"أثينا".. تراجيديا يونانية في فرنسا
فارس الذهبي 10 نوفمبر 2022
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
تبدأ أحداث فيلم "أثينا" في إحدى الضواحي المتخيلة، في مدينة ما في فرنسا، حيث تشتعل أعمال الشغب إثر مقتل طفل صغير يدعى (إيدير)، لتبدأ تراجيديا عائلة فرنسية من أصول مغاربية، لتروي لنا المأساة الفرنسية المعاصرة، التي يخشاها الجميع، بينما هم يراقبونها تتقدم في اتجاههم بخوف وهلع.
تبدو أثينا المعاصرة مختلفة بالكامل عن أثينا الإغريق. فإنْ كانت أثينا القديمة هي عاصمة القانون ومهد الديمقراطية في العالم، مدينة الآلهة وجمال العمارة، والفلسفة والفنون والنحت والمعابد الرائعة، فإن "أثينا" المعاصرة في فرنسا هي مجمع سكني بائس ذو عمارة بشعة، قاطنوه عاطلون عن العمل، وينتشر بينهم تجار المخدرات المرتبطون بعناصر فاسدة في شرطة مكافحة المخدرات، حيث يغيب العدل، ويتغيب عنها الجمال والعقل والفلسفة.. فلا أعمدة كورنثية هنا، بل باطون مسلح. ولا نوافير ماء تعلوها تماثيل رائعة، بل حدائق جرداء بألوان رمادية.
هي، إذًا، سخرية التاريخ حينما يكرر نفسه، مرة كمأساة، ومرة كمهزلة. وها نحن نتابع التراجيديا في فرنسا، كما اقترحها صناع العمل "أثينا".
اختار مخرج الفيلم، رومان غافراس، أن يبدأ شريطه الجديد بحركة كاميرا عنيفة واستعراضية قليلًا، لكنها كانت مفيدة وحيوية لجهة ضخ الحياة في مشاهد العنف التي تجري في محيط مجمع "أثينا" السكني، الذي يشهد أعمال عنف، واقتحام مراكز للشرطة، واحتلال مئات من الفتية المراهقين للمجمع السكني بأبنيته المتشابهة البشعة، التي تنتشر في كل الضواحي.
هكذا إذًا نحن أمام انتقام ينفذه (كريم)، قائد المجموعات الغاضبة، الذي يطالب بمعرفة أسماء عناصر الشرطة الثلاثة الذين تم تصويرهم وهم يقتلون شقيقه الصغير (إيدير).
المشاهد الافتتاحية في الفيلم تبدو عنيفة وجمالية لدرجة كبيرة، لقطة واحدة طويلة نفذت ببراعة من المخرج أقحمت المشاهد في عمق التمرد الذي يقوده الشبان الغاضبون، متنكرين تارة بثياب رياضية سرقوها من النادي الرياضي، أو مرتدين أقنعة صنعوها بأنفسهم. سلاحهم الوحيد هو كمّ هائل من الألعاب النارية والشتائم المقذعة التي ينطقها الشبان الصغار بلغة شوارعية واضحة تمتاز بها شوارع ضواحي المدن الفرنسية دونًا عن سواها.. لغة تبدو في سرعتها وبذاءتها وهجانتها كعلامة أو كهوية لهؤلاء القاطنين في هذه العمارات البائسة الذين يعلنون أنهم لن يسكتوا بعد اليوم، ولن يقبلوا أن يكونوا ضحايا مرة أخرى.
تبدو فرنسا في الجزء الأول من الفيلم من دون فرنسيين أوروبيين، بل أقوامًا من المهاجرين يتحدثون عن فرنسا، ويرغبون في المطالبة بحقوقهم من الآخر، الذي لا يفهمهم، ولا يبدو أنه يريد أبدًا. لكن ليست تلك هي الصورة بالكامل، فـ(عبدول)، الذي نال أوسمة من الجيش والشرطة الفرنسيين، هو لسخرية القدر الشقيق الأكبر للصبيين: كريم قائد التمرد، وإيدير الضحية الصغير صاحب الـ13 عامًا.
