جماليات الغناء العربي.. ثياب المرأة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جماليات الغناء العربي.. ثياب المرأة

    جماليات الغناء العربي.. ثياب المرأة
    خطيب بدلة 26 فبراير 2022
    موسيقى
    عبد العزيز محمود غنى للمنديل والحاجب والقبقاب والشبشب
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    تقديم
    الغزل، تعريفًا، هو أحدُ أغراض الشعر.. والغناء، في المحصلة، تأديةٌ للشعر الغزلي بصوت رجل، أو امرأة، أو مجموعة (كورس)، يترافق مع موسيقى، وألحان، وأحيانًا رقص.. وهل كِتَابُ "الأغاني" الشهير، لأبي الفرج الأصفهاني، سوى مجموعة قصص وحكايات وأخبار عن مواقف يقال فيها الشعر المُلَحَّن المُغنى؟
    بما أن معظم الشعراء، عبر التاريخ، رجال، فإن الأمر الطبيعي أن يقع الغزلُ على المرأة، يختص بشكلها الخارجي، ويشيد بجماله، وتضاريسه، وتفاصيله الصغيرة.. وإن وجدت شاعرة، امرأة، فهي لا تستطيع التغزل بالرجل إلا ضمن حدود ضيقة، بسبب طبيعة مجتمعاتنا وثقافتنا، وأما شعر الإماء والجواري والقيان الذي عُرف في بعض مراحل العصر العباسي، فلم يجر تداولُه في كتبنا ومناهجنا، وبقي يحتل مكانًا صغيرًا في بعض المؤلفات التخصصية..
    قلت إن الغزل يتركز على الشكل الخارجي، لأنه من المستحيل أن تجد شاعرًا يتغزل بذكاء حبيبته، مثلًا، أو حكمتها، أو عمقها الفلسفي، أو بكونها قدمت شيئًا مهمًا للحضارة الإنسانية. (وهذا ليس مطلوبًا، بالطبع، فالغزل يبقى غزلًا، ليس فلسفة ولا حكمة.. والأشعار الغزلية الجميلة لا تتحدث عن الحضارة، ولكنها جزء من الحضارة، وتساهم في بنائها).
    وحقيقة الأمر؛ إن الشعراء العرب الكبار قدموا في الغزل صورًا خالدة. نذكر منها، على سبيل الاستضاءة، البيتين الرائعين اللذين قالهما الشاعر الأعشى في وصف محبوبته "هريرة":
    غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها
    تَمشي الهُوَينى كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
    كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها
    مَرُّ السَحابَةِ لا رَيْثٌ وَلا عَجَلُ.
    ولا يقل روعةً عن بيتي الأعشى بيتا عنترة بن شداد اللذان أعجب بهما الأخَوان الرحباني، فالتقطاهما، ولحناهما، وغنتهما فيروز بين مجموعة "الأندلسيات":
    ولقد ذكرتُك والرماحُ نواهلٌ
    مني وبيضُ الهند تقطرُ من دمي
    فوددتُ تقبيلَ السيوف لأنها
    لمعت كبارقِ ثغرك المتبسمِ.



    المنديل.. وحاجب الأسمر الجميل
    يمكن البحث عن جماليات الصورة المتعلقة بثياب المرأة في الغناء العربي المعاصر، والعثور، من ثم، على نماذج متألقة. منها (قصيدةٌ) عامرة بالإبداع الشعري، وردت في أغنية لعبد العزيز محمود (1914 ـ 1991)، عنوانها "أسمر يا جميل".. الأسمر الجميل المقصود امرأة، بالطبع، وهذا جريٌ على عادة المطربين والمطربات في إزالة الحدود بين التأنيث والتذكير.. فالرجل يتغزل بامرأة بصيغة المذكر، والمرأة تتغزل بامرأة ضمن فرضية أن حبيبها قال لها، كما في قصيدة البنت الشلبية التي سيأتي ذكرها.

    "الغزل يتركز على الشكل الخارجي، لأنه من المستحيل أن تجد شاعرًا يتغزل بذكاء حبيبته، مثلًا، أو حكمتها، أو عمقها الفلسفي، أو بكونها قدمت شيئًا مهمًا للحضارة الإنسانية"


