فيلم "وداعًا ليونورا".. تلويحةُ وداعٍ تَطْوي صفحة الماضي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فيلم "وداعًا ليونورا".. تلويحةُ وداعٍ تَطْوي صفحة الماضي

    فيلم "وداعًا ليونورا".. تلويحةُ وداعٍ تَطْوي صفحة الماضي
    محمد جميل خضر 24 سبتمبر 2022
    سينما
    لقطة من فيلم "وداعاً ليونورا" للمخرج باولو تافياني
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    بما يشبه تلويحةَ وداعٍ مرتجفةَ الأصابع نابضةَ الشرايين، ينجز العجوز الإيطاليّ باولو تافياني/ Paolo Taviani (91 عامًا)، كتابةً وإخراجًا، فيلمه الأخير "وداعًا ليونورا" (2022).
    في كلمات الفيلم الأخيرة على لسان الروائي الإيطالي لويجي بيراندللو (1867 ـ 1936)، يقول الصوت العميق: "لا بد للزّمن أن يمر، وأن يجرفنا بكل سيناريوهات حياتنا. بالنسبة لي، فلقد طويت سيناريو حياتي بالفعل، ووضعته تحت ذراعي". أتخيّل تافياني، هنا، يستعير العبارة لتتجلى بوصفها لسانَ حاله هو أيضًا، ولسان حال شقيقه ورفيق دربه فيتوريو الذي رحل عام 2018، وترك لشقيقه باولو إرثهما المشترك المتمثل بأفلام نوعيةٍ أنجزاها معًا.


    ساحريّةٌ ملتبَسة..
    ملصق فيلم "وداعًا ليونورا"
    بعيدًا عن الواقعية السحرية التي تبناها الأخوان تافياني في فيلمهما "ليلة سان لورينزو/ La notte di San Lorenzo"، الحائز عام 1982 على سعفة "كان" الذهبية، المتخذ من حقل ذرةٍ ساحةَ معركةٍ بين الثوار والأنصار من جهة، والنازيين والفاشيين من جهة ثانية، المتدفقة فيه موسيقى نيكولا بيوفاني/ Nicola Piovani بطلًا مطلقًا، فإن ما استبقاه باولو من هذه الواقعية في شريطه الجديد، الذي توحي رسالته وسرديته وكثير من تفاصيله كما لو أنه الفيلم الأخير لباولو الذي يدخل في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عامه الثاني والتسعين، شذرات من واقعية سحرية ظهرت كما لو أنها طيّ موجع لصفحة الروائي الإيطاليّ لويجي بيراندللو الحائز في عام 1934 على جائزة نوبل للآداب، والمتّهم بتعاونه مع الفاشيين، وقربه لسنوات من الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني (1883 ـ 1945).

    "توحي رسالة الفيلم، وسرديته، وكثير من تفاصيله، كما لو أنه الفيلم الأخير لباولو الذي يدخل في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عامه الثاني والتسعين"


    معظم مفارقات هذه الواقعية مسّت جنازة بيراندللو صاحب أحد أهم النصوص المسرحية العالمية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" التي أصدرها في عام 1921، وصاحب رواية "واحدٌ، ولا أحد ومائة ألف". ومسّت، إلى ذلك، رفاة الروائي الذي أوصى أن يُحرق جسده ويذرّى رماده في البحر، وإلا فيوضع داخل صخرة "خشنة" في جزيرته صقلية.
    الأخوان تافياني
    لتوضيح الأمر، لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء، ففي عام 1998، لم يحقق فيلم الأخوين تافياني "أنت تضحك/ Tu ridi"، أي نجاح، وتعرّض لنقدٍ لاذع، وربما اعتقد المخرجان أن كل هذا الهجوم الشرس على الشريط سببه استناد حكاياته وسرديته على عدد من قصص بيراندللو، الذي أُقفل عليه، رغم غزارة إنتاجه وتميزه ونيله نوبل، باب الانتشار الأوروبي على وجه الخصوص، والغربي على وجه العموم، فلا أحد يملك جرأة الدفاع عن أدب كاتب يحمل وصمة الفاشية رغم كل ما فعله في سياق الانقلاب عليها، وتمزيقه في عام 1927 بطاقة عضويته في الحزب الفاشي أمام أمين عام الحزب، ورغم صرخته الموجوعة قائلًا مرّة: "أنا لست سياسيًا. أنا مجرد فرد في هذا العالم الموبوء".
    لقطة من فيلم "وداعًا ليونورا"
    "معظم مفارقات هذه الواقعية مسّت جنازة بيراندللو صاحب أحد أهم النصوص المسرحية العالمية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" التي أصدرها في عام 1921، وصاحب رواية "واحدٌ، ولا أحد ومائة ألف""


