عن أغانٍ صدحت لنصرة فلسطين وكسرت حاجز الصمت السياسي
علاء زريفة 21 يوليه 2022
موسيقى
(من الأرشيف الفلسطيني)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كثيرة هي الأغاني التي حاكت القضية الفلسطينية في عالمنا العربي، ومجّدت نضال شعبها، وكفاحه المشروع ضد أعتى وأفظع نظام استعماري استيطاني عنصري عرفه التاريخ الحديث. فمنذ أن وقعت النكبة حتى يومنا هذا، لعبت الأغنية دورها كسلاح فني يعزز الشعور القومي تجاه "قضية العرب الأولى"، ويوقظ روح التضامن مع المأساة المستمرة لشعب لا يموت، ويشعل الوجدان الشعبي انتماءً وعاطفة وتكريمًا لهذه البطولة النادرة.
ولكنها للأسف بقيت "أغاني مناسبات" في الغالب، على جدارة واستحقاق ما أرادت إيصاله من رسائل وأفكار نبيلة، تماهيًا مع أي حدث في الداخل الفلسطيني المحتل في محاولة للتعبير عن الغضب الشعبي من الخطاب السياسي الأجوف، والعاجز، المقتصر على التنديد والشجب، واجتراع الهزيمة، لتكون بصورة ما مجرد "ظاهرة صوتية" لرأب الصمت.
يمكن القول إن فلسطين قدمتها الأغنية العربية السياسية وجدانيًا، بكل أبعادها الملحمية والعاطفية، في مقابل التخاذل السياسي الرسمي.
فما هي أبرز هذه الأغاني؟ وكيف ارتبطت بمحطات في التاريخ الفلسطيني النضالي؟ وإلى أي درجة استطاعت أن تجعل القضية حيّة في أذهان الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج فكانت سجلًا صادقًا للقضية الفلسطينية ونضال شعبها من أجل التحرير والعودة؟
هنا محاولة لتقديم بعض إجابات عن هذه الأسئلة.
فلسطين وعمالقة الطرب المصري
كان لنكبة فلسطين عام 1948 وقع الصاعقة على الشعوب العربية، فقيام كيان الاحتلال ونفاذ مشروع التقسيم واندحار الجيوش العربية، هزّ وجدانهم وأحاسيسهم، وخاصة صُناع النغم العربي من شعراء وملحنين ومطربين.
كان الموسيقار محمد عبد الوهاب من أول من لحن وغنى لفلسطين ونكبتها في مصر، وكان الشاعر علي محمود طه من أوائل الشعراء المتفاعلين معها، فنظم قصيدة بعنوان (فلسطين) والتي تلقفها موسيقار الأجيال، وغناها بصوته.
وهي القصيدة التي تدعو كل عربي إلى حمل السلاح والقتال من أجل تحرير فلسطين من الصهاينة دون تأجيل أو مماطلة (أرى اليوم موعدنا لا الغدا) معتبرة أن السلاح وحده هو السبيل لتحرير الأرض. لم يلحن عبد الوهاب القصيدة بأسلوب النشيد، لأن كلماتها بعيدة عن حماسة الأناشيد، بل بنبرة حزينة تترجم عمق المأساة، محافظًا على الحس الحيوي المتناسب مع التفاؤل الذي حملته الأبيات من (أخي أيها العربي الأبي ...)؛ هذا الحزن الذي حرك النفوس، وهز المشاعر بلحنه المعبر.
ثاني الأغنيات التي ظهرت في مصر عن فلسطين كانت (يا مجاهد في سبيل الله) التي كتب كلماتها بيرم التونسي، ولحنها رياض السنباطي، وغنتها سعاد محمد. وجاءت الأغنية ضمن فيلم (فتاة من فلسطين)، حيث أراد المخرج محمود ذو الفقار تجسيد المأساة الفلسطينية في فيلم سينمائي والدماء لا تزال حارة. وكلمات الأغنية تحض وتحمس المقاتلين الذاهبين إلى فلسطين، وكان صوت سعاد محمد ينطلق وكأنه طلقات الرصاص، يحث العرب على الدفاع عن فلسطين.
