"العودة إلى التراب".. للحبّ معانٍ أخرى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "العودة إلى التراب".. للحبّ معانٍ أخرى

    "العودة إلى التراب".. للحبّ معانٍ أخرى
    مي عاشور 17 أكتوبر 2022
    سينما
    لقطة من فيلم "العودة إلى التراب"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    ما الحُب؟
    من بين عديد الأجوبة الطويلة، أو حتى المُقتضبة، سيكون فيلم "العودة إلى التراب" واحدًا من الأجوبة القاطعة، رغم أنه فيلم درامي، ولم تذكر فيه كلمة "حُب" بوضوح قط، إلا أن قصته تبرز لنا جوانب مختلفة من المشاعر الإنسانية العذبة.
    تدور أحداث الفيلم بقرية في مقاطعة جانغسو شمال غربي الصين، عام 2011، وتحكي عن حياة فلاح بسيط، في منتصف عمره، اسمه ما يو تييه، لا يملك سوى حمار وعربة "كارو" صغيرة، يلتقي جوي بينغ على مائدة طعام، بغرض مشروع زواج دبرته العائلتان. بينغ امرأة وحيدة تعيش حياة مأساوية، فهي مصابة بإعاقة ما، ولن تستطيع الإنجاب. عاشت طفولة بائسة، زاد في ذلك تعامل زوجة أخيها معها بشكل سيء. تسكن بينغ في كوخ في الفناء الخلفي ببيت أخيها.
    تبدأ حكاية ما يو تييه، وجوي بينغ، بزواجهما، ليعيشا حياة شاقة بسيطة، ولكنها في الوقت نفسه جميلة؛ حيث يتناسى المرء الخوف مما قد تحمله الأيام إليه، عندما يفيض قلبه بشعور ما. يصور لنا الفيلم الحُب الذي جمع بين ما يو تييه، وجوي بينغ، كنبتة تزدهر بالأفعال لا بالكلام.
    لم يملك الزوجان بيتًا خاصًا بهما، فسكنا البيوت الخاوية، التي تركها أصحابها عندما انتقلوا للعمل في المدن. حتى أنهما اضطرا للانتقال أكثر من مرة؛ لأن أصحاب البيوت عادوا، حينما علموا بأن الحكومة تريد تطوير القرية، وستزيل البيوت المهجورة، مقابل دفع مبلغ من المال. فقرر الزوجان أن يبنيا بيتًا لهما.
    في نهاية الفيلم، تموت جوي بينغ غرقًا في قناة المياه، تاركة ما يو تييه منغمسًا في حزن الفقد وألم الفراق.

    "تبدأ حكاية ما يو تييه، وجوي بينغ، بزواجهما، ليعيشا حياة شاقة بسيطة، ولكنها في الوقت نفسه جميلة؛ حيث يتناسى المرء الخوف مما قد تحمله الأيام إليه، عندما يفيض قلبه بشعور ما"


    "العودة إلى التراب"، للمخرج والسيناريست الصيني الشاب لي روي جون، هو فيلمه السادس. ومسقط رأسه كان موقعًا لتصوير الفيلم، واستغرق تصويره عامًا تقريبًا، فيمكننا أن نرى تعاقب الفصول واضحًا في المشاهد المختلفة.
    المخرج لي روي جون
    شارك فيلم "العودة إلى التراب" في فبراير/ شباط الماضي في مسابقة مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الـ72، وكذلك في مهرجان الشرق الأقصى للأفلام في مدينة أوديني بإيطاليا، في أبريل/ نيسان 2022، وبدأ عرضه في الصين في يوليو/ تموز الماضي، وحقق نجاحًا ساحقًا. وكان من المواضيع المتداولة مؤخرًا من قِبل عدد من الأصدقاء الصينيين، كما رشحه لي بعضهم.
    الحوار قليل في الفيلم، فهو يعتمد أكثر على التمثيل والأحداث. وفي رأيي، فإن ما أضفى عليه طابعًا حقيقيًا صادقًا هو التلقائية الموجودة فيه؛ وخاصة لأن بطل الفيلم ليس ممثلًا في الأصل، بل فلاحًا، وكذلك بعض الممثلين. كما أن بطلة الفيلم، الممثلة خاي تشينغ، جسدت شخصية جوي بينغ ببراعة تفوق الوصف.

    وفقًا لصحيفة الصين اليومية: تَصَدّر فيلم "العودة إلى التراب" للمرة الأولى شباك التذاكر ليوم واحد، بعد 56 يومًا من عرضه، وتجاوزت إيرادات الفيلم 80 مليون يوان صيني في الرابع من سبتمبر/ أيلول، وبلغ عدد المشاهدين 2.28 مليون، ووصل تقييم المشاهدين للفيلم إلى 9.2.


    الثقافة الصينية
    الفيلم ينقل إلينا حياة الريف الصيني، بتفاصيلها ونمطها، وكذلك لا يخلو من الثقافة الصينية بشكل عام، والريفية بشكل خاص. كما يعرض بعض المفارقات، التي قد تستوقف المشاهد.
    نشاهد من خلال الفيلم المعتقدات والعادات الصينية، فهنالك مشهد يحرق فيه ما يو تييه نقودًا ورقية ملونة (غير حقيقية) لوالديه المتوفيين؛ وحرق النقود هو من مظاهر تذكر الصينيين للأموات، اعتقادًا منهم أنها ستعود لهم في الحياة الأخرى.
    يصحبنا الفيلم في جولة إلى الريف الصيني، فنرى شكل البيوت الريفية البسيطة، وكذلك ما يُطلق عليه "كانغ"، أو مصطبة المدفأة، وهي أشبه بسرير عريض، مصنوعة من الطوب، تستخدم كوسيلة للتدفئة، من خلال وضع النار تحتها، أو في فتحة خارجية موصولة بها، ويمكن النوم عليها، أو حتى الجلوس للتسامر. ومن خلال الفيلم، نطلع على ثقافة الطعام الصيني في الريف، ونتعرف على بعض الأطعمة الصينية التقليدية اليومية، مثل خبز البخار، والذي يُسمى "موه موه".

    "الحوار قليل في الفيلم، وما أضفى عليه طابعًا حقيقيًا صادقًا هو التلقائية الموجودة فيه؛ خاصة أن بطل الفيلم ليس ممثلًا في الأصل، بل فلاحًا، وكذلك بعض الممثلين"


    "للبشر أقدام، في وسعهم دائمًا التنقل بها، فهي أقوى بمراحل من المحاصيل والخضار المغروسة في الأرض. فلا يمكن للحبوب التنقل من المكان الذي غُرست فيه، وحين تعصف الرياح بها، وتشتد الشمس عليها، تحيا وتفنى، ولكنها لا تملك سوى البقاء في التربة. ولكن إلى أين يمكن أن تقودنا أقدامنا، وهي مربوطة بشدة بالأرض، وتعجز عن الذهاب إلى أي مكان، فما هو رأيكِ في كيف يعيش الفلاح لو ترك أرضه؟".
    هذه الكلمات قالها ما يو تييه إلى زوجته، التي يمكن أن نستشف منها أن الفيلم يتناول علاقة الإنسان بالأرض والبيئة التي نشأ فيها، وتناغمه معها رغم قسوتها أحيانًا.


    أفعال تجتاز كلمة "أحبكِ"
    ملصق فيلم "العودة إلى التراب"
    عندما تجتاز المشاعر الكلمات وتعبيرات الوجه، تصير طاقة محركة للمرء، منعكسة في أفعاله. يُظهِر الفيلم معاني أعمق للحب؛ من المشاركة، والمساندة، والاهتمام، والرعاية والتعاطف، والوئام، وغيرها، وهي مرادفات للعشق سنراها في المشاهد التالية: سنلمس شعور ما يو تييه بالارتباك والقلق على جوي بينغ عندما أصيبت بالإعياء، وهما في طريقهما مع مالك الأرض للتبرع بالدم لوالده. طلب ما يو تييه منه فورًا إيقاف السيارة، وأخذ يربت على ظهر زوجته، وكأنه يريد أن يخفف عنها تعبها. أما الاهتمام فكان حاضرًا بشكل جميل في المشهد الذي أمطرت فيه بغزارة، فهرع الزوجان يحاولان تغطية الطوب الذي يجففانه، من أجل بناء بيت لهما، لكن اهتم ما يو تييه قبل كل شيء بوضع غطاء من "المشمع" على زوجته، لحمايتها من المطر، خوفًا عليها من أن تمرض. وسنرى مشاركة الزوجين في العمل معًا في الأرض، وبنائهما لبيتهما سويًا. ينعكس التعاطف في دموع ما يو تييه التي سالت عندما حكت له جوي بينغ عن حياتها القاسية، إذ قالت له إن حياة الحمار أفضل من حياتها. ونرى الحب متجسدًا في انتظار جوي بينغ بقلق، في الطريق المعتم، والليل البارد، لعودة زوجها، وفي يدها قنينة ماء ساخن أحضرتها له. وكذلك حينما طلبت من الطبيب التبرع بالدم إلى والد مالك الأرض، بدلًا من زوجها إشفاقًا عليه.
    لقطة من الفبلم
    "يُظهِر الفيلم معاني أعمق للحب؛ من المشاركة، والمساندة، والاهتمام، والرعاية والتعاطف، والوئام، وغيرها، وهي مرادفات للعشق سنراها في الفيلم"


    وجود فكرة حقيقية للمخرج نابعة من ثقافته واحد من أسباب تميز الفيلم، ونقله لبيئة ما، كما هي، من دون تكلف، أضفى عليه اختلافًا. فهنالك دائمًا جمال في كل ثقافة، حتى لو بدت مغايرة وغريبة بالنسبة إلينا.
يعمل...
X