مارلين مونرو.. معبودو الجماهير يسقطون مبكرًا
محمد بنعزيز 8 يونيو 2022
سينما
(Gettyimages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
سبق لي أن رأيت صورة التنورة التي تتلاعب بها الريح في صفحات كثيرة، وعندما وجدتها في كتاب أندري بازان "ما هي السينما؟" صارت لها أبعاد جديدة لأنها صُورة صارت موضوعًا للتعليق. كل صورة لا يُعلق عليها تنقرض سريعًا.
تهب عاصفة صغيرة من تحت الأرض وترفع تنورة الممثلة، هكذا فرض المكان الذي تم اختياره عمدًا فوق نفق ميترو لقطة بالصدفة على المخرج بيلي وايلدر في فيلم "حكة السبع سنوات" The Seven Year Itch 1955، ثم صارت اللقطة القصيرة التي خلدت الممثلة مارلين مونرو (1926-1962) رمزًا لحياة النجومية القصيرة التي تذهب مع الريح.
هذا ما خصصت له منصة نتفليكس مؤخرًا فيلمًا وثائقيًا: "لغز مارلين مونرو: التسجيلات المجهولة"، من إخراج الشابة إيما كوبر.
يحكي الفيلم مراحل الصعود المدوي للفتاة الذهبية التي حققت نجاحًا يحلم به أي فرد، حكاية جمال ومال وجنس وطوابير معجبين حول نجمة الاستعراض الأولى لأنها تملك ما تعرضه. كانت تقدّم صورًا فاتنة، والصور هي الشكل الخارجي للكائنات والأشياء... مارلين هي رمز الأنوثة العالمية، رمز الإثارة، نموذج لما يجب عليه أن تكون المرأة في منتصف القرن العشرين، هي ممثلة، أيقونة عالمية، هي بلقيس العصر الحديث... خلدها آندي وارهول في لوحة بيعت بـ 195 مليون دولار، لوحة عُلّق عليها كثيرًا وحطم ثمنها رقمًا قياسيًا في مايو 2022 أي بعد صدور الفيلم. لوحة تزعم معادلة لوحة مونرو للوحة الموناليزا. ذلك الثمن دليل على آنية الموضوع. الأشياء تعكس كلفتها.
هذا فيلم وثائقي يقوده صحافي محقق على وجهه تجاعيد تكشف حجم خبرته، صحافي بمعجم بوليسي يفسر مادة ضخمة: صور، لقطات، أغلفة مجلات، مواقع مواعيد غرامية، تسجيلات صوتية كثيفة عميقة... لقد توفرت للمخرجة وثائق بصرية كافية لعرضها... يعرض الفيلم صوت البطلة وصوت الشهود بالتزامن مع صوتين، صوت خارجي عبارة عن سرد مسجل وصوت سرد داخلي عبارة عن مونولوج يقدمه المحقق الخبير، الذي يفترض أن تزيد تجاعيده من مصداقية السر الذي سيكشفه لنا.
يتبع الفيلم الخط الكرونولوجي لما جرى، يعرض كل مرحلة من حياة مارلين ويحاول تفسيرها... واجهت صعوبة في الجمع بين الأسرة والشهرة، تزوجت شخصًا أعجبه اهتمامه بها، تزوجت شخصًا يريد امتلاكها، ضربها بعد لقطة التنورة التي تتلاعب بها الريح... لقطة المجد.
كيف وصلت مونرو إلى هذا المجد؟
وصلت مارلين إلى لوس أنجلوس حيث يجري اختيار بنات بأجساد من مقاس 12 في العنق و34 والنصف في الصدر، كانت وجهًا واعدًا يفيض كبرياء وطموحًا... تم اختيارها لهوليود. تم الاشتغال على مارلين بالمدلكين وخبراء التجميل ومعلمي الغنج لتنتقل من فتاة حسناء إلى نجمة تبعًا للخطاطة التي شرحها إدغار موران في كتابه "نجوم السينما" (ترجمة إبراهيم العريس، المنظمة العربية للترجمة، ط 1 بيروت 2012، ص 62- 63).
