم الثقافات العالمية، إذ ترمز للتغيرات الكبيرة في حياة الشخص، أو لولادة أو بداية جديدة، وترمز الفراشة السوداء تحديدًا إلى التخلص من رواسب اللاوعي المتراكمة نتيجة أحداث وقعت في الطفولة المبكرة. من هنا فإن عنوان المسلسل يمكنه الإيحاء إلى حد ما بما يمكن أن تكون عليه أحداث الحلقات المليئة بالتفاصيل، والمليئة أيضًا بحضور للفراشات السوداء، سواء في مشاهد عابرة متفرقة أو في مشهد طويل فاتن للبطل حين يعبر بسيارته بين سرب كبير من الفراشات السوداء يدخل بعضها إلى سيارته ويرافق البطل في تنقلاته من مكان لآخر.
أدريان وينكلر هو روائي شاب كان يكتب تحت اسم مودي، لكنه توقف منذ مدة عن كتابة الرواية بسبب شعوره أنه غير موهوب وأن نجاحه الروائي السابق جاء بمض الصدفة، لهذا صار يقبل بأي عمل يكلف به، ومن هنا وافق على العرض الذي قدمه له رجل عجوز يدعى ألبرت ديسيديريو أن يحكي له مذكراته على أن يقوم أدريان بكتابتها بشكل روائي.
تبدأ المذكرات بالحديث عن مراهقين يتيمين وناجيين من الحرب، ألبرت، راوي المذكرات، وسولانج، الفتاة التي أجبرتها والدتها على العمل في البغاء وهي طفلة ومراهقة وتعرضت لشتى أنواع القهر والعنف والتنمر. يطلب أدريان من ألبرت وصف الشخصيات لكنه يرفض ذلك تاركًا لمخيلة أدريان أن تتخيل الشخصيتين في مراهقتهما ثم في شبابهما. من هنا تبدأ الخطوط الدرامية للمسلسل بالسير على عدة أنساق وأزمنة. الخط الرئيسي هو الحاضر حيث تتصاعد العلاقة بين العجوز الوحيد ألبرت والكاتب أدريان المتزوج من امرأة ناجحة تحبه كثيرًا، والابن لأرملة عجوز مات زوجها (والد أدريان) في حادث غامض منذ زمن طويل، وتعمل في جمعية خاصة بالعنف الزوجي. بينما نعود في الزمن لنتابع تفاصيل الرواية التي يكتبها أدريان من خلال مذكرات العجوز ونعيش في تفاصيل العلاقة بين ألبرت وسولانج، لنكتشف أن الشابين كانا يقومان بجرائم قتل رجال يصفهم ألبرت بالمعتدين على النساء من خلال إغواء سولانج لهم أو رضوخها لرغباتهم ثم يقوم ألبرت بقتلهم بطعنة مقص أو سكين، بينما سولانج تصور الجريمة بكاميرا فيديو ثم يمارسان الجنس وهما ملطخان بدم الضحية، دون أن ينسيا أن يأخذا خصلة من شعر كل ضحية، يضعانها في صندوق صغير يخبئانه مع شرائط الفيديو في صالون التجميل الذي تعمل به سولانج في الشتاء. هكذا ينتقل الشابان من مكان إلى آخر في فرنسا خصوصًا في الصيف حيث يجدان ضحاياهما في المنتجعات والبارات والمخيمات، ومع هذا التنقل يزداد عدد الضحايا والجرائم التي لا يتم كشفها ولا التعرف على مرتكبيها.
في خط زمني درامي آخر لدينا كاريل، محقق الشرطة الذي يحاول ربط خيوط تلك الجرائم غير المحلولة التي حدثت في السابق لسبب وحيد هو أنه ابن أحد هؤلاء الضحايا. وسرعان ما يتحول هو أيضًا إلى ضحية حيت يعثر على مكان سكن ألبرت ويذهب إليه محاولًا قتله انتقامًا، لكن ألبرت يتغلب عليه ويسجنه في قبو خفي (دون أن يقتله) بعد أن يأخذ منه هاتفه المحمول ويكتشف من الهاتف أمرا مهما هو ما يجعله يتصل بأدريان أو مودي ليكتب له مذكراته.
