روحي شاهين.. لحن من زمن الشَّغف الأصيل
محمد جميل خضر 28 مايو 2022
موسيقى
شارك هذا المقال
حجم الخط
منذ كان طفلًا صغيرًا يلعب في حارات مدينة الرملة الفلسطينية، حيث وُلد في عام 1937، أحسّ الموسيقار روحي شاهين (85 عامًا، أطال الله في عمره) بميله الفطريّ إلى الألحان والموسيقى.
يحضر الأعراس عن آخرها، لا يبرح مكانًا يبث راديو قديم فيه أغنية، ويأخذه صوت الموسيقى الطالعة من آلة أسطوانات.
بكل هذا الشغف، انتقل روحي شاهين من مدينة الرملة الفلسطينية إلى عمّان بعد نكبة فلسطين في عام 1948. كان وقتها في حدود الحادية عشرة من عمره. في عمّان (مخيم الحسين وما حوله) واصل حضور الأعراس، وشرب الأصوات. صنع، كما يقول في مقابلة أجريناها معه، في سن مبكرة، آلة موسيقية من أشياء متاحة بين يديه (جلن بلاستيك وشعر ذيل حصان).
شاهين يذكر أنه حاول تعلّم الموسيقى أيامها على يد العازف رامز الزاغة: "طلبتُ من عازف العود رامز الزاغة تعليمي الموسيقى، فطلب مني دينارًا ونصف الدينار للحصة الواحدة. لم يكن هكذا مبلغ متوافرًا معي، فهو بحسابات تلك الأيام مبلغ باهظ. في تلك الأثناء، بدأ برنامج "ركن الهواة" يبث عبر أثير الإذاعة، فتقدمت له أنا والمطرب صبري محمود. كان الفنان فهد النجار هو الذي يقابل المتسابقين، والإعلامي إبراهيم الذهبي هو الذي يقدم البرنامج".
قُبل صبري محمود بوظيفة مردد، ولم يقبل هو، حيث يوضح في المقابلة أن الإذاعة كانت في طور تأسيس قسم موسيقيٍّ وفرقة موسيقية، وأن برنامج الهواة كان فرصة لاكتشاف المواهب وتعيينهم في القسم الذي كان في طور التأسيس عازفين ومؤدين في الفرقة.
أخبره الفنان فهد النجار أنه يؤدي اللحن بشكل جيد، ويغني بحس موسيقي مضبوط الإيقاع، ولكن صوته غير جميل.
لم أيأس، لقناعتي الراسخة أن لدي موهبة موسيقية، وذهبت وحفظت أغنية "رمش عينه" لأنني عندما تقدمت أول مرّة شاركت بأغنية "أخي جاوز الظالمون المدى"، وهذه أغنية ثقيلة وصعبة، عكس "رمش عينه"، بقيت لأكثر من شهر أنتظر بثها عبر أثير الإذاعة لعدم توفر أي وسائل أخرى أيامها لسماعها، حيث لم يكن يوجد كاسيتات، ولا مثل هذه الأيام عشرات المواقع التي يمكن أن تبث الأغنية أو تعرضها مع فيديو كليب. ولمّا بثّوها، حفظت كلماتها ولحنها ومختلف تفاصيلها. بعدما أتقنتها جيدًا عدت إلى البرنامج وللإذاعة، فسألني فهد النجار "لماذا عدت؟"، فأخبرته أن لدي شعورًا عميقًا بوجود موهبة عندي، ولا مجال إلا أن أنميها في الإذاعة، وقد أتيت بأغنية خفيفة هذه المرّة، وعندي أمل أنني سأكون موفّقًا فيها. فعلًا، سمح لي بغنائها، وأنا أغني فيها، وإذا بمدير الإذاعة أيامها، عبد الحميد شرف، يمرّ من أمام أستوديو البرنامج. سأل: من هذا الذي يغني؟، فقالوا له شاب من الهواة، فقال لهم خذوه للكورس، فأنتم بصدد تشكيل قسم، وتشكيل فرقة، وتحتاجون لعدد غير قليل من المرددين. فإذا بجميل العاص، رئيس قسم الموسيقى أيامها، يناديني ويخبرني أنهم مستعدون لتعييني إن كنت أرغب، في مقابل 11 دينارًا شهريًا. وافقت على الفور، فكل همي كان أيامها أن أمسك طرف الخيط. بدأت مرددًا مع الكورال، وبقيت على هذه الحال لمدة عام. في يوم من الأيام، أوقفني العازف جليل ركب، وكان عازف الكمان الأول في فرقة الإذاعة، وقال لي يا بني أنا أعمل في مجال العزف والموسيقى منذ 50 عامًا، وأقول لك إنك لن تفلح كمطرب، فصوتك لا يؤهلك لذلك، ولكنك قد تنجح كعازف. اذهب وتعلم على آلة موسيقية، وادرس موسيقى، فهذا الذي قد يفتح لك باب النجاح في الفرقة. لم أكذب خبرًا، وراسلت معهدين في القاهرة: المعهد العربي، والمعهد الإيطالي، فجاءني قبول من المعهد الإيطالي. وهو معهد معروف خرّج كبار الموسيقيين. بعد نيلي القبول في المعهد الإيطالي، قدّمت استقالتي من الإذاعة، وسافرت إلى القاهرة. دفعت رسوم الدراسة بالدولار. والآن جاء دور مفصل آخر من مفاصل حياتي، وهو المتعلق بنوع الآلة التي سأدرسها، وأتعلم العزف عليها. حسبت الأمر بشكل عقلاني منطقي، ولأن الفرقة الموسيقية في الإذاعة ليس فيها آلة تشيللو، وكانت قد أصبحت تلك الآلة أساسية لأي فرقة موسيقية، يوجد كمنجات، عود، أكورديون، إيقاعات، آلات نفخ، أما التشيللو فلم يكن موجودًا.
تشيللو
يضيف: اشتريت آلة تشيللو، وبدأت أتعلم عليها في المعهد الإيطالي، وهي لعلمك من أصعب الآلات الموسيقية، وفي العادة في أي فرقة لا يكون هناك سوى عازف، أو عازفين، على التشيللو. بعد الدراسة لمدة سنتين على الآلة، وحصولي على ما يعادل هذه الأيام درجة البكالوريوس فيها، عدت إلى عمّان. بعد عودتي فكرت بتأسيس فرقة موسيقية والعمل في القطاع الخاص. وفي تلك الأثناء، جاءت إلى الأردن الفنانة سعاد محمد، وأحيت حفلة في نادي السباق الملكي، فاستعانت الفرقة المرافقة لها بي كعازف على التشيللو. في أثناء الحفل، أشّر لي شخص بما معناه أنه يود مقابلتي بعد انتهاء الحفل، فإذا به نزار الرافعي، مدير الإذاعة الجديد. سألني أنت من أين؟ فأخبرته أنني من هنا، فقال لي أول مرّة أقابلك، ولماذا لا تزور الإذاعة ولا تعمل مع فرقتها، فأخبرته أنني عائد حديثًا من القاهرة، قال: لا.. لا يجوز ذلك، عد إلى الإذاعة، فهي بحاجة لك، وأنت بحاجة لها. فعلًا، لم أكذب خبرًا، وتوجهت في اليوم التالي إلى الإذاعة. استقبلني مدير الإذاعة في مكتبه، ونادى توفيق النمري، وقد أصبح هو المسؤول عن الفرقة، وأخبره أنني أكاديمي، فعينوه كي تنهضوا بفرقة الإذاعة. وفعلًا، عيّنوني مباشرة.
في بدايات عام 1967، جمعنا مدير الإذاعة وأخبرنا أنهم يرغبون بترويج الأغنية الأردنية بأصوات عربية لها شهرتها ونجوميتها، وكان في باله أيامها: سميرة توفيق، وهيام يونس، ودلال شمالي، وفهد بلان، وبعض الأصوات الأخرى. وقال لنا إن البداية ستكون مع هيام يونس، التي كانوا قد تعاقدوا معها فعلًا على إنتاج عشر أغنيات. أنجز كتّاب النصوص والملحنون تسع أغاني، وبقي لاكتمال العقد مع هيام يونس أغنية واحدة. في أثناء ذلك، وأنا أمشي في ردهة الإذاعة، ناداني نزار الرافعي، وقال لي اذهب إلى توفيق النمري، وقل له أن يرسل لي الشاب الذي جاء من مصر، فقلت له أنا يا سيدي الشاب الذي أتى من مصر، فتذكرني، وقال لي الحقني. لحقت به إلى مكتبه، فأخبرني أنهم أنجزوا تسعة ألحان لهيام يونس، وبقي لحن، لأن الملحنين رفضوا نصًّا مكتوبًا باللغة العربية الفصيحة، كتبه الشاعر خالد محادين، وكان أيامها مدير مكتب مدير الإذاعة. وبعد خروجي من مكتب المدير، عاد خالد محادين وأكد لي أهمية أن يجري تلحين النص، وقال لي إنها فرصة لكلينا. النص يبدأ بـ"أهديك ما أهديك في عيدك الغالي".
