"الغريب".. غرباء على هذه الأرض
ندى الأزهري 28 يونيو 2022
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
أجواء غموض والتباس وسحر تحيط بالمكان وشخصياته، في فيلم لا يتميز بلغة بصرية آسرة فحسب بل بكونه كذلك قادمًا من الجولان السوري المحتل. حضرت مرتفعات الجولان بعض مرات في أفلام المحتلّ، لكنه أول فيلم يأتي من هناك مكتوب ومصوّر من قبل واحد من أهل المكان. هنا جدّتُه الأولى التي تثير فضولًا ينجح المخرج في إشباعه. كانت سمعة "الغريب"، للمخرج وكاتب السيناريو السوري أمير فخر الدين، سبقتْه حين عرضه مؤخرًا في المسابقة الرسمية لمهرجان مالمو للسينما العربية في السويد (أيار/مايو 2022)، وكانت له مشاركة أولى في الدورة 78 لمهرجان فينيسيا الدولي (1-11 أيلول/ سبتمبر 2021)، ومن ثمّ في مهرجان القاهرة الدولي (نوفمبر/ تشرين الثاني 2021)، وعدة مهرجانات أخرى، وقد مثّل فلسطين في أوسكار 2022، وحين وصل إلى مالمو امتلأت القاعة بجمهور فضولي من سينمائيين وضيوف للتعرف على فيلم أشاد عديدون بجودته وتميزّه وأيضًا غرابته.
كلُّ هذا تجسّد فور اللقطات الأولى، وحتى النهاية لم يخن الفيلم بداياته المفعمة بصور ساحرة وعوالم غريبة لشخصيته الرئيسية. مشهد افتتاحي غريب هو الآخر، لعله وصف يطابق كل شيء في هذا الفيلم الآسر،
كاميرا تنتقل بين ظهر رجل واقف أمام نافذة وامرأة غير واضحة المعالم في طرف آخر. وجوه شبه غائبة من المشهد وصمت لا يقطعه إلا عبارة للمرأة بين فينة وأخرى "فرنسا، يقال إن الخبز لذيذ هناك... أو ألمانيا..."، ثمّ صمت. السكوت أفضل تعبير حين يشعر المرء بانقطاع عن عالمه، أو ردّ مقتضب من الرجل عن شجرة التفاح التي تفقد طعمها إذا نمت في غير تربتها، عن وحشة الغربة التي تقترحها المرأة. هنا وطنٌ سحريّ، هنا فقط على هذه الأرض في الجولان يرغب الرجل في البقاء، السفر عليه مستحيل، ومغادرة هذه البساتين عبث، إنه مدان بالبقاء هنا، في هذه القرية الصغيرة التي لا يملك فيها شيئًا وعلى هذه الأرض التي يعشقها. في منطقة يختبئ سحرها باستمرار تحت ضباب، قليلٌ منه ينزاح لينبئ عن هذا السحر وليتجلّى جمال أخضر وتربة خصبة وشيء من طين.
ليلى، الزوجة، ستظل غائبة. نوع من تعبيرٍ عن اختيار ما لا يريد المخرج أن يريه على نحو جليّ، تلميح له يكفي، يحضر صوتها أو طيفها لكن وجودها طاغ على المكان، على عدنان الزوج. تبقى بلا ملامح، كأملٍ غامض في مستقبل بعيد ضبابيّ. غيابٌ فيه إشعارٌ بأهميتها على نفسية رجلها وعلى هذه المسافة التي يضعها هو معها، هي المحرّضه على الأمل والمقاومة. وهو الهارب اليائس الهائم دائمُ الحضور في الفيلم، شخصيته رئيسية وشبه وحيدة، عدنان (الممثل الفلسطيني أشرف برهوم في أداء رائع) بكل تعقيداته الوجودية ويأسه وحنينه للماضي. طبيبٌ عاد من الاتحاد السوفياتي مع شهادة لم تكتمل. الصمت وسيلته في مجتمع لا يقبل اختلافه، وملجأه أمام مشاعر عارمة بغربة بين أهله وأمكنته رغم فيض عاطفة تجاههم. يحبّ حتى أباه الذي يكنّ له مشاعر العداء، هذا الذي حرمه من كل شيء، ووهب ممتلكاته لأماكن العبادة الدرزية نكاية بابنه. لكنْ، لمَ النكاية؟ يبقى السبب غامضًا، لعله تمرد الولد منذ صغره. سلوك الأبّ (الممثل الفلسطيني محمد بكري) متسلط ينمّ عن شخصية عنيدة لا ينفع معها إلحاح أمّ أو محاولات ابن للصلح. ابنٌ يبدو في قاع هاوية سحيقة من غربة وألم وشك وضعف. خلافا للمرأة، أمّا كانت أمْ زوجة. عدنان معزول عما حوله هو كضحية، يعيش عزلة كأنها لتوضح أكثر مدى غربته عن كلّ ما حوله. أشرف برهوم بارع ومقنع في كل قول وحركة ومظهر، كلّ شيء يبدو حقيقيا ومعبرًا في شكله الخارجي وتعابيره عن مشاعر الشخصية ومرارتها وغربتها.
