الأخلاق في رواية هاني بعل الكنعاني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأخلاق في رواية هاني بعل الكنعاني

    الأخلاق في رواية هاني بعل الكنعاني صبحي فحماوي

    رائد محمد الحواري
    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	300734183_1695685460808572_5042179021036363180_n.jpg 
مشاهدات:	6 
الحجم:	111.4 كيلوبايت 
الهوية:	52002
    العظماء والكبار يظهرون في اللقاءات الصحفية، حيث يقوم صحفيون مختصون بإجراء حوارات معهم، ليبينوا تفاصيل المراحل المفصلية التي مروا بها، هذا الأمر فعله صبحي فحماوي من خلال إجراء لقاء صحفي مع بطله هاني بعل.. واللافت في هذا اللقاء أنه أجاب عن العديد من الأسئلة المهمة في مسيرة هاني بعل، وفي الوقت ذاته جدد في شكل الرواية التاريخية، التي عادة ما تأتي على وتيرة واحدة وبشكل تسلسلي متنام.
    في هذا اللقاء تم كشف العديد من الأفكار والأحداث التي مر بها هاني بعل، ولا بأس من التوقف عند بعض ما جاء في هذه المقابلة: «كيف تحملت البرد وشظف العيش كل هذا العمر في معسكرات ليس فيها وسائل الرفاهية، وكيف تستطيع أن تعيش وحدك في أية بلاد تصلها؟
    - أنه الشعور بمسؤولية حماية الوطن يا أخي صبحي فحماوي، قد يكون قدري هو العيش بهذه الطريقة، ما دمت أقسمت لوالدي أن لا أتخاذل أمام العدو الروماني الذي ينتهك الأرض والعرض.. كان قدري أن أبقى أدافع عن وطني قرطاجنة ليبقى مركز إشعاع للزراعة والصناعة والتجارة التي روحها السلام والمحبة، وليس نهب ممتلكات الآخرين عنوة، إنه محبة بحرنا الكنعاني الذي يوصلنا إلى كل بقاع الدنيا... لا أشعر أن حب الجنس هو السعادة في الحياة، بل إن تحقيق النجاح والنصر والتفوق هو اللذة في الحياة» ص134، إذا ما توقفنا عند إجابة هاني بعل سنجد فيها أكثر من مسألة، منها أنه يعي طبيعة العداء بين وطنه وبين روما، وهذا العداء ناتج عن طبيعة تفكير وسلوك كلٍّ من قرطاج التي تفكر بالتجارة وانتشار الخير بين الأمم، وروما التي تفكر بالهيمنة وسلب الآخرين ما يملكون لتكون هي السيدة على الأمم الأخرى.. وهناك توضيح إلى المكانة التي وصلت إليها قرطاجنة من خلال تسمية البحر باسمها «البحر الكنعاني»، والذي يعكس حالة التطور التجاري والزراعي والصناعي والأخلاقي الذي وصلوا إليه، بمعنى أن قرطاجنة كانت الدولة الأهم والأكبر في حوض البحر، ولا يوجد لها مثيل أو قرين.
    بهذا الشكل استطاع السارد أن يقدم معرفة تاريخية للمتلقي عن طبيعة قرطاج والقرطاجيين وكيف أنهم يتميزون بالإبداع الحضاري ويتسمون بالأخلاق والتمسك بالعهود، ولم يقتصر الأمر على هذا المرور العابر للأخلاق والمبادئ التي يستند عليها هاني بعل وكل قرطاجي، فيسأل بطله: «لم تبلغني عن الحب في حياتك؟:
    ...إذ لا يجوز في عقيدتنا الكنعانية، التي يقول فيها إلهنا العظيم (إل):
    «لا تسرق كي لا تُسرق ممتلكاتك...ولا تكذب، فما يبدأ بالكذب ينتهي بالسوء
    ولا تشته امرأة غيرك، كي لا يشتهي غيرك امرأتك...ولا تزن بمحارم الآخرين، كي لا يُزنى بمحارمك...ولا تقتل كي لا ينتشر القتل، فيطال أهلك» ص136، وهذا تأكيد على أن الحضارة والثقافة القرطاجية لم تكن تُعنى بالماديات فحسب، بل طالت أيضا الجوانب الاجتماعية/الأخلاقية، فجعلت الأخلاق جزء من العقيدة الدينية، وهذا ما جعلتهم يصلون إلى شمال البحر الفينيقي، مستقطبين العديد من الأمم والأقوام التي تعاملوا معها بصدق وأمانة.
