"الحركيون" الجزائريون في فيلم فرنسي جديد.. معاناة التخليّ
ندى الأزهري 19 أكتوبر 2022
سينما
المخرج وكاتب السيناريو الفرنسي فيليب فوكون وملصق الفيلم
شارك هذا المقال
حجم الخط
"الحركيون"، عنوان كفيل وحده بجذب اهتمام وفضول، وجدال لا بدّ منه. فكلّ ما يُحيل إلى الجزائر وفترة الاستعمار الفرنسي فيها ما زال يحرّك جروحًا دفينة أو ظاهرة. وحين يتعلق الأمر بالحركيين فالقضية تثير حساسية من نوع خاص على طرفيّ المتوسط. يُقدّم هؤلاء على أنهم العملاء الجزائريون الذين حاربوا في صفوف جيش فرنسا ضد ثورة التحرير في بلادهم من 1954إلى 1962 ويُعتبرون بالتالي خائنين من قبل مواطنيهم، مع كل ما تثيره الخيانة من احتقار ونفور.
في فيلمه "الحركيون" (2022) يحاول المخرج وكاتب السيناريو الفرنسي فيليب فوكون الاقتراب إنسانيًا من هؤلاء، ومن دوافعهم وتصرفاتهم. فهل يقرر الإنسان خيانة وطنه بكامل إرادته لأسباب خاصة أو معتقدات أم أن ظروفًا، اقتصادية مثلًا، تجبره على اتخاذ هذا الطريق الوعر الذي لا يجد غيره؟ ليس الفيلم سعيًا لردّ اعتبار للحركيين، بل هو سردٌ روائيٌّ لتاريخ على نحو يتجنب انحيازا لأيّ طرف، محاولة فهم موضوعية لأوضاع فئة عانت وما زالت تعاني بسبب مواقفها الماضية. لذلك قد لا يرضي الفيلم أحدًا، لا الجزائر ولا فرنسا، ولا حتى الحركيين أنفسهم، لكنه قد يرضي، على الأقل، مشاهده ويدعوه إلى التأمل بهذه الحالة المعقدة.
يُستهلّ "الحركيون" بمشهد مرّوع. أمام بيت أحد القرويين في الجبال عام 1959، وضعت سلّة احتوت رأسًا مقطوعة، يفتحها الأبّ العجوز فتنطلق صرخات الأمّ المفجوعة. كان هذا عقابًا للابن فرضه مقاتلو جبهة التحرير الوطنية الجزائرية على كلّ من يتعامل مع العدو. لن تسير مشاهد الفيلم التالية على هذا المنوال الصادم. فالمشهد الافتتاحي كان مدخلاً موجزًا وفعّالًا لإبداء حالة انقسام وتحولات كانت بدأت في صفوف الجزائريين مع بدء حرب التحرير، وكما يعبّر صلاح، أحد شخصيات الفيلم "إنها الحرب ولا يمكن أن نرى الأشياء من نفس الزاوية". لقد قرر البعض الوقوف في صفّ المستعمر بدلًا من مجابهته إن لم يكن باليد فباللسان أو القلب. والنصّ السينمائي (كتابة المخرج فوكون مع ياسمينا نيني فوكون وسمير بن يالا) لم يهتم بهؤلاء الذين قرروا مقاتلة العدو والذين اقتصر دورهم على خلفية محركة للأحداث، بل اختار الاهتمام بالذين انضموا للقتال إلى جانب العدو، بالذين لم يكترث لهم أحد ولقوا مصيرًا فاجعًا بعد التخلي عنهم. كما لم يركّز على شخصية واحدة من الحركيين ليعتبرها بطلة الأحداث، بل قدّم عينات مختلفة تعبّر عن توجّهات متنوّعة لديهم، سواء في دوافعهم أم في سلوكهم خلال العمليات العسكرية. واقترب الفيلم منهم ليس كمجموعة جاء ذكرها في التاريخ بل كأفراد لهم محركهم ونظرتهم حول انخراطهم في الجيش الفرنسي مبرزًا الإنسان ما يتعلق بخياراته أو ظروفه التي تفرض عليه أحيانًا الطرق الشائكة. فقدّم مهدي المؤمن بأن هذا قدره "المكتوب" فانضمامه جاء لتحقيق رغبة بالانتقام من جبهة التحرير التي قتلت "بوحشية" أفرادًا من عائلته، يعتبرها خارجة عن القانون. فيما دفعت الديون صلاح الفلاح إلى الأمل بالحصول على راتب من الجيش الفرنسي يخفف العجز. لكن ثمة أسبابًا أخرى حرّضت آخرين ومنها الإيمان بأن الجزائر فرنسية وعليهم مقاتلة "المعتدين" عليها وعلى المواطنين الأبرياء، وقناعة بالمواطنة الفرنسية وأن فرنسا ستعطي نفس الحقوق للجزائريين... عرض الفيلم هذا التنوع بالأهداف لدى الحركيين سواء عبر نقاشات عابرة أو أحداث على نمط المشهد الأول، الذي كان وراء انتماء شقيق الضحية إلى الجيش الفرنسي.
