زرقاء اليمامة السويدية.. رحلة تحذير للعالم من النظام البيئي
سناء عبد العزيز 22 نوفمبر 2022
تغطيات
تونبرغ في مؤتمر صحافي لمناقشة تغير المناخ بمدريد(9/12/2019/فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في إحدى أمسيات خريف 2014، جلست مغنية الأوبرا السويدية، ميلينا إرنمان، وزوجها الممثل، سفانتي تونبرغ، على أرضية الحمام الباردة، خائري القوى جراء الحالة التي وصلت إليها ابنتهما. كانت غريتا البالغة من العمر 11 عامًا تبكي طوال الوقت؛ في نومها؛ في طريقها إلى المدرسة؛ في الفصل، وأثناء الفسحة، وقد فتر حماسها للدراسة، وكذلك للكتابة، وكفت عن العزف على البيانو والضحك والكلام، وشيئًا فشيئًا عافت الطعام. تم تشخيص مرضها بمتلازمة أسبرجر، والوسواس القهري، والطفرات الانتقائية، وبعد أن فقدت من وزنها حوالي 22 رطلًا في غضون شهرين، نقلت على الفور إلى المستشفى.
طريق العودة إلى غريتا
تحكي الأم في كتابها "بيتنا مشتعل" الصادر 2020، كيف كانت ابنتها تختفي ببطء في ما يشبه الظلام، وكيف توصلا هي وزوجها الجالسان على أرضية الفسيفساء الصلبة إلى ضرورة تغيير كل شيء، بحثًا عن طريق العودة إلى ابنتهما، بغض النظر عن التكلفة. كان الوضع الذي يزداد تأزمًا يومًا عن يوم يستدعي أكثر من الكلمات والمشاعر، ولا أقل من فسخ عقودهما نهائيًا ريثما تعود غريتا إلى طبيعتها، ويتمكنا من إنقاذ بيتهما الذي بات على وشك الانهيار.
خلال فترة وجيزة، عادت غريتا بمساعدة والديها إلى أهم موضوع كان يستحوذ على خيالها منذ صغرها، وهو محاولة إنقاذ كوكب الأرض. في عام 2018، قررت الفتاة عدم الالتحاق بالمدرسة بعد موجات الحر وحرائق الغابات في السويد، مطالبة الحكومة بالحد من انبعاثات الكربون، وقادت احتجاجًا تحت شعار "إضراب المدارس للمناخ"، حيث واصلت الجلوس وحدها خارج البرلمان خلال ساعات الدوام المدرسي، وسرعان ما لفت انتباه العالم مشهد الفتاة المتكومة على حقيبتها أمام البرلمان، فامتلأت الساحة بغيرها من طلاب المدارس المحتجين على تصرفات الجيل السابق حيال الكارثة الوشيكة. إثر ذلك، قام أكثر من 20 ألف طالب بتنظيم إضرابات في 270 مدينة حول العالم، وهو ما جعل التايم الأميركية تختار غريتا ذات الستة عشر ربيعًا شخصية العام، بعد أن تحولت إلى مصدر إلهام لملايين الأطفال والشباب، لتصبح بذلك أصغر شخصية تختارها المجلة كشخصية للعام منذ أن بدأت هذا التقليد عام 1927. وفي اليوم العالمي للمرأة، تم اختيار غريتا كأهم امرأة في السويد لعام 2019. حصلت أيضًا على جوائز عدة، منها جائزة سفير الضمير المرموقة، وجائزة رايت ليفيلهوود، فضلًا عن منحها دكتوراة فخرية.
إلى من نوجه أصابع الاتهام
بمرور الوقت، أصبحت غريتا رمزًا للشباب المحتجين على تدهور النظام البيئي، ودعيت إلى قمة المناخ المنعقدة في نيويورك 2019. وهناك، أمام 60 زعيمًا من أنحاء العالم، ألقت خطابًا جريئًا هز الرأي العام: "لماذا أنا هنا؟ لا يفترض بي أن أكون هنا، كان من المفترض أن أكون في مدرستي على الجانب الآخر من المحيط، ولكنكم أتيتم بنا نحن الشباب بحثًا عن الأمل، يا لجرأتكم! لقد سرقتم أحلامي وطفولتي بكلامكم الفارغ، ومع ذلك أنا من المحظوظين، الناس تعاني وتموت، النظام البيئي بأكمله ينهار، نحن على أعتاب انقراض جماعي، وكل ما يمكنكم الحديث عنه هو المال والقصص الخيالية عن النمو الاقتصادي الدائم، كيف تجرؤون!".