    كما نجد حرص هاني بعل على الجوانب الأخلاقية إلى جانب النواحي المادية، فعندما أرسل للعشائر أراد أن يعطي جنوده دفعة من المعنويات (الخارجية)، خاصة بعد أن ذكرهم بأن الرومان لن يتركوهم يعودون بسلام، ونلاحظ أن هناك استعانة بالطريقة الأخلاقية التي يفكر بها القرطاجي، فذكرهم بالذل الذي سيصيبهم عندما يلاقوا زوجاتهم وأباءهم دون أن يقاتلوا ويواجهوا عدوهم، وهذا ما يؤكد على أن الثقافة القرطاجية لم تكن تُعنى بالماديات فحسب بل جعلت الروحانيات الخط الثاني الموازي للسلوك الكنعاني.
    وإذا ما توقفنا عند فكرة التقدم إلى الأمام لمواجهة العدو نجدها ؛ إما أن يعبروا إلينا كغزاة فنكون عبيدا لهم، وأما أن نعبر إليهم كفاتحين فنجعلهم متحضرين.
    البعد المعرفي
    من المهم أن يكون هناك توازن بين الشكل الأدبي/الجمالي للعمل وبين المعرفة/المضمون الذي يحمله، من هنا نجد السارد لم يهتم بالشكل على حساب الجوهر، بل عمل على تبيان العديد من المفاصل التي مر بها هاني بعل وما قدمه وفعله للحيلولة دون تغول الرومان المتوحشين، وكيف أن تخاذل مجلس شيوخ قرطاج أطاح بأهم دولة كان يمكن لها أن تغيير مسار العالم أجمع، لو أسندت قائدها الذي حاصر روما وكان قريبا جدا من إخضاعها وتعليمها الأخلاق والقيم الحضارية والثقافية الفينيقية.
    سقوط قرطاج كان يمثل سقوط الحضارة العالمة، حيث فقد العالم أهم حضارة عملت على خلق حالة من التفاعل والتزاوج والتشارك بين الأمم، وسادت دولة روما الحربية التي لا تعرف إلا إخضاع الآخرين بالقوة والهيمنة العسكرية.
    وهنا تكمن أهمية رواية هاني بعل، التي تبين أن الكنعاني سواء كان فنيقياً أو قرطاجياً فهو متفوق في الأخلاق والقيم وفي الزراعة والصناعة وفي التجارة، وهوفاتح البحار وليس غازيا، لهذا أنشا العديد من المدن، وتقبلته الشعوب الأخرى ورحبت به لما قدمه لها من منافع مادية وثقافية وأخلاقية.
    المجتمع والمكان والزمان
    التشكيلة الاجتماعية التي ميزت الفينيقي عن غيره: «...خليط من بلاد البحر الكنعاني القريبة والبعيدة من دون تمييز بين الكنعاني والمصري والآشوري والبابلي والفارسي، ما دام يحتضنهم عالم متداخل بفكره وثقافته وفنونه، وتجدهم يتبادلون تجارتهم الرابحة بكل سعادة وهناء، جاعلين بحرهم بحيرة كنعانية» ص43، هذا ما قاله هاني بعل عن بلاده، فالتعدد والتنوع يعتبره مصدر قوة وميزة تحسب لبلاده وللمجتمع الذي استطاع أن يهضم كل تلك الأجناس ويصهرها بوتقة واحدة، بوتقة الكنعاني الإفريقي العربي.
