"موسيقى العبيد".. صرخات الجذور خلف المحيطات
محمد جميل خضر 27 فبراير 2022
موسيقى
فرقة كناوية من المغرب
شارك هذا المقال
حجم الخط
رغم الالتباس الذي قد يصنعه عنوان الموضوع، إلا أن مصطلح "موسيقى العبيد" هو التسمية التي جرى التعارف عليها، والتواطؤ حول قبولها، خلال الحديث عن موسيقى "الكناوة". وهما بتجاورهما معًا- "موسيقى العبيد"، و"كناوة"- باتا يشكّلان المردود المتواصل حتى يومنا هذا لِموسيقى صنعتها صيحات الجذور في وجه عبودية جائرة، عندما جاء المستعمِر الغربيّ الأوروبيّ، مطالع القرن السادس عشر، إلى عُقْرِ بيوت الأفارقة، واقتلع الناس من منابت نبضهم، وساقهم (عبيدًا) إلى بلاده ومستعمراته.
وهو هنا لوضع النقاط على الحروف. فآلاف الأفارقة ببشرتهم السمراء المطحونة بشمس الحياة، المعجونة بوهج العناصر، حوّلتهم ماكينة رأس المال القاسية الصمّاء، بين ليلة وضحاها، إلى عبيد، يباعون ويشترون في أسواق خُصِّصت لِتجارة الرقيق، ويؤمرون أن يعملوا وفق ظروف لا إنسانية، في إثمٍ تاريخيٍّ لا يُنسى ولن يُنسى، بل سوف يبقى وصمة عار لن يتحلل البشر من جرائرها وتبعاتها، إلا بتصويب كل ما يتعلّق بهذا العار، ودفع استحقاقات ما نتج عنه عبر الزّمان والمكان.
إن الموسيقى فعلٌ إنسانيٌّ طليعيٌّ بليغُ الدّلالة قويُّ الأثر، وهو يتعارض، شكلًا ومضمونًا، مع مفهوم العبودية وتجسّداتها على الأرض، وبالتالي فإن "موسيقى العبيد" هو مصطلح يدحض ذاته من ذاته، ويحمل موجبات انهياره فور النُّطق به. هو مصطلح استفزازيّ من أجل كراهية العبودية من جهة، والانتصار لموسيقى من ابتلوا بها من جهة ثانية.
وحتى يومنا هذا، لا يزال أنين موسيقى الوجع يجري مجرى الدمع في المآقي، يغرز صدى إيقاعاته وصنجاته وهوائياته في مطارح الكلْم الغائر فوق وجه الحياة، الضارب جذوره بعيدًا في سرديات الأحلام، عندما كانت أكثر هذه الأحلام تمردًا، أن يرتدي (العبد) ما يريد، ويأكل ما يشتهي، وينام من أجل هذا الحلم عندما يحتاج جسده هذه الهجعة القصيرة، قبل يوم عبودية شاق وطويل ومرير.
الكناوة
"الڭناوة"، أو "الغّْناوة"، أو "الڨناوة" هم مجموعة إثنية في المغرب العربي ينحدرون من "سلالة العبيد" الذين استجلبوا في العصر الذهبي للمغرب العربي (نهايات القرن 16 الميلادي) من أفريقيا السوداء الغربية، التي كانت تسمى آنذاك السودان الغربي، أو إمبراطورية غانا (دولة مالي الحالية، على الخصوص). ومفردة "كناوة" هي تحريف لكلمة "كينيا" (غينيا)، أو "عبيد غينيا"، كما كانوا دائمًا يُسمون، قبل اندماجهم التام في المجتمع المغاربي.
وحتى يومنا هذا، ما تزال "الطريقة الكناوية" موجودة في العديد من المدن والقرى المغاربية، خصوصًا في مدن مراكش والصويرة والرباط ومكناس، وتحظى مدينة الصويرة بمقام المدينة الروحية للطائفة داخل المغرب، ومدن جزائرية مختلفة؛ من بينها: ورقلة، ومستغانم، وغرداية، وبشار.
وتاريخيًّا، ارتبطت مفردة كناوة بإيقاعات موسيقية وصلت إلينا حاملةً اسمًا يذكّرنا بالقوافل التي كانت تعبر الصحراء محمّلة بالعبيد من غينيا، أو تومبوكتو (مالي)، مُتّجهةً إلى شمال أفريقيا.