لكن عبدول هذا يبدو ناضجًا متفهمًا للجريمة التي ارتُكبت في حق شقيقه الأصغر، ويحاول قدر الإمكان ثني كريم عن ثورته، والعودة إلى أمه ومنزله، لكن الأمور سرعان ما تتدهور، وتبدأ جيوش من الشرطة وقوات التدخل السريع في حصار المجمع السكني، بعد أن كانوا قد طلبوا من الأهالي إخلاء المكان، لتتدفق مئات من العائلات وهي خارجة من المباني التي يحتلها الشبان الغاضبون.
نحن، إذًا، أمام مواجهة بين شقيقين، أحدهما يمثل الدولة الفرنسية، وسيم، قوي، محبوب، والآخر يمثل غضب الشباب المهمش في الضواحي. والاثنان يتصارعان على مفهوم العدالة للشقيق الأصغر (إيدير)، الذي قتل صباح اليوم. يطلب عبدول ضابط الشرطة الملتزم بالقوانين من شقيقه فضّ الاعتصام، والعودة إلى القانون، حيث ستجد العدالة من قتل شقيقهما. بينما يرفض كريم هذا، عادًا أنهم مستهدفون، ومن المستحيل أن تسلم الشرطة القتلة إلا بعد أن يتم الضغط عليها باختطاف ضابط من الشرطة التي تحاول اقتحام المكان.. ولسخرية الأقدار، يكون الضابط الذي يتم اختطافه فرنسيا أشقر، هدفا نموذجيا لغضب مهمشي الضواحي، وخصيصًا ضاحية "أثينا"، التي يبدو أن كل ما فيها يتجه إلى تراجيديا إغريقية حقيقية.
يقتحم عدد من عناصر الشرطة المجمع بعد وعود بفسح المجال لـ(عبدول) بإعادة الضابط المختطف، فيقتلون الشقيق الثاني قائد الانتفاضة (كريم)، الذي بدا أشبه بـ"المسيح" الذي يقود الجموع من أجل الخلاص.
بشعر طويل مفرود على الأكتاف، وقميص مفتوح يكشف عن نحوله الكبير وضعفه وهزاله، يتبادر إلى الذهن أنه من غير الممكن أن يكون كريم قائدًا عسكريًا، لولا أنه قائد فكري يقود الجموع الغاضبة عبر أفكاره الثورية، التي لن تستثني أحدًا من العقاب، حتى لو كان شقيقه الضابط عبدول.
لكن وقبل هذا تحدث مواجهة كبيرة بين عبدول وكريم، يتردد كريم في إلقاء العبوة الحارقة (مولوتوف) على شقيقه، ويتردد عبدول في إطلاق الرصاص على شقيقه كريم الذي يريد أن يقدم الأنموذج لجماعته بأنه لن يتردد في القصاص من أي شخص يمنعه من الانتقام من الشرطة التي قتلت أخاه الصغير.. حتى لو وقف أخوه الكبير في وجهه.
ها هي ذي التراجيديا الإغريقية متجسدة في الأراضي الفرنسية، حيث لن تجد لنفسها مكانًا أفضل من الضواحي كي تنمو المواجهة التي تفطر القلب، وتؤذي العقل، حينما يرفع الشقيق سلاحه ضد أخيه.
وحينما يقف القانون في مواجهة التمرد، حيث لا نعرف نحن من نتفرج على المأساة، إلى جانب من تصطف الحقيقة، هل في القصاص العنيف من المجرمين (قتلة الأطفال)، أم في القصاص السلمي من ذات المجرمين عبر دروب العدالة الطويلة والمحاكم التي لربما ستجد أن قتل طفل مهاجر من أصول عربية ومسلمة غير ذي قيمة، حتى لو كان في يوم ربيعي فرنسي.
ها هي الدولة في مواجهة تجعل من الحرب الأهلية ممكنة، إنها لحظة غضب، حيث لا يمكننا أن نقول إنها مواجهة بين الأوروبيين والعرب، أو بين المسلمين والمسيحيين، أو بين المهاجرين والسكان الأصليين. لا فكل هذا خطأ.
إنها مواجهة بين الغضب والعقل.. سواء كان الغضب من أصول مهاجرة، أو غيرها، أو كان العقل من أصول مهاجرة، أو غيرها. نحن في لعبة تراجيدية، حيث يتواجه أبناء عائلة مهاجرة أمام الموت، بينما تقف الأم بعيدة تحاول الاتصال بالجميع لتهدئة الموقف من دون جدوى.