سهّل انضمام الحركيين للقوات المحتلة حاجة فرنسا لتجنيد قرويين من منطقة الجبال، مأوى المجاهدين، لمساعدتها في التواصل مع الأهالي والبحث عن عناصر جبهة التحرير. كانت خطبٌ مثل "الجيش محتاج لثقتكم بفرنسا للقضاء على المجرمين" و"هم يدمرون، وفرنسا تبني وتخدم وتعلمكم وترسم المستقبل لبناء الجزائر الجديدة"، تقنع معظم أعضاء الوحدة من الحركيين التي يترأسها الملازم الفرنسي باسكال. يتبع الفيلم مسار هذه الدورية العسكرية في الجبال، يقترب من بعض أفراد فيها، لتتجلى نظرتهم الخاصة. كانوا في معظمهم قرويين، بسطا، أميّين، فقراء، ولكن كان هناك أيضًا ناقمين قساة تأقلموا تمامًا مع نزعات وميول الجيش الفرنسي وتصرفوا على شاكلته. أبدى الفيلم سلوكهم دون غطاء أو تبرير، إساءاتهم وحتى وحشية بعض عمليات الدورية خلال ثلاث سنوات، وهي الفترة الزمنية التي تناولها السرد أي ما بين 1959 إلى 1962، من تفتيش لبيوت الأهالي واعتقالات وتعذيب وسرقة ممتلكات الضحايا، وأحيانًا إعدام ومحاولات لتجنيد عناصر وخداع للأهالي للقبض على أحد الزعماء. في كل هذا يساهم الحركيون ضد أبناء وطنهم لتتجلى من خلال ممارساتهم مواقف الأهالي المحتقرة للحركي وأسرته، هذا الحركي الذي لا يعود للقرية كي لا يتعرض للخطر، لكن أسرته تلقى المعاملة السيئة والاحتقار، وأبناءهم الصغار يرمون بالحجارة والشتائم من قبل أترابهم فهم "أبناء الخونة.
لا يثير الفيلم تعاطفًا مع أبطاله، يدعو فقط للتأمل في أحوالهم. فمن يتعاطف مع الخائن؟ معضلة يتجاوزها الفيلم بالاهتمام بالإنسان قبل الخائن، بتبيان أولًا السياق التاريخي الذي وضعه في هذه الحالة، ثم بتركيزه على أبطاله فترة المفاوضات عام 1962 بين فرنسا مع جبهة التحرير التي كانت نقطة التحوّل الهامة في الفيلم، لتبرز معها حالة الشك والريبة لدى الحركيين وإدراكهم الخطر الذي يتهددهم عند المصالحة، فالفرنسيون سيعودون لبلدهم ولكن هم، ما مصيرهم؟ هنا ينجح الفيلم بإظهار التخبط الفرنسي في تقرير مصير هؤلاء وكذلك سياسة التخلي التي التزمها مسؤولون عسكريون، فبين من يقول بإبقاء أصحاب الأسر في الجزائر مع تعويض مالي، والاحتفاظ بالعازبين في الجيش، وبعض آخر يحضر خططًا خادعة لتجريد الحركيين من السلاح وتركهم لمصيرهم. لكن هناك أيضًا باسكال، ملازم الفرقة، الذي يرفض تنفيذ الأوامر ويحاول مساعدة أعضاء وحدته للقدوم إلى فرنسا.
