"باريس من جديد".. في حبّ الحياة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "باريس من جديد".. في حبّ الحياة

    "باريس من جديد".. في حبّ الحياة
    ندى الأزهري 23 سبتمبر 2022
    سينما
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    كيف يمكن لمن شَهِد اعتداءات إرهابية ونجا منها أن يبدأ الحياة من جديد، أن يلتقي الناس ويعيد رؤية المكان فيما تسكنه مشاعر مضطربة وتعيق عودته جروح جسد وروح؟

    تعود الفرنسية أليس وينوكور في فيلمها "باريس من جديد" (2022) إلى اعتداءات الثالث عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، الذي كان أحد مسارحها مقهى باريسي. تعود بطريقتها، لا تسترجعها إلا في مشهد وحيد ضروريّ بل أساسيّ في سيرورة السرد. إنّه الفيلم الفرنسي الأول الذي يستوحي فيه السيناريو هذه الهجمات التي ضربت العاصمة. قد يتوقع المرء قبل حضوره أحداثًا، ويتخيل تفاصيل. ولكن المفاجأة تأتي من معالجة مغايرة للمتوقع، فلم يكن غرض هذا الفيلم إعادة بناء للأحداث وإنما آثارها على الضحايا وتلمّس هشاشة الوجود. تحلّ مفاجأة ثانية مع إقبال جماهيري على الفيلم، مع أن الناس في العادة يتهربون من استعادة ذكرى مؤلمة لم تمحَ آثارها بعد. فتبدي الأرقام أن عدد مشاهدي الفيلم تجاوز المائة وأربعين ألفًا في الأسبوع الأول للعرض، وهو رقم معتبر لفيلم فرنسي. إنما هو موسم العودة إلى المدارس، والعمل، وصالات السينما، كما أن الجمهور الفرنسي يتأثر في العادة بما يسمعه من الأصدقاء والمعارف وما يقرأه من نقد عن الأفلام، و"باريس من جديد" حظي بإشادات نقدية فرنسية لا سيما بعد عرضه في قسم أسبوعي المخرجين في الدورة 76 لمهرجان "كان" 2022.
    "تعود الفرنسية أليس وينوكور في فيلمها "باريس من جديد" (2022) إلى اعتداءات الثالث عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، الذي كان أحد مسارحها مقهى باريسي"
    يخالف الفيلم التوقعات إذًا في تناوله لموضوع حساس يتجنّب فيه الإثارة على الرغم من نوعيته. وهو يُبنى اعتبارًا من ذكريات لهذه الحادثة الصادمة على ميا، إحدى الضحايا، ومحاولاتها استعادة النفس والحياة وإصلاح الجروح. فكيف للذاكرة أن تعمل بعده؟ مواضيع صعبة عالجها النصّ السينمائيّ بكل رهافة، وتعامل معها الإخراج بكل عمق وإنسانية. وجاء هذا مدعومًا بالتمثيل، لا سيما الدور الرئيسي الذي أدته الممثلة فيرجيني إيفيرا بكل مقدرة وسحر، بحيث كان الانجذاب للشخصية عائد في جزء كبير منه لأدائها وحضورها الأخاذ ونظرتها المعبرة في فيلم يعتمد الصمت في عديد من المواقف. فأتى أداؤها خاليًا من أدنى مبالغة من انفعال زائد أو تضخيم تعابير. ليؤخذ المشاهد بهذا الكائن المهتزّ داخليًا إنما المصمم على المضي في سعيه للخلاص من الضياع وتضميد الجراح.