وهي تشير إلى موسيقى صوفية ألحانها متكررة وعميقة، تجعل المستمعين في حالةٍ من النشوة، من خلال الأناشيد والابتهالات إلى الله، مع أصوات موسيقية صادرة عن الكمبري (آلة موسيقية وترية قديمة وتقليدية تُصنع أساسًا من الحطب [غالبًا جسم محفور من جذع الأشجار]، ومغطى في جهة العزف بجلد الإبل)، مع إيقاع طبولٍ تتخلله بعض أصوات آلة الكاستانيت المعدنية (آلة إيقاعية تستخدم في الموسيقى المغربية، والعثمانية، والمصرية والرومانية القديمة، والإيطالية والإسبانية والبرتغالية ودول أميركا اللاتينية)، التي تشبه الصناجات، وتجعل الإيقاع سريعًا حتى يصل المريدون إلى المرحلة التي يسمّونها "الجذبة"، أو النشوة.
يقال إن مصدر الكناوة هو السودان. ويقال إنها مرتبطة بكينيا، وهي كلمة دارجة ومستخدمة في منطقة سوس (في الجنوب الغربي للمغرب)، ويعود أقدم توثيق لهذا الاسم، إلى أوائل القرن التاسع عشر.
وبحسب لجنة كلّفتها الأمم المتحدة في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2019، بتقييم ترشيحات الدول الأطراف في اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي (2003): "تشكّل (الكناوة) تجسيدًا، صادحًا واضحًا، للتراث العالمي الذي ينبغي على الجميع الإسهام في حمايته". وكانت اليونسكو وصَفَتْها في سياق ذلك الاعتراف، بأنها "مجموعة من الفعاليات الموسيقية والعروض والممارسات والطقوس العلاجية التي تمزج بين الدنيوي والمقدّس".
ليس للكناوة موسم أو توقيت مُحدّد في السنة، ويمكن أن تسمع ألحانها يوميًا على مدار العام بالبيئات الريفية وفي المدن، وتُعزف بالكمبري، أو تُمزج مع موسيقى غربية، ويرقص عليها الكناويون في كل مكان.
في المغرب، تجمع الكناوة بين الفن الأفريقي والتأثر بالفن العربي الإسلامي، والعروض الثقافية البربرية المحلية. وفي الأميركيتين تمثّل روح الأفارقة الذين سيقوا (عبيدًا) إلى هناك. كما تعبّر، في سياق متصل، عن نضال الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية الذين قدِموا إلى المغرب في عشرينيات القرن العشرين عبر باريس، وجعلوا الكناوة موسيقاهم المفضلة؛ لأنها تذكّرهم بجذورهم.
الكناوة والجاز
عالميًا، يعود انتشار الكناوة إلى سبعينيات القرن الماضي، حين اندمجت مع موسيقى الجاز ("موسيقى العبيد" في الولايات المتحدة). في هذا السياق، نظّم الموسيقي الأميركي، راندي ويستون (1926ـ 2018)، في عام 1972، مهرجانًا كبيرًا لموسيقى الجاز في طنجة. في هذا المهرجان، تحقق التلاقي الدّال بين آلات الموسيقى الأفريقية في نسختها الأميركية، مع الآلات الأفريقية في نسختها المغاربية، وتعانق الساكسفون مع الكمبري، وباقي الصناجات التي تحمل النساء بعض أنواعها بين أصابعهن.
إرهاصاتها الأولى في شمال أفريقيا ظهرت قبل ذلك، وتحديدًا في عام 1969، إبان احتفال الجزائر بالوحدة الأفريقية، من خلال مهرجان كبير أقيم أيامها هناك.
ويستون الذي عاش في المغرب ثماني سنوات من الإفلاس الحزين، حقق ألبومه الذي أطلقه بعد عودته إلى نيويورك مبيعات غير متوقّعة. فقد حظي مستمعوه بموسيقى خصبة التلاقح، عميقة الدلالات، صوفية الوجهات، موجوعة النواحات، عابرة المحيطات.
قضى ويستون، الذي كان يمتلك ناديًا للجاز في طنجة، حياته كلها ذهابًا وإيابًا، وعزف مع أحد فرق الكناوة، لتلتقي براعته في الجاز مع تناغم الموسيقى المغربية "كأنك تستمع بجمال الخيول العربية وهي تغرس قدمًا في قلب الصحراء، وقدمًا أخرى في حواري نيويورك، وشوارع الغضب القديم الذي لا ينتهي".