حلقات المسلسل الست تتكثف فيها الأحداث إلى حدّ يشعر معه المتابع أنه يريد أن يكمل كل الحلقات في جلسة واحدة، بدون أن يضيع التكثيف خيوط الحبكات الدرامية للمسلسل الذي اعتنى صناعه جيدًا بكل تفصيل وبرمزية كل حدث من الأحداث المفصلية فيه.
في آخر مشهد يجمع أدريان بألبرت، يخبره ألبرت المريض بأمراض عديدة أنه والده، وأنه اكتشف هذا من هاتف الشرطي كاريل، ما يجعل أدريان، الذي أثرت مذكرات ألبرت على حياته وسلوكه بشكل فعلي، يصاب بصدمة تجعله يقتل والده الذي يؤكد له أنه يحمل نفس جيناته. نرى أدريان وهو يبكي ويردد أنه لا يشبه أباه بينما يطبق بالمخدة على أنفاسه ويخنقه في النهاية ويتركه في السرير ويغادر بعد أن يقوم بتنظيف كل شيء كي يبدو موت ألبرت طبيعيًا. ثم ينتقل الزمن الدرامي إلى عام لاحق حيث نرى أدريان وعائلته يعيشون حياة فاخرة بعد أن نالت رواية "الفراشات السوداء" التي كتبها مودي شهرة واسعة وجوائز عديدة جعلت من مودي، مجهول الاسم الحقيقي، أحد أبرز كتاب الرواية المعاصرين.
قتل أدريان أباه البيولوجي في الفيلم، وقتل مودي أباه الكاتب الحقيقي للرواية، هكذا يطبق مودي/ أدريان نظريتين بالغتي الأهمية: نظرية قتل الأب التي اقترحها فرويد كي ينشئ الابن متخففًا من ثقل أبيه وإرثه، ونظرية موت المؤلف التي اقترحها رولان بارت كي يتخفف القارئ من القراءة التلصصية للأدب عبر تحييد شخصية المؤلف عن شخوص عمله.
نكتشف في المسلسل لاحقًا أن سولانج هي القاتلة وأنها لم تمت كما ظن ألبرت، بل أحرقت صالون الحلاقة بكل ما فيه وهربت بالجنين الذي تحمله في بطنها من ألبرت وقصت شعرها لخصل صغيرة لتبدأ حياة جديدة في مكان آخر وتواصل جرائمها بدءًا من زوجها (الذي اعتقد أدريان أنه والده).
ثمة مشاهد عميقة التأثير، فملامح شخصية سولانج التي اخترعها أدريان لا تنطبق على ملامح والدته، أو سولانج الحقيقية، تمر مشاهد سريعة يستعيد فيها أدريان طفولته مع أمه بينما وجهها يتبدل بين سولانج المخترعة وسولانج الحقيقية، وكأن صناع العمل أرادوا للمشاهد أن يتوه بين الحقيقة والواقع، أن يظل حائرًا أيهما الرواية الحقيقية: التي كتبت بناء على مذكرات ألبرت أم التي اكتشفها أدريان لاحقًا؟ ثمة اثنان في الحكاية: قاتل متعطش للدم يرتكب جريمة تلو أخرى وعاشق للقاتل يصلح الأوضاع بعد الجريمة كي لا يكتشف أحد شخصية المجرم. هنا تصبح معرفة من منهما القاتل غير مهمة إلا لضرورة العمل الدرامي، فنحن أمام حالتين بالغتي التطرف، القتل وشهوة الدم لدى أحدهما، والحب الذي لا يتوقف عن الصفح عن الآخر ومجاراة رغباته الوحشية واحتوائه رغم كل ما يدمره هذا الحب في حياة وشخصية المحب. حب دموي بكل معنى الكلمة، حب مميت عنيف ومتوهج وسادي ومازوخي في الآن ذاته.
