قراءة في كتاب تأملات في الصوفية الجمالية للكاتب جواد العقاد
رائد الحواري
في عصر النت والسرعة أصبح القارئ يميل إلى الكتب القصيرة/الصغيرة، وإلى النصوص المكثفة، من هنا أخذ القصة القصيرة جداً، وقصيدة الومضة تأخذ مكانتها في الساحة الأدبية،" جواد العقاد" يقدم (كراساً) عند الصوفية، مستنداً على الاختزال والتكثيف كسمة في كتابه، فحجم الكتابة وطريقة تقديمه تشبه تلك الكتيبات (الكراسات) التي كانت تقدمها الأحزاب السياسية، بحيث تُعرف القارئ بما يُراد طرحه، وفي الوقت ذاته تعطيه دافعاً للتعرف أكثر على تلك الأفكار المطروحة، بحيث يتقدم منها المتلقي بصدر رحب، ودون شعور بالتكلف/الواجب.
هذا ما يفعله كتاب" تأملات في الصوفية الجمالية" فالباحث يعطي أساساً يمكن الاعتماد عليه للولوج إلى الفكر الصوفي، من خلال وجود إشارات تحفز المتلقي على التقدم أكثر مما جاء في الكتاب، وهنا يكون الكاتب قد حقق أول مهام الناقد/الباحث والمتمثلة في: تحفيز القارئ على التعرف مباشرة على النص/الفكرة.
يبدأ الكاتب فاتحة الكتاب بالحديث عن التصوف، مفهومه ونشأته، موضحا هذا الأمر: "أما التصوف الإسلامي: فنشأ مع بداية الإسلام وإن لم يكن معروفاً باسمه، ولكن جوهره كان مطبقاً عند العباد الأوائل، حيث إن مضمون التصوف سبق التسمية، وجاءت التسمية فيما بعد، للدلالة على جملة من الرؤى البشرية تجاه الكون والخالق." ص13، الجميل في هذا الطرح أنه يتوافق مع الفكر الصوفي الذي يهتم بالجوهر أكثر من الشكل، فبدت نشأة الصوفية متوافقة مع مضمونها.
من هنا يأخذنا الكاتب إلى الاهتمام بالجوهر/بالمضمون وليس بالشكل، متخذاً من هذا القول نموذج:" رأيت الله في وجهك، فالمقصود ليس الله وإنما نور الله أو رحمته أو عظمة خلقه." ص20، بعدها يوضح الفرق بين بعض المصطلحات المتعلقة بالصوفية مثل الحول والاتحاد: "فالحول هو الاعتقاد بحلول روح الله في بعض مخلوقاته، أما الاتحاد فهو فناء المخلوق في الخالق فيصبح لا وجود له." ص24، مستنداً على مقتبسات من شعر الحلاج:
"مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني فإذا أنت أنا في كل حال" ص25، أعتقد أن هذا الاختيار موفقاً لوجود مجموعة ألفاظ مكررة "روحك/روحي، مسك/مسني، مزجت/تمزج" وأيضا لوجود متقاربات/متماثلات في" الخمرة/الماء، أنا/أنت" فالقارئ يصل إلى الفكر الصوفي والأدوات اللغوية التي يستخدمها بطريقة سلسة وسهلة، وهذا ما يحسب للباحث وللبحث.
أما عن الفن والتصوف، فإن الباحث يتحدث عن العلاقة بين الرقص والفكر الصوفي والعلاقة الجامعة بينهما بقوله: "...والدوران حول النفس الذي أتى مفهومه من خلال دوران الكواكب حول الشمس. إذن أداء الرقصة المولوية يكون بالدوران حول الذات بشكل منتظم بحيث تبقى الرجل اليمنى ثابتة دلالة على ثبات الشريعة، واليسرى تدور، دلالة على تغير الحياة، وترفع اليد اليمنى نحو السماء طلباً للخير والخلاص من المادية أما اليد اليسرى تكون نحو الأرض إشارة إلى رفض الشرور وكبح الشهوات الدنيا." ص30، أهمية هذا التوضيح لمضمون الرقص الصوفي تكمن في تقريب القارئ من الأبعاد الفكرية والمضامين التي تحملها (طقوس) الرقص الصوفية، وهذا ما يدفع القارئ إلى عدم الأخذ بالشكل الذي يراه، بل بالمضمون الذي يحمله.
بعدها يتحدث عن الغناء الصوفي مبيناً أن الكلمات/القصائد التي تُغنى تحمل أكثر من جمالية، مستنداً على ما قالته الفنانة السورية "رشا ناجح": "القصائد الصوفية المغناة لها خصوصية من حيث اللغة، فلو عرينا الكلمات من اللحن والموسيقى تبقى محافظة على جمالها بخلاف كثير من كلمات الأغاني المعاصرة، إضافة إلى أنها حمَّالة أوجه، فالمتلقي يأخذها على محمل صوفي أو بشري إن شاء" ص33، نلاحظ أن الشاعر يحاول تعريف القارئ بأكثر من باحث/متحدث عن الصوفية، بحيث يفتح الأبواب أمامه لينهل مما قدم، دون (احتكار المعرفة) لنفسه، وهذا أمر محمود في الأبحاث التي تريد القارئ التقدم بنفسه مما جاء يطرح من أفكار، وله أن يأخذ بها أو يتركها.
يتناول الباحث العلاقة بين الفن التشكيلي والصوفية، إلا أنه لم يستطع إيصال الفكرة بصورة وافية للمتلقي، بحيث كان المدخل ضعيفاً ولا يتوافق مع الزخم والحجة التي اعتمدها في مباحث الكتاب الأخرى، لكنه (يعوض) هذا الخلل عندما تحدث عن أدونيس وكيف نظر إلى العلاقة الجامعة بين الصوفية والمدرسة السريالية: "فدعوى السوريالية الأولى هي أنها حركة لقول ما لم يُقل، أو ما لا يقال، ومدار الصوفية، كما أفهمها، هو اللامعقول، اللامرئي، اللامعروف." ص44.
يأخذنا الكاتب إلى الأثر الصوفي في الأدب المعاصر من خلال أكثر من نموذج، منها مسرحية "مأساة الحلاج" لصلاح عبد الصبور، وديوان" مري كالغريبة بي" للشاعر أنور الخطيب، وديوان "في المرآة أشبهني" لسليمان دغش، وقصيدة "عزم" للشاعرة باسمة غنيم"، ونص" وإن اختلفت الأسماء" للشاعر أحمد زكارنة، وهو بهذا يؤكد على استمرارية الفكر الصوفي وحضوره، بمعنى أنه حي/موجود وفاعل ومؤثر، فلا مجال لنكرانه أو لتهميشه.
يختم الباحث كتابة بالتعريف القارئ بمجموعة مصطلحات صوفية، "الصوفي، الزهد، المقام، الحال، الشطح، وحدة الوجود، الحلول، الاتحاد، الحب الإلهي، الرقص، السفر، الوقت، الوجد، المكاشفة، الجبة، مرشد، مريد، مقام، نفس، القناع، الإشراق."ص 84 -86، فهو بهذه المصطلحات يضعه أمام الأسس التي يعتمد عليها الفكر الصوفي.
الكتاب من منشورات مركز تجوال للثقافة والفنون، دائرة الطباعة والنشر، فلسطين، غزة، الطبعة الأولى 2020.