يرى الكناويون أن الأدوات الموسيقية مقدّسة، وينقل المُعلم هذا اللقب الفخري عن طريق توريث آلة الكمبري خاصته إلى أحد المريدين، الذي يُنصّب بعد ذلك بهذه الصفة.
والكناوة من الفنون التي انتزعت النساء، كما الرجال، مساحة لائقة في عالم مقاماتها وتضاريس حضورها. وقفن فوق منصات المسارح المغاربية، وعزفن على الكمبري ببراعة، ومنهنّ من اقتحمن الساحة برغبتهن، ومنهنّ من توارثن الفن عن الآباء، كما هي حال الفنانة أسماء حمزاوي (1998) التي استطاعت تخليد هذا الفن رغم صغر سنها.
وحمزاوي هي أصغر سفيرات فن كناوة، وزعيمة فرقة بنات تومبوكتو. ورثت فن الكناوة عن والدها، رشيد حمزاوي، وتعلمت منه العزف على آلة الكمبري في سن مُبكرة، وكانت تُرافقه في الحفلات والمهرجانات. من الموضوعات التي تتناولها في أغانيها وموسيقاها: بعد المسافة، المعاناة، ذاكرة أفريقيا الحاضرة في كل مكان. شاركت مع الممثلة والمغنية المالية، فاتوماتا دياوارا، في مهرجان كناوة في دورته لعام 2018، لتتشاركا حب التراث الفني الأفريقي والعمل على استدامة الثقافة الكناوية. وأقامت عشرات الحفلات في بلدها المغرب، وعدد من بلدان أفريقيا وأوروبا.
طقوس الموسيقى الكناوية
تعكس الموسيقى الكناوية تجليات التنوّع العرقي الأفريقي في بلاد المغرب العربي، وعلاقته مع أعماق الصحراء. إنها حكاية أناس وصلوا إلى المغرب قاطعين البحار والمحيطات لِيبثّوا في القرى أغانيهم الدافئة، وألوانهم البهيجة. ولتعكس سحناتهم السمراء الهادئة طيبة أرواحهم، ولتنبض رقصاتهم المفعمة بالحركة والنشاط والحيوية والحياة بأنفاس وجودهم، ودماء معتقداتهم. جاؤوا من أعماق الصحراء لبث الحياة في شمال أفريقيا وتلوينها بثقافة وألوان جديدة. "كناوة" المخلصين لإيقاعات الغابة الأفريقية التي يرددها "الكانكاه" (الطبل الكبير)، والقرقبات والهجهوج. نقف أمامهم أو نسمعهم ونحن مارّين، فيمارسون علينا سحرهم "الميتافيزيقي" برقصاتهم ودقّاتهم وأشجانهم، فإذا بنا عبيدًا لعبيد الأمس.
منحنا الكناويون موسيقى جابت العالم بفعل تفرد إيقاعاتها وتميّزها. وحين تبلغ "الكناوة" ذرى بهجتها، فإنها قد وصلت مرحلة جرى التعارف على تسميتها بـ"الجذبة" التي تعني في ما تعنيه تجاوز الإنسان لحدوده، وكسر ثوابت الفكر الغربيّ المنهجيّ العقلانيّ. فالجذبة في ذروة صعودها هي رحيق ربّانيّ، انتشاء، تحرّر وشفاء، فرح وخلاص وتصفية للذات، حياة وتحرر وإبداع وإيقاظ للمكبوت في أعماق النفس والذاكرة. حيث يصبح كل طقس من طقوس "كناوة" عرسًا للجسد وللروح في آن معًا.
