"مثلث الحزن" للسويدي روبن أوستلوند: انفلاتٌ من الصوابية السياسية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "مثلث الحزن" للسويدي روبن أوستلوند: انفلاتٌ من الصوابية السياسية

    "مثلث الحزن" للسويدي روبن أوستلوند: انفلاتٌ من الصوابية السياسية
    ندى الأزهري 5 ديسمبر 2022
    سينما
    عاملة النظافة على الباخرة حاكمة في الجزيرة/ "مثلث الحزن"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    البناء الفيلمي غير المتوقع في"مثلث الحزن" (2022)، للسويدي روبن أوستلوند، سيسعد روّاد السينما الحقيقيين، لكنه قد يشوّش بعض المشاهدين والنقاد. هنالك من عدَّه متواضعًا في فرنسا (لم يصل إلى نصف مليون شخص خلال شهر من العرض) بالنسبة لفيلمٍ فائز بالسعفة الذهبية في الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان "كان" الأخير، وأيضًا من علامة متوسطة نالها من النقد الفرنسي.
    لكن "مثلث الحزن" يبقى تحفةً سينمائية.
    بعد مقدمة، نتعرف على فتاة جميلة وشاب وسيم، وهما الشخصيتان المحوريتان في الفيلم، في قلب عالم الموضة. وينقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء، كلّ جزء يُمثّل حلقة في قصة تدور أحداثها في أمكنة مختلفة. لغاية الآن، لا يعدو هذا كونه كلاسيكيا للغاية. لكن الإبداع والابتكار يتجلّيان مع تَبَنّي كل حلقة من هذه الحلقات نغمةً وجماليّةً وإيقاعًا مغايرًا تمامًا. في الواقع، تنتمي كل حلقة إلى نوع سينمائي مختلف، بدءًا من كوميديا ​النص، فكوميديا الموقف، حيث لا احترام لأيّ حدود، وكأن المشاهد أمام كرنفال حافل بكل ما هو غير متوقع، لتأتي أخيرًا الحكاية السياسية؛ لتتشكل بهذا أضلاع مثلث الحزن الثلاثة.
    يدور الجزء الأول خلف أبوابٍ مغلقة، في مطعم أولًا، ثمّ في غرفة فندق. في المكانين، يجري بين العاشقين الشابين، الفتاة يايا (شارلبي دين كريك)، والشاب كارل (هاريس ديكنسون)، حوارٌ طويل يذكّر بالمسرح النصيّ، الذي تمثّله اليوم ياسمينة رضا. كما هي الحال في المسرحيات الساخرة والناجحة جدًا لهذه الكاتبة الفرنسية الشهيرة، تحتمي الشخصيات وراء خطاب يبرّر الذات، ويحاول أن يخفي، على نحوٍ سيء، نزعتها الأنانية العميقة. بين الاثنين محادثة متوترة بشكل متزايد تعبّر عن صراع بين الأنا الساعية إلى الهيمنة، لكنها في الآن ذاته تحمي نفسها خلف مبررات أيديولوجية تتماشى مع العصر، النسويّة على وجه الخصوص.
    يخرج الجزء الثاني من الأماكن المغلقة ليدور على سفينة سياحية فاخرة تتنزه في عرض البحر، على متنها رجال أعمال فاحشو الثراء، باتوا أثرياء بطرق شرعية، لكن هذا لا يمنع دناءة أعمالهم. دُعي الشابان الجميلان من قبل الشركة المالكة للسفينة لأنهما ليسا مجرد عارضيّ أزياء، فهما أيضًا، وخاصة الفتاة، من عالم "المؤثرين". سيكون وجودها إعلانًا ممتازًا لمالكي الرحلات البحرية من خلال صور "مثيرة"، إنمّا على نحو معقول، يصورها إياها صديقها الشاب، لتُنشر مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي حين كانت حوارات الجزء الأول تتمّ ببراعة وتعبير عن الفكرة على نحو غير مباشر، لا يتردد الجزء الثاني من الفيلم للتعريف بشخصياته في اللجوء إلى حوارات ومواقف تتسمّ بفكاهة مباشرة مشاكسة ولاذعة في قسوتها. فعالم الكمبيوتر الذي جمع ثروته في تطوير برامج، كأنه أكثر راحة أمام الشاشة منه أمام النساء وجهًا لوجه، فقد بدا مرعوبًا للغاية في محاولاته للإغواء، والتي كانت تجبره في النهاية على اللجوء بسرعة إلى حجّة "أنا مليءٌ بالمال" للوصول إلى الهدف. لكن، ولسوء حظه، فإن الرّكاب الآخرين أيضًا "ممتلئون بالمال". أمّا الزوجان الإنكليزيان العجوزان اللطيفان "الوديعان"، كما أظهرهما أوستلوند، فقد حققا ثروة من بيع القنابل اليدوية، والألغام المضادة للأفراد، لكنهما على الرغم من خيبة الأمل التي سببتها قرارات الأمم المتحدة بحظر هذه المواد "المفيدة"، كانا قادرين على البقاء متحدين في هذه "الأوقات الصعبة"، كما عبرا وهما يمسكان يدي بعضهما بعضًا بحنان، بل وتمكّنا من إعادة تنظيم إنتاجهما من معدّات "مفيدة للديمقراطية"، كما يقدمانها! وتأتي ذروة التهكم مع أوليغارشي روسي (الأوليغارشية، طبقة حاكمة مرتبطة بحكومة بلد ما) مرح ومبتهج ولا بدّ من القول ظريف، كما يبديه الفيلم، "يبيع الخراء" على حدّ تعبيره، وهي الأسمدة التي تنتجتها المصانع التي تمكن من الحصول عليها أثناء تفكك الاتحاد السوفياتي.