كان طبيعيًا جدًا ألا تروق كلمات الطفلة المحتقنة بالغضب والدموع لزعماء العالم، وبخاصة لشخصية متغطرسة، مثل دونالد ترامب، الذي ظلت غريتا تسدد إليه طوال الوقت نظرات نارية، وهو المعروف بخروجه من اتفاقية باريس للمناخ استخفافًا بالفكرة برمتها، باعتبارها شيئًا صبيانيًا لن يسمح له بعرقلة طموحه الإقتصادي. على نقيض رأي ترامب، يجادل الكاتب والشاعر الأميركي، وينديل بيري، في مقال له نشر عام 1998، بأنه "في اقتصاد محلي سليم، لن يتحمل المنتجون والمستهلكون تدمير التربة المحلية، أو النظام البيئي، أو مصادر المياه، كتكلفة للإنتاج. لا يمكن إلا لاقتصاد محلي سليم الحفاظ على الطبيعة، ومراعاتها، من ضمن وعي مجتمعي".
وما لبث ترامب الذي تجاوز السبعين أن نفث عن غضبه بالبدء في مناوشة غريتا عبر تويتر، مستهجنًا اختيارها شخصية العام "يا لها من سخافة! على غريتا أن تعمل على السيطرة على غضبها، ثم تذهب بعدها لمشاهدة فيلم قديم مع صديق! اهدئي يا غريتا، اهدئي!".
وعلى طريقتها الشهيرة، ردت غريتا البالغة من العمر 16 عامًا آنذاك بتغيير تعريفها الشخصي على صفحتها إلى "مراهقة تعمل على حل مشكلة إدارة غضبها، والآن هي مسترخية وتشاهد فيلمًا قديمًا مع صديق".
لم يكن ترامب هو الرئيس الوحيد الذي تصطدم به غريتا في مهمتها شبه المستحيلة، فسبق أن اصطدمت بفلاديمير بوتين، والرئيس البرازيلي السابق بولسونارو، وكذلك كبرى المؤسسات المتغولة، متبعة النهج الساخر نفسه في ردها الجارح على الكبار.
ولكنهم لم يعودوا كبارًا
منذ أيام، صدر كتاب للفتاة التي بلغت لتوها التاسعة عشرة، تحت عنوان "كتاب المناخ"، يجمع كل ما كتبته وخبرته بنفسها، ليكون مرشدًا لكل من يرغب في معرفة حجم الكارثة، ووسائل التعتيم المثيرة للغضب، واستهتار الجيل الحالي بمستقبل وأحلام الأجيال القادمة الذين دعتهم من دون مواربة إلى الانضمام إلى ركب منقذي الأرض، بعد أن أفسدها الكبار، مع أنها موئلنا الوحيد، حيث لا أرض أخرى في وسعهم الارتحال إليها عندما يأتي الخراب القادم لا محالة.
لقد رأت ما لم يرغب الباقون في رؤيته. كان الأمر كما لو كانت تستطيع رؤية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من عينيها الزرقاوين، كما زرقاء اليمامة التي كانت تُبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وترى الشخص على بعد يومٍ وليلة؛ والتي في إحدى الحروب المدونة في سجل التاريخ، استتر العدو بفروع الأشجار وحملوها أمامهم، فأنذرت قومها فلم يصدقوها، فلما وصل الأعداء أبادوهم وهدموا بنيانهم. لكن غريتا القرن الواحد والعشرين لا تفكر بالاكتفاء بالتحذير، ولا التلطف في الكلام، لأن مستقبلها الذي لن يكون على ترامب أن يجربه بنفسه، سيكتسح في طريقة البشر والشجر، في الوقت الذي تخشى أن يسألها أولادها في المستقبل، لماذا سكتم حين نهبت الأرض، لما لم تتدخلوا وقت أن كان هنالك متسع؟ يبدو أن هنالك من لا يصدق أننا أمام تحد صعب في مواجهة التغيرات المناخية، ومن يهمه ما هو تحت الأرض أكثر من مستقبل من عليها!
