"فرحة": شمعةٌ خجولةٌ تواجه الظلام
محمد جميل خضر 10 ديسمبر 2022
سينما
لقطة من فيلم "فرحة"
شارك هذا المقال
حجم الخط
حسنًا فعلت دولة الاحتلال بمهاجمتها، عبر أجهزتها جميعها، الديبلوماسية والإعلامية والتأثيرية، فيلم "فرحة"، المقترب، على ما يبدو، من وصول أبواب الأوسكار، بِطَرْقٍ خفيفٍ بطيءٍ خجول. فهي بهجومها العشوائيّ لفتت انتباه من لا ينتبهون عادة للفيلم وقصته ومحتواه. وهي بهجومها جعلت الفيلم يتصدر تغريدات المغردين، ويتحوّل إلى (تريند) رغم أنف المهاجمين.
هجومٌ عنصريٌّ جلُّه، أجزم، لم يشاهد الفيلم، ودفاعٌ، في المقابل، شعبويٌّ، جلّه، أجزم، لم يشاهد الفيلم.
ها نحن نعود لموضوع مادتي السابقة في ملحق "ضفة ثالثة" النوعيّ الفريد، في زمن انكماش الوعي الرشيد، وهيمنة الانجراف الجمعيّ البليد. فموضوعي الذي يحمل عنوان "سيكولوجيا التلقي: خيارات الجمهور وآفاق الدائرة"، المنشور في الثالث من الشهر الجاري، يركّز، أساسًا، على ميكانيزمات تحريك الجمهور، ومهارات ترويض الرأي العام.
تتناقل وسائل إعلام كثيرة، عربية على وجه الخصوص، أخبار اعتراض سلطات الاحتلال على الفيلم الذي أنتجته ديمة عازر، وآية جردانة، وأخرجته دارين ج. سلّام، وتتحدث عن "الهجوم العنيف" الذي قاده، في الأساس، وزيرا المال والثقافة في دولة الاحتلال، ولحقت بهما الجهات التابعة لهما، ووسائل إعلام محسوبة على (بروباغندا) الاحتلال وسرديّته.
والسؤال المهم، في رأيي، هنا، لماذا أخّرت منصة نيتفليكس، عرض فيلمٍ أُنتج عام 2021، حتى نهاية عام 2022؟ (بدأ وضع الفيلم على المنصة، منتقلًا منها إلى منصات أخرى (شرعية وتهكيرية) مطلع الشهر الأخير ديسمبر/ كانون الأول من هذا العام 2022). لماذا بدأ الهجوم الآن، وبدأ، في المقابل، الدفاع عن الفيلم الآن؟ وكيف يُرشّح فيلمٌ أُنتج عام 2021 لأوسكار 2023؟
من حقّنا طرح الأسئلة، ومن حق صانعات الفيلم تزويدنا بالإجابات.
ملاحظات أولية
الموضوع الرئيسي، حين نتحدث عن السينما، هو الفيلم نفسه، فالزميل عبد الباري عطوان، على سبيل المثال، الذي (بشّر) في مقال له في جريدة "رأي اليوم"، أن الفيلم يشكّل مدماكًا جوهريًّا في زوال أكذوبة "معاداة السامية"! لم يتطرق في مقاله إياه لمحتوى الفيلم لا من قريب ولا حتى من بعيد البعيد، ويهتف في مقاله، واثقًا، أن "أكذوبة معاداة السامية (الابتزازية المسمومة) لن تمنع وصول فيلم "فرحة" الأردني إلى "الأوسكار" وإلى الشرفاء في كل العالم".
