أيام ثقافية بلندن.. كيف رحب بي شكسبير وطاردني أيضًا؟
بوعلام رمضاني 26 أكتوبر 2022
تغطيات
تمثال شكسبير أمام متحف كارنيغي في بنسلفانيا (Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
إذا كان هناك ما يميز لندن ثقافيًا عن كل مدن العالم، فإن اسم وليام شكسبير وحده يشكل حقيقة شامخة تميز العاصمة البريطانية ليس بالمعنى التقليدي للفعل فحسب، بل بالمعنى المرادف لرمزية سرمدية تحسد عليها باعتبارها ثروة لا تنضب كما ينضب النفط، وتساهم في تقوية الناتج الاقتصادي القومي، وتزيد قيمتها مع مرور الأيام والشهور والأعوام والقرون. خمسة أيام يتيمة كانت كافية لكاتب هذه السطور لكي يكتشف الخصوصيات الثقافية في عاصمة عالمية زارها أكثر من مرة قبل اليوم لأسباب شخصية وعائلية لم تسمح له بالوقوف عند السحر الثقافي اللندني المتعدد التجليات والخلفيات والأبعاد. شكسبير الذي يجده زائر لندن بطريقة أو بأخرى أينما ولى وجهه، ينافس كل الأسماء الشهيرة، رياضية أو سياسية أو فكرية أو فنية، ولا يطمس ولو لحظة واحدة مهما كبرت أهمية الأحداث المستجدة، حتى وإن تعلق الأمر بحصول هارولد بينتر على جائزة نوبل للآداب أو هدف خرافي لهذا اللاعب أو ذاك، أو برحيل الملكة إليزابيث أو استقالة رئيسة الوزراء في فترة قياسية غير مسبوقة عالميًا. هذا الاسم يحضر في كل المكتبات، وفي كل محطات النقل بما فيها محطات النقل الصغيرة التي يطل فيها عنوة على المسافرين، وهذا ما حدث فعلًا لكاتب هذه السطور وهو ينتظر قطاره في محطة كرويدن صباح يوم خريفي بارد. لم يقرأ خبر برمجة مسرحية "جعجعة دون طحن" في إحدى المطويات الإشهارية التي توضع مجانًا في محطات النقل فقط، وصحيفة "ميترو" التي توزع هي الأخرى مجانًا في مداخل محطات النقل، تناولت الخبر في صفحات ثقافية أهم من مثيلاتها في عدد كبير من الصحف العربية. صحيفة تعج بالإشهار الذي يدر المال على الصحيفة المجانية، وكاتب هذه السطور نفسه تحمس لشراء شفرات حلاقة بثمن رخيص بعد أن قرأ نص الإعلان المغري بفضل حبه لقراءة كل ما يكتب قدر الإمكان.
الملكة لم تنافسه
رحيل الملكة إليزابيث الذي هز مؤخرًا العالم وليس بريطانيا فقط، لم يزعزع هذا الاسم الذي يحتل صدارة الأسماء الشهيرة، والملكة التي زرعت بقوة حية وبقوة أكبر ميتة في نفوس الناشرين والصحافيين والمعلقين الإذاعيين والتلفزيونيين عدوى تنافس شرس لنشر كل أنواع الكتب الممجدة لمنجزها وتركتها، فشلت في طمس اسم المبدع الأكثر رواجًا في العالم. وحتى الكتاب المقدّس، لم يعد قادرًا على طمس اسم شاعر ومسرحي يتهافت البشر على أعماله الشهيرة وغير الشهيرة للتمتع بتراجيدياته وكوميدياته، كما حصل وأنا أشاهد مسرحيته "جعجعة بلا طحن". في هذا المسرح، شاهدت المسرحية في فضاء لا يمكن لإبرة أن تسقط فيه على الأرض من شدة التصاق المتفرجين ببعضهم البعض بمن فيهم أولئك الذين شاهدوا المسرحية واقفين، وحتى أعوان الأمن المكلفين بضمان الأمن، راحوا يتمتعون مثلي، ويتفاعلون مع أداء ممثلين من ذهب، ومثل متفرجين وقفوا في طابور طويل قبل دخولهم مسرح يطل على نهر التايمز البديع. قبل مشاهدتي إحدى أشهر مسرحياته الكوميدية والرومانسية التي كتبها شكسبير بنفس قوة كتابته تراجيدياته الشهيرة، وجدته ينتظرني في مدخل المكتبة البريطانية بتمثاله المهيب، وهو التمثال الذي يواجه الجالس على مقعد نحاسي صمم في شكل كتاب، وشكسبير نفسه استقبلني، وأنا استعد لدخول قطار محطة "كرويدن" لكن بشكل آخر كما مر معنا. تمثال شكسبير من نحت الفنان إدواردو باولوزي الأسكتلندي والإيطالي الأصل (1924 ـ 2005). نحات ورسام بناء ونقاش وصانع أفلام وفنان جرافيك وخزف جداريات ومدرس جامعي ومصمم، وعمل في باريس وأدنبرة وهامبورغ وكولون وبيركلي ولندن بطبيعة الحال. تأثر بالبوب والفن المعاصر وببابلو بيكاسو وتم تكريمه بحصوله على وسام الإمبراطورية البريطانية عام 1967 وميدالية غوته عام 1991. قام بتدريس فن النحت في أكاديمية دير بيلديندين كونست في ميونيخ، وتم انتخابه عضوا في الأكاديمية الملكية، وأصبح النحات الرسمي لجلالة الملكة عام 1968 حتى وفاته، وهي التي منحته لقب فارس عام 1989.
هوغو ينافس شكسبير
بعد شراء تذكرتي ومروري عبر رواق طابور لا يتخطاه أحد مهما كانت صفته، وقراءة صحيفة تستنفد قبل الساعة الحادية عشرة، رحت أتأبط ما استطعت من المطويات الإشهارية التي تحفل بعشرات النشاطات الفكرية والفنية في مختلف أنحاء لندن الشاسعة. الجمهور لم يصطف بأدب وانضباط في طابور لمشاهدة مسرحية "جعجعة دون طحن" فقط، ووقف بقوة لافتة في انتظار عرض مسرحية "البؤساء" الفرنسية لفيكتور هوغو، وهي المسرحية التي كتبها عام 1862، وتعتبر من أعظم الروايات في القرن التاسع عشر والمسرحيات الموسيقية أو التي تصنف ضمن نوع الميوزيكول. لم يكن لدي الوقت الكافي لمشاهدتها وفضلت شكسبير عن هوغو، واكتفيت بمشهد طابور المعجبين بالكاتب والشاعر الفرنسي الكبير من الطابق الأول لأحد الباصات الحمراء، وبوقع نظري على عنوان هذه المسرحية، تكون باريس الأنوار قد لاحقتني في عاصمة شكسبير والضباب.
في حي "إيدجوارد" (البريطاني العربي)، يطل راكب الباصات على المطاعم التي تبث فيك جوعا خرافيا، وخاصة إن كنت من محبي الأكل الشرقي المتنوع مثل تنوع المسرح البريطاني الذي لا يتردد عليه العرب كما يترددون على المطاعم والمحلات التجارية التي تشبه المتاحف إلبريطانية إذا استندنا لمعيار الإقبال.
المكتبة البريطانية أو جنة المعرفة
قبل دخولي المكتبة الوطنية التي تلفت الانتباه ببنايتها الضخمة، لفتت انتباهي مكتبة "هاتشاردس" لصاحبها المؤسس التاريخي جون هاتشارد. المكتبة التي أسست عام 1707 ولها عدة فروع في بريطانيا، لم تغلق أبوابها كما حدث لمكتبات فرنسية قليلة وجزائرية كثيرة (وفي هذا الأمر يستوي أبناء الضفتين المتصارعتين على خلفية التاريخ الاستعماري)، وكما كان متوقعًا، وجدت شكسبير في انتظاري بالجهة الخاصة بالكتب الأدبية والمسرحية. في هذه المكتبة التي أبهرتني بسينوغرافياها الوظيفية وبتصنيفها المذهل لكافة أنواع الكتب، أطل عليّ ألبير كامو الاسم الذي تعظّمه فرنسا أكثر من أي وقت مضى، كما عظّم وما زال يعظّم البريطانيون ملكة خصص لها مدخل المكتبة التاريخية المذكورة التي وقف فيها زبائن كثر لشراء الكتب. المكتبة البريطانية التي قضيت فيها أكثر من ثلاث ساعات، أضحت جنة قراءة بكل المعايير، وشكسبير الذي رحب بي كما لم يرحب بي من قبل في عاصمة وطنه، وجدته في انتظاري مجددًا في مكتبة غير بعيد عن ألبير كامو الذي لا يرقى إلى مستوى سمعة أشهر المسرحيين الإنكليز، لكنه يشرف فرنسا في لندن وفي العالم بأسره بأعماله الروائية والمسرحية وعلى رأسها "الغريب". بعد الخروج من قاعة معرض "كنوز بريطانية" الدائم، يتوجه الزائر حتمًا إلى الطابق الأول الذي يثير الانتباه بمشهد عشرات الطلبة والباحثين الغارقين في شاشات حواسيبهم كصحافيي قاعة تحرير قناة تلفزيونية عالمية يخيم عليها السكون تحت وطأة التركيز والضياع في بحر أخبار لا تسر في معظم الحالات كما هي الحال اليوم، وخاصة في العالم البائس الذي أنتمي إليه للأسف الشديد. قبالة الفضاء المخصص للطلبة والباحثين والمدروس