قراءة تحليليّة لقصيدة الشّاعر القس جوزيف إيليا: "هكذا فارتفِعْ".
يحلِّقُ الشّاعر القس جوزيف إيليا عالياً، متعانقاً معَ فضاءاتِ السَّلامِ والذّاتِ وكينونةِ الكونِ
صبري يوسف - ستوكهولم،
في قصيدة "هكذا فارتفِعْ" للشاعر القس جوزيف إيليا، نتلمَّسُ مواجهةً عميقةً لذاتِه معَ ذاتِهِ، غائصاً في فضاءِ بوحِ الرّوحِ، واقفاً بكلِّ صلابةٍ في وجهِ التّصدُّعاتِ الّتي نراها تزدادُ تفشِّياً في علاقاتِ الإنسانِ معَ بني جنسِهِ، راغباً أن يطهِّرَها من غبارِ هذا الزَّمانِ، ويصطفيها من اعوجاجاتِ ما يصادفُهُ في هذا الزّمنِ المغبَرِّ بشوائبَ لا تُحصى، مركِّزاً على مسارِ السُّموِّ نحوَ الأعالي، بجموحاتٍ طافحةٍ بأزهى وأصفى آفاقِ التَّجلِّي. تنسابُ الكلمةُ من فضائِهِ الشِّعريِّ، رقراقةً، شفيفةً، كأنَّهُ في حالةِ انتشاءٍ وفي ذروةِ ابتهالِهِ وانبعاثِهِ الشِّعريِّ. تولدُ عندَهُ القصيدةُ مخضّبةً بتساؤلاتٍ مفتوحةٍ على وجنةِ الشَّفقِ، بكلِّ ما فيها من حبورٍ وابتهالٍ، وكأنَّهُ على موعدٍ مع عناقِ الجمالِ وبهاءِ الطَّبيعةِ وتراقصاتِ أمواجِ البحارِ، تولدُ رؤاهُ بآفاقٍ فلسفيّةٍ خلّاقةٍ، مرتكزةً على جوهرِ وجودِ الإنسانِ في الحياةِ، ولا تخلو قصيدةٌ من قصائدِهِ من رؤيةٍ وفكرةٍ عميقةِ الغورِ، فهو شاعرُ الأفكارِ المتعانقةِ معَ فضاءِ السَّلامِ معَ الذّاتِ ومعَ الكونِ، ومعَ الوجودِ، حاملاً مَشعلَ التَّنويرِ والوئامِ فوق أجنحتِهِ، مرفرفاً عالياً عبرَ انبعاثِ جموحِ الحرفِ، ومراهِناً على أنَّ التّغييرَ الأبقى هو للأنقى والأصفى في مرامي الحياةِ. يتحدَّى بكلِّ بسالةٍ عبرَ مسارِهِ الشِّعريِّ والفكريِّ حالةَ الجمودِ والثّباتِ، فهو مجنَّحٌ نحوَ السُّموِّ والارتقاءِ، مسلِّطاً قلمَهُ على حالةِ الانحدارِ الّتي وصلَتْ إليها عوالمُ وتوجُّهاتُ هذا الزّمانِ، لهذا نراهُ محلِّقاً في محرابِ الكلمةِ المبلَّلةِ بنضارةِ النّدى، مغتسلةً من غبارِ الحياةِ، كابحاً الشَّوائبَ الّتي تصادفُهُ في رحلةِ العمرِ، وهو في حالةِ بحثٍ دائمٍ للأرقى والأسمى في رحلةِ إشراقةِ الشِّعرِ، مركِّزاً على نقاوةِ الرًّؤيةِ، وتطهيرِ الذَّاتِ من تخبّصاتِ وتصارعاتِ هذا الزّمانِ، الَّذي غدا تائهاً عن جوهرِ الحياةِ، وانزلقَ في مهبِّ الاشتعالِ، فنرى الشَّاعرَ يواجهُ مسارَ الانحدارِ والاشتعالِ، راغباً أن يجنِّبَ انحرافَ الإنسانِ من هولِ السُّقوطِ في أجيجِ الحروبِ، مخفِّفاً من ضراوةِ الفسادِ ولهيبِ النّيرانِ، زارعاً فوقَ وجنةِ العمرِ حبورَ الجمالِ والبهاءِ، فلا يرى جدوى من كلِّ عنجهياتِ هذا الزّمانِ، وجنوحِهِ نحوَ دهاليزِ الظُّلمِ والفسادِ المعشَّشِ في رؤى الكثيرينَ ممَّن اتخذوا من القبحِ والغدرِ والانحدارِ منهجاً، فلا يرى أجدى من القصيدةِ والكلمةِ الخلّاقةِ تجابهُ انزلاقاتِ هذا الزّمانِ نحوَ قيعانِ الدَّمارِ، كي ينتشلَ هذا الانحدارَ المريرَ من مسارِ الانزلاقِ إلى هاوياتِ الجحيمِ، فلا يرى جدوى من تفاقمِ شراهاتِ العنفِ والحروبِ، إلّا مزيداً من التّشظِّي والانشطارِ نحوَ متاهاتِ الضّياعِ، ويُشهرُ قلمَهُ في وجهِ الخرابِ المستفحلِ فوقَ ربوعِ الدُّنيا، ويصوغُ حرفاً مبلّلاً بأريج ِالجمالِ والتَّطويرِ البنَّاءِ والخلّاقِ، كي يصدَّ لهيبَ الظّلمِ المستشري فوق طينِ الحياةِ. يمتلكُ فلسفةً عميقةً حولَ سيرورةِ الوجودِ، ولا يبخلُ علينا في العطاءِ. ينثرُ رؤاهُ فوقَ قبَّةِ الحياةِ مثلَ رذاذاتِ المطرِ. تتقاطعُ آفاقُهُ معَ أصحابِ الرّؤى الخلّاقةِ الّذينَ يركّزونَ على بناءِ علاقاتِ الإنسانِ معَ أخيهِ الإنسانِ بطريقةٍ إنسانيّةٍ راقيةٍ، بعيداً عن لغةِ العنفِ والقتلِ ولهيبِ الحروبِ. الحياةُ جميلةٌ في إحلالِ رحيقِ السَّلامِ والوئامِ في دنيانا، فكلُّ شيءٍ راحلٌ، ولا تبقى إلّا العطاءاتُ الخلّاقةُ المفيدةُ للبشرِ، وكل ما عداها محضُ سرابٍ وتيهٍ، خاصَّة فيما يتعلَّقُ بالحروبِ الجوفاءِ الَّتي خلخلَتْ أجنحةَ الكونِ وأعادتْهُ قروناً إلى الوراءِ، كأنّنا في هذا السِّياقِ الأهوجِ نعايشُ عصورَ الحجرِ!
لا تفارقُ التَّساؤلاتُ عوالمَ الشّاعرِ، يقفُ بثباتٍ، واثقَ الخطوةِ والحرفِ، ينسجُ حرفاً من صلابةِ حجر الصّوَّانِ، لا يهتمُّ بسيوفِ الغدرِ، صاعداً نحوَ شموخِ القصيدةِ، في أوجِ انتعاشِهِ، متراقصاً على أنغامِ شهوةِ الحرفِ، يرتشفُ فرحاً من نكهةِ النّبيذِ، مجنّحاً نحوَ منائرِ الأعالي في أصفى حالاتِ السُّمُّوِ. يركّزُ على ضياءِ الحرفِ، متشرّباً إشراقةَ الأملِ، الَّذي فيه ما يضيءُ عتمةَ الآتي، متحدِّياً سيوفَ الغزاةِ وضغائِن الظُّلمِ، كابحاً شراهةَ العتمةِ، حاملاً فوقَ مَنكبيهِ ضياءَ الشُّموعِ.