الفيلم نفسه لا بأس به، محاولة صادقة لعرض النكبة الفلسطينية من زاوية، صحيح أنها ضيقة، ولكنها إنسانية. ويبدو أن الرقيب (الصهيونيّ) ومن يمشي على مشيه من باقي رقباء العالم كان حاضرًا في ذهن المنتجتيْن والمخرجة ووعيهنّ، وهنّ عاكفات على صناعة الفيلم، فعدد الإشارات الواردة في الفيلم حول مراعاتهن (الرأي العام العالمي) أكثر من أن تحصى:
أولًا: ولا مرّة ترد في الفيلم كلمتيّ عصابات صهيونية (المعروف أن الوجود الإسرائيلي في فلسطين قبل عام 1948، اقتصر على عصابات شتيرن وإيتسل وهاغاناه، وغيرها من العصابات الصهيونية المدعومة، على الأقل وقتها، من الانتداب البريطاني). وفي حين يجري التطرّق للوجود البريطاني، يصوّر الفيلم لحظة مغادرة الجيش الإنكليزي أرض فلسطين، والأولاد والبنات يلاحقون شاحنات نقل الجند بالحجارة والأسلحة الخشبية، والجنود راضون خاضعون خانعون ينظرون لملاحقي آلياتهم من الأولاد والبنات من دون أن يقوموا بأي رد فعل، في مشهد حالم أكثر مما يشكّل نقلًا للواقع الذي كان. على كل حال، قد يكون البريطانيون فعلوا ذلك وهم يغادرون! من يدري؟ المهم أن الإشارة الواضحة للانتداب البريطاني، والإشارة الواضحة لجيش الإنقاذ العربي خلال حوار جرى بين المختار والد فرحة (أدى دوره الفنان أشرف برهوم)، وبين عدد من المجاهدين، لم تترافقا مع إشارة واضحة إلى العصابات الصهيونية.
ثانيًا: يخبر المختار كامل ابنته فرحة (الشابة كرم الطاهر في أول ظهور لها)، في واحد من مشاهد الفيلم، بضرورة مغادرته القرية، لأن (العسكر فاتوا الكرية/ القرية)، فعن أي عسكر يتحدث الفيلم هنا، علمًا، أن العسكرية الإسرائيلية المنظمة لم تكن، كما أسلفنا، قد تشكّلت؟
ثالثًا: المسلحون الذين قاموا في واحد من مشاهد الفيلم بتصفية أسرة فلسطينية عزلاء (لا تحمل السلاح)، مكوّنة من أب وأم وصبيّتين وطفل رضيع، لا يحملون أي شعارات تدل على انتماءاتهم، ولا على العصابة التي يعملون لصالحها! يسمعنا الفيلم بعض الحوارات بينهم بلغة تبدو أنها عبرية، من دون التحقق من ذلك، وحتى الحوار الذي جرى بينهم وبين الأم (الممثلة سميرة الأسير) لم يكن واضحًا. كما أن عملية التصفية نفسها لم يعرضها الفيلم بشكل واضح، عرضها من زاوية فرحة التي كانت تراقب الجريمة من كوّة في غرفة (المونة)، حيث خبأها والدها داخلها لحين عودته التي لم تتحقق. لم يعد، ولم نعرف مصيره، فقط كتابة جاءت بعد انتهاء الفيلم، وخلال شارة النهاية، وذكرت أنه قد يكون قُتل (هل نقول نحن استشهد بدل مفردة قُتل؟ نعم من حقّنا). سمعنا مع فرحة صوت رشقة الرصاص التي أودت بحياة الأسرة ولم يبقَ منها على قيد الحياة سوى الرضيع، ولكن كيف بقي حيًّا علمًا أنه كان في حضن أمّه. لا ندري. المهم حملته مسلحة (حتى لا أقول مجنّدة) ووضعته على الأرض، وطلب الضابط من مسلح آخر يضع فوق رأسه طاقية المتدينين اليهود أن يقتله، فيتردد المسلح، ثم يطلب منه أن يهرس رأسه ببصطاره، فيصاب المسلح بحالة هلع إنسانيّ بليغ! وتذرف عيناه! ويمسح عرقه بمنديل قماشي، ويأبى، في نهاية المطاف، أن يدوس الرضيع ببصطاره، فيكتفي، أخيرًا، بوضع المنديل القماشيّ فوق وجه الرضيع، ويلحق بدورية المسلحين!
رابعًا: لا نعلم ضمن أي دلالة يتبيّن لنا ولفرحة فجأة أن العميل الذي كان يضع غطاء على وجهه، ويرشد دورية المسلحين إلى أماكن المسلحين من الطرف الآخر، هو شقيق زوجة والدها، المتجلي في علاقته معها، بوصفه نصير رغبتها إكمال تعليمها في المدينة، والشخص المستنير الودود الذي أسهم بتفتح وعي المختار الذي قرّر، على خلاف عادات قريته، عدم تزويج فرحة لابن عمها ناصر، وترْكها تكمل تعليمها وقد أظهرت رغبة وتفوقًا به، وتحصّل لها على ورقة القبول في مدرسة من مدارس المدينة. نعم (أبو الوليد) الرشيد السديد الودود، الذي أدى دوره الممثل علي سليمان، هو نفسه العميل! وعندما يكتشف أن فرحة المغلق عليها بالمفتاح في غرفة (المونة)، اكتشفت هذه الحقيقة المُفجعة، يكتفي أن ينطق اسمها مصدومًا: "فرحة"، ثم ما يلبث أن يعيد الغطاء على وجهه، ويغادر لا يلوي على شيء، ولم يفكر، حتى، بطريقة، يخرجها فيها من حبسها الذي لا ماء فيه ولا حياة!