    الآن، وبالرجوع إلى شريطنا موضوع التأمّل، فإن سؤالًا مؤلمًا يتململ داخل الضلوع: هل أراد باولو، وهو في هذا العمر، تقديم أوراق اعتماد براءته من ربقة بيرانديللو عبر تعريض مسيرة رماده من روما إلى صقلية، وقبل ذلك وضعها في جدار فاشي داخل مبنى حكوميّ في روما، إلى سلسلة من المفارقات المضحكة المقلّلة من شأن الرجل، الموغلة بالسخرية من الإناء الذي يحمل هذا الرماد، ومن الرماد نفسه الموجود داخل هذا الإناء؟


    رحلة الرماد..
    لقطة من الفيلم
    تبدأ المفارقات المتعلقة بما بعد رحيل بيراندللو، منذ لحظة تمدده خلال زفرات الموت جسدًا غير واضح الملامح ينعي نفسه، ويتألّم لمتوالية العمر فوق أجساد أولاده: "ها هم يكبرون.. ها هم يتقدمون نحوي.. لماذا أصبح لون شعرهم أبيض؟ لماذا وجوههم شاحبة؟ أشعر بحنان كبير نحو أولادي الكبار في السن". ثم نسمع بعد ذلك صوت وصيته: "اتركوا جثتي المحترقة تتناثر فلا يبقى منها ولا حتى الرماد". ثم مشهد دخول صندوق خشبي قبيح التفاصيل داخل أتون النار، وإقفالُ بابٍ حديديٍّ على الصندوق بقسوةٍ صادمةٍ مدوّيةِ الصوت. ثم مشهد لِموسوليني (أدّى دوره لوكا تشيللينو/ Luca Ghillino)، يتحدث مع مستشاريه راغبًا باستثمار جنازة روائيٍّ كبير. يذكّره أحد مستشاريه بِنيْل بيراندللو جائزة نوبل، يضيف هذه المعلومة لِما طلبه منهم من مظاهر بروبوغاندا خاصة بالجنازة، إلى أن تخيب آماله جميعها، بعد سماعه وصية الراحل المتعلّقة بالحرق والرماد. مشهد لِموسوليني وحده يجلس إلى مكتبه، يعيد قراءة الوصية بامتعاض، يغادر المكتب بعد أن يكتب على زجاج النافذة كلمة "أبله".

    "بعد اندحار الفاشية، وتحديدًا في عام 1946، ينتقل بنا المخرج إلى مشهد سيارة يترجّل منها أحدهم (الممثل فابريزيو فيراكاني/ Fabrizio Ferracane)، ويتابع عملية فتح الجدار الذي يحتوي على رفاة بيراندللو"


