"كيرة والجن".. السينما من أقرب أبوابها
وائل سعيد 22 يوليه 2022
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
في الثالث عشر من حزيران/ يونيو1906، توقفت كتيبة إنكليزية للاستراحة بعض الوقت قرب قرية دنشواي المكتظة بالغلال، فذهبت مجموعة منها لصيد الحمام ببنادقها المعمرة بالرصاص، وفي الأثناء خرجت رصاصة طائشة وأشعلت النار في الغلال بينما أصابت أخرى فلاحة مصرية فأردتها قتيلة. هكذا بدأت حادثة "دنشواي" الشهيرة التي راح ضحيتها عدد من المصريين إما بالسجن أو الإعدام، وهي المشاهد التي يفتتح بها المخرج مروان حامد أحدث أعماله "كيرة والجن" تمهيدًا لظهور شخصيتيه المؤثرتين في تطوير أحداث السيناريو الذي كتبه أحمد مراد عن روايته "1919"، وهما الفلاح عبد الحي كيرة المحكوم عليه بالإعدام وزوجته الفلاحة المقتولة.
يختفي الزوجان من الحياة تاركين ابنهما أحمد كيرة – كريم عبد العزيز في رعاية جدته إلى أن يكبر ويمتهن الطب، ويتزوج ويُنجب ويتهمه الجميع بمحاباته للإنكليز، فيما يحتفظ بوجه آخر في الخفاء، حيث يقود جماعة سرية من جماعات المقاومة ضد الإنكليز. في المقابل، نتعرف على عبد القادر الجن – أحمد عز رجل الليل والبارات المتعاون مع معسكرات الإنكليز قبل أن ينضم بدوره للمقاومة.
الفيلم من نوعية كثيرًا ما انصرف عنها الجمهور خصوصًا في الآونة الأخيرة التي انعدمت فيها تقريبًا الأفلام الوطنية أو التاريخية، إلا أن خلطة "كيرة والجن" تمكنت من مخاطبة الجمهور من زاوية محببة، تتمثل في قدرة المشاهد على كشف أوراق اللعبة وتوقعه الصائب، خصوصًا وأن القصة تحتوي على حبكات وشخصيات درامية ومساحات من التشويق والإثارة ومن وقت لآخر بعض من البهارات لن يُضر أبدًا. قد تكون تلك المعادلة مغلوطة وفقًا لقوانين التلقي؛ إلا أن تعليقات الكثير من حولي في صالة العرض أكدت هذا بجدارة، ناهيك عن الإيرادات المُرتفعة التي حققها الفيلم منذ اليوم الأول لعرضه في مصر وفي عدد من الدول العربية.
اللعب مع المضمون.. اختبار ليس إلا
في أكثر من حديث لنجيب محفوظ أكد على استقلالية العمل السينمائي تمامًا عن النص الأدبي المأخوذ عنه، بحيث تخضع الرؤية الفنية لكاتب السيناريو والمخرج وينتهي دور المؤلف، وقد مارس محفوظ كتابة السيناريو السينمائي في عدد من الأفلام منها "شباب امرأة. جعلوني مجرمًا. بين السما والأرض" وهو آخر تجاربه في الكتابة السينمائية، فقد نشد الرجل الحيادية التامة حين كُلف أواخر الخمسينيات بإدارة الرقابة على المصنفات الفنية، وعلى جانب آخر كانت رواياته قد بدأت تعرف طريقها إلى شاشات السينما. وما فعله محفوظ يُعد نموذجًا - شريفًا- في العلاقة الملتبسة بين الأدب والسينما، خصوصًا وهي علاقة - نفعية- بالنسبة للأخيرة فيما يخص الاستفادة من الروايات الناجحة جماهيريا وتحويلها إلى أفلام.