فرحةٌ لم تكتمل
لم تكتمل فرحةُ فرحة ابنة الاثني عشر ربيعًا بتأمين والدها المحب لها ورقة قبولها لتكمل تعليمها في مدارس المدينة، هناك حيث بيت صديقتها فريدة (الشابة تالا قموة في أول ظهور لها). فجأة، ملأ صوت الرصاص البلاد، وساد الهرج والمرج، أناس يهربون، آخرون يتخبطون بأنفسهم، الخوف يملأ دروب القرية، ويلقي بظلاله على البيوت الواطئة المستريحة فوق أكتاف السفح. المثل المصري يقول (يا فرحة ما تمّت)، وأنا أقول إن الفيلم لو سخّرت له القدرات الإنتاجية اللائقة لكان شكّل وثيقة صادحة حول ما جرى. وما جرى يعرفه الناس، معظم الناس، حتى أبناء الغرب، وكل ما هو مطلوب من أبناء القضية أنفسهم، أن يقدموا سرديّتهم من دون أي تردد، أو خجل، أو غموض، أو أي اعتبارات وهمية حول (الرأي العام) وحسابات الأوسكار. لا نحتاج لأن نجمّل قبحهم، ولا أن نجلد أنفسنا، فعمالة (أبو الوليد) غير مقنعة، تمامًا، كما هي غير مقنعة، طيبة المسلّح الذي يعتمر طاقية الأوهام.
إيقاع الفيلم بطيء نسبيًا، والدقائق الذي اكتفى الفيلم خلالها الانكفاء داخل عتمة غرفة (المونة) أضرّت، حتى لا أقول قتلت، روح الفيلم. لعل دارين وآية وديمة أردن تصوير مدى المعاناة التي واجهتها فرحة هناك، ولكن ذلك كان يمكن أن يتحقق بأقل من ذلك بكثير، خصوصًا أن تلك الدقائق الطويلة (ثلث مدة الفيلم، تقريبًا، داخل عتمة غرفة المونة)، جاءت على حساب مشاهد، لعلها، في رأيي، ضرورية، ومع ذلك، لم تُصوَّر، مثل مشاهد وصول فرحة إلى سورية، كما يخبرنا الفيلم كتابة بعد انتهائه، على أساس أن القصة حقيقية، وأن فرحة الحقيقية التي اسمها رضيّة كما يخبرننا، تمكّنت من الوصول إلى سورية، ولعل تفاصيل وصولها، والمغامرات التي تعرّضت لها، وحدها، طفلة، حتى وصولها مكانًا آمنًا، تستحق الرصد، بما يحتويه ذلك الرصد من إثارة وحركة وجماعية ومعاناة، كان الفيلم في أمسّ الحاجة إليها، وكان الواقع في أمسّ الحاجة لإظهارها.
الميزانيات والمعجزات
لا أدري سبب شح ميزانية الفيلم وفقرها رغم تشارك زهاء سبع جهات في إنتاجه، من بينها جهة سويدية (مادلين إيكمان، معهد الأفلام السويدي)، إضافة إلى مؤسسة مجهولة تدعى (تشيمني) لم أعثر لها على أصل؟ والمعروف، في هكذا سياقات أن الميزانيات تصنع المعجزات، وتحقق الأوسكارات، وما نيل المطالب بالتمنّي.
إشعالُ شمعة
من جهتي، وضعتُ للفيلم في موقع IMDb تقييمًا جيدًا جدًا (ثمانية من عشرة)، فلن أكون مكسّر أجنحة أحلام هكذا أفلام، بغض النظر عن ملاحظة هنا، أو أُخرى هناك. وعلى كل حال، دارين وآية وديمة حاولن إشعال شمعة، بدل أن يواصلن، ونواصل معهن، لعن الظلام.