سينوغرافيًا بشكل فني دقيق عام ووظيفي خاص، تطل خزانة مصنوعة من الخشب الفخم والزجاج المدخن، وهي المكتبة التي تضم 65000 مجلد جمعهم الملك جورج الثالث بين أعوام 1763 و1820. المكتبة البريطانية ـ الواقعة في 96 شارع أوستن رود التي دشنتها الملكة إليزابيت الراحلة يوم الخامس والعشرين من حزيران/ يونيو عام 1998 بعد نقلها من المتحف الوطني ـ تمثل رمزية استثنائية قائمة بذاتها، لا تنفصل عن رمزية شكسبير الأكبر الذي يرحب بالزائرين عند مدخلها. ويجدر الذكر في هذا السياق، أن المكتبة قد استقبلت كبار الكتاب البريطانيين والأجانب حينما كان مقرها القديم في المتحف الوطني بحي بلومسبري (سنقف عنده في حلقة أخرى)، ومن بينهم كارل ماركس وفرجينيا وولف.
المكتبة واحدة من أهم مكتبات المراجع في العالم، حيث تضم أكثر من 170 مليون مرجع، وما يقرب من 14 مليون كتاب. تتسلم المكتبة المسؤولة عن الإيداع القانوني نسخًا من جميع الأعمال المنشورة في المملكة المتحدة وفي أيرلندا بما في ذلك الكتب الأجنبية الموزعة في هذه البلدان كما تستحوذ على كتب أجنبية أخرى بميزانية سنوية تقارب 16 مليون جنيه، وتزيد من إجمالي مقتنياتها بنحو 3 ملايين مجلد سنويا، وتعتبر مؤسسة حديثة مقارنة بالمكتبات الوطنية الأخرى. تأسست المكتبة التي تقع شمال غربي لندن وتحاذي محطة القديس بنكراس للسكك الحديدية عام 1973، ولطالما انتشرت مجموعاتها في مستودعات مختلفة، وتستقبل المكتبة الزوار عن طريق الفناء بتمثال شكسبير الذي نحته إدواردو باولوزي كما مر معنا.
"كنوز بريطانية" و"الماغناكارتا"
في هذه المكتبة الخرافية التي يضحي فيها حب البريطانيين للقراءة ضربًا من الشغف غير العادي لكل ما له علاقة بالتاريخ والمخطوطات النادرة الضاربة بجذورها في عمق الحضارات الإنسانية، يأخذ معرض "كنوز بريطانية" كل أسمى المعاني الممكنة. وقفت عند سحره الذي يعد واحدا من النماذج الحية التي تجسد خصوصية مكتبة عالمية بكل المواصفات، علاوة على معرض "ألكسندر الأكبر" الذي افتتح بعد مغادرتي لندن (21 من الشهر الجاري وحتى 19 شباط/ فبراير). يروي معرض "كنوز بريطانية" القصص الرائعة لأكثر من 2000 عام من الخبرة البشرية، ومن بينها قصص "ماغناكارتا" المذهلة. إنها الميثاق الأعظم الذي صدر عام 1215 ولاحقًا بسنة لكن بنسخة ذات أحكام أقل. وصفت هذه الوثيقة، بأنها الميثاق العظيم للحريات في بريطانيا، وتفرض هذه الوثيقة على الملك منحه حريات معينة، وأن لا تكون حريته مطلقة، وأن لا يعاقب أي رجل حر إلا بموجب قانون الدولة الذي ما زال معمولًا به حتى اليوم. يتضمن المعرض أيضا الدفاتر التي تتضمن سير العباقرة من الأدباء والموسيقيين والفنانين والفنانات من أمثال جين أوستن وتشارلز ديكنز وكارين بليتز وجومانا مدليج وكريستين تاك وأنجيلا لورينز وتشارز إغناتيوس سانشو، الكاتب والملحن والناشط المناهض للعبودية، وفرجينيا وولف وليوناردو دافنشي وموزارت ومكارتنين، والملاحظات المخبرية لمارلين مونك وكاثي هولدينج ورواد التشخيص الجيني.
