حمّى البحر المتوسط".. اكتئاب الكبار وحمّى الصغار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حمّى البحر المتوسط".. اكتئاب الكبار وحمّى الصغار

    حمّى البحر المتوسط".. اكتئاب الكبار وحمّى الصغار
    ندى الأزهري 11 يونيو 2022
    سينما
    من فيلم "حمّى البحر المتوسط"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    إنه فيلم منتظرٌ، على الأقل لهؤلاء الذين أسعدهم الحظّ بالتعرف على الفيلم الأول لصاحبته، فيلمٌ يجابه تحدي كونه الثاني بعد أولٍ مبهر.
    "حمّى البحر المتوسط" (2022) هو الفيلم الثاني للفلسطينية مها الحاج شارك في مسابقة "نظرة ما" في مهرجان "كان" (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) وحاز على جائزة السيناريو. ذلك كان حال فيلمها الأول "أمور شخصية" (2017)، الذي شارك في القسم نفسه في مهرجان "كان" 2017، سوى أنه لم يفزْ بجائزة. وعلى الرغم من تمتعه بشخصيات مميزة، وغناه بمواقف مبتكرة، مع أسلوب إخراجي ساحر، فإنه لم يلفت إليه الانتباه كثيرًا. أحد أجمل الأفلام الفلسطينية، بل ربما العربية المعاصرة، مرّ دون اهتمام هو جدير به، لا سيما في العالم العربي، حيث كان لهذا أسبابه. فقد عُدَّ الفيلم، على الرغم من ارتباطه العميق والمؤثر بفلسطين، "إسرائيليًا"، كون إسرائيل شاركت في تمويله، وقوطع عربيًا بحجة الامتناع عن التطبيع. مها الحاج تجنبتْ هذا التمويل في فيلمها الثاني لحسن الحظ. وهكذا ستُفتح أمامه، هو الذي يستحق هذا تمامًا، أبواب المهرجانات العربية، والعروض أمام جمهور عربي.

    "عُدَّ فيلم "أمور شخصية"، على الرغم من ارتباطه العميق والمؤثر بفلسطين، "إسرائيليًا"، كون إسرائيل شاركت في تمويله، ولذلك قوطع عربيًا بحجة الامتناع عن التطبيع!"


    لكنه فيلم قد يُظلم إذا ما قورن بسابقه. فمن ظلّ حبيس الفيلم الأول سيجد صعوبة في النظر، وبالتالي الكتابة عن الجديد، بذات القدر من الانبهار والتأثر. مرد ذلك أن الإعجاب بفيلم "أمور شخصية" لم تشبْهُ أدنى شائبة، وبقاؤه إلى اليوم أحد الأفلام العربية المفضّلة، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق. أو، لعل ذلك عائد إلى انتظار الفيلم الثاني، بالتالي كما يحصل في حالات كهذه، تأتي النتيجة بخيبة ما تشبه تلك التي تتبع كلّ أمر اشتدّ انتظاره. خيبة لا يستحقها "حمّى البحر المتوسط" حقًا. لكن هذا ما حدث، وضع يثير حيرة وتساؤلات منذ مشاهدة الفيلم في عرض أول في صالة باريسية كانت تعرض بعضًا من أفلام مهرجان "كان" لهذا العام، وذلك قبل توزيعها تجاريًا على نطاق واسع في ما بعد.
    من فيلم "حمّى البحر المتوسط"
    في "أمور شخصية"، يوميات عائلة فلسطينية مشتتة جغرافيًا وعاطفيًا. الأبوان يعيشان في الناصرة، وابنهم العازب المخلص لعزوبيته في رام الله، وأيضًا ابنتهم مع زوجها الميكانيكي وأمه العجوز. أمّا الابن الثاني فيسكن في السويد. كل شيء يسير على وتيرة السأم لدى الجميع. هزل حلّو ومرّ استخدمته مها الحاج للحديث عن المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، كل أنواع الاحتلال. وكانت الطريقة المثلى لتوصيفه توظيف العبث والسخرية المرّة اللاذعة طوال مشاهد الفيلم، واعتماد تكرار المواقف الهازئة على إيقاع الأغاني وثرثرة التلفزيون. في كل شخصية من هذا الفيلم تُختصر حياة، بل تُكثّف كأعمق وأجمل ما يكون التكثيف، وفي كل مشهد كمٌّ فائض من حساسية ورهافة تنقل من العالم المحدود والمحدّد للمشهد إلى كل ما ورائه من رحابة وتحليق. نظرة ثاقبة ومليئة بالطرافة تلتقط أدق التفاصيل في كل شخصية وفي هذه الحياة التي تمضي حاملة معها الأحلام والخيبات والخلافات. هذا فيلم يسعد في كل لحظة من لحظاته في كل مرة تعود فيها الذاكرة إليه. إنه من الأفلام التي يخشى المشاهد انتهاءها أثناء العرض.