لكن ذروة المأساة تقع في لحظة التعنت/ hybris، التي يقوم بها البطل المضاد (كريم) في إصراره على أن تسلم الدولة (عبدول) الضابط المختطف إليه.. بعد أن أنقذه عبدول، ولكنه لم يفلح في إخراجه من المجمع.
الشقيق الرابع لهذه الأسرة هو مختار، تاجر مخدرات كان يخفي بضاعته في أنحاء مختلفة من مجمع أثينا السكني، ولا يريد شيئًا من الدنيا إلا أن تسمح له بإخراج المخدرات من بؤرة التوتر بعيدًا عن الشرطة التي من الممكن أن تقتحم المكان في أي لحظة. وعلى الفور، تتحول المواجهة الثلاثية بين الإخوة الثلاثة، من يطلب الثأر، ومن يطلب العدل، ومن يطلب استمرار الفساد. فمختار لا يريد ثأرًا، بل يبحث عن تهدئة تسمح له ولتجارته بالنجاة والاستمرار، بتعاونه مع عناصر فاسدة من جهاز مكافحة المخدرات الذي لا ينقطع اتصاله بهم أبدًا.
في مشهد المواجهة المحوري بين الأخوين، كريم وعبدول، نجد ترميزًا غاية في الأهمية، ومشهدًا مكتوبًا بحرفية بالغة، بين ضفتي مواجهة تاريخيتين، فالأخ الثائر الأهوج المنادي بالثأر يصف شقيقه المدافع عن قيم الدولة بأنه عميل للسلطة وجاسوس للدولة الفرنسية، التي تبدو في حوار كريم وكأنها سلطة غريبة عن الأرض والسكان، ثم تأتي الصفة التي تجد في ضمير الفرنسيين صدى كبيرًا، ألا وهي حينما يصفه بالـ "الحركي"، في إحالة إلى الحرب الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وهي قضية غاية في التعقيد والحساسية بالنسبة إلى الطرفين، فحتى اليوم يصف الجزائريون كل من "يخون" بلاده بالحركي. وبالطبع، فمصطلح الخيانة عند العرب عمومًا شأن فضفاض وغير واضح المعالم، لكننا في هذا التوصيف السياسي، في هذه اللحظة، تنقلب الصورة من صراع بين الجزائريين على أرض الجزائر قبل ستة عقود، إلى صراع بين الجزائريين على الأرض الفرنسية اليوم، وهذا ما يفتح الباب على أزمة العلاقة بين الجزائر وفرنسا، الممتدة منذ عقود، والتي تعكس لا تصالحية كامنة، مثل قنبلة موقوتة حتى اليوم.
ولكن، وكما ذكرت، يندفع عناصر غاضبون من الشرطة نحو كريم الذي يحمل عبوة مولوتوف ويجندلونه بالرصاص، قبل أن يحرقهم.. أو يقتل أخاه.
في لحظة الذروة هذه، يبدأ التحول في شخصية عبدول، الضابط الملتزم الهادئ الذي يتبنى خيار الدولة والعدل والنظام، والقانون.. فها هو يشاهد بأم عينه كيف أعدمت الشرطة شقيقه قبل أن يلقي عليهم قنبلة المولوتوف. فيحمل جثة أخيه بعد أن يطفئ النار التي أحالته رمادًا. يحملها بأسلوب تقصد المخرج منه أن يكون شبيهًا بمشاهد ولادة الأبطال الذين يولدون من رحم المأساة بعد فقد أحد أحبتهم.. يحمله بين ذراعيه مثل طفل صغير، ويضعه على خشبة الخلاص في داخل مقر الثورة.
يضعه بين الثوار الغاضبين، حيث يخيم الصمت على المكان بإجلال لموت القائد الذي حرك الانتفاضة.
ولكن الشقيق الرابع البراغماتي مختار، الذي لم يتأثر بمقتل شقيقه الثاني في اليوم نفسه، يندفع إلى شقيقه عبدول، طالبًا منه أن ينهي التمرد، كي تعود الأمور إلى مجاريها، وينقذ ما تبقى له من نقود.. فينهال عليه عبدول ضربًا في أعنف مشهد في الفيلم، يضربه حتى الموت. ليُعمد غضبه وثورته بدماء أخيه الفاسد.. وهو ما لم يقدر عليه كريم (أن يعمد ثورته بدماء أخيه الضابط الملتزم). ينهض عبدول، ويعلن انتقال التمرد من مرحلة الألعاب النارية ذات الإبهار السينمائي اللامحدود، إلى الأسلحة النارية، فيتسلح الجميع، ويعلن أنه سيقتل الرهينة إن لم يتسلم أسماء قتلة أخيه الصغير (إيدير).