هيام يونس
كان يُطلق على هيام يونس أيامها لقب "نجمة الشرق"، وأكيد لن يرضيها أي لحن. تصديت للمهمة، وقمت بتلحين الكلمات، وذهبت إلى هيام يونس في الفندق الذي كانت تقيم فيه. طبعًا كنت قلقًا (إجر ورا وإجر قدّام)، فهيام يونس كانت من مطربات الصف الأول. بدأت إسماعها اللحن بالدق على الطاولة، صفنت ولم تنطق ببنت شفة إلى أن أنهيت الأغنية بلحني. ابتسمت وقالت بالحرف الواحد: (تؤبرني شو هاللحن الحلو)، وسألتني إنت دارس صوتي شي. فقلت لها أنا أحب صوتك، ولهذا جاء اللحن جميلًا. حملتْ سماعة الهاتف واتصلت بمدير الإذاعة، قائلة له (أبو حسين هذا الشاب الذي جاءني على الفندق عامل لي لحن كتير حلو). فسألها مدير الإذاعة: هل بإمكانك، إذًا، تسجيله غدًا، فجاء جوابها بالإيجاب. فعلًا، في اليوم الثاني عندما علم الراحل جميل العاص أنني أنا الذي لحّنت لها كلمات الأغنية العاشرة لإكمال العقد معها (تعقّد)، فلم يكن يتقبّل أن يلحن أحد غيره. (قلك من وين نبتلنا هادا) شعرت أنه يحاول تعطيل الأمور، فقلت له اسمع أستاذنا هذه فرصة لن تأتيني كل يوم، وأرجوك لا تكن معطّلًا لها، ولا تحرمني فرصة حياتي، وانطلاقة مشواري كملحن. بعد تسجيل الأغنية، نادى مدير الإذاعة الإعلامي مراد ملص، وكان يقدم برنامجًا عنوانه "كل جديد"، وطلب منه إجراء مقابلة لهيام يونس وأنا معها للإعلان عن الأغنية وتقديم ملحنها للمستمعين.
"ولادة ملحن جديد"، عبارة وردت على لسان هيام يونس في البرنامج. وبعد عودة هيام يونس إلى لبنان، وتصادف ذلك مع عيد الإذاعة اللبنانية، أعجبت شركة لبنانية باللحن والكلمات، فأرادوا أن يتعاقدوا معها، فقالت لهم عليكم أن تتعاقدوا مع مؤلف اللحن، فاتصلتْ بي وأخبرتني رغبة الشركة بوضع الأغنية على أسطوانة، فقلت لها لا مانع لديّ، بعد أن نتفق على الأمور المالية، وفعلًا وقعت معهم عقدًا لوضع الأغنية على أسطوانة، بعد إعادة تسجيلها في لبنان مع فرقة عبود عبد العال مقابل عشرة آلاف ليرة لبنانية، وكانت الليرة اللبنانية أيامها لها قيمتها (حوالي نصف دولار أميركي). من هنا كانت بدايتي في عالم التلحين. وبدأ اسمي يلمع، فحتى فهد النجار، الذي رفضني مغنيًّا، جاءني وسألني (ما بطلعناش عندك لحن حلو زي هذا اللحن)، فقدمت له لحنًا من كلمات حسني فريز "ربيع بلادي". إسماعيل خضر طلب مني لحنًا أيضًا، وقدمت له "عيون حبيبي نعسانة"، كلمات نبيل عساف. سامي الشايب طلب مني بدوره لحنًا. تقريبًا كل المطربين الأردنيين المعروفين أيامها طلبوا مني ألحانًا. كما لحنت أيامها لمحمد وهيب أغنية "سليمى"، كلمات حسني فريز. ثم جاء الدور على دلال شمالي، وكانت أيامها من المطربات اللاتي يشار إليهم بالبنان، وعبد الوهاب من الذين أعطوها ألحانًا (قصيدة نجوى)، وعند وصول دلال إلى الأردن، كان قد تغيّر مدير الإذاعة، وأصبح ضياء الدين الرفاعي (أبو طالب) هو مدير الإذاعة، فناداني وكلّفني بتلحين أغنية لدلال شمالي، والأغنية هي "يا موطني روحي فداك وفدا البطولة في حماك وفداء كل مقدس في ضفتيك وفي رباك" لشاعر شباب فلسطين محمود الأفغاني. نجحت هذه الأغنية أيضًا. لحنت لصبري محمود قصيدة "يا هند" من كلمات مصطفى وهبي التل. عادت هيام يونس إلى الأردن مرّة ثانية، فلحنت لها أغنية "عالعافية عالعافية" من كلمات محمد جبيل، ولحنت لها "ليت الوقوف بوادي السير إجباري" من كلمات عرار. وقد بدأت مع نهاية ستينيات القرن الماضي ببناء اسمي بشكل سريع ولافت. لحنت للمطربة سماهر "مرفوع الراية" من كلمات حيدر محمود.
سميرة توفيق
يتابع روحي شاهين كلامه:
عندما تسلم نصوح المجالي منصب مدير الإذاعة بعد الرفاعي، وبينما نحن نستمع إلى "مرفوع الراية" عنده في المكتب، فقد كان يشترط أن لا تبث أي أغنية على الهواء إلا بعد أن يسمعها بنفسه، وإذا بسميرة توفيق تدخل مكتبه، فأومأ لها أن تجلس من دون أن تتكلم وتسمع معنا. بعد انتهاء الأغنية، شكرني، وقال لي إننا توفقنا فيها كلمات ولحنًا وأداء.