    مشهد لوضع الإناء الفخّاري الذي يحتوي على رفاة بيرانديللو داخل حائط مبنى حكومي في روما. بعد عشرة أعوام من "الحرب والخوف والهمجية والكفاح"، وبعد اندحار الفاشية، وتحديدًا في عام 1946، ينتقل بنا المخرج إلى مشهد سيارة يترجّل منها أحدهم (الممثل فابريزيو فيراكاني/ Fabrizio Ferracane)، ويتابع عملية فتح الجدار الذي يحتوي على رفاة بيراندللو. العامل يكسّر الطوب بعنف غير مبال بالجرّة الفخّارية خلف تلك الطوبة، يطلب منه الرجل المشرف على العملية (مندوب الإدارة الصقليّة) الترفّق خلال عمله من دون جدوى، حيث يواصل العامل تحطيم الطوب على طريقته. يجري حوار بين الرجل المكلف باستعادة الرفاة، وبين رجل آخر تحمل عيناه سخريةً فاضحةً من المهمة برمّتها، يسأله صاحب العينيْن الساخرتيْن: "هل تعتقد أن الأميركيين معنيون بالرجل ورفاته، فهم، يتقنون قطع الوعود، ولكنهم يخلفون، عادة، معنا نحن الطليان، ويعاملوننا كأننا غزاة. ربما معهم بعض الحق"، يستدرك ويقفل جملته. بطريقة حالمة ساذجة يذكّره المكلّف أن الرجل حائز على جائزة نوبل، وأن الأميركيين يقدّرون، حتمًا، ذلك.
    لويجي بيراندللو
    ها قد مررنا بثلاثة مشاهد سخرية من وفاة بيراندللو ومن رفاته: وضع الرفاة في جدار حكومي من دون أي نُصْبٍ، أو جماليات عمارة، طريقة إخراج الرفاة، سخرية الرجل الواقف إلى جوار المكلف من الفكرة والمهمة وتركيزه على سجائر المكلف الأميركية نوع "كَمِل، أو جمل/ camel"، أكثر من تركيزه على خشونة عمّاله. السخرية الرابعة تحققت عندما ركب المكلّف باستعادة الرفاة، طائرة مروحية ومعه صندوق خشبي يحتوي على جرّة فخّارية داخلها الرفاة، كان أول الراكبين، وعندما انضم ركاب آخرون إلى الطائرة البشعة (جدًّا) بمقاعدها الحديدية الجدباء القاسية، وسقفها الواطئ، ولونها الرماديّ، ومختلف تفاصيلها الكئيبة، وبعدما عرفوا أن الصندوق الذي يحضنه الرجل يضم رفاة ابن جزيرتهم لويجي بيرانديللو، كما تهامسوا واحدًا تلو الآخر، قرروا جميعهم مغادرة الطائرة متبنّين معتقدًا شعبيًا يتعلّق بشؤم الركوب مع جثة. يتوسّل إليهم مساعد الطيار البقاء من دون جدوى، وعندما لم يبق إلا المكلّف، يقرر الطيار إلغاء الرحلة. يجرجر الرجل نفسه وأذيال صندوقه، ويعود إلى صقلية بالقطار، وخلال الرحلة يسرق بعض ركاب الرحلة الصندوق ليلعبوا فوقه ورق الشدّة (سخرية خامسة).

    "عمارة "وداعًا ليونورا" الذي يهديه باولو إلى أخيه فيتوريو، غابت عنها معظم جماليات أفلامهما السابقة، باستثناء افتتان الفيلم بقبّة، يبدو أنها قبّة قاعةٍ ملكيةٍ سويدية، بدأ الفيلم منها وانتهى"


    أما السخرية السادسة فحدثت عندما رفض الأسقف (كلاوديو بيغاغلي/Claudio Bigagli) مباركة الرماد المتكوّم في "جرّة رومانية"، فاقترح عليه أحدهم وضع الجرّة وما تحتويه من رماد في نعشٍ كنسيّ، فتحمّس للفكرة، وأصدر أوامره في الحال لتنفيذها، ولكنّ الكوليرا لم تُبقِ نعشًا كبيرًا واحدًا، فاضطروا إلى وضع الجرّة في نعش طفل، وتساءل أطفال الجزيرة وهم يتابعون الجنازة هل الميت طفل، وحين أتت الإجابة من ذويهم أنه ليس طفلًا، فقد تبنّوا رواية أنه، بالتالي، لا بد أن يكون قزمًا. نقلت طفلة الفكرة لأخيها، سمعتها أمهما يضحكان فاستفسرت منهما، وعندما أخبرتها البنت بفكرتها حول أن الذي داخل التابوت هو مجرّد رجل قزم، ضحكت الأم بدورها، ثم ضحك الأب بعد أن أبلغته الأم بما قالته ابنتها، ثم ضحكت (سِلفتاها) بعدما أخبرتهما، ثم ضحك حماها (والد زوجها) وخلال ثوانٍ تحوّلت الشرفة التي يتابعون منها الجنازة إلى منصة ضحك!
    السخرية السابعة عندما كشف الأسقف كمن يحدّث نفسه أنه يعرف الرجل، وقرأ له عندما كان يدرس في المعهد اللاهوتي، ثم اضطر إلى الاعتراف بإثمه المتمثّل بقراءة مسرحيات وروايات لبراندللو. ثم استدار فجأة نحو ثلاثة من شبّان الكنيسة، وسألهم: وأنتم ألم تقرؤوا له؟ تردّدوا، ثم تشجّع أحدهم و(اعترف) أنه قرأ له رواية "الكبار والصغار" (1913)، فإذا بالقس يسأله إن كان يحفظ الإهداء الذي تُستهل به، عادة، الكتب، وكأنّ الإهداء هو أول القراءة وآخرها، وإذا بالشاب الذي يخدم في الكنيسة لا يحفظ حتى الإهداء، فيذكّره القس به: "إلى أطفالي الصغار اليوم.. الكبار غدًا".
    أما السخرية الثامنة فتحقّقت عندما لم يعتنِ من قاموا بنقل الرماد من الجرّة الفخّارية إلى وعاء معدنيّ بتفاصيل هذا النقل، ولم يكترثوا لسقوط كثير من هذا الرماد فوق ورق الجريدة التي وضعوها تحت الإناء المعدنيّ. الوعاء أصغر من الجرّة، ولتثبيت الغطاء عليه، لا بد من التخلي عن كثير من هذا الرماد، وهذا ما فعلاه تمامًا.
    كان لا بد من هذه الإطالة للدفاع عن فرضيتي أن الفيلم، وبقدر ما يحتفي ببراندللو، ويستهلّ دقائقه التسعين بمشاهد حقيقية لَحْظةَ نيله نوبل، فإنه، وفي الوقت نفسه، لا يمانع بقليل من (التفكّه) على ما آلت إليه أحواله بعد رحيله، بدءًا من مأساوية رحلة رفاته، وليس انتهاء بإدارة الظهر له ولمنجزه تحت ذريعة فاشيّته.
    تفكّه يشبه التطهّر، طي صفحةٍ (ما) من تاريخ إيطاليا، وعلى وجه الخصوص، جزيرتها القابعة في خاصرتها الجنوبية الشرقية صقلية صاحبة نقاط اللقاء الكثيرة مع بلاد شرق المتوسط. طيّ صفحة العهد الفاشي، وكل ما/ من ارتبط به، وكل من اتهم بهذا الارتباط، سواء أكان هذا الاتهام منصفًا، أم متجنيًّا.