فرقة "البيتلز" الخرافية التي خطفت قلوب الملايين من المعجبين داخل وخارج بريطانيا، حضرت بدورها في معرض "كنوز بريطانية" باعتبارها كنزًا استثنائيًا مقارنة بالكنوز الأخرى.
أقدم مخطوطة قرآنية
المعرض المفتوح للجميع والمجاني يعد سفرًا عبر أفريقيا وآسيا وأوروبا والعالم عبر تاريخ الكتاب والكتب، من بينها الكتب المقدسة بوجه عام ونسخة مذهلة من القرآن الكريم باعتبارها أقدم مخطوطة قرآنية بالمكتبة البريطانية. كان للعلم مساحة معتبرة في المعرض المبهر من خلال جناح العلم والإبتكار عبر المواد التي ألهمت فرنسيس بيكون والعصور والرسوم التوضيحية التشريحية لمايكل أنجلو والرسم التخطيطي الأصلي لفلورنس نايتنجيل وأقدم الخرائط والصور المبهرة، ومن بينها واحدة من أولى صور القمر على الإطلاق. في المعرض الذي يتجول فيه الزوار، كما نتجول في مقبرة تحت وطأة سكون يفرض المشي على أرضية يعتقد أنها مصنوعة من حرير ولؤلؤ وقطن نفيس، حضر شكسبير مجددًا، ووحده شد انتباه كل الزوار بمؤلفاته التاريخية التي عرضت بأبهى وأفخر الحلل. وحضر شاغل الناس في بريطانيا وخارجها من خلال مجسم أول ورقة تمثل نسخة تم تجميعها عام 1623. نقرأ على المجسم، أنه كتب حوالي 37 مسرحية منها 36 احتوتها الورقة الأولى وعرضت معظم مسرحياته في مسرح ذا غلوب الذي يحمل اسمه. وتكمن أهمية الورقة الأولى أو "فيرست فوليو" في احتوائها المسرحيات التي طبعت لأشهر المسرحيين البريطانيين إثر سبعة أعوام من تاريخ وفاته، وأشرف على إنجازها اثنان من أصدقائه وهما جون هيمنج وهنري كونديل، وقسما الورقة الأولى إلى اعمال كوميدية ومآس وتاريخ. وتشير التقديرات إلى أنه تمت طباعة حوالي 750 ورقة أولى، من بينها 233 ورقة معروفة حاليًا وباقية على قيد الحياة في جميع أنحاء العالم، وتمتلك المكتبة البريطانية خمس ورقات. هذا الرجل العظيم الذي مات مجازًا، احتل مساحة خاصة في معرض "كنوز بريطانية"، وطارد كاتب هذه السطور مجددًا، حينما واجهه وهو يقطع جسر الألفية البديع رفقة صديقه الصحافي نور الدين زورقي بعد أن تحول إلى مرشد مراسل "ضفة ثالثة" ومؤرخه ومترجمه تحت النجوم والشمس والغيوم والقمر. مسرح يتأخر الإنسان للوصول إليه مهما بلغ حبه لصاحب أشهر المسرحيات في العالم، وسحر الأضواء المنعكسة على مياه نهر التايمز في ليلة خريفية حالمة لا تسمح التضحية بسمفونية مائية ليست من إبداع البشر.
سيعود زائر لندن الثقافي إلى شكسبير الذي أتحفه بمسرحية "جعجعة بلا طحن" في مسرح جلست فيه متفرجة حاملة رضيعها بين يديها. ولم يفهم عبدكم الضعيف من لغة ممثليها المسرحية إلا بعض الجمل، لكنه استوعب السيطرة الفنية الكاملة على مسرحية غارقة في الحب الرومانسي وفي المواقف الساخرة.
