"خيمة 56".. متى لا يكون الحرُّ عبدًا
أنور محمد 11 أغسطس 2022
سينما
المخرج سيف الشيخ نجيب وملصق الفيلم
شارك هذا المقال
حجم الخط
خيمةٌ من بضعة أمتار مربَّعة يتفيَّأ ويأكل ويشرب وينام ويُنجبُ ويفكِّر فيها السوري، إنَّها خيمة اللجوء في دول الجوار، خيمة الخيمات، "خيمة 56"، التي سيمارس فيها السوري الحب مع زوجته إن أمكن؛ وفي غفلة من أعين أولاده. هذا ما يصوِّره المخرج سيف الشيخ نجيب عن سيناريو لسندس برهوم، وتمثيل: نوار يوسف، علاء الزعبي، صفاء سلطان، شادي الصفدي، سارة الطويل، وليم سيجري وآخرون. يصوِّر ممارسة الجنس، ممارسة فعل الحب، على أنَّها قضية القضايا التي تشغل السوري في رحلة الشتات، في الزلزلة التي سوَّت الرطب باليابس، وكأنَّه قد نسي مأساة الحريَّة، والقهر السياسي والاقتصادي، والجشع والفساد، وكل ما يحيق بالسوري من ذلٍّ في هذه الخيام.. على كلٍّ هذا رأيه.
زوجة تريد أن تمارس الجنس بعيدًا عن رقابة الأولاد، تريد أن تصرخ، تريد أن تحرِّر جسدها من عبودية الحياء والخجل والحذر، فتقترح نصبَ خيمة، ولتكن ذات الرقم 56 - وهي الخيمة التي أقامها اللاجئون السوريون في مخيم الزعتري- والتي سيلتقي فيها الأزواج بالدور لممارسة فعل الحب، ليحلقوا بعيدًا وطويلًا في الاستمتاع بالحريَّة- هنا الجنسية. قد تكون فكرة الفيلم، وسيرورة أحداثه التي استغرقت 18 دقيقة، مقبولة، وقد جاءت في إسارٍ ضاحك، ولكنها – لكنَّه فيلمٌ لا يوجِّه نقدًا لا فرويديًا ولا ماركسيًا ولا بينَ بينْ، لمسببي الحرب، وللغريزة الجنسية؛ إنْ بصفتها لإرواء جوعٍ، أو تلقيحًا للبويضة بقصد التكاثر البشري، وأين؟ في مخيمات اللجوء.
حكاية الفيلم كان يمكن بتقديري أن تذهب إلى أبعد، وإلى أعمق وأعلى من فعل ممارسة الجنس بين رجل وامرأة. لنأخذ ما فعله الكاتب المسرحي اليوناني أريستوفانيس (446- 386 ق.م) في مسرحية "ليزستراتا"، فقد استخدم فعل ممارسة الجنس لإيقاف حرب كبرى بين الأثينيين والإسبارطيين، إذ جاء بنساءِ كلا الطرفين المتحاربين وجمعهنَّ في قلعة، ودفع زعيمتهنَّ "ليزستراتا" – لا بدَّ من زعيمٍ أو قائدٍ مُفدَّى- لأن تسوِّر كل امرأة من النساء اللاتي تحالفن في جبهة أو حزب أو جمعيةٍ سِروالَها بجنزير، فلا تفكَّه حتى يتمَّ وقف الحرب.
موقف هازئٌ ساخرٌ من عقول المتحاربين من كلا الطرفين العدوين، الذين ينشرون الموت والدمار وهم بكامل قوتهم، فتراهم يضعفون ويخرون ساجدين تحت أسوار القلعة طالبين من نسائهم فكّ الإضراب، والالتحاق بهم، فيرفضن، إلى أن يوقفوا الحرب، ويوقفونها.