في حوار للمخرج مروان حامد أشار إلى مشروعية هذه العلاقة النفعية بين الصورة والكتابة، وهو السبب الرئيسي في أن معظم أفلامه مأخوذة عن روايات أدبية، تم اختبار نجاحها الجماهيري مسبقًا، من هنا سيُتاح للفيلم سُبل لنجاحات موازية. لذلك بدأ مروان حياته كمخرج بفيلم قصير عن قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس "لي لي 2001"؛ الفيلم الذي أنبأ بإمكانيات مميزة للمخرج الشاب، التي انطلقت بحرية وجرأة لاحقًا في فيلمه الروائي الأول "عمارة يعقوبيان 2006" عن رواية علاء الأسواني، إلا أن السيناريو في يعقوبيان كان لوالده السيناريست الكبير وحيد حامد، وهو واحد من أهم أسطوات السيناريو في السينما المصرية.
برهن مروان بفيلمه الأول أن "ابن الوز عوام" كما يقال، من هنا وبعد تجربتين في الأكشن والسينما المستقلة "إبراهيم الأبيض 2009، 18 يوم 2011"؛ يتوجه مروان بطاقته نحو الأدب والروايات الرائجة، ولم يكن هناك مجال لعناء البحث؛ فثمة روائي شاب يحتل الساحة الأدبية ويتربع على عرش "البيست سيلر" حيث تُطبع رواياته عشرات الطبعات ويحرص الشباب على ملاحقتها أينما وجدت، كان هذا الشاب هو الكاتب ذائع الصيت أحمد مراد.
بدأ التعاون بين الثنائي مروان ومراد في فيلم "الفيل الأزرق 2014/2019" بجزأيه، ثم "الأصليين 2017، وتراب الماس 2018" وأخيرا "كيرة والجن"، وهي روايات لمراد حظيت بالتقدير الشعبي والرسمي على حد سواء، فإلى جانب حصولها على جوائز عديدة وترجمتها إلى عدة لغات؛ حصل مراد في 2018 على جائزة الدولة في التفوق وهو ما كان محط استنكار واسع في الوسط الأدبي، لما تمثله كتابات مراد من خفة لا تليق بجائزة رسمية. على أي حال، الجمهور قال كلمته وحسم أمر أي خلاف؛ سواء قراء أو مشاهدين فقد حصدت هذه الأفلام والروايات أعلى الإيرادات والمبيعات في نفس الوقت.
الغريب مع حالة مراد هو كتابته لسيناريوهات الأفلام المأخوذة عن رواياته، وهنا يمكن التساؤل حول أوجه الاختلاف بين ما يكتبه على الورق ثم يقتبسه في كتابة سينمائية، وهي منعدمة تقريبًا؛ فجميع مآخذ الرواية تضخ بقوة في سيناريو الفيلم سواء على مستوى الحبكة الدرامية الضاجة بالتلفيقات أو الإطالة غير المبررة فنيًا -تتجاوز رواية "1919" 400 صفحة- وأخيرًا المغالطات التاريخية المعتمدة على شعبوية الذاكرة الجمعية، ناهيك عن انعدام الهوية أيضًا وهو ما يصبغ جميع رواياته، فعوالمها مهجنة لا تحمل سمتًا خاصًا. وهي كلها عوامل قد تورط المخرج في فخ الاصطناع حتى وإن كان يمتلك مهارات مميزة كمروان حامد، ظهر ذلك بتفاوت في التجارب السابقة مع مراد حتى أن اللقاء الجديد لهما لم يخلُ من هذا كليًّا.
الرغبة في الإبهار.. فائض ملحمي
تبدأ الأحداث في الفيلم بحادثة دنشواي وتنتهي بخروج جنود الاحتلال عن مصر في 18 يونيو/حزيران 1956 وهو اليوم الذي اتخذه المصريون عيدًا للجلاء، وهنا تتجلى فكرة الوعي الجمعي الناصري الذي بقي رمزًا كقائد يُكمل مسيرة الأجداد، فطوال هذه المدة الزمنية تُستبعد الكثير من السنوات فيقفز السرد من عليها تباعًا وينتقل دون إشباع درامي، حتى يأتي البطل المُخلص من الجيش المصري مثيرًا تساؤلًا حول توقيت عرض الفيلم، 30 يونيو، أي قبل موسم العيد بأيام، وهو اليوم الذي تم فيه إسقاط حكم الإخوان في مصر بيد الجيش وقائده.