وهناك قصيدة (وردة من دمنا) للشاعر اللبناني الأخطل الصغير (بشارة الخوري) التي كتبها خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، في فترة تعاظم فيها العمل الفدائي الفلسطيني ضد الصهاينة. وقد قرأها الموسيقار فريد الأطرش منشورة في إحدى الصحف، فأعجبته وأحس أنها تناسب أم كلثوم فقام بتلحينها بشكل بديع، وعرضها على كوكب الشرق التي أبدت حماستها لها ثم خف هذا الحماس حتى تلاشى. فما كان من الأطرش إلا أن قام بغنائها بصوته، فكانت من درره الغنائية.
وللأطرش أيضًا نشيد هو (المارد العربي) الذي كتبه مأمون الشناوي، ولحنه وغناه الأطرش في مطلع الستينيات في أوج المد القومي العربي.
وفي المقطع الأخير يغني الأطرش فيقول:
يا فلسطين يا شعب مجاهد
جيشك حاضر بالملايين
زي ما حرّرنا الجزائر
مش ح نسيبك يا فلسطين
ثم جاءت النكسة في عام 1967، والتي اندلعت إثرها شرارة الثورة الفلسطينية، وتعاظمت فيها العمليات الفدائية داخل الكيان، فقضت مضجعه، فكانت أول بارقة أمل حقيقية، فجاءت قصيدة نزار قباني (أصبح عندي الآن بندقية)، التي نشرت في الصحف والمجلات العربية، والتي قرأتها أم كلثوم فأعجبت بها وطلبت إلى عبد الوهاب تلحينها فكان اللحن موازيًا لمشاعر الحماس التي أججتها الثورة، ودفع به إلى الموسيقي الإيطالي أندريا رايدار الذي قام بتوزيعه.
وتم تسجيل الأغنية وبثها رأسًا، فكانت بمثابة المنشور السياسي الذي يدعو الشباب الفلسطيني والعربي للانخراط بصفوف الثورة، وأصبحت نشيدًا للمقاتلين، حيث عمدت الإذاعات العربية على بثها مع كل عملية فدائية يقوم بها الفدائيون الفلسطينيون داخل الأرض المحتلة.
وأبدع الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي في قصيدة (المسيح) التي غناها عبد الحليم حافظ، والتي تصور عذابات الفلسطيني كونه مسيحًا جديدًا يُقتل على يد اليهود. واستخدم إلى جانب صوت عبد الحليم كورالًا ضخمًا من أجل إعطاء قوة وتأثيرًا لبعض العبارات.
وكانت أولى أغاني عبد الحليم التي أنشدها في عام 1955 من كلمات مأمون الشناوي وتلحين رؤوف دهني بعنوان (ثورتنا المصرية) التي يصدح فيها مؤكدًا على عروبة فلسطين وتحريرها من الصهاينة:
ضد الصهيونية
بالمرصاد واقفين
وح ترجع عربية
حبيبتنا فلسطين
فيروز وإبداعات الرحابنة
تميز عطاء الرحابنة في مجال الغناء عن فلسطين بالمستوى الموسيقي الرفيع واللغة الراقية والأداء المعبر، تحديدًا، بصوت السيدة فيروز، وتوزع هذا العطاء الفني بين الأغنية والإسكتش والمغناة. وقد جاءت جميعها باللغة العربية الفصحى ما عدا أغنية (شوارع القدس العتيقة).
تراوح الأسلوب اللغوي لأعمال الرحابنة عن فلسطين ما بين الرمزية والمباشرة، مستخدمين لغة فلسفية تستعير الرموز للتعبير عن الحالة دون ذكر مباشر لفلسطين أو اللجوء والتشرد وحلم العودة، معبرين عن قمة الوعي السياسي، فالقضية ليست مسألة لاجئين يجب التعاطف معهم، وإنما قضية شعب اغتصبت أرضه، ويسعى لاسترجاعها بأي ثمن.
فالمستمع إلى أعمال الرحابنة عن فلسطين، يلمس ذلك الوعي في إدراكهم للطريقة التي يمكن فيها استرداد الأرض الفلسطينية، تلك الطريقة التي لا تعتمد على المفاوضات ومهادنة المحتل وتقديم التنازلات مخالفين بذلك الخطاب الرسمي الذي بدأ يطرح مبدأ السلام ويقبل به.
