"من وإلى مير"... عن وطن كبير يبعد أبناءه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "من وإلى مير"... عن وطن كبير يبعد أبناءه

    "من وإلى مير"... عن وطن كبير يبعد أبناءه
    أريج جمال 3 يوليه 2022
    سينما
    لقطة من فيلم "من وإلى مير"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    ماجي مرجان، مخرجة فيلم "من وإلى مير"
    لا بد أن هنالك دراسات تستحق أن تُجرى على الطريقة التي تعمل بها الحاسة السادسة لجمهور السينما، في بعض الحالات. طوال أعوام، كان جمهور فعالية "أيام القاهرة السينمائية" التي تُقام في سينما زاوية شهر يونيو من كل عام، يتحمس لأفلام بعينها. يميل كثيرًا إلى الأعمال التسجيلية، التي قد لا يحظى برؤيتها بالكثافة المرجوة على مدار العام، في قاعات العرض، خارج الفعاليات السينمائية.
    كانت الصالة مُمتلئة عن آخرها، يوم عرض الفيلم التسجيلي المصري "من وإلى مير"، ضمن فعاليات الدورة الخامسة، المُقامة هذا العام، من "أيام القاهرة السينمائية". الفيلم من تصوير زكي عارف، وشادي فكري، ومونتاج باسم لبيب، ومن إخراج ماجي مرجان. بشكل شخصي، أحالني العنوان أول مرة، إلى تخيل نوع من الخطابات المُتبادلة مع شخص قد يكون اسمه مير. هكذا فكرتُ على الأقل، أنا التي لم أمرّ من قبل على صعيد مصر. يتناول الفيلم نوعًا من التبادل فعلًا، لكن ليس للخطابات، بل ربما لأنماط من الحياة. ومير ليست شخصًا، بل اسم لقرية تقع ضمن محافظة أسيوط، معظم سكانها من الأقباط، كما تروي بصوتها علينا مُخرجة الفيلم ماجي مرجان.


    البيانو
    لقطة من فيلم "من وإلى مير"
    مع ذلك، لم تكن القرية ذات الممرات الحميمة، لكن أيضًا الضيقة إلى حد بعث الشعور بالاختناق، كما تظهر بالتدريج في الفيلم، هي ما بدأت عنده ماجي. بل هو الخيط الشخصي جدًا، من علاقة طفلة صغيرة بجدتها. عندما كانت تُغني لها أغنية جميلة، وهي تقول لحفيدتها إنها كانت تعزفها على بيانو قديم في قريتها الأولى "مير". تدفع ذكرى اللحن، كما تحفظه ذاكرة ماجي إلى حالة من التوق للمعرفة، معرفة مير. أليست الرغبة في المعرفة، بالأخير، نوعًا صافيًا من الحُب، من الحنين؟ تعود ماجي إلى مير عبر رحلتين متوازيتين؛ أولًا رحلة في الأرشيف، من الصور والتواريخ والأحاديث المباشرة مع أفراد من عائلات شهيرة تعود أصولها إلى مير، كعائلة الجرايسة وعائلة لوزة وعائلة ناصيف. ثم ثانيًا: رحلة ماجي الروحية والجسدية، في زيارة مير، للتعرف على أهلها، وتوطيد صلاتها بهم شيئًا فشيئًا.
    هنالك شيء يُمكن أن يمسنا من روح المخرجة المصرية الراحلة، عطيات الأبنودي، التي قدمت مثلًا فيلمها التسجيلي القصير "السندوتش" (1975) (يُمكن مشاهدته على القناة المُخصصة لأفلام عطيات على يوتيوب)، وفيه أيضًا تزور قرية شبه معزولة في الصعيد. أو في فيلمها "بحار العطش" (1981) الذي تتكلم فيه بجمالية نادرة عن معاناة أهالي قرية البرلس، مع شُح مياه الشرب، وهم الذين يعملون في البحر. غير أن ماجي، في زيارتها لمير، لا تود أن تنقل شكوى الأهالي، برغم أن لديهم ما يشتكون منه. إنها تُريد فقط أن تعرفهم. فهي تُدرك كما تُصرّح بالتعليق الصوتي في مشهد بالفيلم "أن المكان هو الناس".

    "تعود ماجي إلى مير عبر رحلتين متوازيتين؛ أولًا رحلة في الأرشيف، من الصور والتواريخ والأحاديث المباشرة مع أفراد من عائلات شهيرة تعود أصولها إلى مير، كعائلة الجرايسة وعائلة لوزة وعائلة ناصيف. ثم ثانيًا: رحلة ماجي الروحية والجسدية، في زيارة مير، للتعرف على أهلها، وتوطيد صلاتها بهم شيئًا فشيئًا"