    "يدور الجزء الأول من الفيلم خلف أبوابٍ مغلقة، في مطعم أولًا، ثمّ في غرفة فندق. وفي المكانين، يجري بين العاشقين الشابين حوارٌ طويل يذكّر بالمسرح النصيّ"


    ومن تعبير يصل حدّ الكاريكاتور إلى آخر، ينزلق الجزء الثاني شيئًا فشيئًا نحو الكوميديا ​​التي لا تخشى المبالغة، وتبلغ ذروتها في خاتمة تثير في جموحها ضحكًا عاليًا. لم تعد نغمة الفيلم هي تلك البارعة الخاصة بالكوميديا ​​النصية، بل باتت تذكّرنا ببعض الكوميديا ​​الإيطالية، وأيضا فيلم "الطعام العظيم" (1973) لماركو فيرري. تتحطم الباخرة الفاخرة تحت ضربات مشتركة للعاصفة والقراصنة وثمالة القائد، ويطأ عدد قليل من الناجين جزيرة صحراوية، وينظّمون بقاءهم على قيد الحياة هناك.
    الفتاة يايا (شارلبي دين كريك) والشاب كارل (هاريس ديكنسون) في فيلم "مثلث الحزن"
    يميل الفيلم في الجزء الثالث هذا إلى النوع الأدبي أكثر من السينمائي. إنه ينتمي إلى الحكاية بكل ما فيها من خيال وإيحاءات، سياسية منها على وجه الخصوص. يتخيل أوستلوند بناء مجتمع صغير معزول عن العالم، حيث يتم إنشاء علاقات قوة جديدة، وتسلسل هرمي جديد. ليبين أن السلوك الإنساني يتشابه في ظروف كتلك، سواء كان الناجي وحيدًا، حيث تساؤل عن القدرة في السيطرة على الطبيعة، أم كان عدة أشخاص، حيث تساؤل عن القدرة في السيطرة على الآخرين. تعبر الفيلم هنا إشارات تبدي مراجع المخرج/ المؤلف الثقافية من كلاسيكيات السينما، ولكن أيضًا الأدب، من دون أن يستعرض نفسه، ومن دون أدنى تحذلق، كما يفعل غيره (تارانتينو مثلًا). إشارات يعرضها لا لادعاء الذكاء، ولكن لدورها في تغذية إبداعه. أوستلوند هنا لا يهتم كثيرًا بمعقولية الحدث، على نمط روبنسون كروزو (فهل كان محتملًا أن يجد روبنسون صندوقًا مليئًا بالأدوات والأسلحة التي تمكّنه من البقاء على قيد الحياة؟). كما يأخذ وقته في هذا الجزء، فيميل إيقاع الفيلم إلى التمهّل. فمجتمع غرقى السفن يتمّ بناؤه ببطء، حيث تتشكل علاقات قوة وسيطرة شيئًا فشيئًا، وتتعدل الروابط بين الناجين تدريجيًا. قد يحيّر هذا الجزء الأخير المشاهد أكثر من الآخرَيْن. سيرى بعضهم "أخطاء" في اللامعقولية، في حين يفترض السيناريو أنها تشكل نوعًا أدبيًا. قد نواجه أيضًا بعض الصعوبة في التعود على البطء بعد حيوية الجزأين والنهاية الحافلة بالإثارة للجزء الثاني. لكن هنا قد يكون على المتفرج أن يترك نفسه ينجرف بعيدًا في الفيلم، وأن يكون متيقظًا وجاهزًا لتعديل نظرته ومعايير تقديره ليتعرف على نوع آخر وجمالية أخرى. وفي هذا متعة بالنسبة لعشاق السينما.