الموسيقى التصويرية ذات الطابع الشرقي (أمين بو حافة)، مهدت ومنذ الشارة، إلى فيلم هادئ نوعًا، لا يحفل بالإثارة على الرغم من موضوعه. وهكذا كان، فالفيلم لم يبدِ من عمليات عسكرية إلا ما يسمح بالتعرف على شخصياته، لا سيما الجزائرية منها، وردود أفعالها ومشاعرها. هذا الاهتمام المغاربي كان دائمًا في صلب أعمال المخرج فيليب فوكون المولود في وجدة بالمغرب 1958. وفي معظم أفلامه، كان أبطاله من ذوي أصول مغاربية. في "الخيانة" (2005) عاد إلى الحرب الجزائرية، من خلال فيلم مستوحى من كتاب نشره ملازم فرنسي. ثم في عام 2007 أخرج "في الحياة"، وهو فيلم كوميدي عن لقاء بين امرأة عربية وامرأة يهودية. أما في "اللا اندماج" (2011) فيظهر خيبات أمل ثلاثة شباب من الضواحي الفرنسية وعيوبهم وثوراتهم في مواجهة المجتمع الذي ولدوا فيه ولكن لم يعودوا يؤمنون بانتمائهم له. وفي "فاطمة" (2015) لوحة مؤثرة رائعة لامرأة مكافحة ذكية من وسط مغاربي في الضواحي الفرنسية.
ندى الأزهري 19 أكتوبر 2022
سينما
المخرج وكاتب السيناريو الفرنسي فيليب فوكون وملصق الفيلم
شارك هذا المقال
حجم الخط
"الحركيون"، عنوان كفيل وحده بجذب اهتمام وفضول، وجدال لا بدّ منه. فكلّ ما يُحيل إلى الجزائر وفترة الاستعمار الفرنسي فيها ما زال يحرّك جروحًا دفينة أو ظاهرة. وحين يتعلق الأمر بالحركيين فالقضية تثير حساسية من نوع خاص على طرفيّ المتوسط. يُقدّم هؤلاء على أنهم العملاء الجزائريون الذين حاربوا في صفوف جيش فرنسا ضد ثورة التحرير في بلادهم من 1954إلى 1962 ويُعتبرون بالتالي خائنين من قبل مواطنيهم، مع كل ما تثيره الخيانة من احتقار ونفور.
"في فيلمه "الحركيون" (2022) يحاول المخرج وكاتب السيناريو الفرنسي فيليب فوكون الاقتراب إنسانيًا من العملاء الجزائريين الذين حاربوا في صفوف جيش فرنسا ضد ثورة التحرير في بلادهم من 1954إلى 1962" |
يُستهلّ "الحركيون" بمشهد مرّوع. أمام بيت أحد القرويين في الجبال عام 1959، وضعت سلّة احتوت رأسًا مقطوعة، يفتحها الأبّ العجوز فتنطلق صرخات الأمّ المفجوعة. كان هذا عقابًا للابن فرضه مقاتلو جبهة التحرير الوطنية الجزائرية على كلّ من يتعامل مع العدو. لن تسير مشاهد الفيلم التالية على هذا المنوال الصادم. فالمشهد الافتتاحي كان مدخلاً موجزًا وفعّالًا لإبداء حالة انقسام وتحولات كانت بدأت في صفوف الجزائريين مع بدء حرب التحرير، وكما يعبّر صلاح، أحد شخصيات الفيلم "إنها الحرب ولا يمكن أن نرى الأشياء من نفس الزاوية". لقد قرر البعض الوقوف في صفّ المستعمر بدلًا من مجابهته إن لم يكن باليد فباللسان أو القلب. والنصّ السينمائي (كتابة المخرج فوكون مع ياسمينا نيني فوكون وسمير بن يالا) لم يهتم بهؤلاء الذين قرروا مقاتلة العدو والذين اقتصر دورهم على خلفية محركة للأحداث، بل اختار الاهتمام بالذين انضموا للقتال إلى جانب العدو، بالذين