فالعودة والتحرير لا تتم إلا بالغضب، ومثال على ذلك ما تعلنه أغنية (الآن الآن وليس غدًا أجراس العودة فلتقرع). ويتردد الصدى المتحدي في أغنية "زهرة المدائن" فتعلن فيروز صادحةً:
الغضب الساطع آتٍ
وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آتٍ
سأمر على الأحزان
من كل طريق آتٍ
بجياد الرهبة آتٍ..
بدأ تعامل الرحابنة مع السيدة فيروز منذ عام 1955 وتمثل في عملين، تم تسجيلهما في إذاعة "صوت العرب" في القاهرة وكانتا على شكل مغناتين هما (راجعون) و(الغرباء). أما مغناة (راجعون) فهي عبارة عن دراما غنائية، يجري الحوار فيها بين فيروز وميشيل بريدي بلغة عربية فصيحة، يتدرج فيها الصدى المهيمن على عمق المأساة الفلسطينية، حتى الصحوة التي تتجسد برفض واقع الاحتلال والتصميم على العودة والتحرير.
أما مغناة (الغرباء) فهي عبارة عن قصيدة في ديوان (مع الغرباء) للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، اختار منه الرحابنة قصيدة (سنرجع يومًا إلى حيّنا)، فكانت لؤلؤة في عقد أغنياتهم عن فلسطين. والقصيدة تستعير الرمز عوضًا عن المباشرة، باستعادة جزء صغير من فلسطين، وهو الحي الذي عاش فيه في طفولته ومطلع شبابه، ووضع الرحابنة لحنًا رومانسيًا دافئًا مفعمًا بالحنين وحلم الرجوع إلى الوطن السليب، منحه صوت فيروز جماليات نادرة.
أما أغنية (سيف فليشهر) فقد سببت إشكالية كبيرة، ولم تلبث كثيرًا في الإذاعات والتلفزة العربية لموقفها المخالف للأنظمة العربية تجاه فلسطين ودعوتها المباشرة إلى الكفاح المسلح.
فرقة العاشقين
لم تكن فرقة العاشقين التي تأسست في مخيمات اللجوء الفلسطيني في دمشق عام 1977 إلا توكيدًا معنويًا على النضال الفلسطيني المستمر لا على شكل بندقية موجهة صوب صدور المحتل ورصاصة تصيب ظنونه في مقتل فقط، ولكن أيضًا كبعد ثقافي وحامل لهذا الإرث الكبير من البطولة الفلسطينية.
أبرز ما ميّز أعضاء هذه الفرقة ارتداؤهم للزي العسكري في حفلاتهم، بينما ارتدت الإناث في الفرقة الزي الشعبي الفلسطيني. وتألفت من مجموعة من الهواة المغنين والعازفين، على رأسهم حسين منذر كمغن رئيسي، وأسرة الهباش (خليل وخالد) كعازفين، ومحمد (الطفل المعجزة) الذي كان يقدم الأغاني بإلقاء القصائد الشعرية إضافة للشقيقتين آمنة وفاطمة، ومها دغمان وغيرهم. كانت نواة فكرة تشكيل الفرقة مع تقديم مسرحية بعنوان (المؤسسة الوطنية للجنون) من تأليف الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وإخراج فايز الساجر، وقد اقترح القائمون عليها إرفاق بعض الأغاني الحماسية مع المسرحية، وهنا جاء دور الشاعر أحمد دحبور الذي قام بتأليف الأغاني، وكانت أجملها (اللوز الأخضر) والتي لحنها حسين نازك.
أما الانطلاقة الفعلية للفرقة فقد بدأت عندما قامت بتسجيل شارات أغاني المسلسلات بالتعاون مع دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، وكان أبرزها أغاني مسلسل (بأم عيني) و(عز الدين القسام) والتي عمل عليها أيضًا كل من دحبور ونازك لتعرف الفرقة انتشارًا واسعا تخطى العالم العربي نحو العالم.