ربما لطول الفيلم - 3 ساعات- ورحابة الفترة الزمنية للأحداث -50 سنة-، سيطرت فكرة الملحمية على صُناع "كيرة والجن" وسرى هاجس الرغبة في الإبهار بين جميع عناصر العمل وفي مقدمتها الإثارة الحركية، حيث لم يترك المخرج فرصة مناسبة أو غير مناسبة إلا وافتعل معارك ومطاردات حتى زادت جرعتها دون مبرر درامي، ولو أن معظمها تم تنفيذه بشكل جيد سواء على المستوى التقني أو الحركي، فبرغم أن للبطلين معارك كثيرة مع بعضهما تحدث طوال الوقت؛ جاء فرط حركة الكاميرا في صالحهما؛ فالبطلان لم يكونا بالخفة الجسدية اللازمة لتنفيذ ذلك.
وبنفس منهجية الإفراط أو التضخيم تحركت بقية العناصر، التي لم تفتقد للحس الجمالي والفني بقدر عدم براءتها، فموسيقى هشام نزيه رغم جودتها شابها الصراخ قليلًا في بعض الأحيان، ربما لملاحقة حركة الكاميرا ونشاط بعض الممثلين الزائد وفي مقدمتهم بطلي العمل. وعن الطاقم التقني "ملابس، ديكور، وإضاءة" استطاع الفريق استحضار روح العصر التاريخي من مبان وملابس وإكسسورات بجانب المؤثرات السينمائية، إلا أن العناصر كانت زاهية أكثر من اللازم ما جعل موضوع الاستدعاء يقف عند حدود الشكل فقط.
وجوه وأدوار
لقصة الفيلم طبيعة جماعية تُحتم على السيناريو الاستعانة بعدد كبير من الشخصيات ربما بعضها لا يظهر سوى في مشهد أو اثنين على الأكثر، في "كيرة والجن" هناك ثلاث شخصيات من هذا النوع: زينب- روبي زوجة كيرة التي تموت بعد مشهدين بالحمى وتحمل في يقينها تعاون زوجها مع الإنكليز. لم يكن اختيار روبي لأداء هذا الدور سوى محاولة للاستفادة من رصيدها الجماهيري؛ حيث تعاملت مع الشخصية كمجرد زائرة وهو ما تتبعه في كثير من أدوارها ليكون المُشاهد على موعد مع روبي المُغنية وليس الشخصية الدرامية. أما حسن نشأت- إياد نصار، أحد رجال القصر المتعاونين مع المقاومة، فلم يختلف كثيرًا عن ذلك، فالشخصية نفسها ربما تكون مقحمة في السيناريو فقط لإفساح المجال لمشاركة نصار، حيث لا يوجد لها معالم واضحة ولا أبعاد نفسية ولم تخرج عن أشكال الأدوار المساعدة المعتادة أو المكررة لضيوف الشرف.
وتبقى الشخصية الثالثة شحاته – أحمد كمال من أبرع الشخصيات الثانوية الموظفة جيدًا سواء على مستوى الدراما أو الأداء، وهو أداء يأخذ القلب حقًا في مشهد وحيد نرى فيه أبو الجن الجندي القديم في جيش عرابي وهو يُقتل علي يد عقيد إنكليزي في إحدى المظاهرات. في المشهد لم يتحدث المخرج كثيرًا لكنه خلق حالة جمالية من البعث لهذا الجندي المُسن حيث نرى بدلته العسكرية القابعة في صندوق قديم تخرج في خشوع وقداسة وبجانبها سيف صدأ من الركنة، وهو تمثل زكي لصورة القائد الغائب حتى وإن كان مجرد جندي. أما عن أحمد كمال، فلولاه ما اكتسب المشهد تلك الجمالية الرهيفة، فكمال يمثل بعينيه وهي ما تُكسب وجهه عشرات من الجمل والحوارات دون أن يتفوه بكلمة واحدة.
