جائزة "نوبل".. كيف اكتشفنا أن هنالك "كتابة ذاتية"!
حسين بن حمزة 31 أكتوبر 2022
تغطيات
آني إرنو في مهرجان ديلي ليتراتور في روما/ إيطاليا(20/6/2016/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
نعود إلى جائزة نوبل للآداب، وإلى فوز الكاتبة الفرنسية آني إرنو بها، لا لكي نُعيد الكلام عن أحقّيتها بالجائزة، أو عن تفاجئنا باسم الفائز إثر كل دورة لنوبل الآداب. لا، هذه المرة كانت الفائزة معروفة إلى حد ما، ولها عدد من الروايات المترجمة إلى العربية، كما أن لها مواقف إيجابية (لصالحنا) في ما يخصّ القضية الفلسطينية ومسألة العنصرية وهو ما جعل استقبال خبر نيلها للجائزة في العالم العربي يمرّ بسهولة وترحاب أكثر.
حسنًا، لم يُفاجئنا اسم الفائزة، ولكن المفاجأة الأكبر والأخطر جاءت من تفصيل آخر، وهو أن حيثيات منح الجائزة للكاتبة الفرنسية جعلتنا نكتشف شيئًا اسمه "الكتابة الذاتية"، أو السيرة الشخصية. هذا هو سبب عودتنا إلى الحديث عن الجائزة بعدما هدأت ضجة لحظات الإعلان، وما تلاها من ردود فعل سريعة ومباشرة.
موضوع "الكتابة الذاتية"، إلى جوار مفردات أخرى في بيان الجائزة، تم مدحها واقتباسها من دون تدقيق كبير في التغطيات والمتابعات الصحافية السريعة التي كُتبت عن صاحبة "المكان" وعن الجائزة، ولكن الحقيقة أن "الكتابة الذاتية"، وجوانبها الحميمة، ومعها موضوعات مثل جروح "الذاكرة الشخصية"، وخيارات "المصائر الفردية"، وتصدعات "الهوية"، و"القيود الجماعية" عليها، ليست موضع مديح حقيقي وكافٍ في ثقافتنا وفي رؤيتنا إلى الأدب عمومًا، والكتابة الروائية خصوصًا. الذات هي إما شيء نافل ومُبتَأس ومُزدرى تقريبًا، أو أنها شيء قد تجلب الكتابة عنه نوعًا من العار والفضيحة. الكتابة الذاتية أو السيرة الذاتية لا تعني طبعًا وبشكل أوتوماتيكي وجود أشياء وحوادث يخجل الكاتب الكتابة عنها وكشفها للقارئ، ولكنها للأسف تعني للقارئ العربي بشكل حصري تقريبًا أن ثمة جانبًا حياتيًا مظلمًا مليئًا بالأخطاء والتصرفات السيئة التي لا بد أن تدفع أي كاتب عربي إلى تجنّب الخوض فيها، أو الكتابة عنها.
الكاتب العربي نفسه، إلى جانب احتمال أن تكون سيرته الشخصية تتوفر على أشياء وحوادث يخجل بها وتُشعره بالحرج، فإنه يرى في السيرة الشخصية مساحة غير ملائمة، أو غير كافية، لما يفكر، أو يعتقد، أن الرواية يجب أن تنشغل به. ليست السيرة الشخصية، أو الكتابة الذاتية، وحدهما ما "يحتقرهما" الكاتب العربي، بل إنه لا ينظر بتقدير كافٍ حتى إلى الكتابة عن أفراد آخرين غارقين في سِيَرهم الذاتية العادية، وفي حيواتهم العادية. الرواية بالنسبة لأغلب الكتاب العرب لن تجد ما تقتات به هناك. إنهم لا يحبذون الموضوعات الخيطية البسيطة والعادية، لا لأنها أضيق من عوالمهم المتشعبة والمعقدة التي يعتقدون أن الرواية ينبغي أن تكون موجودة فيها فقط، بل لأن أساليبهم ونبراتهم في الكتابة غالبًا ما تكون جاهزة للتشعب والتعقيد مثل الموضوعات التي تشغلهم. وهي موضوعات ينبغي أن تكون مصيرية وتاريخية ومشغولة بقضايا وأسئلة كبرى وحوادث مفصلية. لقد تطورت الرواية العربية طبعًا، وباتت تشغل مساحات وموضوعات مختلفة ومتنوعة، ولكن الرواية بالنسبة لأغلب الكتاب العرب (وبالنسبة لغالبية القراء العرب أيضًا) لا يزال ينبغي لها أن تكون مخصصة للكتابة في موضوعات جدية وعميقة، وهذا يعني أن السيرة الذاتية، أو عوالم الكتابة الحميمة عن الذات، أو حتى ما يُسمى "التخييل الذاتي"، ليست بالعمق المطلوب والجدية الكافية فعلًا. لا يريد الكاتب العربي أن يكتب عن "الشقاء العادي" (وهو عنوان رواية قصيرة ومدهشة لفائز آخر بنوبل الأدب هو بيتر هاندكه)، بل هو مشغول دومًا بشقاء أكبر.. بشقاء المجتمع ككل، بشقاء التاريخ وأسئلته الشقية أيضًا.