الليلة الكناوية
"الليلة الكناوية" هي مناسبة سنوية قمرية، يجري إحياؤها كل عام في العشرين من شهر شعبان. وفي طليعة طقوسها التطواف الذي يبدأ فترة ما بعد الزوال، ويتجلّى بوصفه إعلانًا عن الليلة، ودعوة للمشاركة فيها، إذ يجوب المعلنون مختلف الأزقة والشوارع والساحات مرتدين "طاقيات" و"فوقيات" مختلفة الألوان مزدانة بالأصداف، مغتنمين الفرصة للرقص على إيقاعات دقات الطبول و"القراقب" حتى تحل فترة "الكويو" (أولاد بامبارا)، وهي تعني في العرف الكناوي البدء في الحفل الرسمي لليلة الكناوية، حيث يُستغنى فيها عن آلة الطبل لتعوّض بـ "الكنبري"، أو "الهجهوج"، ليشرع "المعلّم" الذي عليه أن يكون مُلِمًّا بمختلف مراحل الليلة، بالعزف على الكنبري مرافقًا راقصًا واحدًا، قبل أن يأتي دور رقصتين يؤديهما أربعة كناويين بشكلٍ جماعيّ. القسم الثاني من هذا الطقس يسمى بـ"النقشة" توظف فيه آلة "القراقب" إلى جانب الهجهوج، ويكون فيه الرقص جماعيًا. بعد (الكويو)، وبعد استراحة لبضع دقائق، تدخل الليلة الكناوية مرحلة (فتوح الرحبة)، يعمل فيها كناوة على توضيب المكان الذي ستجري فيه المرحلة الأخيرة من الليلة لإضفاء طابع القدسية عليه، حيث يتم وضع (طبق) أمام المعلم تحتوي على مختلف أنواع البخور والأقمشة ذات الألوان المختلفة، كل لون منها يرمز إلى "ملك" من (الملوك)، وتصحب عملية التحضير أذكار وإنشادات ذات دلالة ومعاني متعددة، ليتم الدخول مباشرة إلى القسم الأخير والأساسي من الاحتفال الكناوي والمسمى بـ "الملوك"، وهم في معجم كناوة (رجال الله) أي رجال ربانيون مؤمنون. يرتدي المريدون في هذا الطقس لباسًا ذا لون خاص يرمز إلى "ملك" خاص كاللون الأبيض الذي يرمز إلى "ملك" عبد القادر الجيلالي، والأحمر إلى سيدي حمو، والأسود إلى ميمونة، والأصفر إلى الأميرة، والأزرق إلى سيدي موسى، وهكذا دواليك.
وكل ذلك استعدادًا لدخول مرحلة الجذبة التي تكون مصحوبة بإيقاع صاخب ناتج عن آلات "القراقب" و"الهجهوج" و"الرش" (أي التصفيق بالأيدي). تصل الأمور ببعض المريدين أثناءها إلى حد فقدان الوعي، أو ضرب ذواتهم بأدوات حادة، أو المشي فوق شظايا الزجاج. وهو ما يعني أن (الجذاب)، أو (الجذابة)، وصل إلى أقصى درجات الانسجام والاندماج والتماهي مع الإيقاع، ومع الألوان، وبالتالي دخل في عالم هو غير عالمه الحقيقي.
أنفاس الحرية
وهو ينفخ في عنق الساكسفون، يتجلّى من يحمل داخل ثناياه ذاكرة موحشة لعبودية طالت أجداده وجدّاته، كما لو أنه يشهق قبل النفخ آهات الوجع، ويزفر من أحزانها أنفاس الحريّة. يشهق أحزانًا، ويزفر حرية.. يشهق أحزانًا، ويزفر حرية.. يذوب داخل تفاصيل الفكرة، يتلوّى مع تلوّي ألحان الساكس. يصعد مع صعود الطبقة.. ينحني وينثني مع هبوطها.
لا يكتفي (جاز) الباحثين في شوارع المتاهة عن موطئ قدم، بآلة الساكس، بل تتضمّن هوائيات موسيقى الجاز إضافة للساكسفون: "المترددة" أو "الترومبيون" وهي آلة نحاسية شبيهة جدًا بالساكس، تستخدم شريحة لتغيير درجة الصوت. كما تتضمّن "البوق" النحاسيّ الشبيه، أيضًا، بالساكس. كما أن "المزمار"، أو "الكلارينيت"، هو آلة مهمة من آلات موسيقى الجاز. وعلى صعيد الإيقاعات، فإن "الدرامز" يجمع في قائمته مختلف ما تحتاجه موسيقى الجاز من إيقاعات وصدى أصوات.