    ومضات من وحي الشريط..
    العمارة:
    لقطة من الفيلم
    يعتني الأخوان تافياني/ Paolo e Vittorio Taviani في أفلامهما عناية فائقة بالعمارة، وكيف لا يفعل مخرجان ينتميان إلى بلد له تاريخ عريق في فن العمارة ذلك؟ تمر الكاميرا بانحناءات مندهشة على القباب، والكاتدرائيات، وشموخ الأعمدة، وتفاصيل التماثيل، وجماليات النحت والرسم والتصوير، ومختلف مكملات المشهد المعماري. تعاين المفردةَ المعماريةَ من مختلف زواياها. أما عمارة "وداعًا ليونورا" الذي يهديه باولو إلى أخيه فيتوريو، فغابت عنها معظم جماليات أفلامهما السابقة، باستثناء افتتان الفيلم بقبّة، يبدو أنها قبّة قاعةٍ ملكيةٍ سويدية، بدأ الفيلم منها وانتهى يتأمّل جمالياتها من الداخل، تقترب الكاميرا منها من أسفل إلى أعلى، تحدّق فيها، في حين ما يزال صدى التصفيق على جائزةٍ طواها النسيان، يفرض حضوره على صوت المشهد وموسيقاه.


    الموسيقى
    الموسيقى بطلٌ رئيسيٌ في جلِّ أفلامهما. وفي كثير من تلك الأفلام قدّم لهم، على وجه الخصوص، الموسيقي الإيطاليّ البارع نيكولا بيوفاني، إضافات ذكيّة عميقة النغم، وأثرى أفلامهما. وفي الفيلم (موضوعنا) شكّلت موسيقى بيوفاني معادلًا موضوعيًا جماليًّا أخلاقيًّا لما ازدحم به الشريط من أجواء سخرية من حادثة موت، وشلعت المقطوعات التي خص بها بيوفاني "وداعًا ليونورا" قلوب المهاجرين المشتاقين لجزيرتهم البعيدة. كما أن موسيقى الفيلم نقلت مستويات التعبير إلى مطارح أرقى وأبهى، وتفاعلت بلمسة ساحرة مع المشهدية البصرية على اختلاف مدلولات هذه المشهدية.


    المشهدية البصرية
    بين الأبيض والأسود، والصورة الملوّنة، حافظ باولو في شريطه الأول مخرجًا، وحده من دون رفيق دربه، على سمات عامة تشترك بها معظم مسيرتهما: الطبيعة الموحشة على امتداد الكادر. البيوت المحايدة، أو المتوعّدة. الصمت الساكن فروع الشجر، وعشب الطريق؛ الصمت المثقل بالأنين. أما السمات البصرية الخاصة بـ"وداعًا ليونورا" وحده، فمنها: كآبة ألوان المشهد. ركود صقلية وانزواء بحرها. ريفية التفاصيل بعيدًا عن صخب المدينة وناطحاتها وشوارعها وضوضائها.