بوعلام رمضاني 26 أكتوبر 2022
تغطيات
تمثال شكسبير أمام متحف كارنيغي في بنسلفانيا (Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
إذا كان هناك ما يميز لندن ثقافيًا عن كل مدن العالم، فإن اسم وليام شكسبير وحده يشكل حقيقة شامخة تميز العاصمة البريطانية ليس بالمعنى التقليدي للفعل فحسب، بل بالمعنى المرادف لرمزية سرمدية تحسد عليها باعتبارها ثروة لا تنضب كما ينضب النفط، وتساهم في تقوية الناتج الاقتصادي القومي، وتزيد قيمتها مع مرور الأيام والشهور والأعوام والقرون. خمسة أيام يتيمة كانت كافية لكاتب هذه السطور لكي يكتشف الخصوصيات الثقافية في عاصمة عالمية زارها أكثر من مرة قبل اليوم لأسباب شخصية وعائلية لم تسمح له بالوقوف عند السحر الثقافي اللندني المتعدد التجليات والخلفيات والأبعاد. شكسبير الذي يجده زائر لندن بطريقة أو بأخرى أينما ولى وجهه، ينافس كل الأسماء الشهيرة، رياضية أو سياسية أو فكرية أو فنية، ولا يطمس ولو لحظة واحدة مهما كبرت أهمية الأحداث المستجدة، حتى وإن تعلق الأمر بحصول هارولد بينتر على جائزة نوبل للآداب أو هدف خرافي لهذا اللاعب أو ذاك، أو برحيل الملكة إليزابيث أو استقالة رئيسة الوزراء في فترة قياسية غير مسبوقة عالميًا. هذا الاسم يحضر في كل المكتبات، وفي كل محطات النقل بما فيها محطات النقل الصغيرة التي يطل فيها عنوة على المسافرين، وهذا ما حدث فعلًا لكاتب هذه السطور وهو ينتظر قطاره في محطة كرويدن صباح يوم خريفي بارد. لم يقرأ خبر برمجة مسرحية "جعجعة دون طحن" في إحدى المطويات الإشهارية التي توضع مجانًا في محطات النقل فقط، وصحيفة "ميترو" التي توزع هي الأخرى مجانًا في مداخل محطات النقل، تناولت الخبر في صفحات ثقافية أهم من مثيلاتها في عدد كبير من الصحف العربية. صحيفة تعج بالإشهار الذي يدر المال على الصحيفة المجانية، وكاتب هذه السطور نفسه تحمس لشراء شفرات حلاقة بثمن رخيص بعد أن قرأ نص الإعلان المغري بفضل حبه لقراءة كل ما يكتب قدر الإمكان.
"رحيل الملكة إليزابيث الذي هز مؤخرًا العالم وليس بريطانيا فقط، لم يزعزع اسم شكسبير الذي يحتل صدارة الأسماء الشهيرة" |
رحيل الملكة إليزابيث الذي هز مؤخرًا العالم وليس بريطانيا فقط، لم يزعزع هذا الاسم الذي يحتل صدارة الأسماء الشهيرة، والملكة التي زرعت بقوة حية وبقوة أكبر ميتة في نفوس الناشرين والصحافيين والمعلقين الإذاعيين والتلفزيونيين عدوى تنافس شرس لنشر كل أنواع الكتب الممجدة لمنجزها وتركتها، فشلت في طمس اسم المبدع الأكثر رواجًا في العالم. وحتى الكتاب المقدّس، لم يعد قادرًا على طمس اسم شاعر ومسرحي يتهافت البشر على أعماله الشهيرة وغير الشهيرة للتمتع بتراجيدياته وكوميدياته، كما حصل وأنا