استعانت غريتا في كتابها بمساهمات أكثر من مئة خبير عالمي في مجالاتهم، منهم الاقتصادي توماس بيكيتي، ومدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، والكاتبة نعومي كلاين. بعض مساهماتهم اقتصرت على ملخصات لكتبهم تتناول أحدث موقف بشأن أزمة المناخ، وما يجب القيام به حتى لا نصطدم بحائط سد. إلى جانبهم، تشارك غريتا قصصها الخاصة، مستقصية تدهور الأخضر في جميع أنحاء العالم، وكاشفة عن مدى مكوثنا في قلب الظلام. إنها تحاول رسم صورة كاملة للمشهد المرعب، تساعدنا على التحرك قبل أن نلقى مصير قارة أطلانطس الغارقة، سيما وأن بعض القرى اجتاحتها المياه، ودخلت أبواب المدارس، وأصبح لزامًا على الأطفال في بلد مثل إندونيسيا، على سبيل المثال، الاستماع إلى الدرس وأرجلهم الصغيرة مغمورة في المياه، وفي باكستان تسببت الفيضانات في نزوح 33 مليون شخص، وهو ما ينسحب على كافة الدول الضعيفة تدريجيًا، والانتقال منها إلى الدول القوية لا محالة.
يصف فرانسيس بيكون الطبيعة بالسجين الذي يحجب عنا أسرارًا ثمينة، ويبرر استخلاصنا لتلك الأسرار حتى ولو بالتعذيب، لكن الحقيقة العارية على الصفحات الأولى من أي صحيفة يومية تفضح نتيجة التعذيب غير المدروسة في تغير المناخ، وتآكل التربة، والسُمية المتفشية، واستنفاد طبقات المياه الجوفية، وانقراض الأنواع، وارتفاع منسوب البحار والمحيطات، وهلم جرًّا.
يلخص بيري هذا الموقف بأننا نرتكب أفعالًا "قد نسميها استخدامًا، لكن المستقبل لن ينعتها إلا بالـ "سرقة"''.
أعظم حركة للتغيير في تاريخ البشرية
هدف غريتا يتلخص في تأمين مستقبل آمن للحياة على الأرض بسرعة لم يشهدها العالم من قبل، وهو ما يستدعي مواجهة القوى الهائلة، ليس فقط أباطرة النفط والحكومات، ولكن أيضًا نظام المناخ المتغير في حد ذاته. ورغم عظم المجابهة، وقوة الآخر التي تفوقهم على أرض الواقع، فإن غريتا ترفض اليأس بقدر ما ترفض "الهلاك"، مركزة بدلًا من ذلك على إيجابيات العمل. "ليس هنالك وقت لليأس. لم يفت الأوان أبدًا للبدء في الإنقاذ بقدر استطاعتنا". وتذكرنا أن الدَّين الذي ندين به للماضي مستحق أيضًا للمستقبل، ولكن يجب أن نكون ممتنين لأننا على قيد الحياة الآن، حتى نتمكن من أن نكون جزءًا من أعظم حركة للتغيير في تاريخ البشرية. "لدينا فرصة عظيمة لا يمكن تصورها للبقاء على قيد الحياة في أكثر الأوقات حسمًا في التاريخ. لقد حان الوقت لكي نروي هذه القصة، وربما حتى نغير النهاية. معًا، لا يزال في إمكاننا تجنب أسوأ العواقب".
قامت غريتا بتلوين كتابها كنوع من الترميز باستخدام خطوط المناخ، أو ما يسمى خطوط الاحترار، أو الرسومات الشريطية، وهي عبارة عن رسومات بيانية تستخدم سلسلة من الأشرطة الملونة مرتبة ترتيبًا زمنيًا بصريًا لتصوير اتجاهات درجات الحرارة على المدى الطويل. على ضوئها تمكنت من تقسيم قضايا المناخ زمنيًا بما يسمح للقارئ بمعرفة أساسيات عمل المناخ، قبل الانتقال إلى مرحلة تغير كوكبنا. ثم تركز على كيفية تأثير تغير الكوكب علينا، وما فعلناه باعتبارنا ضالعين في الجريمة حيال هذا التأثير، وتختتم برسالة قوية حول ما يجب القيام به الآن.