مع منح نوبل لصاحبة "الاحتلال"، بدا للكاتب العربي وكأن مانحي الجائزة يتساهلون في شروط الكتابة الروائية، بل إن بعضهم ربما شعر بأن الأكاديمية السويدية تسخر منه ومن مؤلفاته التي قضى أوقاتًا طويلة وصعبة في البحث عن مصادر وتواريخ وصراعات وتحولات مجتمعية وسياسية وثقافية لكتابتها. لقد اكتشف بعض هؤلاء أن نوبل يمكن أن تُمنح لروايات قصيرة وعادية، وحتى سهلة الكتابة، ويمكن إنجازها في وقت قصير مقارنةً بمجلداتهم وصفحات أعمالهم الكثيرة التي يُمضون سنوات في إنجازها.
الرواية العربية، باستثناءات نادرة أشهرها رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، تكاد تنعدم فيها الكتابة الذاتية والسيرة الشخصية، فما بالك بالكتابة بطريقة آني إرنو، وجملتها السردية العادية الخالية تقريبًا من العمق الشعري واللغوي والمجازي. هذه الجملة أيضًا هي ممارسة لا تحظى باحترام وتقدير الكاتب العربي، ولا القارئ العربي أيضًا.
الأمثلة الأهم للرواية العربية عندنا هي الـ"ثلاثية"، و"أولاد حارتنا"، لنجيب محفوظ، الذي يندر أن يلتفت أحد إلى رواية قصيرة ومهمة له عنوانها "حضرة المحترم". هنالك أيضًا "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، الذي يندر أيضًا أن يلتفت أحد إلى رواية قصيرة ومهمة له عنوانها "قصة حب مجوسية". وفي العراق، "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان، الذي نادرًا ما يلتفت أحد إلى رواية قصيرة ومهمة له عنوانها "آلام السيد معروف". وقِسْ على ذلك في روايات بلدان عربية أخرى.
بالنسبة للفرنسية آني إرنو، الكتابة الروائية هي "شغف بسيط" بحسب عنوان رواية قصيرة لها، ولكنه "شغفٌ معقد" بالنسبة للكاتب العربي. هذا هو الفارق!
حسين بن حمزة 31 أكتوبر 2022
تغطيات
آني إرنو في مهرجان ديلي ليتراتور في روما/ إيطاليا(20/6/2016/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
نعود إلى جائزة نوبل للآداب، وإلى فوز الكاتبة الفرنسية آني إرنو بها، لا لكي نُعيد الكلام عن أحقّيتها بالجائزة، أو عن تفاجئنا باسم الفائز إثر كل دورة لنوبل الآداب. لا، هذه المرة كانت الفائزة معروفة إلى حد ما، ولها عدد من الروايات المترجمة إلى العربية، كما أن لها مواقف إيجابية (لصالحنا) في ما يخصّ القضية الفلسطينية ومسألة العنصرية وهو ما جعل استقبال خبر نيلها للجائزة في العالم العربي يمرّ بسهولة وترحاب أكثر.
حسنًا، لم يُفاجئنا اسم الفائزة، ولكن المفاجأة الأكبر والأخطر جاءت من تفصيل آخر، وهو أن حيثيات منح الجائزة للكاتبة الفرنسية جعلتنا نكتشف شيئًا اسمه "الكتابة الذاتية"، أو السيرة الشخصية. هذا هو سبب عودتنا إلى الحديث عن الجائزة بعدما هدأت ضجة لحظات الإعلان، وما تلاها من ردود فعل سريعة ومباشرة.
موضوع "الكتابة الذاتية"، إلى جوار مفردات أخرى في بيان الجائزة، تم مدحها واقتباسها من دون تدقيق كبير في التغطيات والمتابعات الصحافية السريعة التي كُتبت عن صاحبة "المكان" وعن الجائزة، ولكن الحقيقة أن "الكتابة الذاتية"، وجوانبها الحميمة، ومعها موضوعات مثل جروح "الذاكرة الشخصية"، وخيارات "المصائر الفردية"، وتصدعات "الهوية"، و"القيود الجماعية" عليها، ليست موضع مديح حقيقي وكافٍ في ثقافتنا وفي رؤيتنا إلى الأدب عمومًا، والكتابة الروائية خصوصًا. الذات هي إما شيء نافل ومُبتَأس ومُزدرى تقريبًا، أو أنها شيء قد تجلب الكتابة عنه نوعًا من العار والفضيحة. الكتابة الذاتية أو السيرة الذاتية لا تعني طبعًا وبشكل أوتوماتيكي وجود أشياء وحوادث يخجل الكاتب الكتابة عنها وكشفها للقارئ، ولكنها للأسف تعني للقارئ العربي بشكل حصري تقريبًا أن ثمة جانبًا حياتيًا مظلمًا مليئًا بالأخطاء والتصرفات السيئة التي لا بد أن تدفع أي كاتب عربي إلى تجنّب الخوض فيها، أو الكتابة عنها.
