"مزراحيم" عن اليهود الشرقيين.. "أرض الميعاد" الملأى بالخيبات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "مزراحيم" عن اليهود الشرقيين.. "أرض الميعاد" الملأى بالخيبات

    "مزراحيم" عن اليهود الشرقيين.. "أرض الميعاد" الملأى بالخيبات
    ندى الأزهري 2 أغسطس 2022
    سينما
    المخرجة ميشال بو غانم وملصق الفيلم
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    "كانوا يحلمون بالقدس فتلقّتهم الرمال"!

    صحراء النقب كانت بانتظارهم، أراض بور، لا ماء ولا مواصلات ولا سكن. وصلوا فوجدوا بيوتًا "خالية"، يا للصدف الغريبة! كأنها تُركت لهم، كأن لا أصحاب لها، أو أنهم تخلوا عنها طواعية. لا إشارة، لا كلمة عن اغتصاب حق، عن احتلال مكان. في فيلم "مزراحيم (شرقيون)" (2022) الوثائقي للإسرائيلية الفرنسية ميشال بو غانم، كلّ التركيز كان على مأساة القادمين الأوائل إلى "أرض الميعاد"، كأنهم وحدهم الضحايا، مع خيبةٍ لهم لم تنته من تمييز عنصري إسرائيلي بحقهم، وعمل يدوي بانتظار سواعدهم. هم اليهود المشرقيون الذين كانوا يعيشون حياة حلوة في المغرب، كما ذكروا، أو في العراق واليمن... بلاد الأصل، في مدنهم، بصحبة الجيران، يصلون إلى مكان لا يعرفون فيه أحدًا، ولا يرأف بهم أحد، عليهم العمل والعمل الشاق فهم غير أكفاء ليكونوا غير ما رُسم لهم وما كان بانتظارهم. هم الذين قدموا من بلاد المسلمين، يجب الحذر منهم، من تعصبهم وعنفهم. ادعاءات كانت باستقبالهم في "أرض الميعاد" لترويضهم وتبرير معاملتهم.
    "في فيلم "مزراحيم (شرقيون)" الوثائقي للإسرائيلية الفرنسية ميشال بو غانم، كلّ التركيز كان على مأساة القادمين الأوائل إلى "أرض الميعاد"، كأنهم وحدهم الضحايا، مع خيبةٍ لهم لم تنتهِ من تمييز عنصري إسرائيلي بحقهم"
    تميّزُ فيلم "مزراحيم، منسيو أرض الميعاد" الذي يُعرض في بضعة صالات باريسية، لا يأتي من موضوعه المعروف بعناوينه العريضة، إنّما من جرأته وكشفه عبر الأدلّة والشهادات معاناة اليهود الشرقيين في إسرائيل والتمييز العنصري الذي يطالهم. فيلم يبدي (لمن يقبل أن يرى هذا) الطبيعة الاستعمارية لاحتلال أرض فلسطين، مع يهود أوروبيين غربيين قدموا واحتلوا الأرض، وعاملوا كل ما عداهم كمواطنين من درجة ثانية لخدمتهم وتسهيل استقرارهم، إنه الاستعمار القائم على الإيهام والترفع والاستغلال. لكن الفيلم ليس سردًا تاريخيًا أو تحليلًا اجتماعيًا، إنّما ربطٌ لتاريخ شخصي بوضع اجتماعي عام رغبت المخرجة عبره تكريم مسيرة والدها اليهودي المغربي الراحل، والإضاءة على أرض ميعاد مبتلاة بخيبة أمل تفرض طرح السؤال: لماذا لم تكن أرض الميعاد ميعادًا للجميع؟

    بين عبور مدن متعددة ولقاءات مع أولاد مهاجرين شرقيين وذكريات شخصية، وصور وفيديوهات عائلية وعامة من الأرشيف، تسبر بو غانم غور الماضي، وتبني السرد على شكل رسالة موجّهة من أمٍّ (المخرجة) لابنتها الصغيرة يرويها صوت نسائي بنغمة لا تخلو من مأساوية، ليسرد أحداثًا ويصف مشاعر. ومن خلالها تتبين حياة عائلة وبالتوازي معها رحلة كفاح مواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل تحولت أحلامهم إلى أوهام في أرض اللاعدالة.