    المخرجة أليس وينوكور

    تجسد فيرجيني إيفيرا شخصية ميا، وهي مترجمة عن الروسية. لسبب ما، لصدفة من صدف الحياة تجد نفسها ذات أمسية في مقهى باريسي تنتظر انتهاء عاصفة. لم يكن مقدرًا لها أن تكون هنا، بل في مطعم مع شريكها الجراح الذي اعتذر عن البقاء معها لحالة طبية طارئة. في طريق عودتها للبيت على الدراجة النارية، تضطر للتوقف في ذلك المقهى انتظارًا لانتهاء الأمطار الغزيرة. هناك، تستمتع وحيدة بدفء الأجواء وحرارة الحياة المتجسدة في الموجودين من حولها، تتأمل المحيطين وتصادف نظرتها عيونًا مبتسمة لشخص غريب، توماس (بنْوا ماجيمل) كان يحتفل بعيد ميلاده على طاولة مقابلة. كل شيء إلى الآن كان يسير دون تدبير مسبق كصدفة عادية. والفيلم يمهّد بتشويق إلى ما ستؤدي إليه كلّ هذه الصدف المتلاحقة على الرغم من معرفة المشاهد بها. ثم يأتي المشهد المنتظر. هنا يلعب الصوت دوره في بثّ مناخ من الرعب عبر انفجارات وإطلاق نار وصراخ ضحايا، ليكتمل المشهد بصريًا مع زجاج متناثر وأجساد مرتمية على الأرض ودماء في كل مكان فقط. لا وجوه لأحد ولا حتى للمعتدين. اختارت المخرجة تصوير المشهد بعيون ميا، فالفيلم هو من وجهة نظر بطلته، لذلك وهي مستلقية على بطنها لم تكن ترى هؤلاء سوى أرجلهم ولا تجرؤ على رفع نظرها إليهم كي لا يكتشفوا أنها حية، يبدون كأشباح متحركة بأقدام تتنقل بين الخراب.
    "المفاجأة تأتي من معالجة مغايرة للمتوقع، فلم يكن غرض هذا الفيلم إعادة بناء للأحداث وإنما آثارها على الضحايا وتلمّس هشاشة الوجود"
    المشهد لا يطول. المخرجة استوحت ما رواه لها شقيقها الذي شهد أحد هذه الاعتداءات، وهو أخبرها أنّ الاعتداء غير قابل للتجسيد، أنّ فظاعته تتجاوز الواقع والخيال. لكن المخرجة مع هذا حققت مشهدًا مذهلًا بقوة تأثيره، فألّا ترى وجوه المعتدين بل تتابع أقدامهم فقط كفيلٌ بإثارة أحاسيس عميقة من رعب وترقب وتخيل مواقف الضحايا ولو لثوان. مشهدٌ سيكون على أي حال ركيزة في الفيلم لاستعادات لاحقة كفلاش باك لكن برؤى مختلفة تتعلق بأسلوب تصوّره لدى الضحية. لقد بقي كشذرات في الذاكرة، تصرّ ميا على وصلها لتتضح لها الصورة. كان ذلك ضروريًا للشفاء، نسيت تفاصيل كثيرة كان يجب أن تستعيدها حين عودتها من جديد إلى باريس بعد ثلاثة أشهر من استراحة في الريف عند أمها.

    فيرجيني إيفيرا بدور "ميا" وبنوا ماجيمل بدور "توماس" في لقطتين من الفيلم

    لقد نجت ميا وتوماس إذًا، لكنهما أصيبا بصدمة عميقة، هو فقد ساقه وهي فقدت جزءًا من ذاكرتها، ذلك المتعلق بالاعتداء. كانت تعاني كناجية ضائعة ولم تكن راضية عن معاناتها كأنها شخصية تخرج من الجحيم وتعود تدريجيًا إلى الحياة. تختار ميا أن تترك حياتها الماضية مع شريكها الذي كان يخونها. تسعى للانفتاح على الآخرين الذين كانوا في المقهى وتنغمس تمامًا في جهودها لمحاولة بناء نفسها وإعادة تركيب الحدث بتسلسله الزمني، وإيجاد الأشخاص الذين أحاطوا بها خلاله، تفعل ذلك بهدوء وتركيز وتصميم. والمخرجة وجدت الطريقة المثلى للتعبير عن حالة ميا، بدقة وفعالية ودون مبالغة في المشاعر. خلال رحلة ميا يبدي الفيلم المجتمع الفرنسي بتركيباته الاجتماعية. لقد كان الكل متواجدًا بالصدفة هناك، من الطبقة البرجوازية المرفهة (ميا وشريكها وأصدقاؤها) إلى المتوسطة الشعبية (توماس) مرورًا باللاجئين غير الشرعيين ومنهم السنغالي الذي كان له دور في تهدئتها خلال اختبائها من الإرهابيين. لقد اجتهدت للعثور عليه فيما بعد، كان هذا مهمًا لها. عمليات البحث عن اليد الأخيرة التي أمسكت بيدها وساعدت في بث شيء من اطمئنان وتقاسم مصير في قلب ميا، كانت مناسبة للمخرجة للتوغل في بيئات المهاجرين غير الشرعيين في تطويلٍ للفيلم بدا مفتعلًا أحيانًا، ومقحمًا بعض الشيء، كأنه خطاب سياسي لائق يتوخى القول بأن كل من على الأرض الفرنسية يد واحدة.