وإذا بسميرة توفيق تسأل: لمين هاللحن الجميل الراقي، فأخبرها أنه لي. أشادت سميرة توفيق باللحن، ورأت فيه نقلة على صعيد الأغنية الأردنية. فسألها مدير الإذاعة "ليش هو روحي لم يلحن لك؟"، فقالت له: لا أتذكر أنه لحّن لي. فأنا علمي به عازفًا في الفرقة، وليس ملحنًا. ثم إن جميل العاص، وتوفيق النمري، لا يسمحان لغيرهما أن يلحن لي، فقال لها: "لازم توخذي لحن من روحي". في ذلك الوقت، كان لديّ نص لسليمان المشيني اسمه "فدوى لعيونك يا أردن" متروك فوق (استاند) في بيتي، وكنت أخذته منه قبل أربع سنوات من اللقاء بيني وبين سميرة توفيق في مكتب مدير الإذاعة، وكل يوم يسألني المشيني: هل لحنته؟ ويقول لي "يا ابن الحلال ما تلحن هالنص"، فأخبره "لا والله ما هو طالع معي لحن له". فاللحن لا وقت له، وبعد أربع سنوات من وجوده أمامي، وإذا بي في ساعتين أنجز لحنه بعد أن طلب مني المدير تقديم لحن لسميرة توفيق. في اليوم الثاني، وصلتُ الإذاعة ومعي اللحن، فوجدت سميرة توفيق جالسة في مكتب سليمان المشيني، ومعهما جميل العاص، فطلب مني جميل أن أسمعها اللحن في مكتب المشيني، فقلت له لا أسمعها إياه هنا، بل عليها أن تأتي إلى الأستوديو وتسمعه مع الفرقة، فقال لي: هنا أستر، حتى لا تحرجك أمام الفرقة إن كان لديها ملاحظات على اللحن، أو لم يعجبها.. فقلت له "والله لا أسمح حتى لعبد الوهاب أن يقلل من شأن لحن من ألحاني، كما إنني لا أغير جملة لحنية واحدة من لحن لي". اعتبره جنونًا، اعتبره (شوفة حال هادا اللي أجاك). فقد كان المعروف أن سميرة توفيق تتدخل بالألحان، وتجري عليها أكثر من تعديل، وهم كانوا يقبلون بذلك. قال جميل العاص (أووووف)، فقلت له: كما أقول لك، تتفضل إلى القاعة وتسمع اللحن، أعجبها كان به، لم يعجبها يا دار ما دخلك شر. في العادة، أقوم بإغلاق باب القاعة عندما أسمع الفرقة لحنًا، فإذا بسميرة توفيق تسمع اللحن من وراء الباب، ثم تفتح الباب وتشير بيدها بعلامة الإعجاب باللحن. بعد إعجابها باللحن، ناداني المدير نصوح المجالي، وقال لي إنك الآن مؤتمن على الأغنية الأردنية والخط السائر عليه هو الخط الصحيح، والمطلوب منك الآن اكتشاف أصوات أردنية. فصببت كل جهودي بعد ذلك على تحقيق رغبته، والبحث عن أصوات أردنية واعدة، فأعددت برنامج "هواة وراء الميكروفون"، وكنا نسجله يوم الجمعة كي أعطي فرصة للعاملين والطلبة والموظفين أن يشاركوا فيه. أول صوت اكتشفته صوت فارس عوض. سمعته يغني بعرس في مادبا فأعجبني صوته، فعينته بالإذاعة، ولحنت له أولى أغنياتة "لولا الأمر لله" من كلمات رياض زيادات. نجح فارس عوض حتى أصبح أيامها المطرب الأردني الأول. ثم اكتشفت عدنان شهاب، أيضًا سمعته في عرس، فوجّهت له دعوة كي يزور الإذاعة، ولحنت أولى أغنياته "بطل الملاعب أردني" من كلمات محمد جبيل. إبراهيم خليفة كان ثالث من اكتشفتهم، وأثبت نفسه كمطرب وملحن ومؤلف. اكتشفت هالة هادي، ولحنت لها "طير يلا يا حمام" من كلمات نايف أبو عبيد. رويدا العاص لحنت لها "أردنية أنا"، من كلمات مصطفى المغربي. اكتشفت محمد خير، ولحنت له "أنا العزيز بموطني"، من كلمات عارف اللافي. أنجزت خلال مسيرتي 500 لحن، وقد أنجزتها قبل وصولنا منتصف تسعينيات القرن الماضي. ويقول روحي شاهين في المقابلة: "إن الإذاعة الأردنية أخذت على نفسها في ستينيات القرن الماضي عهدًا أن تنهض بالأغنية الأردنية، وتمنحها هوية وملامح ولهجة أردنية، إذ كان وصفي التل شخصيًا يتابع تحقيق هذه التطلعات. وهو ما شهر حتى غير الأردنيين، فسميرة توفيق حققت شهرتها من خلال الأغنية الأردنية، ولم يكن يعرفها أحد قبل ذلك، لدرجة أن معظم أبناء دول الخليج العربي يعتقدون أنها أردنية".
شاهين يرى أن إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية حافظت على مستوى الأغنية الأردنية وسويتها: "كانت هنالك لجنة لمراقبة النص، وأخرى لمراقبة اللحن، وثالثة لمراقبة الأداء، ولجنة رابعة للحكم على الأغنية بعد تسجيلها أيضًا. فالأغنية كانت تمرّ بمراحل. شعراء كبار كانوا يحكمون على الكلمات. وملحنون كبار كانوا يقيّمون اللحن".
يوضّح شاهين: "الإذاعة أخذت على عاتقها نشر الأغنية الأردنية نصًّا ولحنًا وأداء. نصوح المجالي قال لي لا نريد أن نقلّد الأغنية المصرية، رافضًا إدخال آلة الغيتار إلى الفرقة".
وحول مديري الإذاعة الذين عاصرهم، يتذكّر شاهين منهم: منير الدرّة. جرير مرقة. رافع شاهين. سليمان المشيني. قبل هؤلاء: أمين أبو الشعر، بعد عبد الحميد شرف مباشرة. ساري عويضة. مروان دودين.
أما أول مدرس عود في الإذاعة، فهو شاهين عبد الكريم عوض. خضر عزام كان مدرس كمان (وهو من أوائل عازفي الكمنجة في الأردن).
وحول وضع المؤسسات والمعاهد الموسيقية في ذلك الوقت، يقول: "تدريب الموسيقى كان فرديًّا، ولم تكن هناك مؤسسات، أو معاهد، تقوم بتدريس الآلات الموسيقية".
وعن آلة التشيلو، يقول: "آلة صعبة، ولم يكن هناك إقبال عليها من متعلمي الموسيقى والراغبين في العزف".
ومن أهم العازفين الذين عاصرهم كما يورد: "الموسيقار وعازف الكمان، عطية شرارة، وعملت مساعدًا له فترة من الزمن خلال إدارته معهد الموسيقى التابع لوزارة الثقافة".
ويضيف: "عاصرت الموسيقي إلياس فزع، عازف البيانو والأكورديون والكمان، وهو ممن يشار إليهم بالبنان. كما عاصرت العازف جليل ركب (عازف قدير). كرامة حداد (عازف قدير وملحن). عيسى البلّه، عازف كمان وملحّن. محمد الأدهم، عازف كمان وملحّن. أنطون شمعون، عازف كمان أول، وقائد فرقة الإذاعة. سمير بغدادي، عازف كمان وقائد فرقة. جورج أسعد، عازف كمان أول، وقائد فرقة. أسعد جورج، عازف كمان وعود شهد بعزفه محمد الموجي. عازف الناي أنطون حجّار. عازف الكمان فؤاد ملص. عازف الإيقاع محمود هنا. عازف الدف والرق سعيد هنا. عازف الدرامز. شفيق وحيد، وهو قائد فرقة الكورال، ومطرب".
يقول شاهين: "رغم تواضع إمكانيات الفرقة الموسيقية للإذاعة، إلا أن أداءها كان جيّدًا. الإذاعة كانت مسموعة، والأغنية الأردنية كانت مسموعة، رغم بعض التحفظات الاجتماعية، فبعض العادات كانت منغلقة على الموسيقى والغناء، وكنّا نجد صعوبة عندما نبحث عن مطربة. لم تكن هنالك مقارنة بين عدد المطربين وعدد المطربات، المطربون كانوا كثيرين. لم يكن هناك سوى القليل من المطربات (عيب وحرام)".
وحول مستوى موسيقيي الإذاعة في ذلك الوقت، يقول: "كل الموسيقيين الذين كانوا يعملون في الإذاعة كانوا أصحاب خبرة ومؤهلين، وعلى دراية عميقة ووافية بالأنغام والمقامات، مثل رامز الزاغة، عازف العود المخضرم".
ويتابع: "الفرقة الموسيقية في الإذاعة حافظت على مقامات الغناء الشرقي بشكل عام، والأردني بشكل خاص. وكبار المسؤولين كانوا يرفضون إدخال أي آلة غربية إلى الفرقة. الأغاني التي قدمت من خلال قسم الموسيقى في الإذاعة نجحت، وتسابق أيامها المطربون العرب للمشاركة في موسم النجاح الموسيقي الأردني. وديع الصافي غنّى الأغنية الأردنية. هدى سلطان، وفيروز، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، ووردة الجزائرية، كانوا يرون فيها أغنية ملتزمة، وبقيت الإذاعة محافظة على الأغنية الأردنية حتى مطالع تسعينيات القرن الماضي، مع ظهور الاستوديوهات الخاصة التي أسهمت مساهمة كبيرة في إحباط الأغنية الأردنية الملتزمة، وتوجيه ضربة قاصمة لها، وفلتت زمام الأمور ولم تعد الإذاعة قادرة على المحافظة على الأغنية الأردنية بصورتها وهويتها وسطوعها السابق". أما عن التلحين الذي أسهم فيه شاهين إسهامات محلية وعربية ساطعة، فيرى أن التلحين موهبة، ويقول: "ليس كل موسيقي قادر على التلحين. كثير من العازفين الكبار لم يستطيعوا التلحين. مرّة قال لي عبود عبد العال يا ريتني أستطيع تلحين أغنية واحدة، رغم أنه من أهم عازفي الكمان في العالم العربي".
ويضيف: "التلحين مثل أن ترسم لوحة جميلة وأنت لم تدرس الفن التشكيلي أكاديميًّا، ولم تدرس تاريخ المدارس التشكيلية وسماتها وأهم أعلامها. لا شك أنك بحاجة إضافة للموهبة أن تلم بمقامات الغناء العربي والشرقي، ولكن الموهبة تأتي أولًا، والأذن الموسيقية القادرة على التقاط النغم، وما يناسب هذه الكلمات وما يناسب غيرها. لا يستطيع أن يلحن من يجهل المقامات ودرجاتها وتقاسيمها وأنغامها".