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، أصدرت الفرقة أول ألبوماتها الغنائية بعنوان (الكلام المباح)، والذي كان من أشهر أغانيه (وردة لجريح الثورة) والتي تقول:
يا صحاب الضحكة المسموعة يا غفلة ما بدها توعى
يا نسيان ويا غفيان سبقتكو الرجل المقطوعة
وتتأتى أهمية عمل الفرقة ذائعة الصيت بمواكبتها لأحداث وتطورات القضية الفلسطينية، والاتكاء على التراث ألحانًا ما ساهم في انتشارها، وتثبيتها في الذاكرة والوجدان الفلسطيني. وكانت أغنية (من سجن عكا) التي تؤكد التفاعل مع تاريخ النضال الفلسطيني والتي ارتبطت بثورة البراق سنة 1929 من أبرز الأغاني والتي تقول في جزء منها:
من سجن عكا وطلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي
وجازي عليهم يا شعبي جازي، المندوب السامي وربعو عمومًا
ومن العلامات البارزة في تاريخ الفرقة أيضًا أغنية (اشهد يا عالم علينا وع بيروت)، التي وثقت بطولات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية وسخرت من تخاذل العرب وجبنهم، وغياب صوتهم وتخليهم عن فكرة المقاومة:
ثمانين يوم ما سمعناش يا بيروت غير الهمة الإذاعية
بالصوت كانوا معنا يا بيروت والصورة ذابت بالميّة
ولما طلعنا ودعناك يا بيروت وسلاحنا شارة حرية..
توقف عمل الفرقة ونشاطها الفني في عام 1993، لظروف تتعلق بتوقيع اتفاق أوسلو، وما رشح عنه من اشكالات تنظيمية في منظمة التحرير. وحاولت العودة بحفل في رام الله سنة 2010، ولكنها سرعان ما توقفت مجددًا بسبب ظروف الحرب السورية، 2011، وتشتت أفراد الفرقة بين دول متعددة.
"فلسطين داري"
واكبت الأغنية الموجهة نحو فلسطين جيل الأطفال والناشئة بأغانٍ تكرس ثقافة المقاومة والانتماء وحب الأرض والاستماتة في سبيل الدفاع عنها، متخذة من نماذج طفولية حية على الأرض الفلسطينية المحتلة ومن صورة الفدائي الصغير وأطفال الحجارة مادة تلك الأغاني والأناشيد الحماسية.
هذا الإصرار لدى كتاب وصناع الأغنية الموجهة للطفل العربي، تقابله حالة من التردي والخزي على المستوى السياسي الذي بلغ قمة الانبطاح والهوان والصمت، وصولًا للتطبيع المباشر معه علانية. فمن منا لم يردد، ويحفظ عن ظهر قلب، نشيد (فلسطين داري ودرب انتصاري) للشاعر السوري سليمان العيسى وهو طفل على مقاعد الدراسة.
أبلغ مثال اليوم هو ما تقوم به القنوات الموجهة للأطفال مثل (سبيستون- كراميش- طيور الجنة وغيرها كثير) من إعداد وتأليف أغانٍ وأنشودات وطنية، هدفها تنشئة وتربية الأطفال وتنمية حسهم الوطني وارتباطهم بقضيتهم الأولى فلسطين. في هذا الإطار تظهر الأغنية للطفلة الفلسطينية عهد التميمي (أنتِ العهد وأنتِ المجد)، بصرختها المدوية في وجه جنود الاحتلال، وتحديها الصارخ الذي أثار الرعب في نفوسهم، بأن هذا الجيل الجديد لم ينس أبدًا. وذلك إضافة لأغانٍ أخرى تصف شجاعة عهد كـ (اسمك يا عهد التميمي) بصوت الطفل أيمن الأمين.
وهناك أغانٍ كثيرة لا سبيل لحصرها منها (أوبريت طلائع فلسطين بصوت وائل يازجي- أنا ثائر بصوت هادي فاعور- دحية أطفال فلسطين بصوت الفنان علاء الجلاد- أغنية فلسطين بصوت فرقة طيور الجنة). هذه الأغاني التي شارك في أدائها أطفال صغار تؤكد تجذر القضية في نفوسهم رغم تهالك ساسة التطبيع على الكيان، ومحاولة تجميل صورته القبيحة.
