سعد القاسم
تتابع الحلقة الجديدة من (متحف الوطن الافتراضي) الحديث عن الفنان المعلم فاتح المدرس، ومتابعة الجزء الثاني من المقالة الهامة التي نشرها عنه الفنان رضا حسحس في نشرة (الحياة التشكيلية). ففي عام 1993 قررت نقابة الفنون الجميلة في عهد نقيبها الفنان فيصل العجمي لإصدار نشرة دورية عن المشهد التشكيلي السوري وشكلت لأجل ذلك لجنة كان من ضمن أعضائها الفنانون والنقاد الياس زيات وعبد القادر أرناؤوط وحسن كمال ومحمد حسام الدين وعبد الله السيد وغازي عانا وكاتب هذه السطور. وقد أقرت اللجنة شكل النشرة وتوجهها ومحتوياتها، وكان رأي أرناؤوط أن يُطلق على النشرة اسم (عين) ثم استقر الأمر على أن يكون (التشكيلي السوري) وأن يكون ملفها الأول عن فاتح المدرس. غير أنه أثناء الإعداد فاجأنا الموت باختطاف عبد القادر أرناؤوط. الأكثر حيوية بيننا، وصاحب الأفكار الملهمة المبتكرة. فتقرر تأجيل ملف فاتح إلى العدد الثاني، وأن يكون العدد الأول بمثابة تكريم لذكرى أرناؤوط. وقد جعلنا الاسم الذي اقترحه عنوانا لافتتاحية النشرة، وجعلناه على شكل عين فيها حرف عين. وقد صدر العدد فعلياً أواخر عام 1993 وفي ربع عام 1994 وتضمن ملفاً عن فاتح المدرس من موضوعين أحدهما لقاء أجريته معه لصالح النشرة بصفتي مدير تحريرها، سأعود إليه في حلقة قادمة. والثاني مقالة كتبها لصالح النشرة (أيضا) الفنان رضا حسحس تحت عنوان (فاتح المدرس كما رأيناه ونراه) نُشر في الحلقة السابقة القسم الأول منه. لم يكن انتقاء رضا حسحس لهذه المهمة من بين العدد الكبير من الفنانين والنقاد التواقين للكتابة عن فاتح اعتباطياً، وإنما لقناعة راسخة بقدرته على الوقوف عند ما هو الأكثر جوهرية في تجربة الفنان المعلم، وقد أكد النص الذي كتبه حسحس صواب هذه القناعة، فقد اختار أن يكون اللقاء الأول بين فاتح، إثر عودته من روما، وطلابه في كلية الفنون الجميلة، أو للدقة: مواجهة فاتح للتعاليم الفنية القائمة مدخله المشّوق للمقالة. في القسم الثاني من المقالة يتحدث رضا حسحس كفنان مثقف ومتابع عن خصوصية تجربة فاتح الإبداعية، فيكتب:
«يبدأ الفن عند فاتح المدرس بمحبة الأرض وميزان الفن عنده ومعاييره الإنسانية والأخلاقية كافية لبناء مجتمع إنساني خليق بهذا الاسم. فمادة الحياة من جمال وقسوة ومن رقة وغريزة تعلو قيمة وتتكثف متجلية أمام الفنان وتنفذ كلها نحو مملكة الجمال. فإنسانية الإنسان هي القيمة العليا عند فاتح المدرس، وهي الوظيفة الاجتماعية والتذوق الجمالي هو المعيار والأساس الذي يقوم عليه الفكر كي لا يفلت في صحراء الأفكار المجردة. فهو لم يتخذ الفن حرفة أو وظيفة اجتماعية أو لدواع إيديولوجية متعصبة بل عاشه نشاطاً متجدداً من أجل تعميق معاني الحياة وشهادة إنسانية ضد الظلم والقسوة، وشهادة بالتعاطف والحب الذي لا يعرف حدوداً.
يحدد فاتح المدرس خصوصية فنه قائلاً: يبدأ الفن بمحبة الأرض وما عليها ويؤمن بأن الحضارة كامنة فينا وتصحو من خلال التفاعل الحار مع القيم الإنسانية والأحاسيس العميقة كالإخلاص والمحبة والحرية والوطنية.
بأزياء مختلفة تملأ أرجاء اللوحة وتستند على أرضية من تراب وهضاب السهول الفراتية أو حقول الشمال وضوئها. وتبدو النساء فيها وكأنهن ملقاة أحياناً وإمبراطورات شرقيات أو أمهات يحتضن أطفالهن أو يحملن على أكتافهن تحت وهج شمس حارقة لا يعرفن أين المسير، أو وسط طبيعة ربيعية عذبة تفوح برائحة زرقة المتوسط وحلم (العود الأبدي). وتتحول النساء في أحيان أخرى إلى ربات للخصب أو عرائس عذراوات في ليالي زرقاء سرية يبتهلن للقمر ويقدمن له حليهن الذهبية وأقراطهن وعداً بالاستسلام وتقدمة للإله الغائب.