أشاهد مسرحيته "جعجعة بلا طحن". في هذا المسرح، شاهدت المسرحية في فضاء لا يمكن لإبرة أن تسقط فيه على الأرض من شدة التصاق المتفرجين ببعضهم البعض بمن فيهم أولئك الذين شاهدوا المسرحية واقفين، وحتى أعوان الأمن المكلفين بضمان الأمن، راحوا يتمتعون مثلي، ويتفاعلون مع أداء ممثلين من ذهب، ومثل متفرجين وقفوا في طابور طويل قبل دخولهم مسرح يطل على نهر التايمز البديع. قبل مشاهدتي إحدى أشهر مسرحياته الكوميدية والرومانسية التي كتبها شكسبير بنفس قوة كتابته تراجيدياته الشهيرة، وجدته ينتظرني في مدخل المكتبة البريطانية بتمثاله المهيب، وهو التمثال الذي يواجه الجالس على مقعد نحاسي صمم في شكل كتاب، وشكسبير نفسه استقبلني، وأنا استعد لدخول قطار محطة "كرويدن" لكن بشكل آخر كما مر معنا. تمثال شكسبير من نحت الفنان إدواردو باولوزي الأسكتلندي والإيطالي الأصل (1924 ـ 2005). نحات ورسام بناء ونقاش وصانع أفلام وفنان جرافيك وخزف جداريات ومدرس جامعي ومصمم، وعمل في باريس وأدنبرة وهامبورغ وكولون وبيركلي ولندن بطبيعة الحال. تأثر بالبوب والفن المعاصر وببابلو بيكاسو وتم تكريمه بحصوله على وسام الإمبراطورية البريطانية عام 1967 وميدالية غوته عام 1991. قام بتدريس فن النحت في أكاديمية دير بيلديندين كونست في ميونيخ، وتم انتخابه عضوا في الأكاديمية الملكية، وأصبح النحات الرسمي لجلالة الملكة عام 1968 حتى وفاته، وهي التي منحته لقب فارس عام 1989.
هوغو ينافس شكسبير
بعد شراء تذكرتي ومروري عبر رواق طابور لا يتخطاه أحد مهما كانت صفته، وقراءة صحيفة تستنفد قبل الساعة الحادية عشرة، رحت أتأبط ما استطعت من المطويات الإشهارية التي تحفل بعشرات النشاطات الفكرية والفنية في مختلف أنحاء لندن الشاسعة. الجمهور لم يصطف بأدب وانضباط في طابور لمشاهدة مسرحية "جعجعة دون طحن" فقط، ووقف بقوة لافتة في انتظار عرض مسرحية "البؤساء" الفرنسية لفيكتور هوغو، وهي المسرحية التي كتبها عام 1862، وتعتبر من أعظم الروايات في القرن التاسع عشر والمسرحيات الموسيقية أو التي تصنف ضمن نوع الميوزيكول. لم يكن لدي الوقت الكافي لمشاهدتها وفضلت شكسبير عن هوغو، واكتفيت بمشهد طابور المعجبين بالكاتب والشاعر الفرنسي الكبير من الطابق الأول لأحد الباصات الحمراء، وبوقع نظري على عنوان هذه المسرحية، تكون باريس الأنوار قد لاحقتني في عاصمة شكسبير والضباب.
في حي "إيدجوارد" (البريطاني العربي)، يطل راكب الباصات على المطاعم التي تبث فيك جوعا خرافيا، وخاصة إن كنت من محبي الأكل الشرقي المتنوع مثل تنوع المسرح البريطاني الذي لا يتردد عليه العرب كما يترددون على المطاعم والمحلات التجارية التي تشبه المتاحف إلبريطانية إذا استندنا لمعيار الإقبال.