    لقطتان من الفيلم.. في الصورة الثانية يمنيتان تتحدثان عن خطف أولادهما

    اتبعت المخرجة نفس الطريق الذي سار عليه والدها منذ وصل من المغرب إلى فلسطين على ظهر باخرة في خمسينيات القرن الماضي مع قوافل اليهود الشرقيين. صدمة أولى، حين أدرك القادمون في الباخرة اقتراب الأرض الموعودة، بدأوا بالتهيؤ صغارًا وكبارًا، خلعوا عنهم ملابس السفر، غير اللائقة برأيهم ليطأوا المكان، وارتدوا ثياب العيد، بدوا في حلّة بهية لم يكترث لها المستقبلون في حيفا، فكل ما كان يهمهم رشّ القادمين من بلاد المسلمين ببخاخات ال د. د. ت. معاملة لا يمكن أن يتألم لها كل صاحب قلب دون أن يصاحبه تساؤل عن أسباب قدومهم، تركهم لبلاد حنّوا إليها فيما بعد، مشاعرهم في أرض الغير. لكن، لا إثارة لهذا في الفيلم. كأن القدوم إلى فلسطين كان محتمًا ولا تساؤلات حوله. لا حديث عن أسباب ولا عن أصحاب أرض طردوا ليأتي هؤلاء، تجنبت المخرجة هذا وكان يمكنها على الأقل شرح مبررات والدها (دينية، اجتماعية، اقتصادية...؟) ومشاعره بهذا الخصوص. تتتابع صور الأرشيف في الفيلم مع عملية الفصل الفوري لليهود الشرقيين عن الأشكناز يهود الغرب، وعن محاولات إقناع لم تكفّ على أنهم ليسوا على المستوى وليس أمام أطفالهم إلا التعليم المهني. حتى اليوم، تروي أجيال جديدة أمام كاميرا المخرجة، كيف أن الدراسة في الجامعة كانت مغلقة أمامهم، كما أغلقت أمام آبائهم الذين كان عليهم البقاء في الطبقة الدنيا لمدّ الأمّة باليد العاملة والسكن في أطراف المدن فقط بعيدًا عن سكن الأشكناز.
    "تتتابع صور الأرشيف في الفيلم مع عملية الفصل الفوري لليهود الشرقيين عن الأشكناز يهود الغرب، وعن محاولات إقناع لم تكفّ على أنهم ليسوا على المستوى وليس أمام أطفالهم إلا التعليم المهني"
    تعلّم المزراحي أن يحتقر نفسه، من كثرة ما سعوا لإقناعه بدونيته. هذا ما يشهد به البعض في الفيلم، ولهذا لم يصوتوا لحركة "الفهود السود" المتمردة التي أسسها المضطهدون، ومنهم والد المخرجة، عام 1971 احتجاجًا على الوضع الأدنى لليهود الشرقيين. كان الحزب الوحيد، يعلمنا الفيلم، الذي قبل بالعرب واليهود فبعد زوال الوهم يحلّ الغضب الساطع، وتقوم مظاهرات ممنوعة من غولدا مائير في أوائل السبعينيات. لكن حرب ال 73 طمرت الحركة وتحت شعار الوحدة الوطنية اليهودية، مُحي كل خلاف. لهذا بعد أن أدرك الأبّ أنه لا يمكنه تغيير شيء في هذا البلد قرر الرحيل إلى فرنسا. اغتراب جديد وإحساس بالنفي ومشاعر بالغربة أحست بها بو غانم صغيرة في فرنسا، شبهتها بما يحسه المسلمون فيها. في فرنسا مطرٌ، لا شمس الشرق المبهجة، لا أصدقاء، لا شيء غير الحزن. وجد الأبّ ملجأه في الموسيقى، تلك كانت هويته الحقيقية، ترددت الأغاني المغربية العربية اللغة في البيت. أما هي الابنة فكانت تريد أن تكون عكس عائلتها، تخجل من هويتها المزراحية وتريد خلعها عنها، مع شعور بالنبذ والاختلاف في المدرسة فكل ما قرأت من كتّاب وشعراء كانوا غريبين عنها وعن مجتمعها. استغرق الأب وقتا قبل أن يزور المغرب من جديد ثم ليقرر العودة إلى اسرائيل، إلى الضواحي حيث سبق وسكن وألِف ليستقر من جديد.