أريستوفانيس ذهب من اللامعقول إلى المعقول، فبدأ بصنع مسرحيته "ليزستراتا" بصعود درجات صيرورة الفعل بشكل ديالكتيكي نحو الذروة المسرحية. طبعًا هناك فرقٌ في التفكير، وفي الفكر، بين صاحب "ليزستراتا" وبين صاحبي "خيمة 56"، المؤلِّفة والمخرج. ففي حين دشَّن أريستوفانيس شكلًا جديدًا في التفكير الدرامي وبقدرة وتعبير جمالي، نرى صاحبي الخيمة وقد سفَّا في التفكير بل وسطَّحاه، وأغرقا مشاهدهما التمثيلية - وليس الفيلم- ببعض الشبق، ومن ثمَّ التنكيت، بدلًا من أن ينتقدا الحرب ومسببيها الذين عطَّلوا على الأزواج لقاءاتهم العاطفية الحميمية في الفراش. طبعًا نحن لا نريد لمثل هذا المُنتج أن يصنع النصر أو يأتي بالسلام، ولكن على الأقل أن يكشف عورات وسوءات من يغذي الحرب التي يتغذى منها أمراؤها، فيطيلون أمد حياتهم فيما يقصرون حياة شعوبهم بالموت العاجل، وأنَّ كل حربٍ تنتهي بالسلام، أو إنَّ السلام يحلُّ غصبًا عنها كما ينفرج الليل عن النهار. ما يؤلم أنَّه في "خيمة 56" بدا السوريون وهم بكامل ألقهم، وقد قبلوا حياة اللجوء- حياة الحرب، وكما يتدبرون الطعام والشراب، عليهم أن يتدبَّروا ممارسة فعل الحب الآن في الخيمة 56 كما اقترح مخرجه، وغدًا في العراء إن احترقت الخيمة حين احترقت آخر الفيلم. في الحرب تكفُّ الحياة عن أن تكون حياة، وقد تزول أو تخف شهية/ غرائز الإنسان حتى إلى الطعام. فكيف إلى الجنس؟. سيف الشيخ نجيب الذي اشتغل في مسلسلاته على حق الإنسان في الحياة، نراه في هذه المشاهِد التمثيلية- ربَّما بنوايا حسنة- يمرِّغ كرامة ضحايا الحرب بفكر هشّ؛ فالحب أو ممارسة فعل الحب، كما رأينا في أفلام سوفياتية وفرنسية وغيرها، يخترق السدود والحواجز النفسية- الاجتماعية والدينية، وينتصر لفعل الحياة.. هذا من الجانب الفكري.
أما من الجانب الفني، وفي اللقطة المسمَّاة بالسينمائية التي اشتغل عليها سيف الشيخ نجيب الخيمة، فلا علامات، بل مشاهد تلفزيونية فجَّة- فالعين لا ترى إيقاعات، ولا علاقات في المكان بين الخيم، ولا مدى في النظر لها. بل وَضَعَنا في خواء بصري؛ مَشَاهِد مجتزأة لا طقطقة عظام فيها ولا برق ولا رعد، على حساب الحوار الذي كان هو الآخر هابطًا، وإنَّ الصورة التي يصوِّرها هي لأجساد ذات نزوع حسي – حركي؛ إن في فراش الخيمة العائلي أو الخيمة 56 المُقترحة. أستغرب كيف منحَ مهرجان الإسكندرية السينمائي جائزة أفضل فيلم روائي قصير خلال دورته عام 2018 لهذا الشريط؟!! فهو كما رأينا لا يحمل أي شرط فني أو فكري للفيلم السينمائي القصير! ولا نعرف ما هي المعايير الفكرية والجمالية التي أخذ بها المهرجان ليُمنح جائزة الأفضل؟
فالصورة في "خيمة 56"- مرة ثانية- لا إيقاع بصريًا فيها، بل مشاهِد طويلة على قصر الشريط، 18 د، لا رموز ولا إشارات ولا حركات متحولة أو متبدلة. بل هناك امرأة؛ نساء. هُنَّ مادة الشهوة الجنسية- والمؤلِّفة سندس برهوم والمخرج سيف الشيخ نجيب أوليا هذه الشهوة أهمية قصوى، فبدلًا من أن يقدِّمانها كغريزة تزاوج وتوادد وتواصل ترفع من إنسانية الزوجين، بدت كما قدَّمها المُخرج غريزة وضيعة ومنحرفة. نلاحظ أنَّ الزوج بطل الفيلم علاء الزعبي لمَّا طرحت عليه الزوجة صفاء سلطان فكرة ممارسة فعل الحب الذي لا تتوانى هي عن ممارسته كل ساعة كونها وكلَّ يوم لا تشبع منه! بحسب قولها للنساء في المخيم، إنْ في الخيمة العائلية أو في الخيمة المُنتظر نصبها، استنكرَ الزوج، لأنَّه كمن يتمُّ تدجينه أو تحوينه، مع إنَّه لاحقًا استعجل اللقاء الزوجي في الخيمة.