المكتبة البريطانية أو جنة المعرفة
قبل دخولي المكتبة الوطنية التي تلفت الانتباه ببنايتها الضخمة، لفتت انتباهي مكتبة "هاتشاردس" لصاحبها المؤسس التاريخي جون هاتشارد. المكتبة التي أسست عام 1707 ولها عدة فروع في بريطانيا، لم تغلق أبوابها كما حدث لمكتبات فرنسية قليلة وجزائرية كثيرة (وفي هذا الأمر يستوي أبناء الضفتين المتصارعتين على خلفية التاريخ الاستعماري)، وكما كان متوقعًا، وجدت شكسبير في انتظاري بالجهة الخاصة بالكتب الأدبية والمسرحية. في هذه المكتبة التي أبهرتني بسينوغرافياها الوظيفية وبتصنيفها المذهل لكافة أنواع الكتب، أطل عليّ ألبير كامو الاسم الذي تعظّمه فرنسا أكثر من أي وقت مضى، كما عظّم وما زال يعظّم البريطانيون ملكة خصص لها مدخل المكتبة التاريخية المذكورة التي وقف فيها زبائن كثر لشراء الكتب. المكتبة البريطانية التي قضيت فيها أكثر من ثلاث ساعات، أضحت جنة قراءة بكل المعايير، وشكسبير الذي رحب بي كما لم يرحب بي من قبل في عاصمة وطنه، وجدته في انتظاري مجددًا في مكتبة غير بعيد عن ألبير كامو الذي لا يرقى إلى مستوى سمعة أشهر المسرحيين الإنكليز، لكنه يشرف فرنسا في لندن وفي العالم بأسره بأعماله الروائية والمسرحية وعلى رأسها "الغريب". بعد الخروج من قاعة معرض "كنوز بريطانية" الدائم، يتوجه الزائر حتمًا إلى الطابق الأول الذي يثير الانتباه بمشهد عشرات الطلبة والباحثين الغارقين في شاشات حواسيبهم كصحافيي قاعة تحرير قناة تلفزيونية عالمية يخيم عليها السكون تحت وطأة التركيز والضياع في بحر أخبار لا تسر في معظم الحالات كما هي الحال اليوم، وخاصة في العالم البائس الذي أنتمي إليه للأسف الشديد. قبالة الفضاء المخصص للطلبة والباحثين والمدروس سينوغرافيًا بشكل فني دقيق عام ووظيفي خاص، تطل خزانة مصنوعة من الخشب الفخم والزجاج المدخن، وهي المكتبة التي تضم 65000 مجلد جمعهم الملك جورج الثالث بين أعوام 1763 و1820. المكتبة البريطانية ـ الواقعة في 96 شارع أوستن رود التي دشنتها الملكة إليزابيت الراحلة يوم الخامس والعشرين من حزيران/ يونيو عام 1998 بعد نقلها من المتحف الوطني ـ تمثل رمزية استثنائية قائمة بذاتها، لا تنفصل عن رمزية شكسبير الأكبر الذي يرحب بالزائرين عند مدخلها. ويجدر الذكر في هذا السياق، أن المكتبة قد استقبلت كبار الكتاب البريطانيين والأجانب حينما كان مقرها القديم في المتحف الوطني بحي بلومسبري (سنقف عنده في حلقة أخرى)، ومن بينهم كارل ماركس وفرجينيا وولف.
"المكتبة الوطنية واحدة من أهم مكتبات المراجع في العالم، حيث تضم أكثر من 170 مليون مرجع، وما يقرب من 14 مليون كتاب" |
مجسم أول ورقة تمثل نسخة تم تجميعها عام 1623 ونسخة أصلية من ماغناكارتا تعود للعام 1217 في معرض "كنوز بريطانية" |
"كنوز بريطانية" و"الماغناكارتا"
في هذه المكتبة الخرافية التي يضحي فيها حب البريطانيين للقراءة ضربًا من الشغف غير العادي لكل ما له علاقة بالتاريخ والمخطوطات النادرة الضاربة بجذورها في عمق الحضارات الإنسانية، يأخذ معرض "كنوز بريطانية" كل أسمى المعاني الممكنة. وقفت عند سحره الذي يعد واحدا من النماذج الحية التي تجسد خصوصية مكتبة عالمية بكل المواصفات، علاوة على معرض "ألكسندر الأكبر" الذي افتتح بعد مغادرتي لندن (21 من الشهر الجاري وحتى 19 شباط/ فبراير). يروي معرض "كنوز بريطانية" القصص الرائعة لأكثر من 2000 عام من الخبرة البشرية، ومن بينها قصص "ماغناكارتا" المذهلة. إنها الميثاق الأعظم الذي صدر عام 1215 ولاحقًا بسنة لكن بنسخة ذات أحكام أقل. وصفت هذه الوثيقة، بأنها الميثاق العظيم للحريات في بريطانيا، وتفرض هذه الوثيقة على الملك منحه حريات معينة، وأن لا تكون حريته مطلقة، وأن لا يعاقب أي رجل حر إلا بموجب قانون الدولة الذي ما زال معمولًا به حتى اليوم. يتضمن المعرض أيضا الدفاتر التي تتضمن سير العباقرة من الأدباء والموسيقيين والفنانين والفنانات من أمثال جين أوستن وتشارلز ديكنز وكارين بليتز وجومانا مدليج وكريستين تاك وأنجيلا لورينز وتشارز إغناتيوس سانشو، الكاتب والملحن والناشط المناهض للعبودية، وفرجينيا وولف وليوناردو دافنشي وموزارت ومكارتنين، والملاحظات المخبرية لمارلين مونك وكاثي هولدينج ورواد التشخيص الجيني.