في نفس الصدد، يُجدر الإشادة بدور الفنان سيد رجب- إبراهيم الهلباوي أحد المناضلين القدامى وفرد هام في جماعة المقاومة، يتحول الهلباوي، بعد القبض عليه، تحولًا جذريًا فيشي بأسماء المجموعة نظير تأمين حياته ومكافأة مالية، خصوصًا وقد كبر في السن ولم يعد جسده المتعب قادرًا على احتمال قسوة السجون. المساحة النفسية لشخصية الهلباوي ربما كانت قبلة حياة لسيد رجب نفسه، الذي برع في أداء شخصية رجل منهك جراء نضال طويل أفنى فيه حياته دون طائل وهو أسلوب رهيف كثيرًا ما أدهشنا به رجب في أعماله الأولى قبل أن يقع في شِرك الافتعال والتكرار.
وائل سعيد 22 يوليه 2022
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
في الثالث عشر من حزيران/ يونيو1906، توقفت كتيبة إنكليزية للاستراحة بعض الوقت قرب قرية دنشواي المكتظة بالغلال، فذهبت مجموعة منها لصيد الحمام ببنادقها المعمرة بالرصاص، وفي الأثناء خرجت رصاصة طائشة وأشعلت النار في الغلال بينما أصابت أخرى فلاحة مصرية فأردتها قتيلة. هكذا بدأت حادثة "دنشواي" الشهيرة التي راح ضحيتها عدد من المصريين إما بالسجن أو الإعدام، وهي المشاهد التي يفتتح بها المخرج مروان حامد أحدث أعماله "كيرة والجن" تمهيدًا لظهور شخصيتيه المؤثرتين في تطوير أحداث السيناريو الذي كتبه أحمد مراد عن روايته "1919"، وهما الفلاح عبد الحي كيرة المحكوم عليه بالإعدام وزوجته الفلاحة المقتولة.
يختفي الزوجان من الحياة تاركين ابنهما أحمد كيرة – كريم عبد العزيز في رعاية جدته إلى أن يكبر ويمتهن الطب، ويتزوج ويُنجب ويتهمه الجميع بمحاباته للإنكليز، فيما يحتفظ بوجه آخر في الخفاء، حيث يقود جماعة سرية من جماعات المقاومة ضد الإنكليز. في المقابل، نتعرف على عبد القادر الجن – أحمد عز رجل الليل والبارات المتعاون مع معسكرات الإنكليز قبل أن ينضم بدوره للمقاومة.
"الفيلم من نوعية كثيرًا ما انصرف عنها الجمهور خصوصًا في الآونة الأخيرة التي انعدمت فيها تقريبًا الأفلام الوطنية أو التاريخية، إلا أن خلطة "كيرة والجن" تمكنت من مخاطبة الجمهور من زاوية محببة" |
اللعب مع المضمون.. اختبار ليس إلا
في أكثر من حديث لنجيب محفوظ أكد على استقلالية العمل السينمائي تمامًا عن النص الأدبي المأخوذ عنه، بحيث تخضع الرؤية الفنية لكاتب السيناريو والمخرج وينتهي دور المؤلف، وقد مارس محفوظ كتابة السيناريو السينمائي في عدد من الأفلام منها "شباب امرأة. جعلوني مجرمًا. بين السما والأرض" وهو آخر تجاربه في الكتابة السينمائية، فقد نشد الرجل الحيادية التامة حين كُلف أواخر الخمسينيات بإدارة الرقابة على المصنفات الفنية، وعلى جانب آخر كانت رواياته قد بدأت تعرف طريقها إلى شاشات السينما. وما فعله محفوظ يُعد نموذجًا - شريفًا- في العلاقة الملتبسة بين الأدب والسينما، خصوصًا وهي علاقة - نفعية- بالنسبة للأخيرة فيما يخص الاستفادة من الروايات الناجحة جماهيريا وتحويلها إلى أفلام.