    سينما المخرج
    يعتمد الأخوان، كثيرًا، على منهجية سينما المخرج، وأفلامهما، في العموم، لا تعد بانبثاق نجوميةِ ممثل ما. وهو ما ظهر واضحًا في الجزء الثاني من "وداعًا ليونورا" المتضمّن تحويل قصة كتبها بيراندللو قي أخرياته تحت عنوان "المسمار" إلى مقتطفٍ سينمائي، فهذا المقتطف (الفج) ضمن سردية الفيلم غاب عنه الأداء المقنع، تقريبًا، تمامًا. والقصة تسرد حكاية طفل اقتلعه والده من حضن أمه الصقلية، وأخذه معه إلى نيويورك، وعاش حالة الفقد اليومي، إلى أن طعن طفلة بمسمار متسببًا في وفاتها. المفارقة الغرائبية في قصة "المسمار" أن الطفل باستانيادو (أدّى دوره ماتيو بيتيروتي/ Matteo Pittiruti) ظل يكرر في إطار توضيحه للجهات المعنية في حي بروكلين النيويوركي ما جرى، أن المسمار سقط من عربة نقل مواد البناء "عن قصد/ on purpose"، و"عن قصد" تعاركت طفلتان أمامه بصوتٍ بدائيٍ مرعبٍ مزعجٍ، وقبل ذلك شعر بالحنين إلى أمّه وجزيرته وخرج يستنشق، كما اقترح عليه والده، بعض أنفاس الباحة "عن قصد". كما لو أن بيراندللو يريد أن يقول من خلال قصته هذه إننا ضحايا أقدارنا، فبقدر ما تمثّلت الصبية التي كانت تتقاتل مع صبية أخرى بضراوة وشراسة، وتصرخ كما كائنات غير بشرية، وتمد لسانها لها بشكل استفزازيٍّ مروّع، بقدر ما تمثّلت بوصفها ضحية، فإن الصبي باستانيادو ضحية أيضًا، وربما تظهر هذه الفكرة أكثر وضوحًا، عندما يلمح الطفل وهو موقوف في مركز الشرطة الصبية المقتولة مسجّاة فوق سرير، فيتوجّه نحوها، يتأمّل فقرها وحذاءها الممزّق، يعدها أنه سيفكّر بها طوال حياته، وأنه بعد خروجه من السجن سيزورها مرّة كل عام، وينتهي الفيلم ونحن نشاهد هذا الطفل وقد أصبح رجلًا، ثم عجوزًا، يواظب على زيارة شاهد قبرها كل سنة بشكل منتظم، لينتهي الفيلم بالعبارة التي بدأنا بها: "لا بد للزّمن أن يمر، وأن يجرفنا بكل سيناريوهات حياتنا. بالنسبة لي، فلقد طويت سيناريو حياتي بالفعل، ووضعته تحت ذراعي". أما ما قاله بيراندللو بعد مشهد تسلّمه جائزة نوبل، وتطويق عنقه بوسامها: "لم أشعر بوحدةٍ وحزنٍ كما أفعل الآن. حلاوة المجد لا تُعَوِضُ مرارةَ كُلْفَتِها".

    "ينتهي الفيلم بالعبارة التي بدأنا بها: "لا بد للزّمن أن يمر، وأن يجرفنا بكل سيناريوهات حياتنا. بالنسبة لي، فلقد طويت سيناريو حياتي بالفعل، ووضعته تحت ذراعي""


    وفي المستهلّ، كذلك، سؤال الوجود الخالد، يطلقه باولو على لسان بيراندللو: "هل انتهت حياتي"؟ فهل يتجلّى "وداعًا ليونورا"، بوصفه تلويحةَ وداعٍ، لم يرغب باولو بأن يدير ظهره، بعد رحيل رفيق دربه، قبل أن يوصل عبر هذه التلويحة/ الفيلم، جملةً من الرسائل والقيم السياسية والجمالية والأخلاقية؟ وهل أراد "دب" برلين وهو يمنح الفيلم ثلاث جوائز في طليعتها جائزته الذهبية اللامعة، إضافة لـ FIPRESCI Prize، هل أراد التعبير عن الامتنان لهذه التلويحة عميقة الدلالات، متينة الحضور السينمائيّ، رغم تعب السنين، وألم الفقد، ورغم تراجع الزمن الإيطاليّ العتيد؟
يعمل...
X