اغضب لموت الضياء
معظم العلماء المساهمين في كتاب غريتا اتفقوا على تحميل الوقود الأحفوري الذنب الأكبر في الكارثة، لهذا فضلت غريتا في رحلتها إلى المؤتمر أن تستغرق 15 يومًا على يخت سباق بطول 60 قدمًا يعمل بألواح شمسية وتوربينات تحت الماء، خاليًا تمامًا من الانبعاثات الكربونية، ولا يوجد فيه حمام، أو مطبخ، عابرةً المحيط الأطلنطي من بلايموث، إنكلترا، إلى نيويورك، في محاولة لتطبيق أفكارها عمليًا لأصحاب القرار.
في كتاب غريتا، ترى مارغريت أتوود أن أزمة المناخ متعددة الأبعاد، وأن أي حل لها يجب أن يكون متعدد الأبعاد أيضًا. بينما يجادل سيث كلاين بأنه يمكن أن يؤدي التواصل الأفضل إلى نتائج أفضل "من حيث التكرار والنبرة، بالقول والفعل، تحتاج حالات الطوارئ إلى الظهور كحالات طوارئ. أفضل ما نتذكره من قادة الحرب العالمية الثانية أنهم كانوا محاورين بارزين، كانوا صريحين مع الجمهور بشأن خطورة الأزمة، ومع ذلك تمكنوا من بث الأمل".
أخيرًا، بعد هذه الجولة عبر 400 صفحة، تختتم غريتا كتابها بصور شعرية على غرار أفلام مثل "اليوم الذي وقفت فيه الأرض ساكنة"، ثم بقصيدة ديلان توماس لأبيه في لحظات احتضاره:
"لا تنطلق وديعًا إلى ذلك الليل الطيب
اغضب، اغضب لموت الضياء".
قمة المناخ أم الغسل الأخضر
تزامن صدور كتاب المناخ الذي خصصت كاتبته عائداته للمنظمات الخيرية المعنية بقضايا البيئة، مع بدء مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022، الذي عقد في الفترة من 6 حتى 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 في مدينة شرم الشيخ في مصر. قد لا يكون هذا من قبيل المصادفة، بل وسيلة جيدة للتسويق، وتحويل دائرة الضوء إلى آراء الشباب المتعطشين إلى الحياة، سيما وأنها ترى أن "الاتحاد الأوروبي لن يقوم بتحديث أهدافه المناخية في الوقت المناسب لمؤتمر COP27"، وتشير إلى أنه "عندما ينتهي التركيز الإعلامي خلال المؤتمر، سينتهي الإلحاح، وتعود الأمور إلى ميوعتها"، و"هذه بالضبط الطريقة المثلى لصنع كارثة".
في تصريح نشرته الغارديان البريطانية، أعلنت غريتا عن موقفها من حضور قمة المناخ في مصر، واصفة إياها بمنتدى "الغسل الأخضر"، وهو مصطلح يطلق على تضليل المستهلكين حول الممارسات البيئية للشركة، أو الفوائد البيئية لمنتج، أو خدمة ما. وكانت قد غردت سابقًا للتعبير عن تضامنها مع "سجناء الرأي" المحتجزين في مصر، ووقعت مؤخرًا على عريضة تدعو السلطات المصرية إلى فتح فضاء مدني، والإفراج عن السجناء السياسيين.
المصادر:
https://www.thenewatlantis.com/publi...ure-and-virtue
https://www.goodreads.com/book/show/...e-climate-book
https://www.youtube.com/watch?v=Bypt4H8K5dI
https://en.wikipedia.org/wiki/Greta_Thunberg
https://www.youtube.com/watch?v=PZmRca7Wlhc
https://www.youtube.com/watch?v=wvx40fN_kOc
https://time.com/person-of-the-year-...reta-thunberg/
https://www.theguardian.com/environm...ummit-in-egypt
سناء عبد العزيز 22 نوفمبر 2022
تغطيات
تونبرغ في مؤتمر صحافي لمناقشة تغير المناخ بمدريد(9/12/2019/فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في إحدى أمسيات خريف 2014، جلست مغنية الأوبرا السويدية، ميلينا إرنمان، وزوجها الممثل، سفانتي تونبرغ، على أرضية الحمام الباردة، خائري القوى جراء الحالة التي وصلت إليها ابنتهما. كانت غريتا البالغة من العمر 11 عامًا تبكي طوال الوقت؛ في نومها؛ في طريقها إلى المدرسة؛ في الفصل، وأثناء الفسحة، وقد فتر حماسها للدراسة، وكذلك للكتابة، وكفت عن العزف على البيانو والضحك والكلام، وشيئًا فشيئًا عافت الطعام. تم تشخيص مرضها بمتلازمة أسبرجر، والوسواس القهري، والطفرات الانتقائية، وبعد أن فقدت من وزنها حوالي 22 رطلًا في غضون شهرين، نقلت على الفور إلى المستشفى.