    مظاهرات ضد التمييز، وشعار حركة "الفهود السود" ضد التمييز الإسرائيلي لليهود الشرقيين

    تنتقل المخرجة بانسيابية وسلاسة وتوازن في خطها السردي من الحميمي إلى العام في دمج بين الروائي والوثائقي يميز الفيلم عن الوثائقي التقليدي، تعكس أثر السياسة والتاريخ العام على الخاص عبر قصة أبيها ومخاطبتها لابنتها، ثم ترسم لوحة جغرافية وتاريخية عبر سرد آخرين لوصول آبائهم وأجدادهم والتعليم والعمل وما تعرضوا له من تمييز. تختار مدنًا متعددة ومختلفة لتبدي أن نفس القصة حدثت وما زالت في عدة أماكن. قصص لم تنته، هي مستمرة مع الجيل الثالث، الجيل المعاصر. فقد حُكم على اليهود الشرقيين ومنذ قدومهم لإسرائيل ولمدة أجيال عدة بالفصل عن الأشكناز والسكن في ضواحي المدن المهمّشة والبقاء في طبقة اجتماعية تتيح تزويد البلاد بيد عاملة. بتصويرها في الخارج، حيث كل في مكانه يروي قصته، تعطي المخرجة العام شيئًا من حميمية الخاص لا سيما أنها لم تتدخل في روايتهم وبدا كأنه عرض خواطر لهم أو محادثة فردية مع أنفسهم وهم يروون تاريخهم ومعه تاريخ المدينة التي بنيت، كما يقولون، من سواعد أجدادهم. مدن فارغة باردة متشابهة على الهامش. كل واحدة من هذه المدن الحديثة الفقيرة القاحلة والمحرومة تقع على أطراف مدن كبرى مثل حيفا، اللد... بُني بعضها على أنقاض بيوت فلسطينيين هُجّروا لتكون مهيأة لاستقبال المزراحيم.
    "تعلّم المزراحي أن يحتقر نفسه، من كثرة ما سعوا لإقناعه بدونيته. هذا ما يشهد به البعض في الفيلم، ولهذا لم يصوتوا لحركة "الفهود السود" المتمردة التي أسسها المضطهدون، ومنهم والد المخرجة، عام 1971 احتجاجًا على الوضع الأدنى لليهود الشرقيين"
    كأن كل شخصية تجسد مدينة. تحكي أن لا مكان لهم وأن هناك إنكارًا لما عانوا من استغلال. في اللد أب أضاع بهجة الحياة، وفي كريات غات خطف أولاد اليمنيات حين وصولهن، وفي بئر السبع أب افتقد ألوان دجلة وطعم الماء وحلم ضاع برؤية بغداد من جديد، وفي تل أبيب الأشكناز فقط فهي المدينة البيضاء... في بعض هذه الأحياء يعيش يهود وفلسطينون، إنه المكان الأمثل للتعايش كما يقول شاب يهودي مغربي يعترف بأن ثقافته غريبة عن هذا البلد وأن المغرب يعطيه هذا الإيحاء بأنه بيته، مكان في الخيال يحلم به الجميع؛ "عشنا كما لم نترك المغرب أبدًا". شهادات يتبين فيها، وعلى نحو صاعق ومدهش في كشفه، كيف كان هذا الفصل والتوجيه ممنهجًا في السياسة الإسرائيلية منذ البدء، وكيف أنه ليس موضوعًا من الماضي كما تدّعي إسرائيل. كما أنه ليس اجتماعيًا فحسب بل ثقافيًا أيضًا. فاشتهار يهود شرقيين لا يتجاوز حدود البلد خلافًا ليهود غربيين أشكناز من كتاب وصحافيين، فالثقافة الأوروبية هي التي تعطي القيمة لأصحابها.

    في إسرائيل بضعة أفلام حول الموضوع وتحقيقات، ولكن في كل مرة كانت بو غانم تذهب إلى هناك كانوا يحاولون اقناعها بأنه موضوع مستهلك، بما يعني أنه من الماضي، فلماذا متابعة الحديث عنه إذًا؟ لذلك كان معظم تمويل الفيلم فرنسيًا، أما المساهمة الإسرائيلية فكانت ضئيلة جدًا. هو مشروع لم يكن ليكتمل في إسرائيل، كما أعلنت المخرجة في حوار ترويجي للفيلم في فرنسا، فسرد كيف كان التمييز مطبقًا على نحو ممنهج "لم يكن لينال الإعجاب"، كما تظن.




يعمل...
X