محمد جميل خضر 10 ديسمبر 2022
سينما
لقطة من فيلم "فرحة"
شارك هذا المقال
حجم الخط
حسنًا فعلت دولة الاحتلال بمهاجمتها، عبر أجهزتها جميعها، الديبلوماسية والإعلامية والتأثيرية، فيلم "فرحة"، المقترب، على ما يبدو، من وصول أبواب الأوسكار، بِطَرْقٍ خفيفٍ بطيءٍ خجول. فهي بهجومها العشوائيّ لفتت انتباه من لا ينتبهون عادة للفيلم وقصته ومحتواه. وهي بهجومها جعلت الفيلم يتصدر تغريدات المغردين، ويتحوّل إلى (تريند) رغم أنف المهاجمين.
هجومٌ عنصريٌّ جلُّه، أجزم، لم يشاهد الفيلم، ودفاعٌ، في المقابل، شعبويٌّ، جلّه، أجزم، لم يشاهد الفيلم.
ها نحن نعود لموضوع مادتي السابقة في ملحق "ضفة ثالثة" النوعيّ الفريد، في زمن انكماش الوعي الرشيد، وهيمنة الانجراف الجمعيّ البليد. فموضوعي الذي يحمل عنوان "سيكولوجيا التلقي: خيارات الجمهور وآفاق الدائرة"، المنشور في الثالث من الشهر الجاري، يركّز، أساسًا، على ميكانيزمات تحريك الجمهور، ومهارات ترويض الرأي العام.
تتناقل وسائل إعلام كثيرة، عربية على وجه الخصوص، أخبار اعتراض سلطات الاحتلال على الفيلم الذي أنتجته ديمة عازر، وآية جردانة، وأخرجته دارين ج. سلّام، وتتحدث عن "الهجوم العنيف" الذي قاده، في الأساس، وزيرا المال والثقافة في دولة الاحتلال، ولحقت بهما الجهات التابعة لهما، ووسائل إعلام محسوبة على (بروباغندا) الاحتلال وسرديّته.
والسؤال المهم، في رأيي، هنا، لماذا أخّرت منصة نيتفليكس، عرض فيلمٍ أُنتج عام 2021، حتى نهاية عام 2022؟ (بدأ وضع الفيلم على المنصة، منتقلًا منها إلى منصات أخرى (شرعية وتهكيرية) مطلع الشهر الأخير ديسمبر/ كانون الأول من هذا العام 2022). لماذا بدأ الهجوم الآن، وبدأ، في المقابل، الدفاع عن الفيلم الآن؟ وكيف يُرشّح فيلمٌ أُنتج عام 2021 لأوسكار 2023؟
من حقّنا طرح الأسئلة، ومن حق صانعات الفيلم تزويدنا بالإجابات.
ملاحظات أولية
الموضوع الرئيسي، حين نتحدث عن السينما، هو الفيلم نفسه، فالزميل عبد الباري عطوان، على سبيل المثال، الذي (بشّر) في مقال له في جريدة "رأي اليوم"، أن الفيلم يشكّل مدماكًا جوهريًّا في زوال أكذوبة "معاداة السامية"! لم يتطرق في مقاله إياه لمحتوى الفيلم لا من قريب ولا حتى من بعيد البعيد، ويهتف في مقاله، واثقًا، أن "أكذوبة معاداة السامية (الابتزازية المسمومة) لن تمنع وصول فيلم "فرحة" الأردني إلى "الأوسكار" وإلى الشرفاء في كل العالم".
"تتناقل وسائل إعلام كثيرة، عربية على وجه الخصوص، أخبار اعتراض سلطات الاحتلال على الفيلم الذي أنتجته ديمة عازر، وآية جردانة، وأخرجته دارين ج. سلّام" |
الفيلم نفسه لا بأس به، محاولة صادقة لعرض النكبة الفلسطينية من زاوية، صحيح أنها ضيقة، ولكنها إنسانية. ويبدو أن الرقيب (الصهيونيّ) ومن يمشي على مشيه من باقي رقباء العالم كان حاضرًا في ذهن المنتجتيْن والمخرجة ووعيهنّ، وهنّ عاكفات على صناعة الفيلم، فعدد الإشارات الواردة في الفيلم حول مراعاتهن (الرأي العام العالمي) أكثر من أن تحصى:
أولًا: ولا مرّة ترد في الفيلم كلمتيّ عصابات صهيونية (المعروف أن الوجود الإسرائيلي في فلسطين قبل عام 1948، اقتصر على عصابات شتيرن وإيتسل وهاغاناه، وغيرها من العصابات الصهيونية المدعومة، على الأقل وقتها، من الانتداب البريطاني). وفي حين يجري التطرّق للوجود البريطاني، يصوّر الفيلم لحظة مغادرة الجيش الإنكليزي أرض فلسطين، والأولاد والبنات يلاحقون شاحنات نقل الجند بالحجارة والأسلحة الخشبية، والجنود راضون خاضعون خانعون ينظرون لملاحقي آلياتهم من الأولاد والبنات من دون أن يقوموا بأي رد فعل، في مشهد حالم أكثر مما يشكّل نقلًا للواقع الذي كان. على كل حال، قد يكون البريطانيون فعلوا ذلك وهم يغادرون! من يدري؟ المهم أن الإشارة الواضحة للانتداب البريطاني، والإشارة الواضحة لجيش الإنقاذ العربي خلال حوار جرى بين المختار والد فرحة (أدى دوره الفنان أشرف برهوم)، وبين عدد من المجاهدين، لم تترافقا مع إشارة واضحة إلى العصابات الصهيونية.