يعود شاهين لحديث البدايات مرّة ثانية: "وأنا في مدرسة الوكالة في مخيم الحسين كنت أشترك في الأناشيد، وكان أساتذتي يلاحظون تميزي بالميزان، وإتقان اللحن، وأنّ لديّ إمكانية التعبير عمّا يجيش في داخلي".
ثم يعود لمواصفات الملحن وفكرة التلحين: "الملحن كما أسلفت مثل الرسام، وبمجرّد أن يسمع كلمات أغنية راقت له فورًا يبدأ دندنتها. وأنا صغير كنت من هواة قراءة الصحف، وكنت كلما وقعت على قصيدة في الجريدة أبدأ بدندنتها ملحّنة. مرّة، صنعت تشيلو من غالون بلاستيك (زي الربابة يعني)، بعد أن وضعت له وترًا من ذنب خيل. وبمجرد أن أسمع أغنية في راديو، أو شيئًا من هذا القبيل، أركض وأسمعها بانتباه وتركيز. وعندما كان يقام في حارتنا أي عرس أركض إليه لأسمع أغاني ذلك العرس".
أما أول مقطوعة موسيقية ألّفها، فيكشف شاهين أنها مقطوعة اسمها "إلهام" على اسم زوجته.
ويتذكر بكثير من الشغف مغناة "رحلة نغم" بصوت المجموعة التي تجوب جهات الوطن، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه.
ولندع روحي شاهين يتحدث على طريقته، ويواصل إمتاعنا وإعلامنا بجزء مهم من النبض الموسيقي الأردني خلال مئة عام:
ـ "من تأليفي مقطوعة "تحية" قدمت في مهرجان جرش.
ـ نشيد جامعة مؤتة من ألحاني. "هاشميان جناحاك"، من كلمات حيدر محمود.
ـ نشيد جامعة الزيتونة من ألحاني. نشيد جامعة جرش من ألحاني. نشيد كلية المجتمع العربي من كلمات حيدر محمود. نشيد سلاح الجو من ألحاني. نشيد سلاح المدفعية من ألحاني، من شعر حيدر محمود. نشيد سلاح الدبابات من ألحاني وشعر حيدر محمود. مغناة "نهر الأنبياء" من ألحاني وشعر حيدر محمود.
طلب مني معن أبو نوار مدير التوجيه المعنوي أيامها أن نشرك فيروز في المغناة، فرفضت، رغم أنه كان قد أخذ موافقتها، وعندما سألني لماذا أرفض، قلت له لأنها إن نجحت سيقولون إن فيروز هي التي أنجحتها، واستعضت عن فيروز بغادة محمود، وصبري محمود، ومحمد وهيب "ينساب اسم الله حادي ركبه".
في كثير من ألحاني كنت آخذ رأي أم نضال (زوجته)، ومن رأيها أستمزج رأي الناس في الشارع. بعد أن أنجز اللحن أسمعها إياه، وأسألها: هل اللحن سلس على الأذن، أجيبيني ليس بوصفك زوجة روحي شاهين، بل بوصفك مستمعة، مثل أي مستمع من عموم المستمعين. وفي كثير من الأحيان كنت آخذ برأيها وأغيّر اللحن.
الموسيقى حققت لي شغفي. هذبت أخلاقي، وجعلتني أنبذ العنف والغضب والتشنج والتوتر، ومن وحيها ربّيتُ أولادي على الهدوء والاحترام. نقّت روحي. شربتها طفلًا، واقتحمت عالمها شابًا، وأتقنتها ناضجًا، ولمعت فيها وأخلصت لها وأخلصت لي. الموسيقى بلورت صورة عائلتي. كما أنها أنصفتني ماليًّا، إذ منحتني وأسرتي بحبوحة في أوقات كانت البحبوحة نادرة في بلدنا. فربّيت أولادي أفضل تربية، وأدخلتهم أفضل المدارس وأعرقها. الموسيقى حققت لي نجاحات كبرى، ولا أنكر أنني نجحت كموسيقي وكملحن، فهي شهرتني محليًّا وعربيًّا. سافرت بسبب الموسيقى، ورأيت كثيرًا من الدول العربية والأجنبية. وفي المقابل، أخذت مني عمري كلّه. فقد شغلتني آناء الليل وأطراف النهار، وفي كثير من الليالي عندما كان أترابي يسهرون ويمرحون كنت أتفرغ في تلك الليلة لتأليف لحن جديد. حرمت من ارتياد دور السينما، وزيارة الأهل والأصدقاء والأقارب، فكل وقتي كان مكرسًا للموسيقى.
أنا من مواليد مدينة الرملة الفلسطينية بتاريخ 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1937. أرتدي النظارات السوداء منذ عام 1967، بسبب خطأ طبي.
تزوجت في الثلاثين من عمري، وهذا أمر لم يكن شائعًا أيامنا، إذ كان الزواج وقتها في سنٍّ أقل من ذلك، يعني للرجال في مطالع العشرينات، وللنساء كن يتزوجن قبل أن يبلغن العشرين من أعمارهن، ولكنني، بعد عودتي من مصر، وحصولي على الدرجة العلمية في العزف، أخذت على عاتقي عهدًا أن لا أتزوج إلا وأنا جاهز ماليًا، ولديّ سيارة وبيت. ولكن بعدما قابلت أم نضال، وصار النصيب، غيرت قليلًا بعض خططي، وتزوجنا وجاء الرزق بعد ذلك. كما أني أصبحت الابن الوحيد لدى أمي غير المتزوج، وظلت تلح عليّ، وتقول لي إن الابن في الشباب لا يعوّض. والحمد لله ربنا أكرمنا، ولم نحتج لأحد في حياتنا.
من لا يشكر الناس لا يشكر الله. بالنسبة لي الدولة كرّمتني ونلت، عمومًا، قدرًا وافيًا ومعقولًا من التكريم، قد لا يكون التكريم الذي أستحقه، لكنني أفضل من غيري. وإن كنت لم أنل ولا أي وسام، لكنني في المقابل حصلت على جائزة الدولة التقديرية.
مرّتين نُسِّب لي بوسام، ويسحب في اللحظة الأخيرة، وأتبلغ، ثم يجري العدول عن قرار منحي وسامًا. المرّة الأولى في مؤتمر الوفاق والاتفاق عام 1980، وكنت لحّنت أغنية المؤتمر "عمّان قلبك من ذهب"، من كلمات محمد أمين سقف الحيط، وفي اللحظة الأخيرة لم أمنح أيامها الوسام، وحوّل وزير الإعلام أيامها محمد الخطيب الوسام إلى غيري. أحد الوزراء قال لي مرّة إن وسامي الحقيقي هو ألحاني.
اختلف مديرو الإذاعة المؤسسون حول اللهجة التي يريدون أن تسير عليها أغاني فرقة الإذاعة، مرّة يأتي مدير متشدد بضرورة استخدام اللهجة الأردنية الخالصة (وصفي التل، وهزاع المجالي، وتوفيق النمري، على سبيل المثال)، ومرّة يأتي من يحوّل الوجهة نحو اللهجة البيضاء التي يمكن أن يفهمها العرب أجمعين (ساري عويضة، وجميل العاص، ونصوح المجالي، على سبيل المثال).
بالنسبة لي شخصيًّا، نوّعت في ألحاني، وحاولت تقريب المسائل، وتعاملت مع كلمات باللهجة الأردنية الخالصة، وأخرى باللهجة البيضاء، وقصائد باللغة العربية الفصيحة. لم أضع نفسي في قالب لحني واحد، ولم أتعامل مع نمط كتابة كلمات واحد.
محمد جميل خضر 28 مايو 2022
موسيقى
شارك هذا المقال
حجم الخط
منذ كان طفلًا صغيرًا يلعب في حارات مدينة الرملة الفلسطينية، حيث وُلد في عام 1937، أحسّ الموسيقار روحي شاهين (85 عامًا، أطال الله في عمره) بميله الفطريّ إلى الألحان والموسيقى.
يحضر الأعراس عن آخرها، لا يبرح مكانًا يبث راديو قديم فيه أغنية، ويأخذه صوت الموسيقى الطالعة من آلة أسطوانات.