    منذ فيلمه "المربّع" (2017)، يسخر أوستلوند من الصوابية السياسية، فهو ناقد لاذع لبعض مفاهيم سائدة "لائقة" في هذا العصر تتعلق مثلًا بالفن المعاصر، والنسوية، وإلغاء الحدود... إلخ. لكنه إن أُفلت من امتثال "التفكير الصحيح" السائد، فإنه لا ينتمي كذلك إلى ما يعاكسه من "التفكير السيء"، ولا يقدم رسالة أيديولوجية، أو سياسية. إنه يراقب البشر، ويهتم بواقعهم هذا المختبئ تحت خطاباتهم. وإذا أظهر لنا البطلة الشابة، نسوية بالضرورة، فهو يطلب من رفيقها أن يلعب دور الرجل الحامي (والذي لا يعرف كيف يلعبه فهو شاب من هذا العصر)، ويطالبه بأن يُظهر هذا بأبسط الطرق أي دفع فواتير المطعم مثلًا، إذا أظهر ذلك فليس كموقف رجعيّ من جانبه. إنه ردّ الفعل الغريزي لامرأة شابة غير مثقفة تكشف بسذاجة عن تطلعات يخفيها الآخرون بعناية. وإذا كان الأثرياء يعتقدون أن أموالهم تسمح لهم بكل شيء بغيض، فإن موظفي الباخرة ليسوا نقابيين يقاتلون ضد الرأسمالية، بل هم أيضًا حريصون على الثراء بأي وسيلة. وإذا تُرجمت قوة الركاب الأثرياء إلى نزوات لا تطاق، فإن القوة التي تمكنت خادمة السفينة من ترسيخها في الجزيرة، والمبررة لأنها هي قبل كل الآخرين الأصلح للبقاء بسبب مقدراتها العملية، ستُترجم هي الأخرى، أي القوة، وعلى الفور إلى نزوات فظّة قاسية مماثلة لما يفعله الأثرياء. لا يوجد أخيار أو أشرار في هذه السينما، هنالك بشر يسعون إلى السيطرة، وفي هذا تكمن "سياسية" الفيلم، من دون أن يكون أيديولوجيًا لأنه يدقق، وفي جميع أشكاله، لا سيما العلاقات بين الجنسين (يذكر هنا بالكاتب الفرنسي ويلبيك)، في علاقات الهيمنة.

    "الجزء الثاني من الفيلم يخرج من الأماكن المغلقة ليدور على سفينة سياحية فاخرة تتنزه في عرض البحر، على متنها رجال أعمال فاحشو الثراء، باتوا أثرياء بطرق شرعية، لكن هذا لا يمنع دناءة أعمالهم"


    لكن هؤلاء البشر ما زالوا بشرًا. لذلك تبدو جميع الشخصيات الرئيسية، في مرحلة ما، محببة في سذاجة رغباتها التافهة، في قدرتها على السخرية (حين ينتهي الأمر بتعاطف الأوليغارشية الروسية، والقرصان الذي حاول الاستيلاء على القارب، أليس ذلك لأنهما يمتلكان بساطة السخرية، ولا يخفي كل منهما عن الآخر وحشية الرغبة في الثروة والسلطة تحت مبررات مثالية؟). لكنهم أيضًا بشر بقدرتهم على التآخي مع البشر الآخرين. يبرز هذا في لحظات الصداقة الحميمة الصريحة حين يتم إلغاء ألعاب الهيمنة، وينكشف عن شيء يظلّ في أعماق الإنسان مخفيًا تحت الأدوار الاجتماعية، تلك التي وصل إليها، وتلك التي يطمح في الوصول إليها. في منتصف الفيلم، يبدو التآخي في المشهد المضحك بين الرأسمالي الروسي والقبطان الأميركي والماركسي (نعم!) اللذين لا يتشاركان فقط في التذوق المفرط للكحول، ولكن أيضًا، وبشكل أكثر عمقًا، في الازدراء الاجتماعي، وفي الفكاهة المدمرة التي يشاركها أوستلوند، والتي تتلاعب بالأيديولوجيات، وفي تبيان خطورة الصراع الأبدي الخانق على السلطة.
    لا يعظ أوستلوند، فهو يفلت تمامًا من الخطاب التقدمي الشائع في عالم السينما، ولكن أيضًا من الخطاب الرجعي الذي لن يكون سوى نظيره. قد يكون هذا هو السبب في أنه لم يستطع كسب الصحافة التقليدية المعروفة المكرسة لعبادة الأفكار التي "يجب أن يمتلكها كل شخص"، والتي اعتادت على منح نقاط جيدة لأولئك الذين يمكن تصنيفهم بسهولة في معسكر "التفكير الصالح". ويأتي اللغز من فوز المخرج بالسعفة للمرة الثانية في مهرجان "كان" خلال سنوات متقاربة. كانت الأولى في الدورة السبعين للمهرجان عن فيلم "المربع" (2017). فكيف فاز أوستلوند مرتين بالسعفة الذهبية في مكان يراه بعضهم مجسدًا للصوابية السياسية؟ هل شاهدت اللجنة فيه فقط انتقادات فاحشي الثراء، أم هل يجب أن نتخيل أن عالم السينما يختنق في دور يعكس الأيديولوجيات الصائبة سياسيًا وأخلاقيًا، ويطمح إلى القليل من الحرية الإبداعية؟ في هذه الحالة، لم يكن أعضاء اللجنة مخطئين؛ فالحرية الإبداعية لأوستلوند قد لا يكون لها مثيل اليوم بين المخرجين المشهورين عالميًا.
يعمل...
X