محمد جميل خضر 27 فبراير 2022
موسيقى
فرقة كناوية من المغرب
شارك هذا المقال
حجم الخط
رغم الالتباس الذي قد يصنعه عنوان الموضوع، إلا أن مصطلح "موسيقى العبيد" هو التسمية التي جرى التعارف عليها، والتواطؤ حول قبولها، خلال الحديث عن موسيقى "الكناوة". وهما بتجاورهما معًا- "موسيقى العبيد"، و"كناوة"- باتا يشكّلان المردود المتواصل حتى يومنا هذا لِموسيقى صنعتها صيحات الجذور في وجه عبودية جائرة، عندما جاء المستعمِر الغربيّ الأوروبيّ، مطالع القرن السادس عشر، إلى عُقْرِ بيوت الأفارقة، واقتلع الناس من منابت نبضهم، وساقهم (عبيدًا) إلى بلاده ومستعمراته.
وهو هنا لوضع النقاط على الحروف. فآلاف الأفارقة ببشرتهم السمراء المطحونة بشمس الحياة، المعجونة بوهج العناصر، حوّلتهم ماكينة رأس المال القاسية الصمّاء، بين ليلة وضحاها، إلى عبيد، يباعون ويشترون في أسواق خُصِّصت لِتجارة الرقيق، ويؤمرون أن يعملوا وفق ظروف لا إنسانية، في إثمٍ تاريخيٍّ لا يُنسى ولن يُنسى، بل سوف يبقى وصمة عار لن يتحلل البشر من جرائرها وتبعاتها، إلا بتصويب كل ما يتعلّق بهذا العار، ودفع استحقاقات ما نتج عنه عبر الزّمان والمكان.
إن الموسيقى فعلٌ إنسانيٌّ طليعيٌّ بليغُ الدّلالة قويُّ الأثر، وهو يتعارض، شكلًا ومضمونًا، مع مفهوم العبودية وتجسّداتها على الأرض، وبالتالي فإن "موسيقى العبيد" هو مصطلح يدحض ذاته من ذاته، ويحمل موجبات انهياره فور النُّطق به. هو مصطلح استفزازيّ من أجل كراهية العبودية من جهة، والانتصار لموسيقى من ابتلوا بها من جهة ثانية.
وحتى يومنا هذا، لا يزال أنين موسيقى الوجع يجري مجرى الدمع في المآقي، يغرز صدى إيقاعاته وصنجاته وهوائياته في مطارح الكلْم الغائر فوق وجه الحياة، الضارب جذوره بعيدًا في سرديات الأحلام، عندما كانت أكثر هذه الأحلام تمردًا، أن يرتدي (العبد) ما يريد، ويأكل ما يشتهي، وينام من أجل هذا الحلم عندما يحتاج جسده هذه الهجعة القصيرة، قبل يوم عبودية شاق وطويل ومرير.
الكناوة
"الڭناوة"، أو "الغّْناوة"، أو "الڨناوة" هم مجموعة إثنية في المغرب العربي ينحدرون من "سلالة العبيد" الذين استجلبوا في العصر الذهبي للمغرب العربي (نهايات القرن 16 الميلادي) من أفريقيا السوداء الغربية، التي كانت تسمى آنذاك السودان الغربي، أو إمبراطورية غانا (دولة مالي الحالية، على الخصوص). ومفردة "كناوة" هي تحريف لكلمة "كينيا" (غينيا)، أو "عبيد غينيا"، كما كانوا دائمًا يُسمون، قبل اندماجهم التام في المجتمع المغاربي.
"لا يزال أنين موسيقى الوجع يجري مجرى الدمع في المآقي، يغرز صدى إيقاعاته وصنجاته وهوائياته في مطارح الكلْم الغائر فوق وجه الحياة، الضارب جذوره بعيدًا في سرديات الأحلام" |
وحتى يومنا هذا، ما تزال "الطريقة الكناوية" موجودة في العديد من المدن والقرى المغاربية، خصوصًا في مدن مراكش والصويرة والرباط ومكناس، وتحظى مدينة الصويرة بمقام المدينة الروحية للطائفة داخل المغرب، ومدن جزائرية مختلفة؛ من بينها: ورقلة، ومستغانم، وغرداية، وبشار.
وتاريخيًّا، ارتبطت مفردة كناوة بإيقاعات موسيقية وصلت إلينا حاملةً اسمًا يذكّرنا بالقوافل التي كانت تعبر الصحراء محمّلة بالعبيد من غينيا، أو تومبوكتو (مالي)، مُتّجهةً إلى شمال أفريقيا.