    "بُني "حمّى البحر المتوسط" بالكامل على شخصيتي وليد وجلال، وشكّل الاثنان مركز ثقل السرد، وكل ما عداهما من شخصيات، لا سيما عائلة كل منهما، كانت مجرد سندٍ"


    في الثاني "حمى البحر المتوسط" شخصيات أقلّ، وسيناريو أخفّ. هنا أيضًا عائلة فلسطينية، إنما على نطاق أضيق: وليد (40 عامًا) (يقوم بالدور عامر حليحل الذي مثّل أيضًا في الفيلم الأول)، وهو فلسطيني يعيش في حيفا مع زوجته وطفليه، يستقيل من عمله ليتفرغ للكتابة الأدبية. ومع وحي يأبى القدوم، يستسلم لاكتئاب عميق، ويبدو كمن يحمل على كاهله كل هموم الدنيا، ومعها قضية فلسطين بالطبع. على النقيض منه، جاره الجديد جلال (أشرف فرح)، لا جامع يجمع بين الاثنين، فجلال محتال صغير لا مبال بشيء، لا قضايا كبرى (فلسطين مثالًا)، ولا صغرى، كالديون الكثيرة المتراكمة عليه، التي تؤثر عليه، وعلى نمط عيشه، ظاهريًا على الأقل. يميل إلى الاستمتاع بالحياة، رغم نقص موارده، ولا يتردد في استخدام العنف حين تقتضي الضرورة. بسبب شخصيته المرحة الصاخبة والمندفعة، استطاع الدخول بسهولة في حياة وليد وعالمه الحذر. بات الاثنان لا يفترقان. يوحي السيناريو أن هذه العلاقة بين كائنين متناقضين في كل شيء قد تكون خيارًا لوليد وسبيلًا ليستقي من شخصية جاره وحيًا لكتاباته. لكن يتبدى في ما بعد أنه يخطط لشيء آخر تمامًا غير متوقع، ويصعب الاقتناع به دراميًا. فوليد يطمع في مساعدة جاره لتنفيذ مشروع آخر لم تبدُ دوافعه واقعية.
    من فيلم "حمّى البحر المتوسط"
    تبرع مها الحاج في كتابة شخصياتها (كاتبة السيناريو)، تتعاطف معها، وتقترب من مشاعرها بعمق وإحساس، وتسعى إلى تجسيدها على الشاشة بكثير من طرافة، وقليل من شروحات، أو كلام. فلا تعبر الشخصية بكثير من كلام أو ثرثرة عن نفسها لتفسّر مشاعرها، ولا تقوم شخصيات أخرى بفعل هذا، بل يعتمد الإخراج التلميح والمواقف، لتقوما بالغرض، وتوصيل مفردات الشخصية، من صفات ومكنونات، وحتى نيّات. كما لا تستعين المخرجة كثيرًا باللقطات المقربة للوجوه لإبداء مشاعر شخصياتها الجوانية، كأن الحركة هي أدلّ على ما يمور في دواخلهم (كما تبدو نفسية وليد من مجرد طيّه للغسيل، وتقشير الخضار...)، فيما المكان في كادر الصورة وتفاصيلها مدروس بعناية ليعبّر عن أجواء حياة الشخصيات. ويقود التحكّم الدقيق بأداء الممثلين إلى إسباغ مصداقية على الدور، فلا مبالغة، ولا تفاوت، في مستوى الأداء. وقد بُني "حمّى البحر المتوسط" بالكامل على شخصيتي وليد وجلال، وشكّل الاثنان مركز ثقل السرد، وكل ما عداهما من شخصيات، لا سيما عائلة كل منهما، كانت مجرد سندٍ. أجادا أيّما إجادة في التعبير، وبكثير من طرافة عفوية، عن هذه الصداقة التي تجمع كائنين مختلفين، تطورها وخفاياها. إنما أدى هذا البناء الذي ارتكز على محور واحد، إلى إهمال بقية الشخصيات، لا سيما الزوجتين ،على الرغم من دورهما الهام في العائلة. وإن كانت غاية الفيلم هي وليد وجلال فقط، وكل ما حولهما هو خلفية لهما، فهذا لا يمنع تطوير أكثر لشخصيات أخرى، وإغناء الحكاية بتفرعات ثانوية تعطي مصداقية أكثر لسلوك هاتين الشخصيتين الرئيسيتين، وتضيء أكثر على أجوائهما. كأن يتم التعريف بزوجة وليد أكثر، أو زوجة جلال، لتبرير خيانته لها، والتي كانت مفاجئة بعد أن ظهرت زوجته في بضعة مشاهد فقط كامرأة جميلة تشابهه في ميوله الاجتماعية.
    لكن شخصية أخرى، غير وليد وجلال، حضرت على نحو أعمق من غيرها، لما كان لهذا الحضور من إضاءة على ميول وأفكار وليد، وليتبين من خلالها مدى الأثر العميق والمؤلم الذي يتركه أحد العوامل في نفسه. ابن وليد كان يصاب بالحمّى كل يوم ثلاثاء، حمّى البحر المتوسط التي تشيعُ بين المرضى من أُصول متوسِّطيَّة، والتي لا يمكن الشفاء منها. لكن عوارضها كانت تظهر فقط يوم الثلاثاء لدى الصغير، كأنها "صُدفة" تتيح له التهرب من درس الجغرافيا الأسبوعي. ولماذا الجغرافيا؟ لأن المُدرّسة أصرّت على أن القدس هي عاصمة اسرائيل، وليست عاصمة فلسطين، كما صحح لها التلميذ بناء على ما كان يسمعه دومًا من والده، لكن المعلمة رفضت الانصياع لتصحيحه.
    الصغير يصاب دوريًا بحمّى البحر المتوسط، أما الكبير فنصيبه حمّى من نوع آخر، حمّى اكتئاب وإحباط يومية يسببهما الاحتلال.
يعمل...
X