طريق العودة إلى غريتا
غريتا ثونبرغ في محادثة مع كبار علماء المناخ في مؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ في مركز معارض في مدريد (10/ 12/ 2019/ فرانس برس) |
"عادت غريتا بمساعدة والديها إلى أهم موضوع كان يستحوذ على خيالها منذ صغرها، وهو محاولة إنقاذ كوكب الأرض" |
تحكي الأم في كتابها "بيتنا مشتعل" الصادر 2020، كيف كانت ابنتها تختفي ببطء في ما يشبه الظلام، وكيف توصلا هي وزوجها الجالسان على أرضية الفسيفساء الصلبة إلى ضرورة تغيير كل شيء، بحثًا عن طريق العودة إلى ابنتهما، بغض النظر عن التكلفة. كان الوضع الذي يزداد تأزمًا يومًا عن يوم يستدعي أكثر من الكلمات والمشاعر، ولا أقل من فسخ عقودهما نهائيًا ريثما تعود غريتا إلى طبيعتها، ويتمكنا من إنقاذ بيتهما الذي بات على وشك الانهيار.
خلال فترة وجيزة، عادت غريتا بمساعدة والديها إلى أهم موضوع كان يستحوذ على خيالها منذ صغرها، وهو محاولة إنقاذ كوكب الأرض. في عام 2018، قررت الفتاة عدم الالتحاق بالمدرسة بعد موجات الحر وحرائق الغابات في السويد، مطالبة الحكومة بالحد من انبعاثات الكربون، وقادت احتجاجًا تحت شعار "إضراب المدارس للمناخ"، حيث واصلت الجلوس وحدها خارج البرلمان خلال ساعات الدوام المدرسي، وسرعان ما لفت انتباه العالم مشهد الفتاة المتكومة على حقيبتها أمام البرلمان، فامتلأت الساحة بغيرها من طلاب المدارس المحتجين على تصرفات الجيل السابق حيال الكارثة الوشيكة. إثر ذلك، قام أكثر من 20 ألف طالب بتنظيم إضرابات في 270 مدينة حول العالم، وهو ما جعل التايم الأميركية تختار غريتا ذات الستة عشر ربيعًا شخصية العام، بعد أن تحولت إلى مصدر إلهام لملايين الأطفال والشباب، لتصبح بذلك أصغر شخصية تختارها المجلة كشخصية للعام منذ أن بدأت هذا التقليد عام 1927. وفي اليوم العالمي للمرأة، تم اختيار غريتا كأهم امرأة في السويد لعام 2019. حصلت أيضًا على جوائز عدة، منها جائزة سفير الضمير المرموقة، وجائزة رايت ليفيلهوود، فضلًا عن منحها دكتوراة فخرية.
إلى من نوجه أصابع الاتهام
بمرور الوقت، أصبحت غريتا رمزًا للشباب المحتجين على تدهور النظام البيئي، ودعيت إلى قمة المناخ المنعقدة في نيويورك 2019. وهناك، أمام 60 زعيمًا من أنحاء العالم، ألقت خطابًا جريئًا هز الرأي العام: "لماذا أنا هنا؟ لا يفترض بي أن أكون هنا، كان من المفترض أن أكون في مدرستي على الجانب الآخر من المحيط، ولكنكم أتيتم بنا نحن الشباب بحثًا عن الأمل، يا لجرأتكم! لقد سرقتم أحلامي وطفولتي بكلامكم الفارغ، ومع ذلك أنا من المحظوظين، الناس تعاني وتموت، النظام البيئي بأكمله ينهار، نحن على أعتاب انقراض جماعي، وكل ما يمكنكم الحديث عنه هو المال والقصص الخيالية عن النمو الاقتصادي الدائم، كيف تجرؤون!".