    نلاحظ أن هاني بعل يستخدم كلمة بحيرة كنعانية، بدل بحر كنعان وهذه إشارة إلى أن المتوسط كان فعلا بحيرة كنعانية (صغيرة)، تمتد من الشرق المتوسط إلى شمال إفريقيا ووصولا إلى جنوب أوروبا: «...وكنت قد شاهدت وفدا قرطاجيا يمخر عباب البحر بسفينة المعبد، ليرسل منحة مالية إلى جهة الشرق.. سألت كاهنهم فقال لي:
    أنهم يرسلونها كل عام إلى معابد آلهة آبائهم في صور» ص48، هذا المشهد يعطي المتلقي معرفة بحقيقة ما كنا عليه قبل الميلاد وقبل أن تهيمن روما على المنطقة وتستبيح خيراتها، وتستعبد أهلها، فالبحر بحرنا، بحر سورية الكبير.
    أما عن الزمن الذي وصل فيه الكنعاني إلى سواحل أفريقيا يقول هاني بعل: «...إذ وصلت زعيمتنا الملكة أليسا من صور الكنعانية إلى شمال أفريقيا، فأسست مملكة قرطاج على إحدى شواطئها، فوق ربوة مطلة، وذلك قبل 818 عام، فإننا سبقناهم في الوصول إلى حوض البحر الذي أسميناه بحر كنعان» ص87، نلاحظ أن الوصول إلى شمال أفريقيا واكبه عملية البناء، بناء قرطاجنة، لتكون نقطة تحول حضاري في حوض المتوسط، وليس بؤرة غزو واحتلال للآخرين، وهذه إحدى ميزات الحضارة الفينيقية.
    هاني بعل
    الشخصية المركزية في الرواية، والتي كان يمكنها أن تغيير مسار التاريخ في العالم، لولا وجود متخاذلين عملوا على الحد من انطلاقته تحت حجج واهية تخفي حسدهم من إنجازات هذا القائد، ودون أن يعوا طبيعة عدوهم الروماني الذي يتربص بهم ويعمل على محوهم وإزالتهم من الوجود.
    تتناول الرواية الجوانب المعرفية والأخلاقية التي تربى عليها هاني بعل الذي تعلم من والده هاملكار أن الرومان هم العدو الأول لهم لوجودهم: «أقسم يا ولدي على أن لا تهادن الرومان، وأن تبقى تقاتلهم، حتى تتغير قيادتهم المعتدية على كل من حولها» ص 47، هذاهو المفصل الأساسي الذي تربى عليه، وكانت استراتيجيته في فهم ما يدور في المنطقة أن الرومان أعداء حتى يغيروا نهجهم/ثقافتهم/نظرتهم للآخرين.
    «كان هاني بعل يرى أن قدر قرطاجنة هو مقاومة استيلاء روما على مواقع بحر الكنعانيين التجارية ومقاومة الحرب المفروضة عليه، وذلك ليس عداوة لها، وإنما من أجل تحرير الحركة التجارية.. وتشكلت لدية قناعة أن التجارة مع أهالي البلاد المحيطة لا تتم إلا بالسلام والمحبة...وذلك بكسر شوكة روما الطاغية، وتحرير أوروبا والعالم من بطش هذه الطغمة الرومانية التي تمارس توحش السيطرة على الآخرين، وتقدم على نهب أموالهم» ص61، فالصراع بين روما وقرطاج كان صراعا حضاريا قبل أن يكون صراعا حربيا، وما الحرب التي لجأ إليها هاني بعل مكرها، إلا وسيلة لتغيير روما الغازية والناهبة للآخرين، وتحويلها إلى روما محبة ومتعاونة.
    من هنا كانت رسالة هاني بعل إلى قادة روما تتمثل في: «..أريدكم أن تخضعوا لشعوبكم وليس لي، سأعين على إيطاليا كلها قائدا من بلادكم، يعلم الناس الزراعة والصناعة والتجارة، بدل الغزو وتحطيم كرامات الشعوب وكيانات الأمم التي تعيشون على غزوها وامتصاص دمائها..سأوقف استعبادكم لشعب إيطاليا أولا، قبل نهشكم حيوات الشعوب الأخرى، سأمنح الحرية لشعوب العالم التي ينوي الرومان اكتساحها والسيطرة عليها ونهب ثرواتها، واستعباد شعوبها» ص89، لم تكن هذه مجرد شعارات خادعة، بل وجدناها حقيقة فعلها ومارسها هاني بعل مع التجمعات الرومانية التي مر بها أثناء عبوره، فلم يبطش أو يقتل أو ينهب، بل كان يعقد المعاهدات ويرفع ظلم روما: «جئت لأحرركم من بطش مجلس شيوخ روما، ولأعين عليكم مجلسا آخر ترضونه، وليس لنحتل بلادكم» ص121.