تبدو التراجيديا هنا في أعلى مستوياتها، ويبدو عبدول كبطل تراجيدي كامل المعالم، واضح الأهداف، فلا شيء سيعيد له أخوته الذين ماتوا، سوى العنف.. لا العقل ولا الدولة، ولا المفاوضات ستفعل هذا.
وهذه بالضبط صفات البطل التراجيدي، التعنت، والمبالغة، حيث يصر عبدول على دمار كل شيء من أجل الانتقام.
يبدو سقوطه محتمًا، كسقوط الفرد في مواجهة الجماعة، مطالبه لا يمكن أن تتحقق، في مواجهة الدولة.. هنا، يصر عناصر الشرطة التي تتفاوض مع عبدول على أن من قتل شقيقه إيدير هم من عناصر اليمين المتطرف الذين ارتدوا ثياب شرطة لإثارة الفوضى والتوتر، ويبدو أنهم نجحوا في ذلك.
في مقلب آخر، يحاول عبدول في بداية الفيلم مراعاة شخص فرنسي يدعى سيباسيتان، يحميه من الفوضى والعنف، حينما يطلب منه التخفي داخل روضة الأطفال في المبنى، ولكنه حينما يتحول إلى قائد للتمرد، يطلق الوحش الكامن في قلب هذا الفرنسي، الذي يبدو في أول الفيلم كمختل يعيش بين المهاجرين، لتتضح الصورة بأنه جهادي فرنسي، يعيش في هذا المكان، ويعطف عليه الجميع ظنًا منهم أنه قد فقد عقله، لكن هذا الوحش الذي يستمد قوته مجددًا من الفوضى التي سببها اليمين المتطرف، يبدأ استخدام مهاراته بتفخيخ المكان بعبوات الغاز، والبنزين.. ولا يتردد في تفجير المبنى بالكامل، بعد أن يهرب الجميع إلا سيباستيان وعبدول..
فهل يمكن أن تحدث كل هذه التراجيديا، التي يقتل فيها الشقيق شقيقه من دون أن يحترق العالم سوى في مكان واحد اسمه "أثينا"... لكن أثينا تلك ليست عاصمة بلاد الإغريق القديمة، وإنما هي أثينا الضواحي المهمشة في البلاد الفرنسية.
فارس الذهبي 10 نوفمبر 2022
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
تبدأ أحداث فيلم "أثينا" في إحدى الضواحي المتخيلة، في مدينة ما في فرنسا، حيث تشتعل أعمال الشغب إثر مقتل طفل صغير يدعى (إيدير)، لتبدأ تراجيديا عائلة فرنسية من أصول مغاربية، لتروي لنا المأساة الفرنسية المعاصرة، التي يخشاها الجميع، بينما هم يراقبونها تتقدم في اتجاههم بخوف وهلع.
تبدو أثينا المعاصرة مختلفة بالكامل عن أثينا الإغريق. فإنْ كانت أثينا القديمة هي عاصمة القانون ومهد الديمقراطية في العالم، مدينة الآلهة وجمال العمارة، والفلسفة والفنون والنحت والمعابد الرائعة، فإن "أثينا" المعاصرة في فرنسا هي مجمع سكني بائس ذو عمارة بشعة، قاطنوه عاطلون عن العمل، وينتشر بينهم تجار المخدرات المرتبطون بعناصر فاسدة في شرطة مكافحة المخدرات، حيث يغيب العدل، ويتغيب عنها الجمال والعقل والفلسفة.. فلا أعمدة كورنثية هنا، بل باطون مسلح. ولا نوافير ماء تعلوها تماثيل رائعة، بل حدائق جرداء بألوان رمادية.
هي، إذًا، سخرية التاريخ حينما يكرر نفسه، مرة كمأساة، ومرة كمهزلة. وها نحن نتابع التراجيديا في فرنسا، كما اقترحها صناع العمل "أثينا".