وهي تشير إلى موسيقى صوفية ألحانها متكررة وعميقة، تجعل المستمعين في حالةٍ من النشوة، من خلال الأناشيد والابتهالات إلى الله، مع أصوات موسيقية صادرة عن الكمبري (آلة موسيقية وترية قديمة وتقليدية تُصنع أساسًا من الحطب [غالبًا جسم محفور من جذع الأشجار]، ومغطى في جهة العزف بجلد الإبل)، مع إيقاع طبولٍ تتخلله بعض أصوات آلة الكاستانيت المعدنية (آلة إيقاعية تستخدم في الموسيقى المغربية، والعثمانية، والمصرية والرومانية القديمة، والإيطالية والإسبانية والبرتغالية ودول أميركا اللاتينية)، التي تشبه الصناجات، وتجعل الإيقاع سريعًا حتى يصل المريدون إلى المرحلة التي يسمّونها "الجذبة"، أو النشوة.
يقال إن مصدر الكناوة هو السودان. ويقال إنها مرتبطة بكينيا، وهي كلمة دارجة ومستخدمة في منطقة سوس (في الجنوب الغربي للمغرب)، ويعود أقدم توثيق لهذا الاسم، إلى أوائل القرن التاسع عشر.
وبحسب لجنة كلّفتها الأمم المتحدة في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2019، بتقييم ترشيحات الدول الأطراف في اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي (2003): "تشكّل (الكناوة) تجسيدًا، صادحًا واضحًا، للتراث العالمي الذي ينبغي على الجميع الإسهام في حمايته". وكانت اليونسكو وصَفَتْها في سياق ذلك الاعتراف، بأنها "مجموعة من الفعاليات الموسيقية والعروض والممارسات والطقوس العلاجية التي تمزج بين الدنيوي والمقدّس".
ليس للكناوة موسم أو توقيت مُحدّد في السنة، ويمكن أن تسمع ألحانها يوميًا على مدار العام بالبيئات الريفية وفي المدن، وتُعزف بالكمبري، أو تُمزج مع موسيقى غربية، ويرقص عليها الكناويون في كل مكان.
في المغرب، تجمع الكناوة بين الفن الأفريقي والتأثر بالفن العربي الإسلامي، والعروض الثقافية البربرية المحلية. وفي الأميركيتين تمثّل روح الأفارقة الذين سيقوا (عبيدًا) إلى هناك. كما تعبّر، في سياق متصل، عن نضال الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية الذين قدِموا إلى المغرب في عشرينيات القرن العشرين عبر باريس، وجعلوا الكناوة موسيقاهم المفضلة؛ لأنها تذكّرهم بجذورهم.
الكناوة والجاز
راندي ويستون (يسار) مع TK Blue على "ساكسفون ألتو" في عيد ميلاد ويستون التسعين في قاعة كارنيغي في نيويورك (19/ 3/ 2016/ Getty) |
"تاريخيًّا، ارتبطت مفردة كناوة بإيقاعات موسيقية وصلت إلينا حاملةً اسمًا يذكّرنا بالقوافل التي كانت تعبر الصحراء محمّلة بالعبيد من غينيا، أو تومبوكتو (مالي)، مُتّجهةً إلى شمال أفريقيا" |
إرهاصاتها الأولى في شمال أفريقيا ظهرت قبل ذلك، وتحديدًا في عام 1969، إبان احتفال الجزائر بالوحدة الأفريقية، من خلال مهرجان كبير أقيم أيامها هناك.
ويستون الذي عاش في المغرب ثماني سنوات من الإفلاس الحزين، حقق ألبومه الذي أطلقه بعد عودته إلى نيويورك مبيعات غير متوقّعة. فقد حظي مستمعوه بموسيقى خصبة التلاقح، عميقة الدلالات، صوفية الوجهات، موجوعة النواحات، عابرة المحيطات.
قضى ويستون، الذي كان يمتلك ناديًا للجاز في طنجة، حياته كلها ذهابًا وإيابًا، وعزف مع أحد فرق الكناوة، لتلتقي براعته في الجاز مع تناغم الموسيقى المغربية "كأنك تستمع بجمال الخيول العربية وهي تغرس قدمًا في قلب الصحراء، وقدمًا أخرى في حواري نيويورك، وشوارع الغضب القديم الذي لا ينتهي".