إنَّها المشاعرُ كما الآراءُ تتبدَّل وتتغيَّر، لكنَّ الفنان السينمائي أو المسرحي أو الموسيقي أو الرسام يُعقِّلُها؛ يُعقلنها. فهو ليس خطيبًا يثرثر، هو يروِّض الغرائز فلا تنتقم مِنَّا ويغرق العالم، أو تغرق الحياة في الفوضى الدموية للحروب كانت صغيرة أو كبيرة، محلية أو عالمية.
أنور محمد 11 أغسطس 2022
سينما
المخرج سيف الشيخ نجيب وملصق الفيلم
شارك هذا المقال
حجم الخط
خيمةٌ من بضعة أمتار مربَّعة يتفيَّأ ويأكل ويشرب وينام ويُنجبُ ويفكِّر فيها السوري، إنَّها خيمة اللجوء في دول الجوار، خيمة الخيمات، "خيمة 56"، التي سيمارس فيها السوري الحب مع زوجته إن أمكن؛ وفي غفلة من أعين أولاده. هذا ما يصوِّره المخرج سيف الشيخ نجيب عن سيناريو لسندس برهوم، وتمثيل: نوار يوسف، علاء الزعبي، صفاء سلطان، شادي الصفدي، سارة الطويل، وليم سيجري وآخرون. يصوِّر ممارسة الجنس، ممارسة فعل الحب، على أنَّها قضية القضايا التي تشغل السوري في رحلة الشتات، في الزلزلة التي سوَّت الرطب باليابس، وكأنَّه قد نسي مأساة الحريَّة، والقهر السياسي والاقتصادي، والجشع والفساد، وكل ما يحيق بالسوري من ذلٍّ في هذه الخيام.. على كلٍّ هذا رأيه.
"خيمةٌ يأكل ويشرب وينام ويُنجبُ ويفكِّر فيها السوري، إنها خيمة اللجوء بدول الجوار، "خيمة 56" التي سيمارس فيها السوري الحب مع زوجته إن أمكن؛ وفي غفلة من أعين أولاده" |
حكاية الفيلم كان يمكن بتقديري أن تذهب إلى أبعد، وإلى أعمق وأعلى من فعل ممارسة الجنس بين رجل وامرأة. لنأخذ ما فعله الكاتب المسرحي اليوناني أريستوفانيس (446- 386 ق.م) في مسرحية "ليزستراتا"، فقد استخدم فعل ممارسة الجنس لإيقاف حرب كبرى بين الأثينيين والإسبارطيين، إذ جاء بنساءِ كلا الطرفين المتحاربين وجمعهنَّ في قلعة، ودفع زعيمتهنَّ "ليزستراتا" – لا بدَّ من زعيمٍ أو قائدٍ مُفدَّى- لأن تسوِّر كل امرأة من النساء اللاتي تحالفن في جبهة أو حزب أو جمعيةٍ سِروالَها بجنزير، فلا تفكَّه حتى يتمَّ وقف الحرب.
موقف هازئٌ ساخرٌ من عقول المتحاربين من كلا الطرفين العدوين، الذين ينشرون الموت والدمار وهم بكامل قوتهم، فتراهم يضعفون ويخرون ساجدين تحت أسوار القلعة طالبين من نسائهم فكّ الإضراب، والالتحاق بهم، فيرفضن، إلى أن يوقفوا الحرب، ويوقفونها.