فرقة "البيتلز" الخرافية التي خطفت قلوب الملايين من المعجبين داخل وخارج بريطانيا، حضرت بدورها في معرض "كنوز بريطانية" باعتبارها كنزًا استثنائيًا مقارنة بالكنوز الأخرى.
"يروي معرض "كنوز بريطانية" القصص الرائعة لأكثر من 2000 عام من الخبرة البشرية، ومن بينها قصص "ماغناكارتا" المذهلة. إنها الميثاق الأعظم الذي صدر عام 1215 ولاحقًا بسنة لكن بنسخة ذات أحكام أقل" |
المعرض المفتوح للجميع والمجاني يعد سفرًا عبر أفريقيا وآسيا وأوروبا والعالم عبر تاريخ الكتاب والكتب، من بينها الكتب المقدسة بوجه عام ونسخة مذهلة من القرآن الكريم باعتبارها أقدم مخطوطة قرآنية بالمكتبة البريطانية. كان للعلم مساحة معتبرة في المعرض المبهر من خلال جناح العلم والإبتكار عبر المواد التي ألهمت فرنسيس بيكون والعصور والرسوم التوضيحية التشريحية لمايكل أنجلو والرسم التخطيطي الأصلي لفلورنس نايتنجيل وأقدم الخرائط والصور المبهرة، ومن بينها واحدة من أولى صور القمر على الإطلاق. في المعرض الذي يتجول فيه الزوار، كما نتجول في مقبرة تحت وطأة سكون يفرض المشي على أرضية يعتقد أنها مصنوعة من حرير ولؤلؤ وقطن نفيس، حضر شكسبير مجددًا، ووحده شد انتباه كل الزوار بمؤلفاته التاريخية التي عرضت بأبهى وأفخر الحلل. وحضر شاغل الناس في بريطانيا وخارجها من خلال مجسم أول ورقة تمثل نسخة تم تجميعها عام 1623. نقرأ على المجسم، أنه كتب حوالي 37 مسرحية منها 36 احتوتها الورقة الأولى وعرضت معظم مسرحياته في مسرح ذا غلوب الذي يحمل اسمه. وتكمن أهمية الورقة الأولى أو "فيرست فوليو" في احتوائها المسرحيات التي طبعت لأشهر المسرحيين البريطانيين إثر سبعة أعوام من تاريخ وفاته، وأشرف على إنجازها اثنان من أصدقائه وهما جون هيمنج وهنري كونديل، وقسما الورقة الأولى إلى اعمال كوميدية ومآس وتاريخ. وتشير التقديرات إلى أنه تمت طباعة حوالي 750 ورقة أولى، من بينها 233 ورقة معروفة حاليًا وباقية على قيد الحياة في جميع أنحاء العالم، وتمتلك المكتبة البريطانية خمس ورقات. هذا الرجل العظيم الذي مات مجازًا، احتل مساحة خاصة في معرض "كنوز بريطانية"، وطارد كاتب هذه السطور مجددًا، حينما واجهه وهو يقطع جسر الألفية البديع رفقة صديقه الصحافي نور الدين زورقي بعد أن تحول إلى مرشد مراسل "ضفة ثالثة" ومؤرخه ومترجمه تحت النجوم والشمس والغيوم والقمر. مسرح يتأخر الإنسان للوصول إليه مهما بلغ حبه لصاحب أشهر المسرحيات في العالم، وسحر الأضواء المنعكسة على مياه نهر التايمز في ليلة خريفية حالمة لا تسمح التضحية بسمفونية مائية ليست من إبداع البشر.
سيعود زائر لندن الثقافي إلى شكسبير الذي أتحفه بمسرحية "جعجعة بلا طحن" في مسرح جلست فيه متفرجة حاملة رضيعها بين يديها. ولم يفهم عبدكم الضعيف من لغة ممثليها المسرحية إلا بعض الجمل، لكنه استوعب السيطرة الفنية الكاملة على مسرحية غارقة في الحب الرومانسي وفي المواقف الساخرة.