هذه العلاقة الغرائبية بين الاثنين أنتجت الابن الكاتب، الوارث لجينات الاثنين، للحب وللعنف وللمرض وللتضحية وللتسامح، دون أن يعرف من هو الضحية في كل هذه العلاقة المشوهة والمريضة. لكن هل الكتابة هي شيء آخر؟ أليست ابنة لا وعينا بكل تشوهاته وجماله؟ وربما علينا أن نسأل بعيدًا عن العمل بوصفه دراما تلفزيونية: هل اخترع مودي كل شخصياته بدءًا من أدريان وألبرت وانتهاء بالمحققة التي اكتشفت كل ما حدث؟ يمكن لنا، نحن المشاهدين، أن نخترع أيضًا رؤيتنا الشخصية لهذا المسلسل البديع والقاسي في الآن نفسه، فالعمل كله رواية غريبة تحكي عن روائي كتب رواية غريبة تتوه بين الواقع والخيال. وأنا المشاهدة لحلقاته الست في جلسة واحدة قرأته بوصفه عملًا روائيًا مثيرًا أكثر من كونه مسلسلًا تلفزيونيًا دراميًا مشوقًا.
رشا عمران 3 نوفمبر 2022
تغطيات
ملصق الفيلم والكتاب الأصلي "فراشات سوداء" بالفرنسية
شارك هذا المقال
حجم الخط
قصة غريبة ومشوقة ومليئة بالأحداث المثيرة وغير المتوقعة، تلك القصة التي يقدمها مسلسل فرنسي في ست حلقات طويلة بعنوان "فراشات سوداء" من تأليف وإخراج أوليفييه آبو وبرونو ميرل، ومن بطولة نيكولا دوفتشيل ونيلز أريستروب وأكسيل غرانبيرغر. وهو من إنتاج 2022 ويعرض حاليا على شبكة نتفليكس العالمية.
بداية فإن رمز الفراشة يحمل العديد من الدلالات في معظم الثقافات العالمية، إذ ترمز للتغيرات الكبيرة في حياة الشخص، أو لولادة أو بداية جديدة، وترمز الفراشة السوداء تحديدًا إلى التخلص من رواسب اللاوعي المتراكمة نتيجة أحداث وقعت في الطفولة المبكرة. من هنا فإن عنوان المسلسل يمكنه الإيحاء إلى حد ما بما يمكن أن تكون عليه أحداث الحلقات المليئة بالتفاصيل، والمليئة أيضًا بحضور للفراشات السوداء، سواء في مشاهد عابرة متفرقة أو في مشهد طويل فاتن للبطل حين يعبر بسيارته بين سرب كبير من الفراشات السوداء يدخل بعضها إلى سيارته ويرافق البطل في تنقلاته من مكان لآخر.
أدريان وينكلر هو روائي شاب كان يكتب تحت اسم مودي، لكنه توقف منذ مدة عن كتابة الرواية بسبب شعوره أنه غير موهوب وأن نجاحه الروائي السابق جاء بمض الصدفة، لهذا صار يقبل بأي عمل يكلف به، ومن هنا وافق على العرض الذي قدمه له رجل عجوز يدعى ألبرت ديسيديريو أن يحكي له مذكراته على أن يقوم أدريان بكتابتها بشكل روائي.
"نكتشف أن الشابين كانا يقومان بجرائم قتل رجال يصفهم ألبرت بالمعتدين على النساء من خلال إغواء سولانج لهم أو رضوخها لرغباتهم ثم يقوم ألبرت بقتلهم بطعنة مقص أو سكين، بينما سولانج تصور الجريمة بكاميرا فيديو ثم يمارسان الجنس وهما ملطخان بدم الضحية، دون أن ينسيا أن يأخذا خصلة من شعر كل ضحية" |
في خط زمني درامي آخر لدينا كاريل، محقق الشرطة الذي يحاول ربط خيوط تلك الجرائم غير المحلولة التي حدثت في السابق لسبب وحيد هو أنه ابن أحد هؤلاء الضحايا. وسرعان ما يتحول هو أيضًا إلى ضحية حيت يعثر على مكان سكن ألبرت ويذهب إليه محاولًا قتله انتقامًا، لكن ألبرت يتغلب عليه ويسجنه في قبو خفي (دون أن يقتله) بعد أن يأخذ منه هاتفه المحمول ويكتشف من الهاتف أمرا مهما هو ما يجعله يتصل بأدريان أو مودي ليكتب له مذكراته.