يرى الكناويون أن الأدوات الموسيقية مقدّسة، وينقل المُعلم هذا اللقب الفخري عن طريق توريث آلة الكمبري خاصته إلى أحد المريدين، الذي يُنصّب بعد ذلك بهذه الصفة.
والكناوة من الفنون التي انتزعت النساء، كما الرجال، مساحة لائقة في عالم مقاماتها وتضاريس حضورها. وقفن فوق منصات المسارح المغاربية، وعزفن على الكمبري ببراعة، ومنهنّ من اقتحمن الساحة برغبتهن، ومنهنّ من توارثن الفن عن الآباء، كما هي حال الفنانة أسماء حمزاوي (1998) التي استطاعت تخليد هذا الفن رغم صغر سنها.
وحمزاوي هي أصغر سفيرات فن كناوة، وزعيمة فرقة بنات تومبوكتو. ورثت فن الكناوة عن والدها، رشيد حمزاوي، وتعلمت منه العزف على آلة الكمبري في سن مُبكرة، وكانت تُرافقه في الحفلات والمهرجانات. من الموضوعات التي تتناولها في أغانيها وموسيقاها: بعد المسافة، المعاناة، ذاكرة أفريقيا الحاضرة في كل مكان. شاركت مع الممثلة والمغنية المالية، فاتوماتا دياوارا، في مهرجان كناوة في دورته لعام 2018، لتتشاركا حب التراث الفني الأفريقي والعمل على استدامة الثقافة الكناوية. وأقامت عشرات الحفلات في بلدها المغرب، وعدد من بلدان أفريقيا وأوروبا.
طقوس الموسيقى الكناوية
تعكس الموسيقى الكناوية تجليات التنوّع العرقي الأفريقي في بلاد المغرب العربي، وعلاقته مع أعماق الصحراء. إنها حكاية أناس وصلوا إلى المغرب قاطعين البحار والمحيطات لِيبثّوا في القرى أغانيهم الدافئة، وألوانهم البهيجة. ولتعكس سحناتهم السمراء الهادئة طيبة أرواحهم، ولتنبض رقصاتهم المفعمة بالحركة والنشاط والحيوية والحياة بأنفاس وجودهم، ودماء معتقداتهم. جاؤوا من أعماق الصحراء لبث الحياة في شمال أفريقيا وتلوينها بثقافة وألوان جديدة. "كناوة" المخلصين لإيقاعات الغابة الأفريقية التي يرددها "الكانكاه" (الطبل الكبير)، والقرقبات والهجهوج. نقف أمامهم أو نسمعهم ونحن مارّين، فيمارسون علينا سحرهم "الميتافيزيقي" برقصاتهم ودقّاتهم وأشجانهم، فإذا بنا عبيدًا لعبيد الأمس.
"يعود انتشار الكناوة إلى سبعينيات القرن الماضي، حين اندمجت مع موسيقى الجاز. في هذا السياق، نظّم الموسيقي الأميركي، راندي ويستون (1926ـ 2018)، في عام 1972، مهرجانًا كبيرًا لموسيقى الجاز في طنجة" |
منحنا الكناويون موسيقى جابت العالم بفعل تفرد إيقاعاتها وتميّزها. وحين تبلغ "الكناوة" ذرى بهجتها، فإنها قد وصلت مرحلة جرى التعارف على تسميتها بـ"الجذبة" التي تعني في ما تعنيه تجاوز الإنسان لحدوده، وكسر ثوابت الفكر الغربيّ المنهجيّ العقلانيّ. فالجذبة في ذروة صعودها هي رحيق ربّانيّ، انتشاء، تحرّر وشفاء، فرح وخلاص وتصفية للذات، حياة وتحرر وإبداع وإيقاظ للمكبوت في أعماق النفس والذاكرة. حيث يصبح كل طقس من طقوس "كناوة" عرسًا للجسد وللروح في آن معًا.