""الكتابة الذاتية"، وجوانبها الحميمة، ومعها موضوعات مثل جروح "الذاكرة الشخصية"، وخيارات "المصائر الفردية"، وتصدعات "الهوية"، و"القيود الجماعية" عليها، ليست موضع مديح حقيقي وكافٍ في ثقافتنا وفي رؤيتنا إلى الأدب عمومًا" |
الكاتب العربي نفسه، إلى جانب احتمال أن تكون سيرته الشخصية تتوفر على أشياء وحوادث يخجل بها وتُشعره بالحرج، فإنه يرى في السيرة الشخصية مساحة غير ملائمة، أو غير كافية، لما يفكر، أو يعتقد، أن الرواية يجب أن تنشغل به. ليست السيرة الشخصية، أو الكتابة الذاتية، وحدهما ما "يحتقرهما" الكاتب العربي، بل إنه لا ينظر بتقدير كافٍ حتى إلى الكتابة عن أفراد آخرين غارقين في سِيَرهم الذاتية العادية، وفي حيواتهم العادية. الرواية بالنسبة لأغلب الكتاب العرب لن تجد ما تقتات به هناك. إنهم لا يحبذون الموضوعات الخيطية البسيطة والعادية، لا لأنها أضيق من عوالمهم المتشعبة والمعقدة التي يعتقدون أن الرواية ينبغي أن تكون موجودة فيها فقط، بل لأن أساليبهم ونبراتهم في الكتابة غالبًا ما تكون جاهزة للتشعب والتعقيد مثل الموضوعات التي تشغلهم. وهي موضوعات ينبغي أن تكون مصيرية وتاريخية ومشغولة بقضايا وأسئلة كبرى وحوادث مفصلية. لقد تطورت الرواية العربية طبعًا، وباتت تشغل مساحات وموضوعات مختلفة ومتنوعة، ولكن الرواية بالنسبة لأغلب الكتاب العرب (وبالنسبة لغالبية القراء العرب أيضًا) لا يزال ينبغي لها أن تكون مخصصة للكتابة في موضوعات جدية وعميقة، وهذا يعني أن السيرة الذاتية، أو عوالم الكتابة الحميمة عن الذات، أو حتى ما يُسمى "التخييل الذاتي"، ليست بالعمق المطلوب والجدية الكافية فعلًا. لا يريد الكاتب العربي أن يكتب عن "الشقاء العادي" (وهو عنوان رواية قصيرة ومدهشة لفائز آخر بنوبل الأدب هو بيتر هاندكه)، بل هو مشغول دومًا بشقاء أكبر.. بشقاء المجتمع ككل، بشقاء التاريخ وأسئلته الشقية أيضًا.
مع منح نوبل لصاحبة "الاحتلال"، بدا للكاتب العربي وكأن مانحي الجائزة يتساهلون في شروط الكتابة الروائية، بل إن بعضهم ربما شعر بأن الأكاديمية السويدية تسخر منه ومن مؤلفاته التي قضى أوقاتًا طويلة وصعبة في البحث عن مصادر وتواريخ وصراعات وتحولات مجتمعية وسياسية وثقافية لكتابتها. لقد اكتشف بعض هؤلاء أن نوبل يمكن أن تُمنح لروايات قصيرة وعادية، وحتى سهلة الكتابة، ويمكن إنجازها في وقت قصير مقارنةً بمجلداتهم وصفحات أعمالهم الكثيرة التي يُمضون سنوات في إنجازها.
الرواية العربية، باستثناءات نادرة أشهرها رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، تكاد تنعدم فيها الكتابة الذاتية والسيرة الشخصية، فما بالك بالكتابة بطريقة آني إرنو، وجملتها السردية العادية الخالية تقريبًا من العمق الشعري واللغوي والمجازي. هذه الجملة أيضًا هي ممارسة لا تحظى باحترام وتقدير الكاتب العربي، ولا القارئ العربي أيضًا.
"الرواية العربية، وباستثناءات نادرة، أشهرها رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، تكاد تنعدم فيها الكتابة الذاتية والسيرة الشخصية، فما بالك بالكتابة بطريقة آني إرنو، وجملتها السردية العادية الخالية تقريبًا من العمق الشعري واللغوي والمجازي" |
الأمثلة الأهم للرواية العربية عندنا هي الـ"ثلاثية"، و"أولاد حارتنا"، لنجيب محفوظ، الذي يندر أن يلتفت أحد إلى رواية قصيرة ومهمة له عنوانها "حضرة المحترم". هنالك أيضًا "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، الذي يندر أيضًا أن يلتفت أحد إلى رواية قصيرة ومهمة له عنوانها "قصة حب مجوسية". وفي العراق، "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان، الذي نادرًا ما يلتفت أحد إلى رواية قصيرة ومهمة له عنوانها "آلام السيد معروف". وقِسْ على ذلك في روايات بلدان عربية أخرى.
بالنسبة للفرنسية آني إرنو، الكتابة الروائية هي "شغف بسيط" بحسب عنوان رواية قصيرة لها، ولكنه "شغفٌ معقد" بالنسبة للكاتب العربي. هذا هو الفارق!