علاء زريفة 21 يوليه 2022
موسيقى
(من الأرشيف الفلسطيني)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كثيرة هي الأغاني التي حاكت القضية الفلسطينية في عالمنا العربي، ومجّدت نضال شعبها، وكفاحه المشروع ضد أعتى وأفظع نظام استعماري استيطاني عنصري عرفه التاريخ الحديث. فمنذ أن وقعت النكبة حتى يومنا هذا، لعبت الأغنية دورها كسلاح فني يعزز الشعور القومي تجاه "قضية العرب الأولى"، ويوقظ روح التضامن مع المأساة المستمرة لشعب لا يموت، ويشعل الوجدان الشعبي انتماءً وعاطفة وتكريمًا لهذه البطولة النادرة.
ولكنها للأسف بقيت "أغاني مناسبات" في الغالب، على جدارة واستحقاق ما أرادت إيصاله من رسائل وأفكار نبيلة، تماهيًا مع أي حدث في الداخل الفلسطيني المحتل في محاولة للتعبير عن الغضب الشعبي من الخطاب السياسي الأجوف، والعاجز، المقتصر على التنديد والشجب، واجتراع الهزيمة، لتكون بصورة ما مجرد "ظاهرة صوتية" لرأب الصمت.
يمكن القول إن فلسطين قدمتها الأغنية العربية السياسية وجدانيًا، بكل أبعادها الملحمية والعاطفية، في مقابل التخاذل السياسي الرسمي.
فما هي أبرز هذه الأغاني؟ وكيف ارتبطت بمحطات في التاريخ الفلسطيني النضالي؟ وإلى أي درجة استطاعت أن تجعل القضية حيّة في أذهان الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج فكانت سجلًا صادقًا للقضية الفلسطينية ونضال شعبها من أجل التحرير والعودة؟
هنا محاولة لتقديم بعض إجابات عن هذه الأسئلة.
"كان الموسيقار محمد عبد الوهاب من أول من لحن وغنى لفلسطين ونكبتها في مصر، وكان الشاعر علي محمود طه من أوائل الشعراء المتفاعلين معها فنظم قصيدة بعنوان (فلسطين)" |
كان لنكبة فلسطين عام 1948 وقع الصاعقة على الشعوب العربية، فقيام كيان الاحتلال ونفاذ مشروع التقسيم واندحار الجيوش العربية، هزّ وجدانهم وأحاسيسهم، وخاصة صُناع النغم العربي من شعراء وملحنين ومطربين.
كان الموسيقار محمد عبد الوهاب من أول من لحن وغنى لفلسطين ونكبتها في مصر، وكان الشاعر علي محمود طه من أوائل الشعراء المتفاعلين معها، فنظم قصيدة بعنوان (فلسطين) والتي تلقفها موسيقار الأجيال، وغناها بصوته.
وهي القصيدة التي تدعو كل عربي إلى حمل السلاح والقتال من أجل تحرير فلسطين من الصهاينة دون تأجيل أو مماطلة (أرى اليوم موعدنا لا الغدا) معتبرة أن السلاح وحده هو السبيل لتحرير الأرض. لم يلحن عبد الوهاب القصيدة بأسلوب النشيد، لأن كلماتها بعيدة عن حماسة الأناشيد، بل بنبرة حزينة تترجم عمق المأساة، محافظًا على الحس الحيوي المتناسب مع التفاؤل الذي حملته الأبيات من (أخي أيها العربي الأبي ...)؛ هذا الحزن الذي حرك النفوس، وهز المشاعر بلحنه المعبر.
كتب علي محمود طه قصيدة (فلسطين) وغناها محمد عبد الوهاب و كتب بيرم التونسي (يا مجاهد في سبيل الله) وغنتها سعاد محمد |
وهناك قصيدة (وردة من دمنا) للشاعر اللبناني الأخطل الصغير (بشارة الخوري) التي كتبها خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، في فترة تعاظم فيها العمل الفدائي الفلسطيني ضد الصهاينة. وقد قرأها الموسيقار فريد الأطرش منشورة في إحدى الصحف، فأعجبته وأحس أنها تناسب أم كلثوم فقام بتلحينها بشكل بديع، وعرضها على كوكب الشرق التي أبدت حماستها لها ثم خف هذا الحماس حتى تلاشى. فما كان من الأطرش إلا أن قام بغنائها بصوته، فكانت من درره الغنائية.