بعد الاشتغال والتأهيل ظهرت مارلين في أفلام كثيرة في لحظة هيمنة السينما على سوق الترفيه، وحققت النجمة جماهيرية غير مسبوقة في سياق "النصف الثاني للقرن العشرين الذي تفوقت فيه السينما على باقي الفنون" (هوبزباوم: "عصر التطرفات"، ترجمة فايز الصُياغ، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص 361). كانت شهرة نجمات منتصف القرن العشرين ثمرة ذلك التفوق. وهنا يلتقي الشخصي والتاريخي في هذا الفيلم الوثائقي.
حصلت مارلين على نجومية رسخت لديها جنون العظمة، كان كل ظهور لها يتحول لاستعراض مصور... في زمن صعود ثقافة استعراض الأجساد في حلبات الملاكمة والرقص والكرة... كانت مارلين هي الأبرز، يحبها الرجال وحتى النساء، كانت تردد مقولة "أن تكون أو لا تكون" التي تنسب لشكسبير لأنها وردت على لسان الأمير هاملت، بينما الجملة في الأصل هي لسائس الحمار سانشو بنثا في "دون كيخوته" لثيربانتس.
كانت مارلين تصعد، كانت الصحافة تحلل مواهبها و طموحها واندفاعها... كانت الكاميرا في سيارة ثم تتبع قطارًا سريعًا... كانت مارلين نجمة مطلوبة، غنت في عيد ميلاد الرئيس، كانت تتحدث مع رجال مهمين مثل الرئيس كينيدي ومع يساريين أميركيين هاربين إلى المكسيك، لهم صلة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو... بهذه الخلطة بين السياسة والحب والنووي صار التهديد الشيوعي مبررًا لاغتيالها... طلب منها قطع علاقتها بالرئيس... بذكر هذه المعلومات يحاول المُحقق والفيلم الوثائقي تفسير موت مارلين بمؤامرة سياسية... في لحظة تدهور مسار النجمة ترصد الكاميرا طائرة تحط بالعرض البطيء... تقف الكاميرا بعيدة وترصد سيارة تعبر منطقة قاحلة لجعل الفيلم يتنفس... هكذا يخدم المونتاج الفيلم وهو يوفر لقطة استراحة للمتفرج.
بين إشاعة وأخرى عن قصة حياة مارلين، الجميع يذكر اسمها الشخصي كأنها تقطن معه. هل انتحرت أو قتلت أو تناولت بالصدفة جرعة حبوب مهدئة أو منومة زائدة؟
إشاعات، إشاعات... نادرًا ما يتم تداول الحقائق، الإشاعات والمؤامرات أحسن حظًا وانتشارًا... يزعم الفيلم البحث عن الصيغة الحقيقية النهائية للقصة... لمحو القصة الملفقة. الحقيقة الوحيدة هي أن مارلين مونرو نموذج للمرأة المعاصرة، كان حلمها أن تكون ممثلة جيدة، كانت تملك مؤهلات جسد فاتن جلب لها عشاقًا أغنياء جدًا... تنافسوا لامتلاكها مؤقتًا... حين فقدت توهجها ابتعدوا عنها.
وهذا ما لم تتحمله. لقد بيّن إدغار موران في كتابه "نجوم السينما" في فصل "سفر تكون النجوم وتحولاتهم"، أنها كانت نجمة مثالية نقية عاشقة تعيش أهواءها بإخلاص وهي في بحث دائم عن فارس الأحلام، نجمة ذات قلب أمومي يخفيه صدر ذو قيمة كما في فيلم "نهر بلا عودة" 1954.
ترهل ذلك الصدر بسبب محدودية عمر النجومية في هوليوود، كانت السن المثالية لنجومية النساء في السينما بين 20 و25 سنة حسب إدغار موران في "نجوم السينما"، ص 34. كان ذاك هو متوسط عمر نجمات هوليوود، لذا كانت فترة عملهن قصيرة، وبعد هذه الفترة تنطفئ النجمات.
بالربط بين عاملي انطفاء الجسد ونمط الحياة الصاخب، بتجميع قطع البازل بحثًا عن الصيغة الحقيقية النهائية للقصة... لمحو القصة الملفقة؛ يتضح أن التفسير البسيط الذي لم يتطرق له الفيلم هو أن نجمة الاستعراض لم تعد تملك ما تعرضه، فقد انطفأ الجسد في منتصف الثلاثينات من عمر مارلين فتراجع الاهتمام بها، حسب توصيف المؤرخ الثقافي هوبزباوم الذي فحص الظاهرة: "كانت واحدة من معبودي الجماهير الذين سقطوا مبكرًا بسبب نمط حياتهم الصاخب" (عصر التطرفات، ص 568).. ومن يعش حياة صاخبة يحقق نجومية قصيرة مؤقتة فاتنة، يحلم بها غيره النكرة.