    كتب الـ(قصيدة) التي نقصدها الشاعرُ مرسي جميل عزيز، وجاء في مطلعها: يا أسمر يا جميل ـ يا بو الخلاخيل ـ يا اللي المنديل ـ راح ياكل من حاجبك حتّة.
    استخدمتُ كلمة (قصيدة) في معرض حديثي عن هذه الأغنية، لعدة أسباب، أولها الصورة البديعة التي تأتي في مستهلها (المنديل راحْ ياكلْ من حاجبَكْ حتة).. وثانيها وصف الحالة الشعورية للمغني العاشق عندما يرى المنديل فيطيش صوابه (تهت يا خويا، سَمُّوا عليّ).. ثم ينتقل إلى وصف (العود)، وهو القَد، أو القوام، فيزداد اضطرابُ عواطفه، بين اندفاع (لا إرادي)، وخجل (كسوف): ساعة ما بشوف العود ملفوف ـ لو ما فيها كسوف ـ كنت أجري وراك حتة بحتة.
    بالمناسبة، تشبيه إخوتنا المصريين الخجلَ بـ الكسوف موفق جدًا، فالشخص الذي يخجل يتمنى أن ينكسف، ويغيب، كالشمس. وفي مقطع تالٍ يعبر المغني عن حالة الهيام والسرحان التي يفرضها عليه جمال حبيبه (الأسمر) فيقول:
    ساعة ما بشوف العود طارحْ، بفضل سارحْ، قول يجي جمعة.
    المعلم مرسي جميل عزيز الذي كتب سيرة الحب لأم كلثوم، وما أدراك ما سيرة الحب، وكتب للرحبانيين وفيروز قصيدة "سوف أحيا"، التي تحكي عن أزهار الخميلة (عمرُها يومٌ، وتحيا اليومَ حتى منتهاهْ)؛ هو نفسه الذي يتغزل، في قصيدة "أسمر يا جميل"، بالخلخال الذي يعلق فوق كعب قدم المرأة، وقبقابها، بطريقة باهرة، إذ يقول:
    يا بو الخلاخيل ـ يا اللي كعابَكْ ـ فوق قُبقابك ـ ورد في مَيَّة.
    إضافة أولى: التقى الشاعر مرسي جميل عزيز بالمطرب عبد العزيز محمود في الأربعينيات، من خلال إذاعة القاهرة، ويقال إن مرسي هو سبب شهرة عبد العزيز، إذ كتب أجمل الكلمات لأغانيه، ومنها: وحياة محبك، ومكاحل مكاحل، وكعبه محني، وسود عيونه يا ليل، وأسمر يا جميل.
    إضافة ثانية: في الخمسينيات، سافر عبد العزيز محمود إلى لبنان، وبحث عن الفتاة الصغيرة الصاعدة نهاد حداد التي اشتهرت باسم فيروز، وعندما التقاها عرض عليها فكرة أن تذهب معه إلى مصر، لتشاركه بطولة أفلامه السينمائية، وليشكلا ثنائيًا غنائيًا سينمائيًا.. وكان جواب فيروز طفوليًا، إذ قالت له: بعدين، لما أكبر.
    إضافة ثالثة: غنى عبد العزيز محمود من ألحان زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، ولكنه لَحَّن معظم أغانيه بنفسه، ومنها أسمر يا جميل.



    للقباقيب نصيب
    الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك أن المرأة العربية مظلومة، ليس في واقعنا الحالي وحده، بل وعبر العصور، إنها مقهورة، ومضطهدة، ومهمشة، ومسحوقة، بينما تمجدُها الأشعار والأغاني تمجيدًا لا تحلم به الأميرات والملكات ومحظيات الحكام.. وللعلم، فإن النسخة الأصلية من أغنية "البنت الشلبية" التي غنتها السلطانة منيرة المهدية (1885 ـ 1965)، وهي من ألحان داوود حسني (1870 ـ 1937)، تتضمن هذا المقطع الذي حذفه الأخوان الرحباني عندما اقتبسا الأغنية:
    وحياة عينيكي، دا أنا أبوس إيديكي، (وكعوب رجليكي)، بس ارضي عليَّ.
    كتب الشاعر عبد الوهاب محمد قصيدة "رنة قبقابي"، وأعطاها للموسيقار الكبير بليغ حمدي. كانت لبليغ عادة ربما لم يعتدها غيرُه من الملحنين، وهي أنه يكتب أشعارًا، أو يأخذ أشعارًا من صديقه عبد الوهاب محمد، ويلحنها، ويغنيها بصوته، ثم يختار لها مطربًا (أو مطربة) ويقدمها له.. وقد أعطى رنة قبقابي لشادية لتغنيها بالتناوب مع ثلاثة مطربين شبان.. وسرعان ما نجحت، وأصبحت من الأغاني الذائعة الصيت في تلك الفترة، بل إنها ما تزال تُسمع ويستمتع بها حتى الآن:
    رنة قبقابى ياما رنة قبقابى ـ وأنا ماشية ماشية يامّا بتميّل راسي ـ الكل قالوا اسم الله ـ اسم الله اسم الله ـ حتى العزول القاسي القاسي يامَّا.

    "كانت لبليغ حمدي عادة ربما لم يعتدها غيرُه من الملحنين، وهي أنه يكتب أشعارًا، أو يأخذ أشعارًا من صديقه عبدالوهاب محمد، ويلحنها، ويغنيها بصوته، ثم يختار لها مطربًا (أو مطربة) ويقدمها له"



    وحتى الشبشب
    وما دمنا نتحدث عن صاحب الصوت الأجمل عبد العزيز محمود، يمكننا أن نتوقف عند أغنيته يا شبشب الهنا، وفيها يقول:
    يا شبشب الهنا، قلوبنا فرشتَك، يا ريتني كنت أنا، وقعتْ وقعتَك
    ملاحظة: الشبشب حذاء أجمل من القبقاب، يقال له في سورية: بابوج، وأحيانًا يطرزونه بخيطان من القَصَب، فيقال: البابوج المقصَّب. وهنالك قول شعبي محلي إذا أرادوا أن يسخروا من شخص تَمَدَّنَ حديثًا يقولون: فلان يقلد الأكابر بارتداء البوابيج.
    ثمة قضية تلفت النظر في أغنية "شبشب الهنا" التي سُجلت في سنة 1949.. في وقتها، اعتبرها بعض الناس أغنية هابطة، ونظر إليها آخرون على أنها "حاجة حلوة وجديدة وظريفة"، ولم يسعَ أحد إلى خلق أزمة رقابية منها.. ولكن، مَن كان يتخيل أن يتقدم المطرب هشام عبد العزيز، نجلُ عبد العزيز محمود، بعد أكثر من خمسين سنة، سنة 2001، بطلب إلى الرقابة لأجل تسجيل أغنية والده "شبشب الهنا" بصوته، فترفض الرقابة ذلك؟

    (للحديث صلة).
يعمل...
X