"نحن أمام انتقام ينفذه (كريم)، قائد المجموعات الغاضبة، الذي يطالب بمعرفة أسماء عناصر الشرطة الثلاثة الذين تم تصويرهم وهم يقتلون شقيقه الصغير (إيدير)" |
هكذا إذًا نحن أمام انتقام ينفذه (كريم)، قائد المجموعات الغاضبة، الذي يطالب بمعرفة أسماء عناصر الشرطة الثلاثة الذين تم تصويرهم وهم يقتلون شقيقه الصغير (إيدير).
المشاهد الافتتاحية في الفيلم تبدو عنيفة وجمالية لدرجة كبيرة، لقطة واحدة طويلة نفذت ببراعة من المخرج أقحمت المشاهد في عمق التمرد الذي يقوده الشبان الغاضبون، متنكرين تارة بثياب رياضية سرقوها من النادي الرياضي، أو مرتدين أقنعة صنعوها بأنفسهم. سلاحهم الوحيد هو كمّ هائل من الألعاب النارية والشتائم المقذعة التي ينطقها الشبان الصغار بلغة شوارعية واضحة تمتاز بها شوارع ضواحي المدن الفرنسية دونًا عن سواها.. لغة تبدو في سرعتها وبذاءتها وهجانتها كعلامة أو كهوية لهؤلاء القاطنين في هذه العمارات البائسة الذين يعلنون أنهم لن يسكتوا بعد اليوم، ولن يقبلوا أن يكونوا ضحايا مرة أخرى.
تبدو فرنسا في الجزء الأول من الفيلم من دون فرنسيين أوروبيين، بل أقوامًا من المهاجرين يتحدثون عن فرنسا، ويرغبون في المطالبة بحقوقهم من الآخر، الذي لا يفهمهم، ولا يبدو أنه يريد أبدًا. لكن ليست تلك هي الصورة بالكامل، فـ(عبدول)، الذي نال أوسمة من الجيش والشرطة الفرنسيين، هو لسخرية القدر الشقيق الأكبر للصبيين: كريم قائد التمرد، وإيدير الضحية الصغير صاحب الـ13 عامًا.
لكن عبدول هذا يبدو ناضجًا متفهمًا للجريمة التي ارتُكبت في حق شقيقه الأصغر، ويحاول قدر الإمكان ثني كريم عن ثورته، والعودة إلى أمه ومنزله، لكن الأمور سرعان ما تتدهور، وتبدأ جيوش من الشرطة وقوات التدخل السريع في حصار المجمع السكني، بعد أن كانوا قد طلبوا من الأهالي إخلاء المكان، لتتدفق مئات من العائلات وهي خارجة من المباني التي يحتلها الشبان الغاضبون.
نحن، إذًا، أمام مواجهة بين شقيقين، أحدهما يمثل الدولة الفرنسية، وسيم، قوي، محبوب، والآخر يمثل غضب الشباب المهمش في الضواحي. والاثنان يتصارعان على مفهوم العدالة للشقيق الأصغر (إيدير)، الذي قتل صباح اليوم. يطلب عبدول ضابط الشرطة الملتزم بالقوانين من شقيقه فضّ الاعتصام، والعودة إلى القانون، حيث ستجد العدالة من قتل شقيقهما. بينما يرفض كريم هذا، عادًا أنهم مستهدفون، ومن المستحيل أن تسلم الشرطة القتلة إلا بعد أن يتم الضغط عليها باختطاف ضابط من الشرطة التي تحاول اقتحام المكان.. ولسخرية الأقدار، يكون الضابط الذي يتم اختطافه فرنسيا أشقر، هدفا نموذجيا لغضب مهمشي الضواحي، وخصيصًا ضاحية "أثينا"، التي يبدو أن كل ما فيها يتجه إلى تراجيديا إغريقية حقيقية.
يقتحم عدد من عناصر الشرطة المجمع بعد وعود بفسح المجال لـ(عبدول) بإعادة الضابط المختطف، فيقتلون الشقيق الثاني قائد الانتفاضة (كريم)، الذي بدا أشبه بـ"المسيح" الذي يقود الجموع من أجل الخلاص.
بشعر طويل مفرود على الأكتاف، وقميص مفتوح يكشف عن نحوله الكبير وضعفه وهزاله، يتبادر إلى الذهن أنه من غير الممكن أن يكون كريم قائدًا عسكريًا، لولا أنه قائد فكري يقود الجموع الغاضبة عبر أفكاره الثورية، التي لن تستثني أحدًا من العقاب، حتى لو كان شقيقه الضابط عبدول.