أريستوفانيس ذهب من اللامعقول إلى المعقول، فبدأ بصنع مسرحيته "ليزستراتا" بصعود درجات صيرورة الفعل بشكل ديالكتيكي نحو الذروة المسرحية. طبعًا هناك فرقٌ في التفكير، وفي الفكر، بين صاحب "ليزستراتا" وبين صاحبي "خيمة 56"، المؤلِّفة والمخرج. ففي حين دشَّن أريستوفانيس شكلًا جديدًا في التفكير الدرامي وبقدرة وتعبير جمالي، نرى صاحبي الخيمة وقد سفَّا في التفكير بل وسطَّحاه، وأغرقا مشاهدهما التمثيلية - وليس الفيلم- ببعض الشبق، ومن ثمَّ التنكيت، بدلًا من أن ينتقدا الحرب ومسببيها الذين عطَّلوا على الأزواج لقاءاتهم العاطفية الحميمية في الفراش. طبعًا نحن لا نريد لمثل هذا المُنتج أن يصنع النصر أو يأتي بالسلام، ولكن على الأقل أن يكشف عورات وسوءات من يغذي الحرب التي يتغذى منها أمراؤها، فيطيلون أمد حياتهم فيما يقصرون حياة شعوبهم بالموت العاجل، وأنَّ كل حربٍ تنتهي بالسلام، أو إنَّ السلام يحلُّ غصبًا عنها كما ينفرج الليل عن النهار. ما يؤلم أنَّه في "خيمة 56" بدا السوريون وهم بكامل ألقهم، وقد قبلوا حياة اللجوء- حياة الحرب، وكما يتدبرون الطعام والشراب، عليهم أن يتدبَّروا ممارسة فعل الحب الآن في الخيمة 56 كما اقترح مخرجه، وغدًا في العراء إن احترقت الخيمة حين احترقت آخر الفيلم. في الحرب تكفُّ الحياة عن أن تكون حياة، وقد تزول أو تخف شهية/ غرائز الإنسان حتى إلى الطعام. فكيف إلى الجنس؟. سيف الشيخ نجيب الذي اشتغل في مسلسلاته على حق الإنسان في الحياة، نراه في هذه المشاهِد التمثيلية- ربَّما بنوايا حسنة- يمرِّغ كرامة ضحايا الحرب بفكر هشّ؛ فالحب أو ممارسة فعل الحب، كما رأينا في أفلام سوفياتية وفرنسية وغيرها، يخترق السدود والحواجز النفسية- الاجتماعية والدينية، وينتصر لفعل الحياة.. هذا من الجانب الفكري.
"هناك فرقٌ في التفكير، وفي الفكر، بين صاحب "ليزستراتا" وبين صاحبي "خيمة 56"، المؤلِّفة والمخرج. ففي حين دشَّن أريستوفانيس شكلًا جديدًا في التفكير الدرامي وبقدرة وتعبير جمالي، نرى صاحبي الخيمة وقد سفَّا في التفكير بل وسطَّحاه" |
فالصورة في "خيمة 56"- مرة ثانية- لا إيقاع بصريًا فيها، بل مشاهِد طويلة على قصر الشريط، 18 د، لا رموز ولا إشارات ولا حركات متحولة أو متبدلة. بل هناك امرأة؛ نساء. هُنَّ مادة الشهوة الجنسية- والمؤلِّفة سندس برهوم والمخرج سيف الشيخ نجيب أوليا هذه الشهوة أهمية قصوى، فبدلًا من أن يقدِّمانها كغريزة تزاوج وتوادد وتواصل ترفع من إنسانية الزوجين، بدت كما قدَّمها المُخرج غريزة وضيعة ومنحرفة. نلاحظ أنَّ الزوج بطل الفيلم علاء الزعبي لمَّا طرحت عليه الزوجة صفاء سلطان فكرة ممارسة فعل الحب الذي لا تتوانى هي عن ممارسته كل ساعة كونها وكلَّ يوم لا تشبع منه! بحسب قولها للنساء في المخيم، إنْ في الخيمة العائلية أو في الخيمة المُنتظر نصبها، استنكرَ الزوج، لأنَّه كمن يتمُّ تدجينه أو تحوينه، مع إنَّه لاحقًا استعجل اللقاء الزوجي في الخيمة.
"سيف الشيخ نجيب الذي اشتغل في مسلسلاته على حق الإنسان في الحياة، نراه في هذه المشاهِد التمثيلية- ربَّما بنوايا حسنة- يمرِّغ كرامة ضحايا الحرب بفكر هشّ" |