ثانيًا: يخبر المختار كامل ابنته فرحة (الشابة كرم الطاهر في أول ظهور لها)، في واحد من مشاهد الفيلم، بضرورة مغادرته القرية، لأن (العسكر فاتوا الكرية/ القرية)، فعن أي عسكر يتحدث الفيلم هنا، علمًا، أن العسكرية الإسرائيلية المنظمة لم تكن، كما أسلفنا، قد تشكّلت؟
ثالثًا: المسلحون الذين قاموا في واحد من مشاهد الفيلم بتصفية أسرة فلسطينية عزلاء (لا تحمل السلاح)، مكوّنة من أب وأم وصبيّتين وطفل رضيع، لا يحملون أي شعارات تدل على انتماءاتهم، ولا على العصابة التي يعملون لصالحها! يسمعنا الفيلم بعض الحوارات بينهم بلغة تبدو أنها عبرية، من دون التحقق من ذلك، وحتى الحوار الذي جرى بينهم وبين الأم (الممثلة سميرة الأسير) لم يكن واضحًا. كما أن عملية التصفية نفسها لم يعرضها الفيلم بشكل واضح، عرضها من زاوية فرحة التي كانت تراقب الجريمة من كوّة في غرفة (المونة)، حيث خبأها والدها داخلها لحين عودته التي لم تتحقق. لم يعد، ولم نعرف مصيره، فقط كتابة جاءت بعد انتهاء الفيلم، وخلال شارة النهاية، وذكرت أنه قد يكون قُتل (هل نقول نحن استشهد بدل مفردة قُتل؟ نعم من حقّنا). سمعنا مع فرحة صوت رشقة الرصاص التي أودت بحياة الأسرة ولم يبقَ منها على قيد الحياة سوى الرضيع، ولكن كيف بقي حيًّا علمًا أنه كان في حضن أمّه. لا ندري. المهم حملته مسلحة (حتى لا أقول مجنّدة) ووضعته على الأرض، وطلب الضابط من مسلح آخر يضع فوق رأسه طاقية المتدينين اليهود أن يقتله، فيتردد المسلح، ثم يطلب منه أن يهرس رأسه ببصطاره، فيصاب المسلح بحالة هلع إنسانيّ بليغ! وتذرف عيناه! ويمسح عرقه بمنديل قماشي، ويأبى، في نهاية المطاف، أن يدوس الرضيع ببصطاره، فيكتفي، أخيرًا، بوضع المنديل القماشيّ فوق وجه الرضيع، ويلحق بدورية المسلحين!
"الإشارة الواضحة للانتداب البريطاني، والإشارة الواضحة لجيش الإنقاذ العربي، لم تترافقا مع إشارة واضحة إلى العصابات الصهيونية" |
رابعًا: لا نعلم ضمن أي دلالة يتبيّن لنا ولفرحة فجأة أن العميل الذي كان يضع غطاء على وجهه، ويرشد دورية المسلحين إلى أماكن المسلحين من الطرف الآخر، هو شقيق زوجة والدها، المتجلي في علاقته معها، بوصفه نصير رغبتها إكمال تعليمها في المدينة، والشخص المستنير الودود الذي أسهم بتفتح وعي المختار الذي قرّر، على خلاف عادات قريته، عدم تزويج فرحة لابن عمها ناصر، وترْكها تكمل تعليمها وقد أظهرت رغبة وتفوقًا به، وتحصّل لها على ورقة القبول في مدرسة من مدارس المدينة. نعم (أبو الوليد) الرشيد السديد الودود، الذي أدى دوره الممثل علي سليمان، هو نفسه العميل! وعندما يكتشف أن فرحة المغلق عليها بالمفتاح في غرفة (المونة)، اكتشفت هذه الحقيقة المُفجعة، يكتفي أن ينطق اسمها مصدومًا: "فرحة"، ثم ما يلبث أن يعيد الغطاء على وجهه، ويغادر لا يلوي على شيء، ولم يفكر، حتى، بطريقة، يخرجها فيها من حبسها الذي لا ماء فيه ولا حياة!