ليس الأهل فقط سبب أحاسيس عدنان المؤرقة، فثمة سياق تاريخي صعب يعقّد أكثر أموره. احتلالٌ يفرض حواجزه وأوامره وحدوده وحروبه حتى ولم يسمع سوى أصواتها البعيدة. هو هنا قابع، جاثم على النفس، وعلى المكان. حنين عدنان لا يحتمل، إلى الشام، إلى مكان لم يره، وبيت لم يحتويه، لأرض متخيلة لم يعرفها في حياته، بلده وعاصمة بلده التي لا يعرفها. يدور حول الحدود، ويلف خلف الأسلاك الشائكة يبحث عما وراء الحواجز والبعد والوحدة، يقف هناك وحده، ودائمًا وحده، متأملًا بصمت هذا الما وراء.
لا تطورات درامية في السرد، فهو نافذة على عالم الشخصية من غير قصة، على مشاعرها وتطورها هي من سيء إلى أسوأ ووصولها إلى حالة ضياع. كلّ هذا في لغةٍ بصرية سينمائية منتظمة النغمة، وبناءٍ لعالم كامل لشخصية مركزية تنعكس أحاسيسها بمساعدة ألوان الطبيعة، خضراء أو ترابية، وتلك المسحة الضبابية التي تغلّف كل شيء. المشاعر هي التي يعتمدها الفيلم ليؤثّر أكثر من خطّ السرد والحكاية. واللقطات المبهرة مرفقة بموسيقى تصويرية ساحرة تأخذ إلى البعيد، إلى اللا مكان، إلى هناك خلف الغمامة التي تلفّ المكان شيئًا فشيئًا تخفي معالمه وتدع مجالًا للتخمين.
إلى أن يحدث طارئ في منتصف الفيلم تقريبًا. محرك درامي، منعطف جديد لعدنان عندما يواجه رجلًا أصيب في الحرب السورية وتسلل خلف الأسلاك الشائكة، إلى الجولان. فرصة لهذا الطبيب الذي يعيّره والده بعدم إكمال دراسته، أن يثبت نفسه، فرصة إنقاذ هذا الجندي المجهول الانتماء، أهو منتم لأرض الجولان؟ عائد إلى أرض الجدود؟ مُوالٍ أو مُعارض؟ لا يهمّ، فإنقاذه هو نوع من إنقاذ البطل وبداية جديدة له. يمنحه الرغبة من جديد لفعل شيء والخروج من عزلة داخلية، والتغلب على شخصية محبطة وضعيفة وتدرك جيدًا ضعفها، وربما سيكون لديه الحظ ليجد طريق العلاج مع هذا الطارئ. هو الذي لا يهاب الموت، فكيف نهابه ونحن لم نحيا بعد؟ كما كان يردّد. يبدأ بمعالجة الجريح بمفرده طاردًا رفاقه.
لكن في مكان كهذا لا شيء يخفى، والشيخ هو من يحلّ ويربط، وأمام معضلة كهذه وفي مجتمع كهذا فإن اتخاذ أي قرار لا يمكن له أن يكون فرديًا. اجتماع في بيت الشيخ له دلالاته الكثيرة في الفيلم، دلالات ليست اجتماعية فحسب بل سياسية أيضًا. تمسكٌ بالانتماء العربي السوري، في لحظة إعلان هذا التمسك بالانتماء القوي إلى سورية حين يقول الشيخ: "نحن عرب سوريون"، تفور قهوة في اللقطة وتندلق على السخان. وفي أثناء ترداد أخبار سورية من المذياع، هناك بقرة تلوك عشبها بلا مبالاة. وخلال تداول أمر هذا الجندي الغريب أيضًا، حوار يبادر فيه أحد القرويين لاقتراح تسليم الجندي إلى القوات الإسرائيلية وهذا لأن "الجيش الإسرائيلي يستقبل الجرحى السوريين ويطببهم ثم يعيدهم لسورية"، يردّ آخر: لا طرف نظيفًا في الحرب.