"بدأ التعاون بين الثنائي مروان ومراد في فيلم "الفيل الأزرق 2014/2019" بجزأيه، ثم "الأصليين 2017، وتراب الماس 2018" وأخيرا "كيرة والجن"، وهي روايات لمراد حظيت بالتقدير الشعبي والرسمي على حد سواء" |
برهن مروان بفيلمه الأول أن "ابن الوز عوام" كما يقال، من هنا وبعد تجربتين في الأكشن والسينما المستقلة "إبراهيم الأبيض 2009، 18 يوم 2011"؛ يتوجه مروان بطاقته نحو الأدب والروايات الرائجة، ولم يكن هناك مجال لعناء البحث؛ فثمة روائي شاب يحتل الساحة الأدبية ويتربع على عرش "البيست سيلر" حيث تُطبع رواياته عشرات الطبعات ويحرص الشباب على ملاحقتها أينما وجدت، كان هذا الشاب هو الكاتب ذائع الصيت أحمد مراد.
"في حوار للمخرج مروان حامد أشار إلى مشروعية هذه العلاقة النفعية بين الصورة والكتابة، وهو السبب الرئيسي في أن معظم أفلامه مأخوذة عن روايات أدبية، تم اختبار نجاحها الجماهيري مسبقًا" |
الغريب مع حالة مراد هو كتابته لسيناريوهات الأفلام المأخوذة عن رواياته، وهنا يمكن التساؤل حول أوجه الاختلاف بين ما يكتبه على الورق ثم يقتبسه في كتابة سينمائية، وهي منعدمة تقريبًا؛ فجميع مآخذ الرواية تضخ بقوة في سيناريو الفيلم سواء على مستوى الحبكة الدرامية الضاجة بالتلفيقات أو الإطالة غير المبررة فنيًا -تتجاوز رواية "1919" 400 صفحة- وأخيرًا المغالطات التاريخية المعتمدة على شعبوية الذاكرة الجمعية، ناهيك عن انعدام الهوية أيضًا وهو ما يصبغ جميع رواياته، فعوالمها مهجنة لا تحمل سمتًا خاصًا. وهي كلها عوامل قد تورط المخرج في فخ الاصطناع حتى وإن كان يمتلك مهارات مميزة كمروان حامد، ظهر ذلك بتفاوت في التجارب السابقة مع مراد حتى أن اللقاء الجديد لهما لم يخلُ من هذا كليًّا.
الغريب مع أحمد مراد هو كتابته لسيناريوهات الأفلام المأخوذة عن رواياته، وهنا يمكن التساؤل حول أوجه الاختلاف بين ما يكتبه على الورق ثم يقتبسه في كتابة سينمائية |
الرغبة في الإبهار.. فائض ملحمي
تبدأ الأحداث في الفيلم بحادثة دنشواي وتنتهي بخروج جنود الاحتلال عن مصر في 18 يونيو/حزيران 1956 وهو اليوم الذي اتخذه المصريون عيدًا للجلاء، وهنا تتجلى فكرة الوعي الجمعي الناصري الذي بقي رمزًا كقائد يُكمل مسيرة الأجداد، فطوال هذه المدة الزمنية تُستبعد الكثير من السنوات فيقفز السرد من عليها تباعًا وينتقل دون إشباع درامي، حتى يأتي البطل المُخلص من الجيش المصري مثيرًا تساؤلًا حول توقيت عرض الفيلم، 30 يونيو، أي قبل موسم العيد بأيام، وهو اليوم الذي تم فيه إسقاط حكم الإخوان في مصر بيد الجيش وقائده.