حلقات المسلسل الست تتكثف فيها الأحداث إلى حدّ يشعر معه المتابع أنه يريد أن يكمل كل الحلقات في جلسة واحدة، بدون أن يضيع التكثيف خيوط الحبكات الدرامية للمسلسل الذي اعتنى صناعه جيدًا بكل تفصيل وبرمزية كل حدث من الأحداث المفصلية فيه.
"قتل أدريان أباه البيولوجي في الفيلم، وقتل مودي أباه الكاتب الحقيقي للرواية، هكذا يطبق مودي/ أدريان نظريتين بالغتي الأهمية: نظرية قتل الأب التي اقترحها فرويد كي ينشئ الابن متخففًا من ثقل أبيه وإرثه، ونظرية موت المؤلف التي اقترحها رولان بارت" |
قتل أدريان أباه البيولوجي في الفيلم، وقتل مودي أباه الكاتب الحقيقي للرواية، هكذا يطبق مودي/ أدريان نظريتين بالغتي الأهمية: نظرية قتل الأب التي اقترحها فرويد كي ينشئ الابن متخففًا من ثقل أبيه وإرثه، ونظرية موت المؤلف التي اقترحها رولان بارت كي يتخفف القارئ من القراءة التلصصية للأدب عبر تحييد شخصية المؤلف عن شخوص عمله.
نكتشف في المسلسل لاحقًا أن سولانج هي القاتلة وأنها لم تمت كما ظن ألبرت، بل أحرقت صالون الحلاقة بكل ما فيه وهربت بالجنين الذي تحمله في بطنها من ألبرت وقصت شعرها لخصل صغيرة لتبدأ حياة جديدة في مكان آخر وتواصل جرائمها بدءًا من زوجها (الذي اعتقد أدريان أنه والده).
ثمة مشاهد عميقة التأثير، فملامح شخصية سولانج التي اخترعها أدريان لا تنطبق على ملامح والدته، أو سولانج الحقيقية، تمر مشاهد سريعة يستعيد فيها أدريان طفولته مع أمه بينما وجهها يتبدل بين سولانج المخترعة وسولانج الحقيقية، وكأن صناع العمل أرادوا للمشاهد أن يتوه بين الحقيقة والواقع، أن يظل حائرًا أيهما الرواية الحقيقية: التي كتبت بناء على مذكرات ألبرت أم التي اكتشفها أدريان لاحقًا؟ ثمة اثنان في الحكاية: قاتل متعطش للدم يرتكب جريمة تلو أخرى وعاشق للقاتل يصلح الأوضاع بعد الجريمة كي لا يكتشف أحد شخصية المجرم. هنا تصبح معرفة من منهما القاتل غير مهمة إلا لضرورة العمل الدرامي، فنحن أمام حالتين بالغتي التطرف، القتل وشهوة الدم لدى أحدهما، والحب الذي لا يتوقف عن الصفح عن الآخر ومجاراة رغباته الوحشية واحتوائه رغم كل ما يدمره هذا الحب في حياة وشخصية المحب. حب دموي بكل معنى الكلمة، حب مميت عنيف ومتوهج وسادي ومازوخي في الآن ذاته.
"حلقات المسلسل الست تتكثف فيها الأحداث إلى حد يشعر معه المتابع أنه يريد أن يكمل كل الحلقات في جلسة واحدة، دون أن يضيع التكثيف خيوط الحبكات الدرامية للمسلسل الذي اعتنى صناعه جيدًا بكل تفصيل" |