بكل هذا الشغف، انتقل روحي شاهين من مدينة الرملة الفلسطينية إلى عمّان بعد نكبة فلسطين في عام 1948. كان وقتها في حدود الحادية عشرة من عمره. في عمّان (مخيم الحسين وما حوله) واصل حضور الأعراس، وشرب الأصوات. صنع، كما يقول في مقابلة أجريناها معه، في سن مبكرة، آلة موسيقية من أشياء متاحة بين يديه (جلن بلاستيك وشعر ذيل حصان).
شاهين يذكر أنه حاول تعلّم الموسيقى أيامها على يد العازف رامز الزاغة: "طلبتُ من عازف العود رامز الزاغة تعليمي الموسيقى، فطلب مني دينارًا ونصف الدينار للحصة الواحدة. لم يكن هكذا مبلغ متوافرًا معي، فهو بحسابات تلك الأيام مبلغ باهظ. في تلك الأثناء، بدأ برنامج "ركن الهواة" يبث عبر أثير الإذاعة، فتقدمت له أنا والمطرب صبري محمود. كان الفنان فهد النجار هو الذي يقابل المتسابقين، والإعلامي إبراهيم الذهبي هو الذي يقدم البرنامج".
قُبل صبري محمود بوظيفة مردد، ولم يقبل هو، حيث يوضح في المقابلة أن الإذاعة كانت في طور تأسيس قسم موسيقيٍّ وفرقة موسيقية، وأن برنامج الهواة كان فرصة لاكتشاف المواهب وتعيينهم في القسم الذي كان في طور التأسيس عازفين ومؤدين في الفرقة.
أخبره الفنان فهد النجار أنه يؤدي اللحن بشكل جيد، ويغني بحس موسيقي مضبوط الإيقاع، ولكن صوته غير جميل.
"طلبتُ من عازف العود رامز الزاغة تعليمي الموسيقى، فطلب مني دينارًا ونصف الدينار للحصة الواحدة" |
لم أيأس، لقناعتي الراسخة أن لدي موهبة موسيقية، وذهبت وحفظت أغنية "رمش عينه" لأنني عندما تقدمت أول مرّة شاركت بأغنية "أخي جاوز الظالمون المدى"، وهذه أغنية ثقيلة وصعبة، عكس "رمش عينه"، بقيت لأكثر من شهر أنتظر بثها عبر أثير الإذاعة لعدم توفر أي وسائل أخرى أيامها لسماعها، حيث لم يكن يوجد كاسيتات، ولا مثل هذه الأيام عشرات المواقع التي يمكن أن تبث الأغنية أو تعرضها مع فيديو كليب. ولمّا بثّوها، حفظت كلماتها ولحنها ومختلف تفاصيلها. بعدما أتقنتها جيدًا عدت إلى البرنامج وللإذاعة، فسألني فهد النجار "لماذا عدت؟"، فأخبرته أن لدي شعورًا عميقًا بوجود موهبة عندي، ولا مجال إلا أن أنميها في الإذاعة، وقد أتيت بأغنية خفيفة هذه المرّة، وعندي أمل أنني سأكون موفّقًا فيها. فعلًا، سمح لي بغنائها، وأنا أغني فيها، وإذا بمدير الإذاعة أيامها، عبد الحميد شرف، يمرّ من أمام أستوديو البرنامج. سأل: من هذا الذي يغني؟، فقالوا له شاب من الهواة، فقال لهم خذوه للكورس، فأنتم بصدد تشكيل قسم، وتشكيل فرقة، وتحتاجون لعدد غير قليل من المرددين. فإذا بجميل العاص، رئيس قسم الموسيقى أيامها، يناديني ويخبرني أنهم مستعدون لتعييني إن كنت أرغب، في مقابل 11 دينارًا شهريًا. وافقت على الفور، فكل همي كان أيامها أن أمسك طرف الخيط. بدأت مرددًا مع الكورال، وبقيت على هذه الحال لمدة عام. في يوم من الأيام، أوقفني العازف جليل ركب، وكان عازف الكمان الأول في فرقة الإذاعة، وقال لي يا بني أنا أعمل في مجال العزف والموسيقى منذ 50 عامًا، وأقول لك إنك لن تفلح كمطرب، فصوتك لا يؤهلك لذلك، ولكنك قد تنجح كعازف. اذهب وتعلم على آلة موسيقية، وادرس موسيقى، فهذا الذي قد يفتح لك باب النجاح في الفرقة. لم أكذب خبرًا، وراسلت معهدين في القاهرة: المعهد العربي، والمعهد الإيطالي، فجاءني قبول من المعهد الإيطالي. وهو معهد معروف خرّج كبار الموسيقيين. بعد نيلي القبول في المعهد الإيطالي، قدّمت استقالتي من الإذاعة، وسافرت إلى القاهرة. دفعت رسوم الدراسة بالدولار. والآن جاء دور مفصل آخر من مفاصل حياتي، وهو المتعلق بنوع الآلة التي سأدرسها، وأتعلم العزف عليها. حسبت الأمر بشكل عقلاني منطقي، ولأن الفرقة الموسيقية في الإذاعة ليس فيها آلة تشيللو، وكانت قد أصبحت تلك الآلة أساسية لأي فرقة موسيقية، يوجد كمنجات، عود، أكورديون، إيقاعات، آلات نفخ، أما التشيللو فلم يكن موجودًا.
تشيللو
يضيف: اشتريت آلة تشيللو، وبدأت أتعلم عليها في المعهد الإيطالي، وهي لعلمك من أصعب الآلات الموسيقية، وفي العادة في أي فرقة لا يكون هناك سوى عازف، أو عازفين، على التشيللو. بعد الدراسة لمدة سنتين على الآلة، وحصولي على ما يعادل هذه الأيام درجة البكالوريوس فيها، عدت إلى عمّان. بعد عودتي فكرت بتأسيس فرقة موسيقية والعمل في القطاع الخاص. وفي تلك الأثناء، جاءت إلى الأردن الفنانة سعاد محمد، وأحيت حفلة في نادي السباق الملكي، فاستعانت الفرقة المرافقة لها بي كعازف على التشيللو. في أثناء الحفل، أشّر لي شخص بما معناه أنه يود مقابلتي بعد انتهاء الحفل، فإذا به نزار الرافعي، مدير الإذاعة الجديد. سألني أنت من أين؟ فأخبرته أنني من هنا، فقال لي أول مرّة أقابلك، ولماذا لا تزور الإذاعة ولا تعمل مع فرقتها، فأخبرته أنني عائد حديثًا من القاهرة، قال: لا.. لا يجوز ذلك، عد إلى الإذاعة، فهي بحاجة لك، وأنت بحاجة لها. فعلًا، لم أكذب خبرًا، وتوجهت في اليوم التالي إلى الإذاعة. استقبلني مدير الإذاعة في مكتبه، ونادى توفيق النمري، وقد أصبح هو المسؤول عن الفرقة، وأخبره أنني أكاديمي، فعينوه كي تنهضوا بفرقة الإذاعة. وفعلًا، عيّنوني مباشرة.
"اخترت دراسة التشيللو لأن الفرقة الموسيقية في الإذاعة ليس فيها آلة تشيللو، وكانت قد أصبحت تلك الآلة أساسية لأي فرقة موسيقية" |
في بدايات عام 1967، جمعنا مدير الإذاعة وأخبرنا أنهم يرغبون بترويج الأغنية الأردنية بأصوات عربية لها شهرتها ونجوميتها، وكان في باله أيامها: سميرة توفيق، وهيام يونس، ودلال شمالي، وفهد بلان، وبعض الأصوات الأخرى. وقال لنا إن البداية ستكون مع هيام يونس، التي كانوا قد تعاقدوا معها فعلًا على إنتاج عشر أغنيات. أنجز كتّاب النصوص والملحنون تسع أغاني، وبقي لاكتمال العقد مع هيام يونس أغنية واحدة. في أثناء ذلك، وأنا أمشي في ردهة الإذاعة، ناداني نزار الرافعي، وقال لي اذهب إلى توفيق النمري، وقل له أن يرسل لي الشاب الذي جاء من مصر، فقلت له أنا يا سيدي الشاب الذي أتى من مصر، فتذكرني، وقال لي الحقني. لحقت به إلى مكتبه، فأخبرني أنهم أنجزوا تسعة ألحان لهيام يونس، وبقي لحن، لأن الملحنين رفضوا نصًّا مكتوبًا باللغة العربية الفصيحة، كتبه الشاعر خالد محادين، وكان أيامها مدير مكتب مدير الإذاعة. وبعد خروجي من مكتب المدير، عاد خالد محادين وأكد لي أهمية أن يجري تلحين النص، وقال لي إنها فرصة لكلينا. النص يبدأ بـ"أهديك ما أهديك في عيدك الغالي".
هيام يونس
كان يُطلق على هيام يونس أيامها لقب "نجمة الشرق"، وأكيد لن يرضيها أي لحن. تصديت للمهمة، وقمت بتلحين الكلمات، وذهبت إلى هيام يونس في الفندق الذي كانت تقيم فيه. طبعًا كنت قلقًا (إجر ورا وإجر قدّام)، فهيام يونس كانت من مطربات الصف الأول. بدأت إسماعها اللحن بالدق على الطاولة، صفنت ولم تنطق ببنت شفة إلى أن أنهيت الأغنية بلحني. ابتسمت وقالت بالحرف الواحد: (تؤبرني شو هاللحن الحلو)، وسألتني إنت دارس صوتي شي. فقلت لها أنا أحب صوتك، ولهذا جاء اللحن جميلًا. حملتْ سماعة الهاتف واتصلت بمدير الإذاعة، قائلة له (أبو حسين هذا الشاب الذي جاءني على الفندق عامل لي لحن كتير حلو). فسألها مدير الإذاعة: هل بإمكانك، إذًا، تسجيله غدًا، فجاء جوابها بالإيجاب. فعلًا، في اليوم الثاني عندما علم الراحل جميل العاص أنني أنا الذي لحّنت لها كلمات الأغنية العاشرة لإكمال العقد معها (تعقّد)، فلم يكن يتقبّل أن يلحن أحد غيره. (قلك من وين نبتلنا هادا) شعرت أنه يحاول تعطيل الأمور، فقلت له اسمع أستاذنا هذه فرصة لن تأتيني كل يوم، وأرجوك لا تكن معطّلًا لها، ولا تحرمني فرصة حياتي، وانطلاقة مشواري كملحن. بعد تسجيل الأغنية، نادى مدير الإذاعة الإعلامي مراد ملص، وكان يقدم برنامجًا عنوانه "كل جديد"، وطلب منه إجراء مقابلة لهيام يونس وأنا معها للإعلان عن الأغنية وتقديم ملحنها للمستمعين.
"ولادة ملحن جديد"، عبارة وردت على لسان هيام يونس في البرنامج. وبعد عودة هيام يونس إلى لبنان، وتصادف ذلك مع عيد الإذاعة اللبنانية، أعجبت شركة لبنانية باللحن والكلمات، فأرادوا أن يتعاقدوا معها، فقالت لهم عليكم أن تتعاقدوا مع مؤلف اللحن، فاتصلتْ بي وأخبرتني رغبة الشركة بوضع الأغنية على أسطوانة، فقلت لها لا مانع لديّ، بعد أن نتفق على الأمور المالية، وفعلًا وقعت معهم عقدًا لوضع الأغنية على أسطوانة، بعد إعادة تسجيلها في لبنان مع فرقة عبود عبد العال مقابل عشرة آلاف ليرة لبنانية، وكانت الليرة اللبنانية أيامها لها قيمتها (حوالي نصف دولار أميركي). من هنا كانت بدايتي في عالم التلحين. وبدأ اسمي يلمع، فحتى فهد النجار، الذي رفضني مغنيًّا، جاءني وسألني (ما بطلعناش عندك لحن حلو زي هذا اللحن)، فقدمت له لحنًا من كلمات حسني فريز "ربيع بلادي". إسماعيل خضر طلب مني لحنًا أيضًا، وقدمت له "عيون حبيبي نعسانة"، كلمات نبيل عساف. سامي الشايب طلب مني بدوره لحنًا. تقريبًا كل المطربين الأردنيين المعروفين أيامها طلبوا مني ألحانًا. كما لحنت أيامها لمحمد وهيب أغنية "سليمى"، كلمات حسني فريز. ثم جاء الدور على دلال شمالي، وكانت أيامها من المطربات اللاتي يشار إليهم بالبنان، وعبد الوهاب من الذين أعطوها ألحانًا (قصيدة نجوى)، وعند وصول دلال إلى الأردن، كان قد تغيّر مدير الإذاعة، وأصبح ضياء الدين الرفاعي (أبو طالب) هو مدير الإذاعة، فناداني وكلّفني بتلحين أغنية لدلال شمالي، والأغنية هي "يا موطني روحي فداك وفدا البطولة في حماك وفداء كل مقدس في ضفتيك وفي رباك" لشاعر شباب فلسطين محمود الأفغاني. نجحت هذه الأغنية أيضًا. لحنت لصبري محمود قصيدة "يا هند" من كلمات مصطفى وهبي التل. عادت هيام يونس إلى الأردن مرّة ثانية، فلحنت لها أغنية "عالعافية عالعافية" من كلمات محمد جبيل، ولحنت لها "ليت الوقوف بوادي السير إجباري" من كلمات عرار. وقد بدأت مع نهاية ستينيات القرن الماضي ببناء اسمي بشكل سريع ولافت. لحنت للمطربة سماهر "مرفوع الراية" من كلمات حيدر محمود.
سميرة توفيق
يتابع روحي شاهين كلامه:
عندما تسلم نصوح المجالي منصب مدير الإذاعة بعد الرفاعي، وبينما نحن نستمع إلى "مرفوع الراية" عنده في المكتب، فقد كان يشترط أن لا تبث أي أغنية على الهواء إلا بعد أن يسمعها بنفسه، وإذا بسميرة توفيق تدخل مكتبه، فأومأ لها أن تجلس من دون أن تتكلم وتسمع معنا. بعد انتهاء الأغنية، شكرني، وقال لي إننا توفقنا فيها كلمات ولحنًا وأداء.
"بعد إعجاب سميرة توفيق باللحن الذي قدمته لها، ناداني المدير نصوح المجالي، وقال لي إنك الآن مؤتمن على الأغنية الأردنية والخط السائر عليه هو الخط الصحيح، والمطلوب منك الآن اكتشاف أصوات أردنية" |
وإذا بسميرة توفيق تسأل: لمين هاللحن الجميل الراقي، فأخبرها أنه لي. أشادت سميرة توفيق باللحن، ورأت فيه نقلة على صعيد الأغنية الأردنية. فسألها مدير الإذاعة "ليش هو روحي لم يلحن لك؟"، فقالت له: لا أتذكر أنه لحّن لي. فأنا علمي به عازفًا في الفرقة، وليس ملحنًا. ثم إن جميل العاص، وتوفيق النمري، لا يسمحان لغيرهما أن يلحن لي، فقال لها: "لازم توخذي لحن من روحي". في ذلك الوقت، كان لديّ نص لسليمان المشيني اسمه "فدوى لعيونك يا أردن" متروك فوق (استاند) في بيتي، وكنت أخذته منه قبل أربع سنوات من اللقاء بيني وبين سميرة توفيق في مكتب مدير الإذاعة، وكل يوم يسألني المشيني: هل لحنته؟ ويقول لي "يا ابن الحلال ما تلحن هالنص"، فأخبره "لا والله ما هو طالع معي لحن له". فاللحن لا وقت له، وبعد أربع سنوات من وجوده أمامي، وإذا بي في ساعتين أنجز لحنه بعد أن طلب مني المدير تقديم لحن لسميرة توفيق. في اليوم الثاني، وصلتُ الإذاعة ومعي اللحن، فوجدت سميرة توفيق جالسة في مكتب سليمان المشيني، ومعهما جميل العاص، فطلب مني جميل أن أسمعها اللحن في مكتب المشيني، فقلت له لا أسمعها إياه هنا، بل عليها أن تأتي إلى الأستوديو وتسمعه مع الفرقة، فقال لي: هنا أستر، حتى لا تحرجك أمام الفرقة إن كان لديها ملاحظات على اللحن، أو لم يعجبها.. فقلت له "والله لا أسمح حتى لعبد الوهاب أن يقلل من شأن لحن من ألحاني، كما إنني لا أغير جملة لحنية واحدة من لحن لي". اعتبره جنونًا، اعتبره (شوفة حال هادا اللي أجاك). فقد كان المعروف أن سميرة توفيق تتدخل بالألحان، وتجري عليها أكثر من تعديل، وهم كانوا يقبلون بذلك. قال جميل العاص (أووووف)، فقلت له: كما أقول لك، تتفضل إلى القاعة وتسمع اللحن، أعجبها كان به، لم يعجبها يا دار ما دخلك شر. في العادة، أقوم بإغلاق باب القاعة عندما أسمع الفرقة لحنًا، فإذا بسميرة توفيق تسمع اللحن من وراء الباب، ثم تفتح الباب وتشير بيدها بعلامة الإعجاب باللحن. بعد إعجابها باللحن، ناداني المدير نصوح المجالي، وقال لي إنك الآن مؤتمن على الأغنية الأردنية والخط السائر عليه هو الخط الصحيح، والمطلوب منك الآن اكتشاف أصوات أردنية. فصببت كل جهودي بعد ذلك على تحقيق رغبته، والبحث عن أصوات أردنية واعدة، فأعددت برنامج "هواة وراء الميكروفون"، وكنا نسجله يوم الجمعة كي أعطي فرصة للعاملين والطلبة والموظفين أن يشاركوا فيه. أول صوت اكتشفته صوت فارس عوض. سمعته يغني بعرس في مادبا فأعجبني صوته، فعينته بالإذاعة، ولحنت له أولى أغنياتة "لولا الأمر لله" من كلمات رياض زيادات. نجح فارس عوض حتى أصبح أيامها المطرب الأردني الأول. ثم اكتشفت عدنان شهاب، أيضًا سمعته في عرس، فوجّهت له دعوة كي يزور الإذاعة، ولحنت أولى أغنياته "بطل الملاعب أردني" من كلمات محمد جبيل. إبراهيم خليفة كان ثالث من اكتشفتهم، وأثبت نفسه كمطرب وملحن ومؤلف. اكتشفت هالة هادي، ولحنت لها "طير يلا يا حمام" من كلمات نايف أبو عبيد. رويدا العاص لحنت لها "أردنية أنا"، من كلمات مصطفى المغربي. اكتشفت محمد خير، ولحنت له "أنا العزيز بموطني"، من كلمات عارف اللافي. أنجزت خلال مسيرتي 500 لحن، وقد أنجزتها قبل وصولنا منتصف تسعينيات القرن الماضي. ويقول روحي شاهين في المقابلة: "إن الإذاعة الأردنية أخذت على نفسها في ستينيات القرن الماضي عهدًا أن تنهض بالأغنية الأردنية، وتمنحها هوية وملامح ولهجة أردنية، إذ كان وصفي التل شخصيًا يتابع تحقيق هذه التطلعات. وهو ما شهر حتى غير الأردنيين، فسميرة توفيق حققت شهرتها من خلال الأغنية الأردنية، ولم يكن يعرفها أحد قبل ذلك، لدرجة أن معظم أبناء دول الخليج العربي يعتقدون أنها أردنية".
شاهين يرى أن إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية حافظت على مستوى الأغنية الأردنية وسويتها: "كانت هنالك لجنة لمراقبة النص، وأخرى لمراقبة اللحن، وثالثة لمراقبة الأداء، ولجنة رابعة للحكم على الأغنية بعد تسجيلها أيضًا. فالأغنية كانت تمرّ بمراحل. شعراء كبار كانوا يحكمون على الكلمات. وملحنون كبار كانوا يقيّمون اللحن".
"أول صوت اكتشفته صوت فارس عوض. الثاني عدنان شهاب. إبراهيم خليفة كان ثالث من اكتشفتهم. اكتشفت أيضًا هالة هادي، ورويدا العاص، وحمد خير" |
يوضّح شاهين: "الإذاعة أخذت على عاتقها نشر الأغنية الأردنية نصًّا ولحنًا وأداء. نصوح المجالي قال لي لا نريد أن نقلّد الأغنية المصرية، رافضًا إدخال آلة الغيتار إلى الفرقة".
وحول مديري الإذاعة الذين عاصرهم، يتذكّر شاهين منهم: منير الدرّة. جرير مرقة. رافع شاهين. سليمان المشيني. قبل هؤلاء: أمين أبو الشعر، بعد عبد الحميد شرف مباشرة. ساري عويضة. مروان دودين.
أما أول مدرس عود في الإذاعة، فهو شاهين عبد الكريم عوض. خضر عزام كان مدرس كمان (وهو من أوائل عازفي الكمنجة في الأردن).
وحول وضع المؤسسات والمعاهد الموسيقية في ذلك الوقت، يقول: "تدريب الموسيقى كان فرديًّا، ولم تكن هناك مؤسسات، أو معاهد، تقوم بتدريس الآلات الموسيقية".
وعن آلة التشيلو، يقول: "آلة صعبة، ولم يكن هناك إقبال عليها من متعلمي الموسيقى والراغبين في العزف".
ومن أهم العازفين الذين عاصرهم كما يورد: "الموسيقار وعازف الكمان، عطية شرارة، وعملت مساعدًا له فترة من الزمن خلال إدارته معهد الموسيقى التابع لوزارة الثقافة".
ويضيف: "عاصرت الموسيقي إلياس فزع، عازف البيانو والأكورديون والكمان، وهو ممن يشار إليهم بالبنان. كما عاصرت العازف جليل ركب (عازف قدير). كرامة حداد (عازف قدير وملحن). عيسى البلّه، عازف كمان وملحّن. محمد الأدهم، عازف كمان وملحّن. أنطون شمعون، عازف كمان أول، وقائد فرقة الإذاعة. سمير بغدادي، عازف كمان وقائد فرقة. جورج أسعد، عازف كمان أول، وقائد فرقة. أسعد جورج، عازف كمان وعود شهد بعزفه محمد الموجي. عازف الناي أنطون حجّار. عازف الكمان فؤاد ملص. عازف الإيقاع محمود هنا. عازف الدف والرق سعيد هنا. عازف الدرامز. شفيق وحيد، وهو قائد فرقة الكورال، ومطرب".
يقول شاهين: "رغم تواضع إمكانيات الفرقة الموسيقية للإذاعة، إلا أن أداءها كان جيّدًا. الإذاعة كانت مسموعة، والأغنية الأردنية كانت مسموعة، رغم بعض التحفظات الاجتماعية، فبعض العادات كانت منغلقة على الموسيقى والغناء، وكنّا نجد صعوبة عندما نبحث عن مطربة. لم تكن هنالك مقارنة بين عدد المطربين وعدد المطربات، المطربون كانوا كثيرين. لم يكن هناك سوى القليل من المطربات (عيب وحرام)".
وحول مستوى موسيقيي الإذاعة في ذلك الوقت، يقول: "كل الموسيقيين الذين كانوا يعملون في الإذاعة كانوا أصحاب خبرة ومؤهلين، وعلى دراية عميقة ووافية بالأنغام والمقامات، مثل رامز الزاغة، عازف العود المخضرم".
ويتابع: "الفرقة الموسيقية في الإذاعة حافظت على مقامات الغناء الشرقي بشكل عام، والأردني بشكل خاص. وكبار المسؤولين كانوا يرفضون إدخال أي آلة غربية إلى الفرقة. الأغاني التي قدمت من خلال قسم الموسيقى في الإذاعة نجحت، وتسابق أيامها المطربون العرب للمشاركة في موسم النجاح الموسيقي الأردني. وديع الصافي غنّى الأغنية الأردنية. هدى سلطان، وفيروز، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، ووردة الجزائرية، كانوا يرون فيها أغنية ملتزمة، وبقيت الإذاعة محافظة على الأغنية الأردنية حتى مطالع تسعينيات القرن الماضي، مع ظهور الاستوديوهات الخاصة التي أسهمت مساهمة كبيرة في إحباط الأغنية الأردنية الملتزمة، وتوجيه ضربة قاصمة لها، وفلتت زمام الأمور ولم تعد الإذاعة قادرة على المحافظة على الأغنية الأردنية بصورتها وهويتها وسطوعها السابق". أما عن التلحين الذي أسهم فيه شاهين إسهامات محلية وعربية ساطعة، فيرى أن التلحين موهبة، ويقول: "ليس كل موسيقي قادر على التلحين. كثير من العازفين الكبار لم يستطيعوا التلحين. مرّة قال لي عبود عبد العال يا ريتني أستطيع تلحين أغنية واحدة، رغم أنه من أهم عازفي الكمان في العالم العربي".