    بهذه الروح الأخلاقية والحضارية كان هاني بعل يعامل الأسرى الرومان بطريقة إنسانية حضارية، فلم يقتلهم كما يفعل الرومان بالمغلوبين، فأراد أن يعلم الرومان كيف يكون المقاتل إنسانياً حتى مع عدوه: «تتوهمون أنني أقاتل في سبيل إبادة الناس، وهذا ليس صحيحا، لقد قاتلتكم كما يقاتل الشرفاء، وإنني في انتظار الحصول على فديتكم، لتنطلقوا أحرارا... ولتعلم شعوبكم أننا مسالمون في حربنا هذه، ولسنا هواة سفك دماء أو سطوة سلطوية» ص 126، كان توازن القوة العسكرية مع الأخلاق عقيدة أساسية وراسخة عند هاني بعل، وهذا ما ميزه عن الآخرين الذين إذا ما انتصروا أحرقوا ونهبوا وقتلوا ودمروا.
    نهاية هاني بعل كانت مفجعة على اكثر من صعيد، مفجعة له كقائد كان يمكنه أن يوقف خراب العالم، بوقف روما عند غيها، وفجيعة لقرطاج وللفينيقيين الذين أزيلت مملكتهم عن الوجود، وفاجعة للعالم الذي فقد بعدا حضاريا وثقافيا يدعو ويعمل على نشر السلم العالمي والتعاون بين الأمم والشعوب، يختم هاني بعل نهايته بهذا القول: «الآن ليس لدى روما ما تخشاه، إذن لم يكن في وجه روما المندفعة لاحتلال العالم سوى هاني بعل العظيم» ص166، فكانت نهايته هي نهاية الحضارة، وانتشار السطو والقهر والبطش الروماني على الأرض.
    روما
    مقابل أخلاق وبطولات هاني بعل كانت روما على النقيض، تخطط وتعمل على محو وإزالة قرطاجنة من الوجود نهائيا: «علينا أن ندمر قرطاجنة» ص166، لهذا نقض الرومان عهدهم مع القرطاجيين، حتى بعد أن سلموا سلاحهم للرومان وبعد أن سلموا الجزية الباهظة التي فرضت عليهم، قيل لهم، ليس لكم مكان على البحر، أقيموا مملكتكم في الصحراء، عندها أيقن القرطاجيون أنهم وقعوا في خطأ فادح، عندما رفضوا أن يدعموا قائدهم هاني بعل أثناء حصاره روما، وكان أن حوصرت قرطاجنة لمدة عامين كاملين، إلى أن تمكن الرومان من دخولها، فقاموا بحرقها واستباحة أهلها، حتى أن النيران استمرت أسبوعين كاملين وهي مشتعلة فيها، فتم محوها من الوجود نهائيا.
    هكذا كانت روما، وما الوحشية التي تعاملوا بها مع الأسرى الذين كانوا يجعلونهم يتقاتلون حتى الموت، إلا أحد أشكل البربرية التي مارستها بحق الآخرين غير الرومان.
    سنخلع قرطاجنة من جذورها، كما نخلع السن ونخلع وجعه» ص109، إذا ما قارنا هذا الطرح مع طريقة تفكير هاني بعل وكيف أراد التعامل مع روما نجد البعد الحضاري لصالح هاني بعل، الذي لم يفكر بإزلة روما، بل تصحيح مسارها ونهجها، وهنا تكمن خسارة العالم للحضارة والثقافة الكنعانية القرطاجية، بعد أن دمرها الرومان واستباحوا أمم المنطقة.
يعمل...
X