"جاءت قصيدة نزار قباني (أصبح عندي الآن بندقية)، التي نشرت في الصحف والمجلات العربية، والتي قرأتها أم كلثوم فأعجبت بها وطلبت إلى عبد الوهاب تلحينها فكان اللحن موازيًا لمشاعر الحماس التي أججتها الثورة" |
وفي المقطع الأخير يغني الأطرش فيقول:
يا فلسطين يا شعب مجاهد
جيشك حاضر بالملايين
زي ما حرّرنا الجزائر
مش ح نسيبك يا فلسطين
ثم جاءت النكسة في عام 1967، والتي اندلعت إثرها شرارة الثورة الفلسطينية، وتعاظمت فيها العمليات الفدائية داخل الكيان، فقضت مضجعه، فكانت أول بارقة أمل حقيقية، فجاءت قصيدة نزار قباني (أصبح عندي الآن بندقية)، التي نشرت في الصحف والمجلات العربية، والتي قرأتها أم كلثوم فأعجبت بها وطلبت إلى عبد الوهاب تلحينها فكان اللحن موازيًا لمشاعر الحماس التي أججتها الثورة، ودفع به إلى الموسيقي الإيطالي أندريا رايدار الذي قام بتوزيعه.
كتب الأخطل الصغير قصيدة (وردة من دمنا) وغناها فريد الأطرش، وكتب نزار قباني (أصبح عندي الآن بندقية) وغنتها أم كلثوم |
وأبدع الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي في قصيدة (المسيح) التي غناها عبد الحليم حافظ، والتي تصور عذابات الفلسطيني كونه مسيحًا جديدًا يُقتل على يد اليهود. واستخدم إلى جانب صوت عبد الحليم كورالًا ضخمًا من أجل إعطاء قوة وتأثيرًا لبعض العبارات.
وكانت أولى أغاني عبد الحليم التي أنشدها في عام 1955 من كلمات مأمون الشناوي وتلحين رؤوف دهني بعنوان (ثورتنا المصرية) التي يصدح فيها مؤكدًا على عروبة فلسطين وتحريرها من الصهاينة:
ضد الصهيونية
بالمرصاد واقفين
وح ترجع عربية
حبيبتنا فلسطين
"تراوح الأسلوب اللغوي لأعمال الرحابنة عن فلسطين ما بين الرمزية والمباشرة، مستخدمين لغة فلسفية تستعير الرموز للتعبير عن الحالة دون ذكر مباشر لفلسطين أو اللجوء والتشرد وحلم العودة، معبرين عن قمة الوعي السياسي، فالقضية ليست مسألة لاجئين يجب التعاطف معهم، وإنما قضية شعب اغتصبت أرضه" |
تميز عطاء الرحابنة في مجال الغناء عن فلسطين بالمستوى الموسيقي الرفيع واللغة الراقية والأداء المعبر، تحديدًا، بصوت السيدة فيروز، وتوزع هذا العطاء الفني بين الأغنية والإسكتش والمغناة. وقد جاءت جميعها باللغة العربية الفصحى ما عدا أغنية (شوارع القدس العتيقة).
تراوح الأسلوب اللغوي لأعمال الرحابنة عن فلسطين ما بين الرمزية والمباشرة، مستخدمين لغة فلسفية تستعير الرموز للتعبير عن الحالة دون ذكر مباشر لفلسطين أو اللجوء والتشرد وحلم العودة، معبرين عن قمة الوعي السياسي، فالقضية ليست مسألة لاجئين يجب التعاطف معهم، وإنما قضية شعب اغتصبت أرضه، ويسعى لاسترجاعها بأي ثمن.
فالمستمع إلى أعمال الرحابنة عن فلسطين، يلمس ذلك الوعي في إدراكهم للطريقة التي يمكن فيها استرداد الأرض الفلسطينية، تلك الطريقة التي لا تعتمد على المفاوضات ومهادنة المحتل وتقديم التنازلات مخالفين بذلك الخطاب الرسمي الذي بدأ يطرح مبدأ السلام ويقبل به.