تموجُ القصيدةُ بين أيدي الشَّاعر القس جوزيف إيليا، مطواعةً كأنّهُ يعزفُ أنشودةَ عشقٍ طافحةً بوهجِ الحرِّيّةِ، رغبةً منهُ في ترسيخِ دندناتِ الرّقصِ والأغاني، كي يسقيَ عطشَ الأرضِ، تمهيداً لانبعاثِ حبورِ الاخضرارِ. لا يتوانى دقيقةً واحدةً عن الاستكانةِ أمامَ أيِّ ظلمٍ، أو مهانةٍ، يسربلُ حرفَهُ باهتياجِ أمواجِ البحرِ، مواجهاً ضراوةَ السَّوادِ وآفاتِ الغباءِ، متصدِّياً لجهامةِ العبوسِ، وكلِّ معاركِ القبحِ المستولدةِ من لغةِ الشَّراهاتِ المجوّفةِ بشفيرِ الجهلِ، والبغضِ والضَّغينةِ.
يسافرُ الشّاعرُ في رحلةِ العبورِ فوقَ هضابِ العمرِ، تاركاً خلفهَ لظى الاشتعالِ، بحثاً عن خمائلِ الدِّفءِ وأرخبيلاتِ العطاءِ، غيرَ آبهٍ بما عاناهُ من بردِ اللّيالي، ولهيبِ الزَّمهريرِ، متصالحاً معَ ذاتِهِ ومتعانقاً معَ جمالياتِ الحياةِ، زارعاً في مرامي العمرِ بهجةَ العطاءِ، وحاصداً أشهى ثمارِ الأرضِ، ومحلِّقاً في فضاءِ القصيدةِ مثلَ الحجلِ البرّي، وهو يُنشدُ مزاميرَهُ تحتَ ظلالِ الحنينِ، مبدِّداً مللَهُ من خلالِ بهجةِ انبعاثِ مُهجةِ الحرفِ، وقافزاً مثلَ وعلٍ جامحٍ فوقَ مَنْ يقفُ في دربِ خطاهُ. منتعشاً بوهجِ القصيدةِ كأنّها بلسمُ الحياةِ.
لا يقلقُهُ أيُّ شيء في الحياةِ مهما كان ضارياً، ولا يهابُ حتّى الموت، لأنّ الموتَ خميرةُ الحياةِ. لا يفكِّرُ إلَّا بجموحِ مُهجةِ الحرفِ، إلَّا بشموخِ القصيدةِ فوقَ ساحاتِ الوغى، وحدَها القصيدةُ زادُهُ الأشهى في محرابِ الحياةِ. يقفُ بصلابةٍ وشموخٍ في وجهِ الاعوجاجِ، لا يستسلمُ لجبروتِ السّلاطينِ ولا لضراوةِ الثَّعابينِ، رامياً كلَّ ما يعترضُ سبيلهُ في لهيبِ الهشيمِ، ماحقاً وقافزاً فوقَ شراهةِ الغدرِ وأنيابِ القبحِ، متهاطلاً مثلَ انسيابِ المطرِ عِشقاً ومحبّةً وشعراً من نكهةِ اخضرارِ الرُّوحِ. يتمتمُ وحدَها القصيدةُ تنتصرُ على قباحاتِ هذا الزّمانِ! كم من العطاءِ يجني من خلالِ بوحِ القصائدِ، يشمخُ عالياً فوقَ قبّةِ السُّموِّ وصفاءِ زرقةِ السّماءِ، لا يعبأ بأموالِ الدُّنيا، محلِّقاً في فضاءِ القصيدةِ، مثلَ نسرٍ قويِّ الجناحينِ، ويرى القصيدةَ برجاً شامخاً خلّاقاً، ومن أعلى أبراجِ السّموِّ في دنيا من حجرٍ!
ستوكهولم: 16. 1. 2023
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم