غودار والقضية الفلسطينية.. مبدع إنساني وعادل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غودار والقضية الفلسطينية.. مبدع إنساني وعادل

    غودار والقضية الفلسطينية.. مبدع إنساني وعادل
    جورج كعدي 27 سبتمبر 2022
    سينما
    غودار وملصقا فيلمي "موسيقانا" و"هنا وفي مكان آخر"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    أطنان من الكتب والدراسات تناولت سينما الكبير Jean – Luc Godard (1930- 2022) الذي غاب اختياريًّا بـ"الموت الرحيم" قبل نحو أسبوعين، المجدّد والمثوِّر للغة السينمائيّة ومفهوم الصورة وعلاقتها بالكلمة وأيّهما تسبق الأخرى. ولأنّني لستُ في مساحة دراسةٍ أو كتاب، إنّما في حيّز مقالة مكثّفة لعلّها تفي بمجرّد التنويه بفرادة ما قدّمه غودار للسينما، وبموقفه الفريد من القضيّة الفلسطينيّة تحديدًا عبر فيلميه "موسيقانا" (Notre musique) و"هنا وفي مكان آخر" (Ici et ailleurs)، أكتفي بهذين الجانبين: التنويه المختصر، والإضاءة شبه الوافية على فيلميه "الفلسطينيَين" إن جاز الوصف والتعبير.
    "الصعوبة تكمن في كيفيّة اختصار سينما غودار وفكره وأسلوبه المجدّد. سأحاول، وسأتألم، ولن أنجح إلاّ بقدر محدود جدًا ضمن الفسحة الضيّقة المتاحة، إذ لا يمكن إيفاء هذا الكبير حقه ودوره ومكانته السينمائية سوى بكتاب تحليليّ بحثيّ مستفيض"
    1- في فرادة سينما غودار

    كثيرٌ ما أتى به غودار للغة السينمائيّة تجديدًا و"خربطةً" لقواعدها التقليدية التي كانت سائدة قبله. صحيح أنّه صنّف بين مطلقي "الموجة الجديدة الفرنسية" (French new wave) التي ضمّت رفاقًا وأصدقاء له من "السينفيليين" النهمين ثقافةً ومشاهدةً وكتابة نقديّة تحت رعاية "أبيهم الروحيّ" أندريه بازان Bazin، وبينهم Chabrol و Truffault (الصهيونيّ المقيت رغم براعته السينمائيّة، وله حديث خاص آتي إليه لاحقًا) وRohmer وRivette وVarda وDemy وMalle وآخرون، إلاّ أنّ غودار، منذ البداية حتى الرحيل المؤسف والمؤلم بـ"الموت الرحيم" في سويسرا، بقي نسيج وحده، شديد الفرادة، عظيم الثقافة، عميقًا، مرحًا، مثوِّرًا ومخالفًا المواضعات السينمائيّة المعهودة، مفتتحًا عصرًا سينمائيًّا جديدًا مختلفًا أدهش العالم في جهاته الأربع، حتّى صار له أتباع ومريدون أينما كان متأثرون علنًا وفخورون بأنّهم "غودارديّو" الأسلوب والهوى.

    الصعوبة تكمن في كيفيّة اختصار سينما غودار وفكره وأسلوبه المجدّد. سأحاول، وسأتألم، ولن أنجح إلاّ بقدر محدود جدًا ضمن الفسحة الضيّقة المتاحة، إذ لا يمكن إيفاء هذا الكبير حقه ودوره ومكانته السينمائية سوى بكتاب تحليليّ بحثيّ مستفيض، أو بدراسة مطوّلة تشفي جزءًا من الغليل. ومع ذلك، سأحاول، قبل بلوغ الجزء الثاني من عجالتي والخاصّ بفيلميه عن فلسطين.

    يصوّر غودار المجتمع كما لو كان سجنًا، وانطباعه عنه كئيب سواء في فيلم "الجندي الصغير" أو فيلم "مذكّر – مؤنّث" أو فيلم "اللامنتمون"

    اتّسع نطاق التجريب لدى غودار على نحو مذهل، إنْ في أفلامه الذاتيّة والحميمة التي تعكس جانب "الهوس الثقافيّ " (Pseudo - intellectualisme) لديه في مختلف فروع الفكر والفن، أو أفلامه السياسيّة التي تؤكد صفة الالتزام (engagement) عنده انطلاقًا من خلفيّة انتمائه الفكريّ اليساريّ، الماويّ المعلن تحديدًا. فلا فيلم يشبه الآخر في فيلموغرافيته الطويلة، بل إنّ كلًا من أفلامه يطأ رقعة جديدة على أرض التجريب. وأوّل ما يلفتنا في سينما غودار استخدامه طريقة القطع "الفظّ" والمباغت بين لقطة وأخرى، فالجزئيّات (Fragments) تتجاور على نحو صادم ولا يتبدّى لنا على الفور منطق جليّ من هذا التجاور المولّف. ومن هنا سمة "الصعوبة" التي طبعت أفلامه ونأت بها عن أن تكون في متناول جمهور عريض يلقى صعوبة ومشقّة في فهمها، سوى المشاهدين الذين "يفهمون على غودار" ويتلقّون خطابه السينمائيّ الفريد بالحدس أو بالإدراك والتفضيل. سينماه مزيج من الصور والأصوات التي تتناغم أحيانًا وتتنافر أحيانًا أخرى. منذ فيلمه الروائيّ الأوّل و"الفاتح" عام 1960 تحت عنوان "لهاث" ("A bout de souffle" العنوان الأصل بالفرنسيّة، و"Breathless" في الترجمة الإنكليزية) رفض غودار اللجوء إلى أسلوب السرد التقليديّ، أو الحبكة ورواية قصة ذات بداية وتطوّر دراميّ ونهاية، وحتى طريقة تقديم الشخوص السائدة حتّذاك، فاعتمد اللقطة العامة التي تليها لقطة أو لقطتان متوسطتان وفي النهاية لقطة مقرّبة أو ما يسمّى Close up. وعلينا بالتالي أن نتمعّن في خاصّيات كل جزئيّة من الجزئيّات المكوّنة للّقطة كي يتسنّى لنا فهم مبرّرات هذا الأسلوب في المونتاج. كلّ صورة في أيّ فيلم من أفلام غودار محمّلة بالاقتباسات (الأدبية أو الموسيقية أو التشكيلية أو الفلسفية.. إلخ) والإحالات على مشاهد من أعمال سينمائيّة معروفة، غمزًا في اتجاهها أو محاكاة ساخرة لها. كما تتوقف كاميراه دومًا على بعض الأشياء العاديّة أو حتّى المبتذلة (banals) التي تطالعنا يوميًّا في الواقع وتقفز إلى أنظارنا عنوةً كالملصقات والإعلانات ولافتات النيون والصور الفوتوغرافيّة وغُلُف المجلاّت والبطاقات البريديّة وغُلُف الأسطوانات وعبوات الشامبو... أشياء كثيرة بعضها عاديّ وبعضها الآخر قد يكون بلا قيمة فعليّة.
    "منذ فيلمه الروائيّ الأوّل و"الفاتح" عام 1960 تحت عنوان "لهاث" "A bout de souffle" رفض غودار اللجوء إلى أسلوب السرد التقليديّ، أو الحبكة ورواية قصة ذات بداية وتطوّر دراميّ ونهاية"
    بدأ غودار حياته السينمائيّة ناقدًا، كان على معرفة تامة بالأساليب السينمائيّة المتنوّعة (من السينما الهوليوودية إلى اليابانية مرورًا بالفرنسية والأوروبية عامةً) وكبار المبدعين في السينما واتجاهاتهم المختلفة. ففي أحد أفلامه، مثلًا، "المرأة هي المرأة" (Une femme est une femme) – 1962 – يردّنا، بالصورة أو بالكلمة، إلى Cyd Charisse، Gene Kelly ،Bob Fosse، Burt Lancaster، Ernst Lubitsch... وبالقدر نفسه، يحيلنا على رواية جيمس جويس Ulysses الذي يداني أسلوبها الأدبيّ أسلوبه السينمائيّ. فلا ترسم أفلام غودار صورة تسجيليّة مباشرة للعالم، بل تلتقطه بسلسلة من الإحالات والإلماعات. كذلك ممثلو أفلامه، يؤدون شخوصًا لم تُرسم ملامحها التامّة كما في الروايات ذات البناء المتماسك، ويختلّ جوّ الإيهام ويضطرب حين تظهر شخصيات معروفة وذات هويّات حقيقيّة، مثل المخرج الألماني الكبير Fritz Lang الذي يظهر بشخصيته الحقيقية كمخرج في إحدى تحف غودار السينمائيّة "الاحتقار" (Le mépris) – 1963 – المستوحى – على طريقة غودار – من رواية لألبرتو مورافيا. كذلك يظهر فريق "رولينغ ستونز" في فيلم "واحد زائد واحد" (One plus one) – 1968 – وهو وثائقيّ عن فريق الروك البريطاني ... كما أَلِفَ غودار العمل من دون سيناريو معدّ سلفًا ومحكم التفاصيل، بغية إخفاء أثر ما يميّز التمثيل عن الواقع، فما أن يدرك ممثلوه أنّ مخرجهم يرتجل السيناريو قبل التصوير مباشرة حتى ينعكس الأمر على أدائهم أدوارهم بطريقة تلقائيّة مماثلة، فتغدو ردود أفعالهم العفويّة جزءًا لا يتجزأ من الفيلم. فضلًا عن سمة أساسيّة أخرى متكرّرة لديه هي مخاطبة الممثل أو الممثلة الكاميرا مباشرةً (سبقه إلى ذلك المعلّم السويديّ الكبير إنغمار برغمان).

    إحدى تحف غودار السينمائيّة "الاحتقار" (Le mépris) – 1963 – المستوحى من رواية لألبرتو مورافيا

    إنّ البيئة التي تعيش فيها شخوص غودار لا تهب سوى بصيص أمل ضئيل، فهو يصوّر المجتمع كما لو كان سجنًا، وانطباعه عنه كئيب على الدوام، سواء كان فيلمه يحكي عن الاغتيال السياسيّ في فيلم "الجندي الصغير" (le petit soldat) – 1963 - ، أو الحياة الرتيبة في الضواحي في فيلم "اللامنتمون" (Une bande apart) – 1964 - ، أو باريس المليئة بالمراهقين المتذمّرين وفاقدي الأمل في فيلم "مذكّر – مؤنّث" (Masculin, Feminin) – 1966 - ، وحتّى عندما يتطلّع غودار إلى المستقبل في فيلم "ألفافيل" (Alphaville) – 1965 – فإنّه لا يعثر في هذا المستقبل على مخرج من الواقع القائم. النظامان الاجتماعيّ والسياسيّ يفرضان على الفرد أداء دورين، إما الإذعان، أو التمرّد. وثمة شبه قويّ في هذا الجانب بأفلام العصابات الأميركية أو ما يُعرف تحديدًا بال Film noir (لا ترجمة له حتى بالإنكليزية إذ يعتمده الأميركيون بلفظه الفرنسي وبلكنتهم الخاصة، ولا ترجمة له بالعربيّة ولا بأيّ لغة)، فهذا النوع السينمائيّ الهوليوودي ترك تأثيرًا شديدًا لدى غودار وأتاح له التعبير عن همومه الاجتماعية من خلال المحاكاة الساخرة لأفلام هذا النوع.
    "نظرة غودار إلى الإنسان واللغة والمجتمع هي نظرة متشائمة. أسلوبه مقطّع الأوصال وبلا رابط لكي يقول إنّه لم يعثر على الروابط والعلاقات التي تجعل الفرد في حالة انسجام مع ذاته، أو قادرًا على التواصل مع أقرانه"
    نظرة غودار إلى الإنسان واللغة والمجتمع هي في جوهرها نظرة متشائمة. أسلوبه مقطّع الأوصال وبلا رابط لكي يقول إنّه لم يعثر على الروابط والعلاقات التي تجعل الفرد في حالة انسجام مع ذاته، أو قادرًا على التواصل مع أقرانه، أو العيش في المجتمع والعمل على نحو خلاّق. وفي هذا سلك غودار طريقين رئيسين، الحبّ والنضال السياسيّ، لفكّ الحصار الذي تفرضه علينا روح النظم الانهزاميّة. بيد أنّ ردود فعله في كلا المجالين – الحبّ والنضال السياسيّ – بالغة التناقض إلى حدّ بقاء فكرة الانهزام قائمة. فيلم "بيارو المجنون" (Pierrot le fou) – 1965 – يشي بهذا الاقتناع الثابت لديه، وهو يصفه بنفسه بأنّه "قصة حبيبين رومانسيين هما آخر الرومانسيين"، فقصّة حبّ جان – بول بلموندو وآنّا كارينا وفرحهما بالحريّة التي ينعمان بها وإحساسهما بعدم المسؤولية وحيويتهما الفائقة في الانتقال من مكان إلى آخر على هواهما، تنقلب في النهاية إلى نهاية مأساويّة. يعود التشاؤم ليطغى دومًا في النهاية على نظرة غودار إلى مأساة الفرد في المجتمع.

    اهتمامه السياسيّ سيظهر في أعماله اللاحقة كفيلم "صنع في الولايات المتحدة" (Made in USA) – 1966، وفيلم "بعيدًا عن فيتنام" (Loin du Vietnam) – 1967 وفيلم "الصينيّة" (La Chinoise ) – 1967

    فيلم "بيارو المجنون" أساسيّ في فيلموغرافيّة غودار الغزيرة التي بلغت مئة فيلم بين روائيّ وتسجيليّ واختباريّ تأريخيّ (له في النوع الأخير وثائقيّ في أربع ساعات ونصف ساعة تحت عنوان Histoire (s) du cinema -1988- وفيه تأريخ للفن السينمائيّ على نحو تجريبيّ فريد، غريب، معقّد، بأسلوبه الخاص الذي لا يشبه أي أسلوب آخر، لا قبل ولا بعد). "بيارو المجنون" هو الفيلم الأوّل لغودار الذي يتبدّى فيه وعيه السياسيّ الذي راح يسود بعده الأفلام التي أنجزها أواخر الستّينيات ويهيمن عليها. صحيح أن القضايا السياسيّة لا تعالج مباشرة في هذا الفيلم إلاّ عبر قصاصة جريدة سينمائية عن حرب فيتنام، وفي تلميحات طفيفة أخرى، غير أنّ ذلك كان بداية اهتمام سياسيّ سيظهر في أعماله اللاحقة كقضية بن بركة في فيلم "صنع في الولايات المتحدة" (Made in USA) – 1966، وفيلم "بعيدًا عن فيتنام" (Loin du Vietnam) – 1967 -، وفيلم "الصينيّة" (La Chinoise ) – 1967 – الذي يفصح فيه عن ميله الماويّ... وصولًا إلى الفيلمين عن فلسطين وهما الموضوع الأساسيّ للجزء الثاني من مقالتنا – التحيّة.

    "علاقة غودار بالقضيّة الفلسطينية تتجلّى في فيلمين، "موسيقانا" (Notre musique) – 2004- ، وبالأخصّ "هنا وفي مكان آخر" (Ici et ailleurs) – 1976 – المكرّس للقضية الفلسطينيّة حصرًا. كلا الفيلمين من النوع الوثائقيّ أو التسجيليّ، إنما بنفحة غودار الخاصة وفرادته المعهودة"
    2- غودار متبنّيًا القضيّة الفلسطينية ومدافعًا عنها

    عاش جان لوك غودار "مسيّسًا" حتى العظم من منطلق يساريّ ماويّ، حتى أنّه نزل إلى الشارع مناضلًا مثلما ناضل بالتزامه السينمائيّ، فهو من قادة الثورة الطالبية في فرنسا عام 1968، ويعدّ في السينما نموذجًا لما يُعرف بـ"السينمائي الملتزم" (cinéaste engagé) الذي يسخّر أدوات تعبيره، صورةً وكلمةً، للدفاع عن قضايا محقّة، عادلة وإنسانيّة، مثلما هي القضيّة الفلسطينيّة، فضلًا عن قضايا أخرى مرّ عليها قبلًا وبعدًا، كفيتنام وساراييفو وسواهما. ولكونه مناهضًا للحروب والعنف فإنّ الوضع البشريّ أفضى به إلى تلك النظرة التشاؤمية المعروفة لديه، رغم الظُرف والحميميّة التي اتسمت بهما أفلامه غير السياسيّة، فتشاؤمه لم يمنعه من أن يبدو مرحًا، ضاحكًا، ظريفًا، عميق الخطاب والثقافة، عاشقًا للسينما والكتب والموسيقى والنساء، أي متفائلًا عند ذروة التشاؤم.

    علاقة غودار بالقضيّة الفلسطينية تتجلّى في فيلمين، "موسيقانا" (Notre musique) – 2004- ، وبالأخصّ "هنا وفي مكان آخر" (Ici et ailleurs) – 1976 – المكرّس للقضية الفلسطينيّة حصرًا. كلا الفيلمين من النوع الوثائقيّ أو التسجيليّ، إنما بنفحة غودار الخاصة وفرادته المعهودة، فهما مملوءان بمداخلاته النصّية والروائيّة بحيث يدانيان ما يُعرف بالـ "Docu-Drama"، أي الوثائقيّ الذي يخالطه الروائيّ، عبر النصّ المرافق والرأي والموقف المميز والنظرة الخاصة التي تدلّ على أسلوب صانعها.

    لقطتان من فيلم "موسيقانا"

    في "موسيقانا" يخاطب غودار ذكاء المشاهد، محاولًا العثور على الجذور المشتركة لسائر الحروب، واقفًا في القضيّة الفلسطينيّة إلى جانب الشعب الفلسطينيّ، واضعًا نفسه أمام الكاميرا محاضرًا في جمهور من الطّلاب ومستخدمًا صورتين ملتقطتين عام 1948، أي سنة التهجير والمذابح وإنشاء الدولة الصهيونيّة المشؤومة على أرض فلسطين. الصورة الأولى يظهر فيها إسرائيليون طائرين فرحًا لدى نزولهم إلى شاطئ "الأرض الموعودة"، فيما تظهر الصورة الثانية فلسطينيين مطرودين من أرضهم ومتوجّهين إلى الشاطئ للرحيل. المعنى لغودار في هاتين الصورتين المتعاكستين، أنّ الإسرائيليّ يدخل بالنسبة إليه في الخيال (Fiction) في حين أنّ الشعب الفلسطينيّ المرغم بالقوّة على ترك أرضه يدخل في الوثائقيّ (Documentery). يستعين غودار بهذا المثل ليدلّ على ماهيّة حقل الصورة (champ) وحقل الصورة المعاكس (contre champ) في السينما. نظرة، ثم أخرى، فيولد المعنى.
    "في "موسيقانا" يحاول غودار العثور على الجذور المشتركة لسائر الحروب، واقفًا في القضيّة الفلسطينيّة إلى جانب الشعب الفلسطينيّ، واضعًا نفسه أمام الكاميرا محاضرًا في جمهور من الطّلاب ومستخدمًا صورتين ملتقطتين عام 1948، أي سنة التهجير والمذابح وإنشاء الدولة الصهيونيّة المشؤومة على أرض فلسطين"
    المثير في فيلم "موسيقانا" أنّ الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش حاضر فيه بشكل أساسيّ. "يستنطقه" غودار حول قضيّة وطنه الضائع المحتلّ من خلال حوار يدور بين الشاعر والصحافية الإسرائيلية الشابة "أولغا" (شخصيّة مبتكرة) التي تحادث درويش عن مسألة فلسطين، فيتكلّم هو بالعربيّة وهي بالعبريّة، وكاميرا غودار تبدو حياديّة مع أنّها ليست كذلك البتّة. عشر دقائق في الفيلم عن فلسطين، والباقي من الفيلم "الكالييدوسكوبي" أي "المشكاليّ" أو "المرآتيّ" الذي يولّد صورًا مختلفة الأشكال والألوان، هو عن حروب وقضايا أخرى كالحرب في ساراييفو والمجازر التي ارتكبت هناك عقب انفراط العقد اليوغوسلافيّ، ففيلم غودار هذا بمثابة مرايا متعاكسة لعدّة مآسٍ ونزاعات في أنحاء متفرّقة من العالم، للبلوغ كما ذكرنا أعلاه إلى فهم ما هو المشترك بين تلك الحروب والمآسي على امتداد جغرافيا العالم والقارّات. "موسيقانا" يشبه كلّ سينما غودار أسلوبًا. أجزاء مبعثرة تخضع لنظرة تصوّرية مفهوميّة (conceptuelle) لعالمنا. توليف بصريّ متقاطع، يمضي ذهابًا وإيابًا بين هذه الحرب وتلك، وللمشاهد الفطن أن يجهد لالتقاط المعنى، بالحدس ربما لا بالعقل، بالإحساس لا بالتتبّع العاديّ. حتى أنّ غودار استعار "الكوميديا الإلهية" (La comedie Divine) لدانتي للقيام برحلته المجزّأة مثل تحفة الشاعر الإيطالي الكبير إلى ثلاثة أقسام هي الجحيم والمطهر والنعيم. إلاّ أنّ غودار لا يبحث مثل دانتي عن معشوقته بياتريس، بل يسعى في رحلته المحاكية للأصل إلى فهم ما يحصل في عالمنا، وتحديدًا الحروب وجحيم العنف الذّي تولّده، واضعًا ثقافته العميقة في خدمة تصوّره كتبًا وصورًا وأدباء وشعراء (يظهر الشاعر الإسباني خوان غويتيسولو أيضًا في الفيلم، فضلًا عن درويش). كتب، مقاطع سينمائيّة روائية، أو تسجيليّة، فوتوغرافيات، لقاءات، محاضرات ... هي بعض عناصر "موسيقانا" المكوِّنة لهذه المقطوعة البصريّة المثيرة والفريدة وغير المختلفة عن عالم غودار المعهود وأسلوبه المعروف. فالإنسان هو الأسلوب، وقد دأب السينمائيّ الفذّ على هذا النوع من الصدم واستفزاز المشاهد الذكيّ المطلوب منه التقاط المعاني والتصوّرات. ولعلّ مختلف العناصر هي أكثر من الموسيقى التي أُعطيت عنوانًا للفيلم. إنّها فرادة غودار وغرابته المألوفة.

    غودار خلال تصوير فيلم "هنا وفي مكان آخر"

    إلى الشريط الأبرز، في ما يعني القضيّة الفلسطينيّة، بالنسبة إلى غودار ونظرته والتزامه. "هنا وفي مكان آخر" (كان مفترضًا في البداية أن يحمل عنوان "حتى النصر"، وأيًّا يكن العنوان الذي استقرّ عليه صانعه، إلاّ أنّه بقي في خانة الأفلام غبر المكتملة، أي غير المنجزة على نحو تام مئة في المئة). وأنجزه غودار بالتعاون مع المخرجة السويسرية آن – ماري مييفيل Anne – Marie Mièville ، رفيقة المهنة والحياة منذ 1972 حتى ساعة رحيله، والتي تعاونت معه كمصوّرة فوتوغرافية وكاتبة سيناريو ومولّفة ومديرة فنّية ومخرجة مساعدة، قبل أن تنجز أفلامها الخاصة لاحقًا ذات المنحى التسجيليّ والاجتماعيّ بنبرة تجريبيّة مسائلةً الحبّ والزمن ومعنى الأشياء.
    "صمّم غودار على إنجاز فيلم "هنا وفي مكان آخر" عن الفدائيين الفلسطينيين بكاميرا 16 ملم وبالألوان، معلنًا أنّه "سيكون فيلمًا سياسيًّا، أو بالأحرى تقريرًا سياسيًا، عن أساليب التفكير والعمل في الثورة الفلسطينية، وتحليلًا سياسيًا للثورة الفلسطينية"، مؤكدًا أنّه لا يسعى إلى "إعطاء دروس، بل تلقّي دروس من أناس متقدمين علينا" وكان يعني الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين"
    بناءً على طلب من منظمة فتح عام 1970 إنجاز فيلم عن الثورة الفلسطينيّة والمناضلين الفلسطينيين، في عمّان عهد ذاك، لم يتردّد غودار في القبول وكان منتميًا حينها إلى مجموعة "دزيغا فرتوف" (Vertov) السينمائيّ الأوكرانيّ الرائد والطليعيّ في مرحلة ما بعد الثورة البولشفية واشتهرت له تحفته السينمائية "الرجل وكاميراه السينمائية" - 1929 – The man with a movie camera " وبنظريته الفذّة "السينما العين" (بالفرنسية ciné –oeil ، أو Kino - eyes). ومجموعة "دزيغا فرتوف" أنشأها Pierre Gorin في فرنسا تحت تأثير أسلوب فرتوف الطليعيّ سابق زمنه. وكانت المجموعة السينمائية الثورية قد أنجزت عددًا من الأفلام ذات الإسناد الماركسيّ مثل "برافدا" و"فلاديمير وروزا" و"النضال في إيطاليا" مطلع السبعينيات. صمّم غودار على إنجاز هذا الفيلم عن الفدائيين الفلسطينيين بكاميرا 16 ملم وبالألوان، معلنًا أنّه "سيكون فيلمًا سياسيًّا، أو بالأحرى تقريرًا سياسيًا، عن أساليب التفكير والعمل في الثورة الفلسطينية، وتحليلًا سياسيًا للثورة الفلسطينية"، مؤكدًا أنّه لا يسعى إلى "إعطاء دروس، بل تلقّي دروس من أناس متقدمين علينا" وكان يعني الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين، مقرًّا بصدق معبّر ومقدّر: "إنّنا متأخّرون عشرات السنين عن أوّل رصاصة أطلقتها العاصفة"، ملمحًا إلى تأخّره في إيلاء القضية الفلسطينية حقها من زاوية السينمائي الملتزم بالقضايا العالمية العادلة. وقد حدّد لفيلمه هذا هدفين، الأول "مساعدة الأشخاص الذين يناضلون بشكل أو بآخر ضدّ الإمبريالية في أوطانهم"، والثاني "تقديم نوع مختلف من الأفلام قد يشبه الكتيّب أو المنشور أو الملفّ السياسيّ"، منبّهًا إلى أنّ إنجاز الفيلم سيستغرق وقتًا، فالفلسطينيون بحسب تعبيره "في حالة مقاومة شعبية طويلة الأمد، ولا إمكان سوى أن يحظى هذا الفيلم بالوقت الكافي" الذي استمرّ في الواقع خمسة أعوام أَنجز فيها معظمه وبقي جزء يسير منه لم ينجز بسبب تعرّض غودار لحادث سير، فضلًا عن توتر العلاقة بين منظمة التحرير والأردن (حوادث "أيلول الأسود" المؤسفة والمأساوية) وطبيعة فيلم غودار المتمهلة والممتدّة زمنيًّا، إذ شاء عمله الفذّ والتاريخيّ هذا عملًا جدليًّا مع واقع الثورة الراهن والمتبدّل، علمًا بأنّه يسير في خطّين متوازيين: قسم منه في فرنسا مع عائلة فرنسية تشاهد رسومًا متحركة وبرامج تلفزيونية ترفيهية، أي غافلة عمّا يحدث في العالم (هنا) ويوميّات الفدائيين وتدريباتهم وحياتهم وأفكارهم (قي مكان آخر) لإخراج وثيقة تقارب العمل الثوري سياسيًّا ونضاليًّا وسينمائيًّا.

    الجدير ذكره أنّ غودار أوضح غايته من الفيلم ونواياه في بيان قيّم ورائع (لا مجال لنشره هنا بسبب طوله) نشرته جريدة "فتح" آنذاك وسيعاد نشره قريبًا في كتاب تصدره مؤسسة "فيلم لاب فلسطين" مع انعقاد الدورة التاسعة من مهرجان "أيّام فلسطين السينمائية". كما تحدّث عن تجربته هذه في حوار مع مجلة "الإكسبرس" الفرنسية (عبر مراسلها في عمّان) ونشرت مجلة "الهدف" التي أسّسها الراحل غسان كنفاني ترجمتها العربية عام 1970، إلاّ أنّ الوصول إلى هذا الحوار المهمّ غير متاح بسهولة إلاّ من خلال بحثّ في الأرشيف. أمّا البيان الرائع الذي نشر في بعض المواقع فقد تكون لنا عودة إلى دراسته ومناقشته لدى صدوره في الكتاب المنتظر.
    "في هذا الشريط ابتكر غودار مع شريكته مييفيل تعدّدًا في وجهات النظر يقوده خيط أساسيّ: إعادة التفكير في "المكان الآخر" (فلسطين) عامذاك 1970، من "هنا" (فرنسا)، الآن، أي عامي 1973 – 1974، وجمعها في ثلاث حقائق مقرّرة (axioms)، فلسطين وفرنسا والمشترك بينهما، من خلال المكان والزمان والمحور الجيوبوليتكي"
    في هذا الشريط ابتكر غودار مع شريكته مييفيل تعدّدًا في وجهات النظر يقوده خيط أساسيّ: إعادة التفكير في "المكان الآخر" (فلسطين) عامذاك 1970، من "هنا" (فرنسا)، الآن، أي عامي 1973 – 1974، وجمعها في ثلاث حقائق مقرّرة (axioms)، فلسطين وفرنسا والمشترك بينهما، من خلال المكان والزمان والمحور الجيوبوليتكي، ساعيين إلى إظهار صلة القضية الفلسطينية بالتاريخ من خلال وجهات نظر الثورة الفلسطينية، في نطاق العمل الصحافي، التاريخيّ، السينمائيّ، الإيديولوجيّ الماويّ، وعبر أصوات رجال ونساء مرافقة. تتناغم وجهات النظر عبر تجاوز الصورة ̸ الصوت وال Voice over (التعليق أو النصّ المرافق خارج حقل الصورة). في الجانب الفرنسي (هنا) تظهر صحف، روايات جيرار دو فيلييه De Villiers، التلفزيون، الأغاني، أشرطة الرسوم المتحركة والشعر (نسمع قصيدة "سأقاوم" لمحمود درويش، وقصيدة أخرى للشاعر خالد أبو خالد عنوانها "بيسان ... والشهيد"). ومن خلال المونتاج، كلّ وجهة نظر تتحدّد تبعًا لعلاقاتها بالتحوّلات، وتعبر الصور والأصوات متكرّرة ومتجاوزة. وإذ بنى غودار الفيلم مع مييفيل أقسامًا فإنّهما أنجزا نسخات مختلفة للثيمات والتصنيفات الأساسيّة، جامعين دومًا الصور والأصوات تبعًا لهذا التصنيف. كأنّهما وضعا نفسيهما أمام "قاعدة بيانات" فلسطينية بحيث تكون الصور مبهمة مع المعلومة التي تحوي طبقات من الصور غير الظاهرة فيها. ثم يأتي منفّذو التوليف أو المونتاج (الذي، تخيّلوا معي، دام ثمانية عشر شهرًا!) فيعودون إلى "قاعدة المعلومات" ويدرجونها في الفئات المخصصة لها، معتمدين منهجية التسلسل لا التجاور.

    لقطات من فيلم "هنا وفي مكان آخر"

    "هنا وفي مكان آخر" مكوّن من الصور المتكرّرة الملتقطة في المخيّمات الفلسطينيّة عام 1970، والتي جُمعت في سلسلات خمس مختلفة أخضعت توليفًا لمبدأ المكان والزمان، والهدف مراكمة الرموز وأدلجة الصورة والعبرة السياسية. كما تظهر الشعارات الفلسطينية المعروفة مثل "إرادة الجماهير"، "الكفاح المسلّح"، "ثورة حتى النصر"، "المقاومة الشعبية طويلة الأمد"، "النضال السياسي". شعارات خمسة تتكرّر طوال الفيلم وفي أكثر من جزء أو "سلسلة" منه. وصوت غودار يردّد أكثر من مرّة في الفيلم "صوّرنا هذا في الشرق الأوسط On a filmé ça au Moyen Orient". في تعبير آخر، تخضع الصور لخطاب غودار من وحي التوجّه الماركسيّ – اللينينيّ للثورة الفلسطينية. من خلال التقسيم إلى سلسلات تتحوّل الصور من أيقونات أو رموز للمقاومة والبروباغاندا الخاصة بها إلى صور مفككة الرموز تحمل إمكان التحوّل إلى صور مدمغة خاصة ومحميّة (Trademark - images) وصور حقائق (Factograph - images) وصور تعليميّة (Pedagogy - images). أمّا بعض وقائع "أيلول الأسود" فيستعين لها غودار بأرشيف التلفزيون الفرنسي.
    "دعا غودار عام 2018 إلى مقاطعة السينما الإسرائيلية التي عرضت في تظاهرة "موسم فرنسا – إسرائيل"، موقّعًا على بيان المقاطعة، وهذا ليس شأنًا بسيطًا أو عاديًا في فرنسا المتصهينة، قائدة أوركسترا اللازمة الصوتيّة الناشزة "معاداة السامية" أو "اللاسامية""
    على هذا النحو، منح غودار القضيّة الفلسطينية عبر "هنا وفي مكان آخر" سنوات خمسًا من عمره، وإنّ دلّ ذلك على شيء فعلى صدق التزامه، ونبله الإنسانيّ، وتفانيه في عمله الذي يبقى شهادة سينمائيّة كبيرة للتاريخ. مع الإشارة في الختام إلى أنّ غودار لم ينجُ من تهمة "معاداة الساميّة" ولم يستمرئ الصهاينة البتّة ما فعل للقضية الفلسطينية. هذا السينمائيّ العظيم، المؤثّر، الذي منحته هوليوود أوسكارًا شرفيًّا عن مجمل أعماله (Life achievment)، والحائز العديد من الجوائز الكبرى في أبرز المهرجانات العالمية (الأسد الذهبي في البندقية مرتين والدب الذهبي في برلين ثم الفضي ثانيةً و"سيزار الشرف" الفرنسي مرّتين وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في كانّ)، دعا عام 2018 إلى مقاطعة السينما الإسرائيلية التي عرضت في تظاهرة "موسم فرنسا – إسرائيل"، موقّعًا على بيان المقاطعة، وهذا ليس شأنًا بسيطًا أو عاديًا في فرنسا المتصهينة، قائدة أوركسترا اللازمة الصوتيّة الناشزة "معاداة السامية" أو "اللاسامية".

    برحيل جان – لوك غودار خسرت فلسطين واحدًا منها، وخسرنا عربًا مؤمنين بالقضيّة نصيرًا كبيرًا لها. يكفي أن نرى صورةً لغودار وهو يصوّر "هنا وفي مكان آخر" واضعًا الكوفيّة الفلسطينيّة حول عنقه. كان غودار المبدع، الصادق، الإنسانيّ والعادل، واحدًا منّا حقًّا.



    *ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
يعمل...
X