محمد بنعزيز 8 يونيو 2022
سينما
(Gettyimages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
سبق لي أن رأيت صورة التنورة التي تتلاعب بها الريح في صفحات كثيرة، وعندما وجدتها في كتاب أندري بازان "ما هي السينما؟" صارت لها أبعاد جديدة لأنها صُورة صارت موضوعًا للتعليق. كل صورة لا يُعلق عليها تنقرض سريعًا.
تهب عاصفة صغيرة من تحت الأرض وترفع تنورة الممثلة، هكذا فرض المكان الذي تم اختياره عمدًا فوق نفق ميترو لقطة بالصدفة على المخرج بيلي وايلدر في فيلم "حكة السبع سنوات" The Seven Year Itch 1955، ثم صارت اللقطة القصيرة التي خلدت الممثلة مارلين مونرو (1926-1962) رمزًا لحياة النجومية القصيرة التي تذهب مع الريح.
هذا ما خصصت له منصة نتفليكس مؤخرًا فيلمًا وثائقيًا: "لغز مارلين مونرو: التسجيلات المجهولة"، من إخراج الشابة إيما كوبر.
يحكي الفيلم مراحل الصعود المدوي للفتاة الذهبية التي حققت نجاحًا يحلم به أي فرد، حكاية جمال ومال وجنس وطوابير معجبين حول نجمة الاستعراض الأولى لأنها تملك ما تعرضه. كانت تقدّم صورًا فاتنة، والصور هي الشكل الخارجي للكائنات والأشياء... مارلين هي رمز الأنوثة العالمية، رمز الإثارة، نموذج لما يجب عليه أن تكون المرأة في منتصف القرن العشرين، هي ممثلة، أيقونة عالمية، هي بلقيس العصر الحديث... خلدها آندي وارهول في لوحة بيعت بـ 195 مليون دولار، لوحة عُلّق عليها كثيرًا وحطم ثمنها رقمًا قياسيًا في مايو 2022 أي بعد صدور الفيلم. لوحة تزعم معادلة لوحة مونرو للوحة الموناليزا. ذلك الثمن دليل على آنية الموضوع. الأشياء تعكس كلفتها.
"مارلين هي رمز الأنوثة العالمية، رمز الإثارة، نموذج لما يجب عليه أن تكون المرأة في منتصف القرن العشرين، خلدها آندي وارهول في لوحة بيعت بـ 195 مليون دولار، لوحة حطم ثمنها رقمًا قياسيًا في مايو 2022 أي بعد صدور الفيلم" |
يتبع الفيلم الخط الكرونولوجي لما جرى، يعرض كل مرحلة من حياة مارلين ويحاول تفسيرها... واجهت صعوبة في الجمع بين الأسرة والشهرة، تزوجت شخصًا أعجبه اهتمامه بها، تزوجت شخصًا يريد امتلاكها، ضربها بعد لقطة التنورة التي تتلاعب بها الريح... لقطة المجد.
اللقطة القصيرة من فيلم "حكة السبع سنوات" The Seven Year Itch 1955، التي خلدت الممثلة مارلين مونرو رمزًا لحياة النجومية القصيرة التي تذهب مع الريح |
وصلت مارلين إلى لوس أنجلوس حيث يجري اختيار بنات بأجساد من مقاس 12 في العنق و34 والنصف في الصدر، كانت وجهًا واعدًا يفيض كبرياء وطموحًا... تم اختيارها لهوليود. تم الاشتغال على مارلين بالمدلكين وخبراء التجميل ومعلمي الغنج لتنتقل من فتاة حسناء إلى نجمة تبعًا للخطاطة التي شرحها إدغار موران في كتابه "نجوم السينما" (ترجمة إبراهيم العريس، المنظمة العربية للترجمة، ط 1 بيروت 2012، ص 62- 63).
بعد الاشتغال والتأهيل ظهرت مارلين في أفلام كثيرة في لحظة هيمنة السينما على سوق الترفيه، وحققت النجمة جماهيرية غير مسبوقة في سياق "النصف الثاني للقرن العشرين الذي تفوقت فيه السينما على باقي الفنون" (هوبزباوم: "عصر التطرفات"، ترجمة فايز الصُياغ، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص 361). كانت شهرة نجمات منتصف القرن العشرين ثمرة ذلك التفوق. وهنا يلتقي الشخصي والتاريخي في هذا الفيلم الوثائقي.