"ربما لطول الفيلم - 3 ساعات- ورحابة الفترة الزمنية للأحداث -50 سنة-، سيطرت فكرة الملحمية على صُناع "كيرة والجن" وسرى هاجس الرغبة في الإبهار بين جميع عناصر العمل وفي مقدمتها الإثارة الحركية، حيث لم يترك المخرج فرصة مناسبة أو غير مناسبة إلا وافتعل معارك ومطاردات" |
وبنفس منهجية الإفراط أو التضخيم تحركت بقية العناصر، التي لم تفتقد للحس الجمالي والفني بقدر عدم براءتها، فموسيقى هشام نزيه رغم جودتها شابها الصراخ قليلًا في بعض الأحيان، ربما لملاحقة حركة الكاميرا ونشاط بعض الممثلين الزائد وفي مقدمتهم بطلي العمل. وعن الطاقم التقني "ملابس، ديكور، وإضاءة" استطاع الفريق استحضار روح العصر التاريخي من مبان وملابس وإكسسورات بجانب المؤثرات السينمائية، إلا أن العناصر كانت زاهية أكثر من اللازم ما جعل موضوع الاستدعاء يقف عند حدود الشكل فقط.
وجوه وأدوار
لقصة الفيلم طبيعة جماعية تُحتم على السيناريو الاستعانة بعدد كبير من الشخصيات ربما بعضها لا يظهر سوى في مشهد أو اثنين على الأكثر، في "كيرة والجن" هناك ثلاث شخصيات من هذا النوع: زينب- روبي زوجة كيرة التي تموت بعد مشهدين بالحمى وتحمل في يقينها تعاون زوجها مع الإنكليز. لم يكن اختيار روبي لأداء هذا الدور سوى محاولة للاستفادة من رصيدها الجماهيري؛ حيث تعاملت مع الشخصية كمجرد زائرة وهو ما تتبعه في كثير من أدوارها ليكون المُشاهد على موعد مع روبي المُغنية وليس الشخصية الدرامية. أما حسن نشأت- إياد نصار، أحد رجال القصر المتعاونين مع المقاومة، فلم يختلف كثيرًا عن ذلك، فالشخصية نفسها ربما تكون مقحمة في السيناريو فقط لإفساح المجال لمشاركة نصار، حيث لا يوجد لها معالم واضحة ولا أبعاد نفسية ولم تخرج عن أشكال الأدوار المساعدة المعتادة أو المكررة لضيوف الشرف.
"الشخصية الثالثة شحاته – أحمد كمال من أبرع الشخصيات الثانوية الموظفة جيدًا سواء على مستوى الدراما أو الأداء، وهو أداء يأخذ القلب حقًا في مشهد وحيد نرى فيه أبو الجن الجندي القديم في جيش عرابي وهو يُقتل علي يد عقيد إنكليزي في إحدى المظاهرات" |
في نفس الصدد، يُجدر الإشادة بدور الفنان سيد رجب- إبراهيم الهلباوي أحد المناضلين القدامى وفرد هام في جماعة المقاومة، يتحول الهلباوي، بعد القبض عليه، تحولًا جذريًا فيشي بأسماء المجموعة نظير تأمين حياته ومكافأة مالية، خصوصًا وقد كبر في السن ولم يعد جسده المتعب قادرًا على احتمال قسوة السجون. المساحة النفسية لشخصية الهلباوي ربما كانت قبلة حياة لسيد رجب نفسه، الذي برع في أداء شخصية رجل منهك جراء نضال طويل أفنى فيه حياته دون طائل وهو أسلوب رهيف كثيرًا ما أدهشنا به رجب في أعماله الأولى قبل أن يقع في شِرك الافتعال والتكرار.