يقول فاتح: وجه المرأة في لوحاتي أكثر من ريف الجبال السورية في الشمال أو في الجنوب أو وجوه النازحات اللائي التقيت بهن على أرصفة محطات السفر لا يعرفن أن يذهبن وماذا بانتظارهن رأيتهن ينظرن إلى أفق غير موجود أو هكذا خيل إلي وتذكرت خالاتي في المرتفعات الشمالية ينتظرن أحدهم راح ولم يعد أبداً. فهذا الوجه الإنساني على بساطة انجازه بخطوط أو بظلال تبدو غامضة، لا بل أنها وجوه تتهمني وتتهم كل من يراها وهذا ما أرجوه من الوجه الذي أرسمه أنه وثيقة تدين العصر وإنسانه ولكن بجمال فالجمال أقوى على حفظ المأساة وأحرص على ديمومة الصورة، أو خلق صورة مجردة شديدة الارتكاز في الذاكرة.. إنني عندما أرسم وجهاً ما أربطه بأحكام بخلفية اللوحة وأضع فيه شيئاً يجعله يتكلم لأمد طويل أو هكذا خيل إلي يتكلم بصمت وابتسامة فيها الكثير من التساؤل الذي لا يرتجي جواباً وأن هذا التعبير عافيته قيل أن أشبهه.
إن شخوص فاتح المدرس ليست شخوصاً مرئية بضوء الواقع العادي ولا هي شخوصاً اصطلاحية ذهنية، بل تظهر جميعها مستحمة في مناخ من الأسطورة والحكايات والأجواء الطقسية عذاباً وانتظاراً أو احتفالاً بشعائر تغوص عميقاً في وجدان الناس في أرجاء الفرات وتلال الشمال لكنها لا تستكين أبداً إلى الماضي، فهي تصيغ ملامح الحاضر أيضاً. ورغم أن موضوعاته قائمة على أطراف المدينة وبعيداً عنها ومع ذلك لا تتحول إلى موضوعات هامشية بل على العكس فإن انسانيتها تتحول إلى حاجة ملحة للعصر وضرورة كاشفة له.
في معظم لوحات فاتح نجدنا وجهاً لوجه أمام حشد من الوجوه والشخوص وتواجهنا عوائل بكاملها من الأمهات والأطفال والصبايا وشخوصه لا تنظر إلى الشاهد ولا تبادله النظر كما في الأيقونة أيضاً، بل تصعد به نحو عالم آخر تنشده كما في المنحوتات التدمرية والجداريات البيزنطية والمنسوجات الرافدية، حيث تظهر رموز القمر والأشجار والحيوان، وكأن الطبيعة بأكملها هي التي تشعر بقدسيتها والطفولة هي النعمة المتبقية التي تعيد للأشياء جدتها.
صاغ فاتح المدرس لغته بمصطلحات الرموز المختلفة والأساطير والصور الشعبية يصف فاتح المدرس فنه بأنه كان سوريالياً في الماضي ولكنه ببساطة تشخيصي وببساطة ينزع نحو التجريد الآن. ويرتكز على أسلوب سوري غير معهود من قبل يستلهم التراث الشعبي بمعانيه العميقة، أي أنه ينطلق من الأرض بالذات. لقد بدأ هذا الأسلوب البسيط الذي يدعو بالطوطمي عام 1950 وهو قائم على ارتصاف وجوه لها أشكال مريعة صامتة صابرة على الألم لأشكال إنسانية تتخذ حضور الطواطم والعوالم الداخلية فأجمل اللوحات هي القادمة من انطباعات الطفولة حيث تتحول حزمة الأعشاب المزهرة التي يحتضنها طفل صغير إلى أم، والأم إلى شجرة فسيحة والليل إلى مرتع للأسرار والنجوم عقوداً أو حلياً للصبايا.»
يشير حسحس في نهاية مقالته إلى أن التعبير بالصورة لم يكن كافياً لفاتح المدرس للكشف عن مخزون عالمه الداخلي. وهذا ما ستتناوله حلقة قادمة في هذه السلسلة.
https://alwatan.sy/archives/331060
تعليقات الصور
فاتح المدرس بريشة محمود حماد
العدد الثاني من (التشكيلي السوري)
شرقي وادي بردى
وداع أدونيس
المسيح وكلب طروادة