"تبدو فرنسا في الجزء الأول من الفيلم من دون فرنسيين أوروبيين، بل أقوامًا من المهاجرين يتحدثون عن فرنسا، ويرغبون في المطالبة بحقوقهم من الآخر، الذي لا يفهمهم، ولا يبدو أنه يريد أبدًا" |
ها هي ذي التراجيديا الإغريقية متجسدة في الأراضي الفرنسية، حيث لن تجد لنفسها مكانًا أفضل من الضواحي كي تنمو المواجهة التي تفطر القلب، وتؤذي العقل، حينما يرفع الشقيق سلاحه ضد أخيه.
وحينما يقف القانون في مواجهة التمرد، حيث لا نعرف نحن من نتفرج على المأساة، إلى جانب من تصطف الحقيقة، هل في القصاص العنيف من المجرمين (قتلة الأطفال)، أم في القصاص السلمي من ذات المجرمين عبر دروب العدالة الطويلة والمحاكم التي لربما ستجد أن قتل طفل مهاجر من أصول عربية ومسلمة غير ذي قيمة، حتى لو كان في يوم ربيعي فرنسي.
ها هي الدولة في مواجهة تجعل من الحرب الأهلية ممكنة، إنها لحظة غضب، حيث لا يمكننا أن نقول إنها مواجهة بين الأوروبيين والعرب، أو بين المسلمين والمسيحيين، أو بين المهاجرين والسكان الأصليين. لا فكل هذا خطأ.
إنها مواجهة بين الغضب والعقل.. سواء كان الغضب من أصول مهاجرة، أو غيرها، أو كان العقل من أصول مهاجرة، أو غيرها. نحن في لعبة تراجيدية، حيث يتواجه أبناء عائلة مهاجرة أمام الموت، بينما تقف الأم بعيدة تحاول الاتصال بالجميع لتهدئة الموقف من دون جدوى.
لكن ذروة المأساة تقع في لحظة التعنت/ hybris، التي يقوم بها البطل المضاد (كريم) في إصراره على أن تسلم الدولة (عبدول) الضابط المختطف إليه.. بعد أن أنقذه عبدول، ولكنه لم يفلح في إخراجه من المجمع.
الشقيق الرابع لهذه الأسرة هو مختار، تاجر مخدرات كان يخفي بضاعته في أنحاء مختلفة من مجمع أثينا السكني، ولا يريد شيئًا من الدنيا إلا أن تسمح له بإخراج المخدرات من بؤرة التوتر بعيدًا عن الشرطة التي من الممكن أن تقتحم المكان في أي لحظة. وعلى الفور، تتحول المواجهة الثلاثية بين الإخوة الثلاثة، من يطلب الثأر، ومن يطلب العدل، ومن يطلب استمرار الفساد. فمختار لا يريد ثأرًا، بل يبحث عن تهدئة تسمح له ولتجارته بالنجاة والاستمرار، بتعاونه مع عناصر فاسدة من جهاز مكافحة المخدرات الذي لا ينقطع اتصاله بهم أبدًا.
في مشهد المواجهة المحوري بين الأخوين، كريم وعبدول، نجد ترميزًا غاية في الأهمية، ومشهدًا مكتوبًا بحرفية بالغة، بين ضفتي مواجهة تاريخيتين، فالأخ الثائر الأهوج المنادي بالثأر يصف شقيقه المدافع عن قيم الدولة بأنه عميل للسلطة وجاسوس للدولة الفرنسية، التي تبدو في حوار كريم وكأنها سلطة غريبة عن الأرض والسكان، ثم تأتي الصفة التي تجد في ضمير الفرنسيين صدى كبيرًا، ألا وهي حينما يصفه بالـ "الحركي"، في إحالة إلى الحرب الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وهي قضية غاية في التعقيد والحساسية بالنسبة إلى الطرفين، فحتى اليوم يصف الجزائريون كل من "يخون" بلاده بالحركي. وبالطبع، فمصطلح الخيانة عند العرب عمومًا شأن فضفاض وغير واضح المعالم، لكننا في هذا التوصيف السياسي، في هذه اللحظة، تنقلب الصورة من صراع بين الجزائريين على أرض الجزائر قبل ستة عقود، إلى صراع بين الجزائريين على الأرض الفرنسية اليوم، وهذا ما يفتح الباب على أزمة العلاقة بين الجزائر وفرنسا، الممتدة منذ عقود، والتي تعكس لا تصالحية كامنة، مثل قنبلة موقوتة حتى اليوم.