لم يكترث لهم أحد ولقوا مصيرًا فاجعًا بعد التخلي عنهم. كما لم يركّز على شخصية واحدة من الحركيين ليعتبرها بطلة الأحداث، بل قدّم عينات مختلفة تعبّر عن توجّهات متنوّعة لديهم، سواء في دوافعهم أم في سلوكهم خلال العمليات العسكرية. واقترب الفيلم منهم ليس كمجموعة جاء ذكرها في التاريخ بل كأفراد لهم محركهم ونظرتهم حول انخراطهم في الجيش الفرنسي مبرزًا الإنسان ما يتعلق بخياراته أو ظروفه التي تفرض عليه أحيانًا الطرق الشائكة. فقدّم مهدي المؤمن بأن هذا قدره "المكتوب" فانضمامه جاء لتحقيق رغبة بالانتقام من جبهة التحرير التي قتلت "بوحشية" أفرادًا من عائلته، يعتبرها خارجة عن القانون. فيما دفعت الديون صلاح الفلاح إلى الأمل بالحصول على راتب من الجيش الفرنسي يخفف العجز. لكن ثمة أسبابًا أخرى حرّضت آخرين ومنها الإيمان بأن الجزائر فرنسية وعليهم مقاتلة "المعتدين" عليها وعلى المواطنين الأبرياء، وقناعة بالمواطنة الفرنسية وأن فرنسا ستعطي نفس الحقوق للجزائريين... عرض الفيلم هذا التنوع بالأهداف لدى الحركيين سواء عبر نقاشات عابرة أو أحداث على نمط المشهد الأول، الذي كان وراء انتماء شقيق الضحية إلى الجيش الفرنسي.
"لا يثير الفيلم تعاطفًا مع أبطاله، يدعو فقط للتأمل في أحوالهم. فمن يتعاطف مع الخائن؟ معضلة يتجاوزها الفيلم بالاهتمام بالإنسان قبل الخائن، بتبيان أولًا السياق التاريخي الذي وضعه في هذه الحالة" |
لقطتان من الفيلم: الأولى، حركيون في مهمة عسكرية. وفي الثانية، حركيون قلقون يستمعون للراديو حول المصالحة الفرنسية مع المجاهدين |
لا يثير الفيلم تعاطفًا مع أبطاله، يدعو فقط للتأمل في أحوالهم. فمن يتعاطف مع الخائن؟ معضلة يتجاوزها الفيلم بالاهتمام بالإنسان قبل الخائن، بتبيان أولًا السياق التاريخي الذي وضعه في هذه الحالة، ثم بتركيزه على أبطاله فترة المفاوضات عام 1962 بين فرنسا مع جبهة التحرير التي كانت نقطة التحوّل الهامة في الفيلم، لتبرز معها حالة الشك والريبة لدى الحركيين وإدراكهم الخطر الذي يتهددهم عند المصالحة، فالفرنسيون سيعودون لبلدهم ولكن هم، ما مصيرهم؟ هنا ينجح الفيلم بإظهار التخبط الفرنسي في تقرير مصير هؤلاء وكذلك سياسة التخلي التي التزمها مسؤولون عسكريون، فبين من يقول بإبقاء أصحاب الأسر في الجزائر مع تعويض مالي، والاحتفاظ بالعازبين في الجيش، وبعض آخر يحضر خططًا خادعة لتجريد الحركيين من السلاح وتركهم لمصيرهم. لكن هناك أيضًا باسكال، ملازم الفرقة، الذي يرفض تنفيذ الأوامر ويحاول مساعدة أعضاء وحدته للقدوم إلى فرنسا.
"ينجح الفيلم بإظهار التخبط الفرنسي في تقرير مصير هؤلاء وكذلك سياسة التخلي التي التزمها مسؤولون عسكريون، فبين من يقول بإبقاء أصحاب الأسر في الجزائر مع تعويض مالي، والاحتفاظ بالعازبين في الجيش، وبعض آخر يحضر خططًا خادعة لتجريد الحركيين من السلاح وتركهم لمصيرهم" |