"يتبع فيلم "لغز مارلين مونرو: التسجيلات المجهولة" الخط الكرونولوجي لما جرى، يعرض كل مرحلة من حياة مارلين ويحاول تفسيرها... واجهت صعوبة في الجمع بين الأسرة والشهرة، تزوجت شخصًا أعجبه اهتمامه بها، تزوجت شخصًا يريد امتلاكها، ضربها بعد لقطة التنورة التي تتلاعب بها الريح!" |
كانت مارلين تصعد، كانت الصحافة تحلل مواهبها و طموحها واندفاعها... كانت الكاميرا في سيارة ثم تتبع قطارًا سريعًا... كانت مارلين نجمة مطلوبة، غنت في عيد ميلاد الرئيس، كانت تتحدث مع رجال مهمين مثل الرئيس كينيدي ومع يساريين أميركيين هاربين إلى المكسيك، لهم صلة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو... بهذه الخلطة بين السياسة والحب والنووي صار التهديد الشيوعي مبررًا لاغتيالها... طلب منها قطع علاقتها بالرئيس... بذكر هذه المعلومات يحاول المُحقق والفيلم الوثائقي تفسير موت مارلين بمؤامرة سياسية... في لحظة تدهور مسار النجمة ترصد الكاميرا طائرة تحط بالعرض البطيء... تقف الكاميرا بعيدة وترصد سيارة تعبر منطقة قاحلة لجعل الفيلم يتنفس... هكذا يخدم المونتاج الفيلم وهو يوفر لقطة استراحة للمتفرج.
بين إشاعة وأخرى عن قصة حياة مارلين، الجميع يذكر اسمها الشخصي كأنها تقطن معه. هل انتحرت أو قتلت أو تناولت بالصدفة جرعة حبوب مهدئة أو منومة زائدة؟
إشاعات، إشاعات... نادرًا ما يتم تداول الحقائق، الإشاعات والمؤامرات أحسن حظًا وانتشارًا... يزعم الفيلم البحث عن الصيغة الحقيقية النهائية للقصة... لمحو القصة الملفقة. الحقيقة الوحيدة هي أن مارلين مونرو نموذج للمرأة المعاصرة، كان حلمها أن تكون ممثلة جيدة، كانت تملك مؤهلات جسد فاتن جلب لها عشاقًا أغنياء جدًا... تنافسوا لامتلاكها مؤقتًا... حين فقدت توهجها ابتعدوا عنها.
وهذا ما لم تتحمله. لقد بيّن إدغار موران في كتابه "نجوم السينما" في فصل "سفر تكون النجوم وتحولاتهم"، أنها كانت نجمة مثالية نقية عاشقة تعيش أهواءها بإخلاص وهي في بحث دائم عن فارس الأحلام، نجمة ذات قلب أمومي يخفيه صدر ذو قيمة كما في فيلم "نهر بلا عودة" 1954.
"كانت مارلين نجمة مطلوبة، غنت في عيد ميلاد الرئيس، كانت تتحدث مع رجال مهمين مثل الرئيس كينيدي ومع يساريين أميركيين هاربين إلى المكسيك، لهم صلة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو... بهذه الخلطة بين السياسة والحب والنووي صار التهديد الشيوعي مبررًا لاغتيالها" |
بالربط بين عاملي انطفاء الجسد ونمط الحياة الصاخب، بتجميع قطع البازل بحثًا عن الصيغة الحقيقية النهائية للقصة... لمحو القصة الملفقة؛ يتضح أن التفسير البسيط الذي لم يتطرق له الفيلم هو أن نجمة الاستعراض لم تعد تملك ما تعرضه، فقد انطفأ الجسد في منتصف الثلاثينات من عمر مارلين فتراجع الاهتمام بها، حسب توصيف المؤرخ الثقافي هوبزباوم الذي فحص الظاهرة: "كانت واحدة من معبودي الجماهير الذين سقطوا مبكرًا بسبب نمط حياتهم الصاخب" (عصر التطرفات، ص 568).. ومن يعش حياة صاخبة يحقق نجومية قصيرة مؤقتة فاتنة، يحلم بها غيره النكرة.