فالعودة والتحرير لا تتم إلا بالغضب، ومثال على ذلك ما تعلنه أغنية (الآن الآن وليس غدًا أجراس العودة فلتقرع). ويتردد الصدى المتحدي في أغنية "زهرة المدائن" فتعلن فيروز صادحةً:
الغضب الساطع آتٍ
وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آتٍ
سأمر على الأحزان
من كل طريق آتٍ
بجياد الرهبة آتٍ..
غنت فيروز (سنرجع يومًا إلى حيّنا) لهارون هاشم رشيد وكتب عبد الرحمن الأبنودي قصيدة (المسيح) التي غناها عبد الحليم حافظ |
أما مغناة (الغرباء) فهي عبارة عن قصيدة في ديوان (مع الغرباء) للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، اختار منه الرحابنة قصيدة (سنرجع يومًا إلى حيّنا)، فكانت لؤلؤة في عقد أغنياتهم عن فلسطين. والقصيدة تستعير الرمز عوضًا عن المباشرة، باستعادة جزء صغير من فلسطين، وهو الحي الذي عاش فيه في طفولته ومطلع شبابه، ووضع الرحابنة لحنًا رومانسيًا دافئًا مفعمًا بالحنين وحلم الرجوع إلى الوطن السليب، منحه صوت فيروز جماليات نادرة.
أما أغنية (سيف فليشهر) فقد سببت إشكالية كبيرة، ولم تلبث كثيرًا في الإذاعات والتلفزة العربية لموقفها المخالف للأنظمة العربية تجاه فلسطين ودعوتها المباشرة إلى الكفاح المسلح.
"من العلامات البارزة في تاريخ فرقة العاشقين أغنية (اشهد يا عالم علينا وع بيروت)، التي وثقت بطولات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية وسخرت من تخاذل العرب وجبنهم، وغياب صوتهم وتخليهم عن فكرة المقاومة" |
لم تكن فرقة العاشقين التي تأسست في مخيمات اللجوء الفلسطيني في دمشق عام 1977 إلا توكيدًا معنويًا على النضال الفلسطيني المستمر لا على شكل بندقية موجهة صوب صدور المحتل ورصاصة تصيب ظنونه في مقتل فقط، ولكن أيضًا كبعد ثقافي وحامل لهذا الإرث الكبير من البطولة الفلسطينية.
أبرز ما ميّز أعضاء هذه الفرقة ارتداؤهم للزي العسكري في حفلاتهم، بينما ارتدت الإناث في الفرقة الزي الشعبي الفلسطيني. وتألفت من مجموعة من الهواة المغنين والعازفين، على رأسهم حسين منذر كمغن رئيسي، وأسرة الهباش (خليل وخالد) كعازفين، ومحمد (الطفل المعجزة) الذي كان يقدم الأغاني بإلقاء القصائد الشعرية إضافة للشقيقتين آمنة وفاطمة، ومها دغمان وغيرهم. كانت نواة فكرة تشكيل الفرقة مع تقديم مسرحية بعنوان (المؤسسة الوطنية للجنون) من تأليف الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وإخراج فايز الساجر، وقد اقترح القائمون عليها إرفاق بعض الأغاني الحماسية مع المسرحية، وهنا جاء دور الشاعر أحمد دحبور الذي قام بتأليف الأغاني، وكانت أجملها (اللوز الأخضر) والتي لحنها حسين نازك.
أما الانطلاقة الفعلية للفرقة فقد بدأت عندما قامت بتسجيل شارات أغاني المسلسلات بالتعاون مع دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، وكان أبرزها أغاني مسلسل (بأم عيني) و(عز الدين القسام) والتي عمل عليها أيضًا كل من دحبور ونازك لتعرف الفرقة انتشارًا واسعا تخطى العالم العربي نحو العالم.