ولكن لمَ هذه العلامات؟ تساؤلات لم يتحْ المخرج الحوار حولها وحول أخرى، مفضّلًا هو أيضًا عزلة بطله.
"نحن غرباء في هذه الحياة"- رسالة هذا الفيلم الروائي الأول للمخرج الشاب أمير فخر الدين ( مواليد 1991) كما قال لجمهور مالمو. فيلم مبشر وواعد ويشكّل جزءًا من ثلاثية البيت والوحدة والعزلة. وعلى ما يبدو فإن الثاني سيكون "لا شيء من لا شيء يبقى".
ندى الأزهري 28 يونيو 2022
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
أجواء غموض والتباس وسحر تحيط بالمكان وشخصياته، في فيلم لا يتميز بلغة بصرية آسرة فحسب بل بكونه كذلك قادمًا من الجولان السوري المحتل. حضرت مرتفعات الجولان بعض مرات في أفلام المحتلّ، لكنه أول فيلم يأتي من هناك مكتوب ومصوّر من قبل واحد من أهل المكان. هنا جدّتُه الأولى التي تثير فضولًا ينجح المخرج في إشباعه. كانت سمعة "الغريب"، للمخرج وكاتب السيناريو السوري أمير فخر الدين، سبقتْه حين عرضه مؤخرًا في المسابقة الرسمية لمهرجان مالمو للسينما العربية في السويد (أيار/مايو 2022)، وكانت له مشاركة أولى في الدورة 78 لمهرجان فينيسيا الدولي (1-11 أيلول/ سبتمبر 2021)، ومن ثمّ في مهرجان القاهرة الدولي (نوفمبر/ تشرين الثاني 2021)، وعدة مهرجانات أخرى، وقد مثّل فلسطين في أوسكار 2022، وحين وصل إلى مالمو امتلأت القاعة بجمهور فضولي من سينمائيين وضيوف للتعرف على فيلم أشاد عديدون بجودته وتميزّه وأيضًا غرابته.
"حتى النهاية لم يخن الفيلم بداياته المفعمة بصور ساحرة وعوالم غريبة لشخصيته الرئيسية. مشهد افتتاحي غريب هو الآخر، لعله وصف يطابق كل شيء في هذا الفيلم الآسر" |
كاميرا تنتقل بين ظهر رجل واقف أمام نافذة وامرأة غير واضحة المعالم في طرف آخر. وجوه شبه غائبة من المشهد وصمت لا يقطعه إلا عبارة للمرأة بين فينة وأخرى "فرنسا، يقال إن الخبز لذيذ هناك... أو ألمانيا..."، ثمّ صمت. السكوت أفضل تعبير حين يشعر المرء بانقطاع عن عالمه، أو ردّ مقتضب من الرجل عن شجرة التفاح التي تفقد طعمها إذا نمت في غير تربتها، عن وحشة الغربة التي تقترحها المرأة. هنا وطنٌ سحريّ، هنا فقط على هذه الأرض في الجولان يرغب الرجل في البقاء، السفر عليه مستحيل، ومغادرة هذه البساتين عبث، إنه مدان بالبقاء هنا، في هذه القرية الصغيرة التي لا يملك فيها شيئًا وعلى هذه الأرض التي يعشقها. في منطقة يختبئ سحرها باستمرار تحت ضباب، قليلٌ منه ينزاح لينبئ عن هذا السحر وليتجلّى جمال أخضر وتربة خصبة وشيء من طين.