ولكن، وكما ذكرت، يندفع عناصر غاضبون من الشرطة نحو كريم الذي يحمل عبوة مولوتوف ويجندلونه بالرصاص، قبل أن يحرقهم.. أو يقتل أخاه.
"اللغة تبدو في سرعتها وبذاءتها وهجانتها كعلامة أو كهوية لهؤلاء القاطنين في هذه العمارات البائسة الذين يعلنون أنهم لن يسكتوا بعد اليوم، ولن يقبلوا أن يكونوا ضحايا مرة أخرى" |
يضعه بين الثوار الغاضبين، حيث يخيم الصمت على المكان بإجلال لموت القائد الذي حرك الانتفاضة.
ولكن الشقيق الرابع البراغماتي مختار، الذي لم يتأثر بمقتل شقيقه الثاني في اليوم نفسه، يندفع إلى شقيقه عبدول، طالبًا منه أن ينهي التمرد، كي تعود الأمور إلى مجاريها، وينقذ ما تبقى له من نقود.. فينهال عليه عبدول ضربًا في أعنف مشهد في الفيلم، يضربه حتى الموت. ليُعمد غضبه وثورته بدماء أخيه الفاسد.. وهو ما لم يقدر عليه كريم (أن يعمد ثورته بدماء أخيه الضابط الملتزم). ينهض عبدول، ويعلن انتقال التمرد من مرحلة الألعاب النارية ذات الإبهار السينمائي اللامحدود، إلى الأسلحة النارية، فيتسلح الجميع، ويعلن أنه سيقتل الرهينة إن لم يتسلم أسماء قتلة أخيه الصغير (إيدير).
تبدو التراجيديا هنا في أعلى مستوياتها، ويبدو عبدول كبطل تراجيدي كامل المعالم، واضح الأهداف، فلا شيء سيعيد له أخوته الذين ماتوا، سوى العنف.. لا العقل ولا الدولة، ولا المفاوضات ستفعل هذا.
وهذه بالضبط صفات البطل التراجيدي، التعنت، والمبالغة، حيث يصر عبدول على دمار كل شيء من أجل الانتقام.
يبدو سقوطه محتمًا، كسقوط الفرد في مواجهة الجماعة، مطالبه لا يمكن أن تتحقق، في مواجهة الدولة.. هنا، يصر عناصر الشرطة التي تتفاوض مع عبدول على أن من قتل شقيقه إيدير هم من عناصر اليمين المتطرف الذين ارتدوا ثياب شرطة لإثارة الفوضى والتوتر، ويبدو أنهم نجحوا في ذلك.
في مقلب آخر، يحاول عبدول في بداية الفيلم مراعاة شخص فرنسي يدعى سيباسيتان، يحميه من الفوضى والعنف، حينما يطلب منه التخفي داخل روضة الأطفال في المبنى، ولكنه حينما يتحول إلى قائد للتمرد، يطلق الوحش الكامن في قلب هذا الفرنسي، الذي يبدو في أول الفيلم كمختل يعيش بين المهاجرين، لتتضح الصورة بأنه جهادي فرنسي، يعيش في هذا المكان، ويعطف عليه الجميع ظنًا منهم أنه قد فقد عقله، لكن هذا الوحش الذي يستمد قوته مجددًا من الفوضى التي سببها اليمين المتطرف، يبدأ استخدام مهاراته بتفخيخ المكان بعبوات الغاز، والبنزين.. ولا يتردد في تفجير المبنى بالكامل، بعد أن يهرب الجميع إلا سيباستيان وعبدول..
فهل يمكن أن تحدث كل هذه التراجيديا، التي يقتل فيها الشقيق شقيقه من دون أن يحترق العالم سوى في مكان واحد اسمه "أثينا"... لكن أثينا تلك ليست عاصمة بلاد الإغريق القديمة، وإنما هي أثينا الضواحي المهمشة في البلاد الفرنسية.