"في اليوم العالمي للمرأة، تم اختيار غريتا كأهم امرأة في السويد لعام 2019. حصلت أيضًا على جوائز عدة، منها جائزة سفير الضمير المرموقة، وجائزة رايت ليفيلهوود، فضلًا عن منحها دكتوراة فخرية" |
كان طبيعيًا جدًا ألا تروق كلمات الطفلة المحتقنة بالغضب والدموع لزعماء العالم، وبخاصة لشخصية متغطرسة، مثل دونالد ترامب، الذي ظلت غريتا تسدد إليه طوال الوقت نظرات نارية، وهو المعروف بخروجه من اتفاقية باريس للمناخ استخفافًا بالفكرة برمتها، باعتبارها شيئًا صبيانيًا لن يسمح له بعرقلة طموحه الإقتصادي. على نقيض رأي ترامب، يجادل الكاتب والشاعر الأميركي، وينديل بيري، في مقال له نشر عام 1998، بأنه "في اقتصاد محلي سليم، لن يتحمل المنتجون والمستهلكون تدمير التربة المحلية، أو النظام البيئي، أو مصادر المياه، كتكلفة للإنتاج. لا يمكن إلا لاقتصاد محلي سليم الحفاظ على الطبيعة، ومراعاتها، من ضمن وعي مجتمعي".
وما لبث ترامب الذي تجاوز السبعين أن نفث عن غضبه بالبدء في مناوشة غريتا عبر تويتر، مستهجنًا اختيارها شخصية العام "يا لها من سخافة! على غريتا أن تعمل على السيطرة على غضبها، ثم تذهب بعدها لمشاهدة فيلم قديم مع صديق! اهدئي يا غريتا، اهدئي!".
وعلى طريقتها الشهيرة، ردت غريتا البالغة من العمر 16 عامًا آنذاك بتغيير تعريفها الشخصي على صفحتها إلى "مراهقة تعمل على حل مشكلة إدارة غضبها، والآن هي مسترخية وتشاهد فيلمًا قديمًا مع صديق".
لم يكن ترامب هو الرئيس الوحيد الذي تصطدم به غريتا في مهمتها شبه المستحيلة، فسبق أن اصطدمت بفلاديمير بوتين، والرئيس البرازيلي السابق بولسونارو، وكذلك كبرى المؤسسات المتغولة، متبعة النهج الساخر نفسه في ردها الجارح على الكبار.
ولكنهم لم يعودوا كبارًا
منذ أيام، صدر كتاب للفتاة التي بلغت لتوها التاسعة عشرة، تحت عنوان "كتاب المناخ"، يجمع كل ما كتبته وخبرته بنفسها، ليكون مرشدًا لكل من يرغب في معرفة حجم الكارثة، ووسائل التعتيم المثيرة للغضب، واستهتار الجيل الحالي بمستقبل وأحلام الأجيال القادمة الذين دعتهم من دون مواربة إلى الانضمام إلى ركب منقذي الأرض، بعد أن أفسدها الكبار، مع أنها موئلنا الوحيد، حيث لا أرض أخرى في وسعهم الارتحال إليها عندما يأتي الخراب القادم لا محالة.
"ردت غريتا البالغة من العمر 16 عامًا على تغريدة ترامب آنذاك بتغيير تعريفها الشخصي على صفحتها إلى "مراهقة تعمل على حل مشكلة إدارة غضبها، والآن هي مسترخية وتشاهد فيلمًا قديمًا مع صديق"" |
لقد رأت ما لم يرغب الباقون في رؤيته. كان الأمر كما لو كانت تستطيع رؤية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من عينيها الزرقاوين، كما زرقاء اليمامة التي كانت تُبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وترى الشخص على بعد يومٍ وليلة؛ والتي في إحدى الحروب المدونة في سجل التاريخ، استتر العدو بفروع الأشجار وحملوها أمامهم، فأنذرت قومها فلم يصدقوها، فلما وصل الأعداء أبادوهم وهدموا بنيانهم. لكن غريتا القرن الواحد والعشرين لا تفكر بالاكتفاء بالتحذير، ولا التلطف في الكلام، لأن مستقبلها الذي لن يكون على ترامب أن يجربه بنفسه، سيكتسح في طريقة البشر والشجر، في الوقت الذي تخشى أن يسألها أولادها في المستقبل، لماذا سكتم حين نهبت الأرض، لما لم تتدخلوا وقت أن كان هنالك متسع؟ يبدو أن هنالك من لا يصدق أننا أمام تحد صعب في مواجهة التغيرات المناخية، ومن يهمه ما هو تحت الأرض أكثر من مستقبل من عليها!
استعانت غريتا في كتابها بمساهمات أكثر من مئة خبير عالمي في مجالاتهم، منهم الاقتصادي توماس بيكيتي، ومدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، والكاتبة نعومي كلاين. بعض مساهماتهم اقتصرت على ملخصات لكتبهم تتناول أحدث موقف بشأن أزمة المناخ، وما يجب القيام به حتى لا نصطدم بحائط سد. إلى جانبهم، تشارك غريتا قصصها الخاصة، مستقصية تدهور الأخضر في جميع أنحاء العالم، وكاشفة عن مدى مكوثنا في قلب الظلام. إنها تحاول رسم صورة كاملة للمشهد المرعب، تساعدنا على التحرك قبل أن نلقى مصير قارة أطلانطس الغارقة، سيما وأن بعض القرى اجتاحتها المياه، ودخلت أبواب المدارس، وأصبح لزامًا على الأطفال في بلد مثل إندونيسيا، على سبيل المثال، الاستماع إلى الدرس وأرجلهم الصغيرة مغمورة في المياه، وفي باكستان تسببت الفيضانات في نزوح 33 مليون شخص، وهو ما ينسحب على كافة الدول الضعيفة تدريجيًا، والانتقال منها إلى الدول القوية لا محالة.
يصف فرانسيس بيكون الطبيعة بالسجين الذي يحجب عنا أسرارًا ثمينة، ويبرر استخلاصنا لتلك الأسرار حتى ولو بالتعذيب، لكن الحقيقة العارية على الصفحات الأولى من أي صحيفة يومية تفضح نتيجة التعذيب غير المدروسة في تغير المناخ، وتآكل التربة، والسُمية المتفشية، واستنفاد طبقات المياه الجوفية، وانقراض الأنواع، وارتفاع منسوب البحار والمحيطات، وهلم جرًّا.
يلخص بيري هذا الموقف بأننا نرتكب أفعالًا "قد نسميها استخدامًا، لكن المستقبل لن ينعتها إلا بالـ "سرقة"''.
أعظم حركة للتغيير في تاريخ البشرية
هدف غريتا يتلخص في تأمين مستقبل آمن للحياة على الأرض بسرعة لم يشهدها العالم من قبل، وهو ما يستدعي مواجهة القوى الهائلة، ليس فقط أباطرة النفط والحكومات، ولكن أيضًا نظام المناخ المتغير في حد ذاته. ورغم عظم المجابهة، وقوة الآخر التي تفوقهم على أرض الواقع، فإن غريتا ترفض اليأس بقدر ما ترفض "الهلاك"، مركزة بدلًا من ذلك على إيجابيات العمل. "ليس هنالك وقت لليأس. لم يفت الأوان أبدًا للبدء في الإنقاذ بقدر استطاعتنا". وتذكرنا أن الدَّين الذي ندين به للماضي مستحق أيضًا للمستقبل، ولكن يجب أن نكون ممتنين لأننا على قيد الحياة الآن، حتى نتمكن من أن نكون جزءًا من أعظم حركة للتغيير في تاريخ البشرية. "لدينا فرصة عظيمة لا يمكن تصورها للبقاء على قيد الحياة في أكثر الأوقات حسمًا في التاريخ. لقد حان الوقت لكي نروي هذه القصة، وربما حتى نغير النهاية. معًا، لا يزال في إمكاننا تجنب أسوأ العواقب".
"استعانت غريتا في كتابها بمساهمات أكثر من مئة خبير عالمي في مجالاتهم، منهم الاقتصادي توماس بيكيتي، ومدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، والكاتبة نعومي كلاين" |
قامت غريتا بتلوين كتابها كنوع من الترميز باستخدام خطوط المناخ، أو ما يسمى خطوط الاحترار، أو الرسومات الشريطية، وهي عبارة عن رسومات بيانية تستخدم سلسلة من الأشرطة الملونة مرتبة ترتيبًا زمنيًا بصريًا لتصوير اتجاهات درجات الحرارة على المدى الطويل. على ضوئها تمكنت من تقسيم قضايا المناخ زمنيًا بما يسمح للقارئ بمعرفة أساسيات عمل المناخ، قبل الانتقال إلى مرحلة تغير كوكبنا. ثم تركز على كيفية تأثير تغير الكوكب علينا، وما فعلناه باعتبارنا ضالعين في الجريمة حيال هذا التأثير، وتختتم برسالة قوية حول ما يجب القيام به الآن.