ليلى، الزوجة، ستظل غائبة. نوع من تعبيرٍ عن اختيار ما لا يريد المخرج أن يريه على نحو جليّ، تلميح له يكفي، يحضر صوتها أو طيفها لكن وجودها طاغ على المكان، على عدنان الزوج. تبقى بلا ملامح، كأملٍ غامض في مستقبل بعيد ضبابيّ. غيابٌ فيه إشعارٌ بأهميتها على نفسية رجلها وعلى هذه المسافة التي يضعها هو معها، هي المحرّضه على الأمل والمقاومة. وهو الهارب اليائس الهائم دائمُ الحضور في الفيلم، شخصيته رئيسية وشبه وحيدة، عدنان (الممثل الفلسطيني أشرف برهوم في أداء رائع) بكل تعقيداته الوجودية ويأسه وحنينه للماضي. طبيبٌ عاد من الاتحاد السوفياتي مع شهادة لم تكتمل. الصمت وسيلته في مجتمع لا يقبل اختلافه، وملجأه أمام مشاعر عارمة بغربة بين أهله وأمكنته رغم فيض عاطفة تجاههم. يحبّ حتى أباه الذي يكنّ له مشاعر العداء، هذا الذي حرمه من كل شيء، ووهب ممتلكاته لأماكن العبادة الدرزية نكاية بابنه. لكنْ، لمَ النكاية؟ يبقى السبب غامضًا، لعله تمرد الولد منذ صغره. سلوك الأبّ (الممثل الفلسطيني محمد بكري) متسلط ينمّ عن شخصية عنيدة لا ينفع معها إلحاح أمّ أو محاولات ابن للصلح. ابنٌ يبدو في قاع هاوية سحيقة من غربة وألم وشك وضعف. خلافا للمرأة، أمّا كانت أمْ زوجة. عدنان معزول عما حوله هو كضحية، يعيش عزلة كأنها لتوضح أكثر مدى غربته عن كلّ ما حوله. أشرف برهوم بارع ومقنع في كل قول وحركة ومظهر، كلّ شيء يبدو حقيقيا ومعبرًا في شكله الخارجي وتعابيره عن مشاعر الشخصية ومرارتها وغربتها.
"الممثل الفلسطيني أشرف برهوم في أداء رائع، بكل تعقيداته الوجودية ويأسه وحنينه للماضي. طبيبٌ عاد من الاتحاد السوفياتي مع شهادة لم تكتمل. الصمت وسيلته في مجتمع لا يقبل اختلافه، وملجأه أمام مشاعر عارمة بغربة بين أهله وأمكنته رغم فيض عاطفة تجاههم" |
لا تطورات درامية في السرد، فهو نافذة على عالم الشخصية من غير قصة، على مشاعرها وتطورها هي من سيء إلى أسوأ ووصولها إلى حالة ضياع. كلّ هذا في لغةٍ بصرية سينمائية منتظمة النغمة، وبناءٍ لعالم كامل لشخصية مركزية تنعكس أحاسيسها بمساعدة ألوان الطبيعة، خضراء أو ترابية، وتلك المسحة الضبابية التي تغلّف كل شيء. المشاعر هي التي يعتمدها الفيلم ليؤثّر أكثر من خطّ السرد والحكاية. واللقطات المبهرة مرفقة بموسيقى تصويرية ساحرة تأخذ إلى البعيد، إلى اللا مكان، إلى هناك خلف الغمامة التي تلفّ المكان شيئًا فشيئًا تخفي معالمه وتدع مجالًا للتخمين.
إلى أن يحدث طارئ في منتصف الفيلم تقريبًا. محرك درامي، منعطف جديد لعدنان عندما يواجه رجلًا أصيب في الحرب السورية وتسلل خلف الأسلاك الشائكة، إلى الجولان. فرصة لهذا الطبيب الذي يعيّره والده بعدم إكمال دراسته، أن يثبت نفسه، فرصة إنقاذ هذا الجندي المجهول الانتماء، أهو منتم لأرض الجولان؟ عائد إلى أرض الجدود؟ مُوالٍ أو مُعارض؟ لا يهمّ، فإنقاذه هو نوع من إنقاذ البطل وبداية جديدة له. يمنحه الرغبة من جديد لفعل شيء والخروج من عزلة داخلية، والتغلب على شخصية محبطة وضعيفة وتدرك جيدًا ضعفها، وربما سيكون لديه الحظ ليجد طريق العلاج مع هذا الطارئ. هو الذي لا يهاب الموت، فكيف نهابه ونحن لم نحيا بعد؟ كما كان يردّد. يبدأ بمعالجة الجريح بمفرده طاردًا رفاقه.
""نحن غرباء في هذه الحياة"- رسالة هذا الفيلم الروائي الأول للمخرج الشاب أمير فخر الدين ( مواليد 1991) كما قال لجمهور مالمو. فيلم مبشر وواعد ويشكّل جزءًا من ثلاثية البيت والوحدة والعزلة" |
ولكن لمَ هذه العلامات؟ تساؤلات لم يتحْ المخرج الحوار حولها وحول أخرى، مفضّلًا هو أيضًا عزلة بطله.
"نحن غرباء في هذه الحياة"- رسالة هذا الفيلم الروائي الأول للمخرج الشاب أمير فخر الدين ( مواليد 1991) كما قال لجمهور مالمو. فيلم مبشر وواعد ويشكّل جزءًا من ثلاثية البيت والوحدة والعزلة. وعلى ما يبدو فإن الثاني سيكون "لا شيء من لا شيء يبقى".