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، أصدرت الفرقة أول ألبوماتها الغنائية بعنوان (الكلام المباح)، والذي كان من أشهر أغانيه (وردة لجريح الثورة) والتي تقول:
يا صحاب الضحكة المسموعة يا غفلة ما بدها توعى
يا نسيان ويا غفيان سبقتكو الرجل المقطوعة
وتتأتى أهمية عمل الفرقة ذائعة الصيت بمواكبتها لأحداث وتطورات القضية الفلسطينية، والاتكاء على التراث ألحانًا ما ساهم في انتشارها، وتثبيتها في الذاكرة والوجدان الفلسطيني. وكانت أغنية (من سجن عكا) التي تؤكد التفاعل مع تاريخ النضال الفلسطيني والتي ارتبطت بثورة البراق سنة 1929 من أبرز الأغاني والتي تقول في جزء منها:
من سجن عكا وطلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي
وجازي عليهم يا شعبي جازي، المندوب السامي وربعو عمومًا
ومن العلامات البارزة في تاريخ الفرقة أيضًا أغنية (اشهد يا عالم علينا وع بيروت)، التي وثقت بطولات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية وسخرت من تخاذل العرب وجبنهم، وغياب صوتهم وتخليهم عن فكرة المقاومة:
ثمانين يوم ما سمعناش يا بيروت غير الهمة الإذاعية
بالصوت كانوا معنا يا بيروت والصورة ذابت بالميّة
ولما طلعنا ودعناك يا بيروت وسلاحنا شارة حرية..
توقف عمل الفرقة ونشاطها الفني في عام 1993، لظروف تتعلق بتوقيع اتفاق أوسلو، وما رشح عنه من اشكالات تنظيمية في منظمة التحرير. وحاولت العودة بحفل في رام الله سنة 2010، ولكنها سرعان ما توقفت مجددًا بسبب ظروف الحرب السورية، 2011، وتشتت أفراد الفرقة بين دول متعددة.
"تظهر الأغنية للطفلة الفلسطينية عهد التميمي (أنتِ العهد وأنتِ المجد)، بصرختها المدوية في وجه جنود الاحتلال، وتحديها الصارخ الذي أثار الرعب في نفوسهم، بأن هذا الجيل الجديد لم ينس أبدًا" |
واكبت الأغنية الموجهة نحو فلسطين جيل الأطفال والناشئة بأغانٍ تكرس ثقافة المقاومة والانتماء وحب الأرض والاستماتة في سبيل الدفاع عنها، متخذة من نماذج طفولية حية على الأرض الفلسطينية المحتلة ومن صورة الفدائي الصغير وأطفال الحجارة مادة تلك الأغاني والأناشيد الحماسية.
هذا الإصرار لدى كتاب وصناع الأغنية الموجهة للطفل العربي، تقابله حالة من التردي والخزي على المستوى السياسي الذي بلغ قمة الانبطاح والهوان والصمت، وصولًا للتطبيع المباشر معه علانية. فمن منا لم يردد، ويحفظ عن ظهر قلب، نشيد (فلسطين داري ودرب انتصاري) للشاعر السوري سليمان العيسى وهو طفل على مقاعد الدراسة.
أبلغ مثال اليوم هو ما تقوم به القنوات الموجهة للأطفال مثل (سبيستون- كراميش- طيور الجنة وغيرها كثير) من إعداد وتأليف أغانٍ وأنشودات وطنية، هدفها تنشئة وتربية الأطفال وتنمية حسهم الوطني وارتباطهم بقضيتهم الأولى فلسطين. في هذا الإطار تظهر الأغنية للطفلة الفلسطينية عهد التميمي (أنتِ العهد وأنتِ المجد)، بصرختها المدوية في وجه جنود الاحتلال، وتحديها الصارخ الذي أثار الرعب في نفوسهم، بأن هذا الجيل الجديد لم ينس أبدًا. وذلك إضافة لأغانٍ أخرى تصف شجاعة عهد كـ (اسمك يا عهد التميمي) بصوت الطفل أيمن الأمين.
وهناك أغانٍ كثيرة لا سبيل لحصرها منها (أوبريت طلائع فلسطين بصوت وائل يازجي- أنا ثائر بصوت هادي فاعور- دحية أطفال فلسطين بصوت الفنان علاء الجلاد- أغنية فلسطين بصوت فرقة طيور الجنة). هذه الأغاني التي شارك في أدائها أطفال صغار تؤكد تجذر القضية في نفوسهم رغم تهالك ساسة التطبيع على الكيان، ومحاولة تجميل صورته القبيحة.