فرحةٌ لم تكتمل
لم تكتمل فرحةُ فرحة ابنة الاثني عشر ربيعًا بتأمين والدها المحب لها ورقة قبولها لتكمل تعليمها في مدارس المدينة، هناك حيث بيت صديقتها فريدة (الشابة تالا قموة في أول ظهور لها). فجأة، ملأ صوت الرصاص البلاد، وساد الهرج والمرج، أناس يهربون، آخرون يتخبطون بأنفسهم، الخوف يملأ دروب القرية، ويلقي بظلاله على البيوت الواطئة المستريحة فوق أكتاف السفح. المثل المصري يقول (يا فرحة ما تمّت)، وأنا أقول إن الفيلم لو سخّرت له القدرات الإنتاجية اللائقة لكان شكّل وثيقة صادحة حول ما جرى. وما جرى يعرفه الناس، معظم الناس، حتى أبناء الغرب، وكل ما هو مطلوب من أبناء القضية أنفسهم، أن يقدموا سرديّتهم من دون أي تردد، أو خجل، أو غموض، أو أي اعتبارات وهمية حول (الرأي العام) وحسابات الأوسكار. لا نحتاج لأن نجمّل قبحهم، ولا أن نجلد أنفسنا، فعمالة (أبو الوليد) غير مقنعة، تمامًا، كما هي غير مقنعة، طيبة المسلّح الذي يعتمر طاقية الأوهام.
"إيقاع الفيلم بطيء نسبيًا، والدقائق الذي اكتفى الفيلم خلالها الانكفاء داخل عتمة غرفة (المونة) أضرّت، حتى لا أقول قتلت، روح الفيلم" |
إيقاع الفيلم بطيء نسبيًا، والدقائق الذي اكتفى الفيلم خلالها الانكفاء داخل عتمة غرفة (المونة) أضرّت، حتى لا أقول قتلت، روح الفيلم. لعل دارين وآية وديمة أردن تصوير مدى المعاناة التي واجهتها فرحة هناك، ولكن ذلك كان يمكن أن يتحقق بأقل من ذلك بكثير، خصوصًا أن تلك الدقائق الطويلة (ثلث مدة الفيلم، تقريبًا، داخل عتمة غرفة المونة)، جاءت على حساب مشاهد، لعلها، في رأيي، ضرورية، ومع ذلك، لم تُصوَّر، مثل مشاهد وصول فرحة إلى سورية، كما يخبرنا الفيلم كتابة بعد انتهائه، على أساس أن القصة حقيقية، وأن فرحة الحقيقية التي اسمها رضيّة كما يخبرننا، تمكّنت من الوصول إلى سورية، ولعل تفاصيل وصولها، والمغامرات التي تعرّضت لها، وحدها، طفلة، حتى وصولها مكانًا آمنًا، تستحق الرصد، بما يحتويه ذلك الرصد من إثارة وحركة وجماعية ومعاناة، كان الفيلم في أمسّ الحاجة إليها، وكان الواقع في أمسّ الحاجة لإظهارها.
الميزانيات والمعجزات
لا أدري سبب شح ميزانية الفيلم وفقرها رغم تشارك زهاء سبع جهات في إنتاجه، من بينها جهة سويدية (مادلين إيكمان، معهد الأفلام السويدي)، إضافة إلى مؤسسة مجهولة تدعى (تشيمني) لم أعثر لها على أصل؟ والمعروف، في هكذا سياقات أن الميزانيات تصنع المعجزات، وتحقق الأوسكارات، وما نيل المطالب بالتمنّي.
إشعالُ شمعة
من جهتي، وضعتُ للفيلم في موقع IMDb تقييمًا جيدًا جدًا (ثمانية من عشرة)، فلن أكون مكسّر أجنحة أحلام هكذا أفلام، بغض النظر عن ملاحظة هنا، أو أُخرى هناك. وعلى كل حال، دارين وآية وديمة حاولن إشعال شمعة، بدل أن يواصلن، ونواصل معهن، لعن الظلام.