ويضيف: "التلحين مثل أن ترسم لوحة جميلة وأنت لم تدرس الفن التشكيلي أكاديميًّا، ولم تدرس تاريخ المدارس التشكيلية وسماتها وأهم أعلامها. لا شك أنك بحاجة إضافة للموهبة أن تلم بمقامات الغناء العربي والشرقي، ولكن الموهبة تأتي أولًا، والأذن الموسيقية القادرة على التقاط النغم، وما يناسب هذه الكلمات وما يناسب غيرها. لا يستطيع أن يلحن من يجهل المقامات ودرجاتها وتقاسيمها وأنغامها".
يعود شاهين لحديث البدايات مرّة ثانية: "وأنا في مدرسة الوكالة في مخيم الحسين كنت أشترك في الأناشيد، وكان أساتذتي يلاحظون تميزي بالميزان، وإتقان اللحن، وأنّ لديّ إمكانية التعبير عمّا يجيش في داخلي".
ثم يعود لمواصفات الملحن وفكرة التلحين: "الملحن كما أسلفت مثل الرسام، وبمجرّد أن يسمع كلمات أغنية راقت له فورًا يبدأ دندنتها. وأنا صغير كنت من هواة قراءة الصحف، وكنت كلما وقعت على قصيدة في الجريدة أبدأ بدندنتها ملحّنة. مرّة، صنعت تشيلو من غالون بلاستيك (زي الربابة يعني)، بعد أن وضعت له وترًا من ذنب خيل. وبمجرد أن أسمع أغنية في راديو، أو شيئًا من هذا القبيل، أركض وأسمعها بانتباه وتركيز. وعندما كان يقام في حارتنا أي عرس أركض إليه لأسمع أغاني ذلك العرس".
أما أول مقطوعة موسيقية ألّفها، فيكشف شاهين أنها مقطوعة اسمها "إلهام" على اسم زوجته.
ويتذكر بكثير من الشغف مغناة "رحلة نغم" بصوت المجموعة التي تجوب جهات الوطن، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه.
ولندع روحي شاهين يتحدث على طريقته، ويواصل إمتاعنا وإعلامنا بجزء مهم من النبض الموسيقي الأردني خلال مئة عام:
ـ "من تأليفي مقطوعة "تحية" قدمت في مهرجان جرش.
ـ نشيد جامعة مؤتة من ألحاني. "هاشميان جناحاك"، من كلمات حيدر محمود.
ـ نشيد جامعة الزيتونة من ألحاني. نشيد جامعة جرش من ألحاني. نشيد كلية المجتمع العربي من كلمات حيدر محمود. نشيد سلاح الجو من ألحاني. نشيد سلاح المدفعية من ألحاني، من شعر حيدر محمود. نشيد سلاح الدبابات من ألحاني وشعر حيدر محمود. مغناة "نهر الأنبياء" من ألحاني وشعر حيدر محمود.
طلب مني معن أبو نوار مدير التوجيه المعنوي أيامها أن نشرك فيروز في المغناة، فرفضت، رغم أنه كان قد أخذ موافقتها، وعندما سألني لماذا أرفض، قلت له لأنها إن نجحت سيقولون إن فيروز هي التي أنجحتها، واستعضت عن فيروز بغادة محمود، وصبري محمود، ومحمد وهيب "ينساب اسم الله حادي ركبه".
"بعض العادات كانت منغلقة على الموسيقى والغناء، وكنّا نجد صعوبة عندما نبحث عن مطربة. لم تكن هنالك مقارنة بين عدد المطربين وعدد المطربات. المطربون كانوا أكثر بكثير" |
في كثير من ألحاني كنت آخذ رأي أم نضال (زوجته)، ومن رأيها أستمزج رأي الناس في الشارع. بعد أن أنجز اللحن أسمعها إياه، وأسألها: هل اللحن سلس على الأذن، أجيبيني ليس بوصفك زوجة روحي شاهين، بل بوصفك مستمعة، مثل أي مستمع من عموم المستمعين. وفي كثير من الأحيان كنت آخذ برأيها وأغيّر اللحن.
الموسيقى حققت لي شغفي. هذبت أخلاقي، وجعلتني أنبذ العنف والغضب والتشنج والتوتر، ومن وحيها ربّيتُ أولادي على الهدوء والاحترام. نقّت روحي. شربتها طفلًا، واقتحمت عالمها شابًا، وأتقنتها ناضجًا، ولمعت فيها وأخلصت لها وأخلصت لي. الموسيقى بلورت صورة عائلتي. كما أنها أنصفتني ماليًّا، إذ منحتني وأسرتي بحبوحة في أوقات كانت البحبوحة نادرة في بلدنا. فربّيت أولادي أفضل تربية، وأدخلتهم أفضل المدارس وأعرقها. الموسيقى حققت لي نجاحات كبرى، ولا أنكر أنني نجحت كموسيقي وكملحن، فهي شهرتني محليًّا وعربيًّا. سافرت بسبب الموسيقى، ورأيت كثيرًا من الدول العربية والأجنبية. وفي المقابل، أخذت مني عمري كلّه. فقد شغلتني آناء الليل وأطراف النهار، وفي كثير من الليالي عندما كان أترابي يسهرون ويمرحون كنت أتفرغ في تلك الليلة لتأليف لحن جديد. حرمت من ارتياد دور السينما، وزيارة الأهل والأصدقاء والأقارب، فكل وقتي كان مكرسًا للموسيقى.
أنا من مواليد مدينة الرملة الفلسطينية بتاريخ 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1937. أرتدي النظارات السوداء منذ عام 1967، بسبب خطأ طبي.
تزوجت في الثلاثين من عمري، وهذا أمر لم يكن شائعًا أيامنا، إذ كان الزواج وقتها في سنٍّ أقل من ذلك، يعني للرجال في مطالع العشرينات، وللنساء كن يتزوجن قبل أن يبلغن العشرين من أعمارهن، ولكنني، بعد عودتي من مصر، وحصولي على الدرجة العلمية في العزف، أخذت على عاتقي عهدًا أن لا أتزوج إلا وأنا جاهز ماليًا، ولديّ سيارة وبيت. ولكن بعدما قابلت أم نضال، وصار النصيب، غيرت قليلًا بعض خططي، وتزوجنا وجاء الرزق بعد ذلك. كما أني أصبحت الابن الوحيد لدى أمي غير المتزوج، وظلت تلح عليّ، وتقول لي إن الابن في الشباب لا يعوّض. والحمد لله ربنا أكرمنا، ولم نحتج لأحد في حياتنا.
من لا يشكر الناس لا يشكر الله. بالنسبة لي الدولة كرّمتني ونلت، عمومًا، قدرًا وافيًا ومعقولًا من التكريم، قد لا يكون التكريم الذي أستحقه، لكنني أفضل من غيري. وإن كنت لم أنل ولا أي وسام، لكنني في المقابل حصلت على جائزة الدولة التقديرية.
مرّتين نُسِّب لي بوسام، ويسحب في اللحظة الأخيرة، وأتبلغ، ثم يجري العدول عن قرار منحي وسامًا. المرّة الأولى في مؤتمر الوفاق والاتفاق عام 1980، وكنت لحّنت أغنية المؤتمر "عمّان قلبك من ذهب"، من كلمات محمد أمين سقف الحيط، وفي اللحظة الأخيرة لم أمنح أيامها الوسام، وحوّل وزير الإعلام أيامها محمد الخطيب الوسام إلى غيري. أحد الوزراء قال لي مرّة إن وسامي الحقيقي هو ألحاني.
اختلف مديرو الإذاعة المؤسسون حول اللهجة التي يريدون أن تسير عليها أغاني فرقة الإذاعة، مرّة يأتي مدير متشدد بضرورة استخدام اللهجة الأردنية الخالصة (وصفي التل، وهزاع المجالي، وتوفيق النمري، على سبيل المثال)، ومرّة يأتي من يحوّل الوجهة نحو اللهجة البيضاء التي يمكن أن يفهمها العرب أجمعين (ساري عويضة، وجميل العاص، ونصوح المجالي، على سبيل المثال).
بالنسبة لي شخصيًّا، نوّعت في ألحاني، وحاولت تقريب المسائل، وتعاملت مع كلمات باللهجة الأردنية الخالصة، وأخرى باللهجة البيضاء، وقصائد باللغة العربية الفصيحة. لم أضع نفسي في قالب لحني واحد، ولم أتعامل مع نمط كتابة كلمات واحد.