اغضب لموت الضياء
معظم العلماء المساهمين في كتاب غريتا اتفقوا على تحميل الوقود الأحفوري الذنب الأكبر في الكارثة، لهذا فضلت غريتا في رحلتها إلى المؤتمر أن تستغرق 15 يومًا على يخت سباق بطول 60 قدمًا يعمل بألواح شمسية وتوربينات تحت الماء، خاليًا تمامًا من الانبعاثات الكربونية، ولا يوجد فيه حمام، أو مطبخ، عابرةً المحيط الأطلنطي من بلايموث، إنكلترا، إلى نيويورك، في محاولة لتطبيق أفكارها عمليًا لأصحاب القرار.
في كتاب غريتا، ترى مارغريت أتوود أن أزمة المناخ متعددة الأبعاد، وأن أي حل لها يجب أن يكون متعدد الأبعاد أيضًا. بينما يجادل سيث كلاين بأنه يمكن أن يؤدي التواصل الأفضل إلى نتائج أفضل "من حيث التكرار والنبرة، بالقول والفعل، تحتاج حالات الطوارئ إلى الظهور كحالات طوارئ. أفضل ما نتذكره من قادة الحرب العالمية الثانية أنهم كانوا محاورين بارزين، كانوا صريحين مع الجمهور بشأن خطورة الأزمة، ومع ذلك تمكنوا من بث الأمل".
أخيرًا، بعد هذه الجولة عبر 400 صفحة، تختتم غريتا كتابها بصور شعرية على غرار أفلام مثل "اليوم الذي وقفت فيه الأرض ساكنة"، ثم بقصيدة ديلان توماس لأبيه في لحظات احتضاره:
"لا تنطلق وديعًا إلى ذلك الليل الطيب
اغضب، اغضب لموت الضياء".
قمة المناخ أم الغسل الأخضر
تزامن صدور كتاب المناخ الذي خصصت كاتبته عائداته للمنظمات الخيرية المعنية بقضايا البيئة، مع بدء مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022، الذي عقد في الفترة من 6 حتى 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 في مدينة شرم الشيخ في مصر. قد لا يكون هذا من قبيل المصادفة، بل وسيلة جيدة للتسويق، وتحويل دائرة الضوء إلى آراء الشباب المتعطشين إلى الحياة، سيما وأنها ترى أن "الاتحاد الأوروبي لن يقوم بتحديث أهدافه المناخية في الوقت المناسب لمؤتمر COP27"، وتشير إلى أنه "عندما ينتهي التركيز الإعلامي خلال المؤتمر، سينتهي الإلحاح، وتعود الأمور إلى ميوعتها"، و"هذه بالضبط الطريقة المثلى لصنع كارثة".
في تصريح نشرته الغارديان البريطانية، أعلنت غريتا عن موقفها من حضور قمة المناخ في مصر، واصفة إياها بمنتدى "الغسل الأخضر"، وهو مصطلح يطلق على تضليل المستهلكين حول الممارسات البيئية للشركة، أو الفوائد البيئية لمنتج، أو خدمة ما. وكانت قد غردت سابقًا للتعبير عن تضامنها مع "سجناء الرأي" المحتجزين في مصر، ووقعت مؤخرًا على عريضة تدعو السلطات المصرية إلى فتح فضاء مدني، والإفراج عن السجناء السياسيين.
المصادر:
https://www.thenewatlantis.com/publi...ure-and-virtue
https://www.goodreads.com/book/show/...e-climate-book
https://www.youtube.com/watch?v=Bypt4H8K5dI
https://en.wikipedia.org/wiki/Greta_Thunberg
https://www.youtube.com/watch?v=PZmRca7Wlhc
https://www.youtube.com/watch?v=wvx40fN_kOc
https://time.com/person-of-the-year-...reta-thunberg/
https://www.theguardian.com/environm...ummit-in-egypt