الليلة الكناوية
"الليلة الكناوية" هي مناسبة سنوية قمرية، يجري إحياؤها كل عام في العشرين من شهر شعبان. وفي طليعة طقوسها التطواف الذي يبدأ فترة ما بعد الزوال، ويتجلّى بوصفه إعلانًا عن الليلة، ودعوة للمشاركة فيها، إذ يجوب المعلنون مختلف الأزقة والشوارع والساحات مرتدين "طاقيات" و"فوقيات" مختلفة الألوان مزدانة بالأصداف، مغتنمين الفرصة للرقص على إيقاعات دقات الطبول و"القراقب" حتى تحل فترة "الكويو" (أولاد بامبارا)، وهي تعني في العرف الكناوي البدء في الحفل الرسمي لليلة الكناوية، حيث يُستغنى فيها عن آلة الطبل لتعوّض بـ "الكنبري"، أو "الهجهوج"، ليشرع "المعلّم" الذي عليه أن يكون مُلِمًّا بمختلف مراحل الليلة، بالعزف على الكنبري مرافقًا راقصًا واحدًا، قبل أن يأتي دور رقصتين يؤديهما أربعة كناويين بشكلٍ جماعيّ. القسم الثاني من هذا الطقس يسمى بـ"النقشة" توظف فيه آلة "القراقب" إلى جانب الهجهوج، ويكون فيه الرقص جماعيًا. بعد (الكويو)، وبعد استراحة لبضع دقائق، تدخل الليلة الكناوية مرحلة (فتوح الرحبة)، يعمل فيها كناوة على توضيب المكان الذي ستجري فيه المرحلة الأخيرة من الليلة لإضفاء طابع القدسية عليه، حيث يتم وضع (طبق) أمام المعلم تحتوي على مختلف أنواع البخور والأقمشة ذات الألوان المختلفة، كل لون منها يرمز إلى "ملك" من (الملوك)، وتصحب عملية التحضير أذكار وإنشادات ذات دلالة ومعاني متعددة، ليتم الدخول مباشرة إلى القسم الأخير والأساسي من الاحتفال الكناوي والمسمى بـ "الملوك"، وهم في معجم كناوة (رجال الله) أي رجال ربانيون مؤمنون. يرتدي المريدون في هذا الطقس لباسًا ذا لون خاص يرمز إلى "ملك" خاص كاللون الأبيض الذي يرمز إلى "ملك" عبد القادر الجيلالي، والأحمر إلى سيدي حمو، والأسود إلى ميمونة، والأصفر إلى الأميرة، والأزرق إلى سيدي موسى، وهكذا دواليك.
وكل ذلك استعدادًا لدخول مرحلة الجذبة التي تكون مصحوبة بإيقاع صاخب ناتج عن آلات "القراقب" و"الهجهوج" و"الرش" (أي التصفيق بالأيدي). تصل الأمور ببعض المريدين أثناءها إلى حد فقدان الوعي، أو ضرب ذواتهم بأدوات حادة، أو المشي فوق شظايا الزجاج. وهو ما يعني أن (الجذاب)، أو (الجذابة)، وصل إلى أقصى درجات الانسجام والاندماج والتماهي مع الإيقاع، ومع الألوان، وبالتالي دخل في عالم هو غير عالمه الحقيقي.
أنفاس الحرية
وهو ينفخ في عنق الساكسفون، يتجلّى من يحمل داخل ثناياه ذاكرة موحشة لعبودية طالت أجداده وجدّاته، كما لو أنه يشهق قبل النفخ آهات الوجع، ويزفر من أحزانها أنفاس الحريّة. يشهق أحزانًا، ويزفر حرية.. يشهق أحزانًا، ويزفر حرية.. يذوب داخل تفاصيل الفكرة، يتلوّى مع تلوّي ألحان الساكس. يصعد مع صعود الطبقة.. ينحني وينثني مع هبوطها.
لا يكتفي (جاز) الباحثين في شوارع المتاهة عن موطئ قدم، بآلة الساكس، بل تتضمّن هوائيات موسيقى الجاز إضافة للساكسفون: "المترددة" أو "الترومبيون" وهي آلة نحاسية شبيهة جدًا بالساكس، تستخدم شريحة لتغيير درجة الصوت. كما تتضمّن "البوق" النحاسيّ الشبيه، أيضًا، بالساكس. كما أن "المزمار"، أو "الكلارينيت"، هو آلة مهمة من آلات موسيقى الجاز. وعلى صعيد الإيقاعات، فإن "الدرامز" يجمع في قائمته مختلف ما تحتاجه موسيقى الجاز من إيقاعات وصدى أصوات.