    في الماضي، كان بيانو الجدّة في البيت. اليوم تحوّل البيت إلى "جمعية الراعي الصالح". تعثر ماجي على البيانو، مهجورًا وفي حالة يُرثى لها، وتفهم ماجي، ونحن معها، أن أمام هذه الآلة سنوات قليلة وتتوقف عن أداء وظيفتها الخالدة: إصدار الموسيقى. لكن بدلًا من أن تترك المُخرجة المكان، الذي لم يعد فعليًا يخص جدتها، تبقى وتُحقق حوله فيلمًا تسجيليًا. تمتد رحلتها مع الفيلم، طوال 12 عامًا، تزور خلالها مير ثلاث زيارات، ترصد من خلالها المكان، ثم التحولات التي تحدث له من خلال تتبع مصائر سكانه. تكون خجولة في الزيارة الأولى إلى حد ما، وبمُساعدة كاميرا بسيطة تبدأ في تصوير السُكان الجالسين على عتبات البيوت. الطقوس، والعادات، كاستقبال الضيوف وماجي واحدة منهم، الاحتفال بالمواليد الجدد في "السبوع"، وبالطبع الأفراح. تكشف لنا ماجي مرجان عن جانب آخر من الحياة في مصر، لا تشكل فيه أعياد المُسلمين وطقوسهم الأغلبية، كما هو الحال في مساحات واسعة من العاصمة.


    أهل القرية/ أبطال الفيلم
    من فيلم "من وإلى مير"
    تُضيف ماجي مرجان بُعدًا جديدًا هنا في "من وإلى مير". إن رحلتها تبدأ، لسبب حميمي هو البحث عن الجذور، لكنها في المُنتصف تملأ فيلمها كُليًا بالناس، بالوجوه، والأشخاص، حتى يستحيل "من وإلى مير"، إلى قطاع من حياة أولئك الذين حالفنا الحظ أن يُصادفوا لحظة التصوير طريق ماجي مرجان. هي الكريمة، تُقدمهم لنا بنوع من الترتيب، الذي يسمح بتحقيق توازن خفي داخل الفيلم، الذي لم يتجاوز زمنه الساعة وربع الساعة.
    نتعرّف على أم مايكل المُعلمة في المدرسة، وأم يوسف وهي تخبز كحك عيد القيامة، وتتكلم في الوقت نفسه مع ماجي، التي تتنحى وراء الكاميرا (وفقًا لأسلوب الذبابة على الحائط شائع الاستخدام في الفيلم التسجيلي، حسب باتريشيا أوفرهايد في كتابها مقدمة قصيرة في الفيلم التسجيلي)، تاركة الصورة تمامًا لأصحاب القرية، وكذلك عم عبد التواب وأولاده الذين يشاركونه أداء الأعمال البسيطة، ولا يتوقفون عن الضحك ولا إضحاك جمهور الصالة الواسع، وهم يُعلقون على كل صغيرة وكبيرة بخفة ظل، لاسيما روماني الذي يُعلن حسده للذاهبين إلى العمل في مدن الخليج، وحدهم يمتلكون تغيير أسلوب حياتهم في مير. على جانب آخر، تصوّر ماجي مع أفراد من عائلة لوزة وعائلة جريس، وهُم يروون عن حياة أهاليهم وأجدادهم هناك. اليوم، لا تعيش هذه العائلات في "مير". كانت القرية الصغيرة أشبه بمنصة انطلاق، لعائلات كانت موسرة، بما يكفي كي يكون لها أملاك من الأراضي والأطيان، ويعني هذا، كما تؤكد إحدى المُنتميات لعائلة عريقة باللغة الإنكليزية داخل الفيلم، أنهم لم يعملوا في الأرض، بل كان يعمل لديهم فلاحون مجتهدون، وقد أدى ثراء الأرض إلى ثراء المُلاك، الذين بدأوا يرسلون أولادهم إلى أوروبا كي يتعلموا، أو ينتقلوا إلى القاهرة، العاصمة الواسعة.


    اغتراب
    وجه في فيلم "من وإلى مير"
    لكن لماذا غادرت تلك العائلات مير، ولم يعد أحد منهم مجددًا إلى أرض أجداده؟ جزئيًا لأن أحفاد هذه العائلات حظوا بحياة جديدة أكثر حداثة عما هي عليه في مير. لكن الإجابة الأدق، ربما تكون ما شرحه حفيد لإحدى هذه العائلات، حين قال إنه لم يكن لهذه الحياة المُنقسمة بحدة بين أغنياء مُلاك وفقراء فلاحين أن تستمر. لا يُمكن لهذا الفارق المُخيف في الحياة، أن يستمر إلى الأبد في مجتمع صغير. على الجانب الآخر، تعود ماجي مُجددًا إلى السكان. فيبزغ سؤال جديد: كيف يُمكن لمير أن تجاري الحياة السريعة المُتطلبة التي نحياها اليوم؟ كيف يُمكن لأهلها أن يواكبوا هذا العصر، وقد صاروا أسرى لقلة الإمكانيات.
    إن منهم مَنْ يعيش على أمل الفوز في قرعة الهجرة إلى أميركا. منهم، كما قال روماني، مَنْ غادر إلى الكويت مثلًا من أجل العمل، لإرسال المال اللازم لتعليم الأولاد ومتطلبات الدروس الخصوصية. في الماضي، غادر الأغنياء مير طوعًا. اليوم يُغادرها أبناء الطبقة المتوسطة قهرًا. إن المجاز الذي تتضمنه قصة البيانو، إذ تعود له ماجي مرة في منتصف الفيلم مجددًا، ولا تجرؤ على اختباره، ينطبق على مير نفسها. هل يُمكن أن يأتي يوم وتتحول مير إلى أطلال قرية؟ هل يُمكن أن تختفي تمامًا؟


    حياة وموت
    إن كُنا نلاحظ ثنائية الحياة والموت، في شتى مناحي حياتنا، ونجد فيها الصبر على ما يُمكن أن يُصيبنا من مآس. فإن حضور الموت، يبدو أكثف وأثقل بين جدران مير، من حضور الحياة. تلتهم الكآبة مير بسُكانها، كل يوم، أكثر.