    يحمل الفيلم الأمل، ويبدو كقصيدة رقيقة في حبّ الحياة والانتصار على الهمجية. وينجح في بثّ التعاطف مع بطليه خاصة، فالأدوار الأخرى سواء للضحايا أم للذين لم يعيشوا التجربة لم تكن بقوة التأثير ذاتها. لقد قُدّمت ميا ومعها توماس ككائنات مصدومة، هشة أحيانًا ولكنها شجاعة في مواجهة المحنة التي مرت بها. وكانت الشخصية الثالثة في الفيلم باريس، فهي أيضًا أصيبت في هذه المأساة، ورؤيتها من جديد، كما هي الترجمة الحرفية لعنوان الفيلم بالفرنسية، بعد إصابتها تجديد لها. إنها نظرة ميا الجديدة لباريس وسكانها غداة الاعتداء، كأنها لا تعرفها فتكتشفها وتكتشف أهلها مرة أخرى بعيدًا عن محيطها البرجوازي الضيق.
    "قُدّمت ميا ومعها توماس ككائنات مصدومة، هشة أحيانًا ولكنها شجاعة في مواجهة المحنة التي مرت بها. وكانت الشخصية الثالثة في الفيلم باريس، فهي أيضًا أصيبت في هذه المأساة"
    بدأ تصوير الفيلم مع بدء محاكمات 13 نوفمبر/ تشرين الثاني في خريف 2021 وبذلك تجاورَ الواقعي والروائي في مخيلة المخرجة، كما تقول في حوار ترويجي. لقد اعتمدت مقاربة ملموسة وموثقة للغاية لموضوعها ولم يكن الهجوم بحدّ ذاته ما يثير اهتمامها، ولذلك لم يحتو الفيلم على أي إشارة إلى هوية المهاجمين أو أهدافهم أو عقائدهم. كل تركيز المخرجة كان موجهًا نحو الناجين من الاعتداء وذاكرتهم. وما أدهشها عند اللقاء بالضحايا هو أن الجميع يريد إعادة بناء نفسه بمفرده أو مع الآخرين وإيجاد السعادة. لقد التقت جمعيات لهم وأبدت قصص أفراد منها في الفيلم "كانوا جميعًا يبحثون عن معلومات حول الأشخاص الذين كانوا معهم، والذين تبادلوا معهم نظرة خاطفة أو بضع كلمات دعم ...". وفكرة أن بطلتها تحقق في الذاكرة جعلتها تلتقي بأطباء نفسانيين أخبروها عن ظاهرة "الذاكرة المتكررة اللاإرادية" والفلاش باك الذي يختلف عن الفلاش باك التقليدي في السينما، فهنا يتعلق الأمر بإعادة إحياء تجربة صادمة من الماضي. حيث تظهر فجأة وبشكل لا إرادي صور ذهنية تغزو الوعي، صور ملتقطة ومربكة مثل شظايا مرآة محطمة وهذا ما جسدته لدى ميا.

    لا بدّ للمرء أن يفكر بعد هذا الفيلم بكل ضحايا الاعتداءات من كل شكل ونوع في العالم العربي، الذين لم يكترث أحد لمعاناتهم النفسية والحياتية... والذين كانوا يستفيقون غداة اعتداء على اعتداء آخر بدون أن يجدوا فرصة لبناء أنفسهم واستعادة ذاكرتهم... فقد كان جلّ اهتمامهم منصبًّا على طريقة تنجيهم من اعتداءات أخرى لا بد قادمة.


يعمل...
X