    "تعود ماجي مُجددًا إلى السكان. فيبزغ سؤال جديد: كيف يُمكن لمير أن تجاري الحياة السريعة المُتطلبة التي نحياها اليوم؟ كيف يُمكن لأهلها أن يواكبوا هذا العصر، وقد صاروا أسرى لقلة الإمكانيات"


    تُحرك ماجي مرجان قارب عملها التسجيلي بخفّة، وبطريقة لا تكاد تُرى. إذ تتقاطع زيارتها الثانية إلى مير، مع تزايد حوادث الانتحار، في القرية الهادئة. يحتفظ سمير القمص، أحد الذين نتعلق بهم من مير، بسجلات يؤرخ فيها للمدينة. يحكي على صفحاتها عن انتحار شباب، بطريقة مفاجئة. أشخاص مُتدينون طيّبون مُتعاونون كانوا يذهبون إلى الكنيسة بانتظام، ويمدون يد المُساعدة إلى الآخرين. يتحوّل الفيلم في الثلث الأخير، إلى تحقيق حول الظاهرة. تنتحر النساء، وينتحر الرجال. المسلمون ينتحرون، والمسيحيون. في أغلب الحالات، يكون نوع من الأقراص المُبيدة للحشرات، هو البطل. يُعلق روماني خفيف الظل على الظاهرة. فالحكومة تفضلت مشكورة بتقنين بيع هذه الأقراص، وحصرتها فقط على الصيدليات. هكذا تغيّرت بوصلة المُنتحِر، ولم تتبدل رغبته. انتحرت شابة، بعد إذلال زوجها المُهاجر لها، لأنها لم تُنجب. انتحر شاب، بعد أن حظي بمولودته الأولى، فصارت يتيمة بعد أسبوع واحد من ميلادها. تعددت الأسباب والموت واحد.
    أم شنودة هي واحدة من أمهات المُنتحرين. يُعلّق رجل الدين المسيحي بكلمة صادقة، يُبين فيها أن: "مكناش بنصلي على المُنتحرين في الأول. بعدين بدأت ناس من اللي عايشين في الكنيسة وبتخدم تعمل كدة". صار الانتحار ظاهرة، لغزًا. لكن هل هو لُغز حقًا في وطن يضغط بلا نهاية، ويحاصر الناس. خصوصًا الشباب منهم كما يسخر روماني. "اللي بينتحروا شباب، عمرك ما تلاقي حد عجوز انتحر، ليه عشان متبتين في الدنيا". يضحك الجمهور، بينما تدخل أم شنودة ثقبها الزمني الخاص بعد رحيل ابنها، تعيش أمام صورته، ولا تخلع أبدًا ثياب الحداد.


    الزيارة الأخيرة
    بحلول زيارة ماجي الثالثة إلى مير، تخفق قلوب المُشاهدين خشية من المصير. ما الذي يمكن أن يكون قد حدث، أكثر مما حدث؟
    غادر كثير ممن تعلقنا بهم. عم سمير المؤرخ، وللأسف غاب روماني. والغياب الأخير أصمت جمهور القاعة، الذي كان يضحك بمجرد أن يطل الصبي الممتلئ بالحياة المُبتسم. خلت الطُرقات، وبلا شك، ومن دون سؤال، ستصير الحياة أصعب وأصعب.

    "تُحرك مرجان قارب عملها التسجيلي بخفّة، وبطريقة لا تكاد تُرى. إذ تتقاطع زيارتها الثانية إلى مير، مع تزايد حوادث الانتحار، في القرية الهادئة"


    وحدها مريم شقيقة روماني، بعد أن كبرت قليلًا، صارت تُخفف عنّا، هي التي تدرس الفلسفة في جامعة أسيوط، تعمل في صيدلية، وتحلم بالسفر إلى باريس. هي التي تضحك فتذكرنا بأن الموت جزء من الحياة، وأن الحياة تستطيع أن تنبت ولو في مُدن وبلاد أخرى. إلى أي حد باتت مير طاردة لسُكانها؟ وإلى أي مدى صارت تُشبه في ذلك الوطن الكبير، الذي يُبعد أبناءه، ربما بسلامة نية، كي يبحثوا عن حياة ثانية، في أرض الله الواسعة؟
    حاز "من وإلى مير" على جائزة أفضل فيلم يشجع عمل المرأة في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، وكان خيار ماجي مرجان أن تموله ذاتيًا في البداية، كي تحافظ على استقلالية العمل.
يعمل...
X