موسيقى الغجر.. ألوانُ دروب وتباريحُ وتَر
محمد جميل خضر 8 يناير 2022
موسيقى
هل الفلامنكو قبس من روح الغجر؟
شارك هذا المقال
حجم الخط
مع الترحال المتواصل الذي لا ينتهي للنَّوَر، أو الغجر، أو (الكَاوليّة)، أو (الدُّوم)، أو (الزّط)، أو (القرباط)، أو (المطاربة)، أو (الحَلَب)، أو (الزنجار)، أو (الزنكال)، أو الـ Gypsy (وهي جميعها أسماء تدل عليهم، إذ تختلف تسميتهم من بلد إلى آخر، ومن زاوية نظر إلى أخرى)، فإنهم لا يتمسكون بشيء إلا الموسيقى. الآلة الموسيقية بالنسبة للغجري هي بمثابة قلبه، لا تفارقه، ولا يستغني عنها، ويرى فيها مساحة بوح لكل عذاب واجهه، أو فرح حظي به. هو لا يتمسك بالناس الذين يخالطهم من مختلف الأجناس والأنواع والصفات وسرعان ما ينساهم وينغلق داخل مجتمعه الغجريّ، فقط يظل متمسّكًا بآلته التي قد تكون آلة نفخ هوائية، كالناي والمطبك والمزمار والكلارنيت، أو آلة وترية، كالكمان والبُزُق والربابة والغيتار، والعود أحيانًا، أو آلة إيقاعية، كالطبلة والرقّ والدف. أما الأكورديون فهو رفيق غجر وسط أوروبا وجنوبها، حالها حال آلة (اللوت) الوترية التي تشبه بصوتها وتصميمها إلى حدّ كبير آلة العود، وكانت شهدت عصرًا ذهبيًّا في أوروبا خلال عصر النهضة، حيث دخلت إلى أوروبا عن طريق عرب الأندلس، وغجر السفر الذي لا ينتهي، ولاقت اهتمام كثير من المؤلّفين الذين لم يترددوا في تخصيص أعمال منفردة، أو مرافقة، من الأوركسترا لهذه الآلة.
ذاكرة الأسفار..
يرى الكاتب العراقيّ، جمال حيدر، في كتابه "الغجر.. ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب"، أن الموسيقى بالنسبة للغجري كديانته، تتأثر إلى حد كبير بما يعتقده الشعب الذي يعيش وسطه، وأنه ليس للغجري لغة موسيقية مشتركة، فهو يحفظ الأغنيات والموسيقى المحلية للشعوب التي يخالطها ويشاركها الحياة، ثم يضيف لها طابعه الخاص، ومنذ القرن الثامن عشر، أصبح للغجري هيمنته الواضحة على الموسيقى، إلى أن أصبحت مهنته التي يتكسّب منها قوته اليومي.
وبحسب حيدر، فإن أول إطلالة موسيقية غجرية على العالم خارج الهند، كانت عبر الموسيقيين الذين أرسلهم الملك شانكال إلى ملك فارس بهرام جور، وكانوا من أشهر عازفي آلة السيتار الهندية الوترية الشبيهة بالبزق والعود والغيتار، جامعةً بعض صفات كل آلة من هذه الآلات الثلاث.
وعلى عكس الموسيقى الشركسية، فإن موسيقى الغجر كما هي تسميتهم في كثير من بلدان العالم، أو النَّوَر كما شاعت تسميتهم في الأردن وفلسطين وبعض مدن سورية، تفرد مساحتها وتفرض حضورها من خلال انصهارها بالهوية الموسيقية للبلد الذي تستقر فيه.
فقد خالط الغجر الشعوب، واستعاروا منهم الآلات الموسيقية والغناء، وأضافوا لها نكهتهم الخاصة، ما أضاف لهم تنوّعًا موسيقيًّا، فاستعاروا من بلغاريا، على سبيل المثال، الكوبزا (آلة موسيقية تشبه آلة العود)، وأضافوا لموسيقى الزفاف البلغارية روحًا جديدة. وخلال القرون الأخيرة من تجارة العبيد في رومانيا واسترقاق الغجر، حصل الموسيقيون من الغجر على كثير من الامتيازات التي لم يحصل عليها الفلاح الروماني، وتم توظيف العازفين في الفرق الموسيقية الكلاسيكية، وشاركوا في الحفلات الموسيقية داخل رومانيا وخارجها.
موسيقى الآهات..
هناك في رومانيا، مثلًا، تميل الموسيقى الغجرية للتعبير عن الأحزان والمعاناة والرثاء، تجسيدًا لِما لاقاه الغجري، الذي حثّ، في الوقت نفسه، موسيقاه على الأحلام وإشعال الحماس في ذاته المليئة بالهموم، من خلال طقوس خاصة ملحمية وشعبية، وطقوس تخص الأطفال وأعياد الميلاد ومناسبات أخرى.
وهنالك نوعان من الموسيقى لدى الموسيقى الغجرية في رومانيا؛ الأولى هي القديمة التي تتمركز حول الملاحم الشعبية لسيَر الأبطال المحليين وصفاتهم، والثانية المُطعّمة بموسيقى الجاز والغربية المعاصرة.
على وجه العموم، شكّلت الموسيقى الغجرية تيارات موسيقية مختلفة في البلدان التي أقاموا ويقيمون فيها، ففي روسيا، في عهد الإمبراطورة كاثرين، كان ثمة تيار موسيقي هامشي ومحاصر في دائرة الجماعات الغجرية. وبعد ثورة 1917، منح البلاشفة للموسيقى الغجرية حريتها، فإذا بها تنتعش وتضعها الدولة نصب أعينها، إلى أن جاء الرئيس السوفييتيّ الحديديّ، جوزيف ستالين، (1878 ـ 1953)، وحاول تسخير الطاقة الموسيقية عند الغجريّ في تجربته السياسية، لكن محاولاته باءت بالفشل.
في تركيا، مزجت الموسيقى الغجرية الموسيقى الشعبية التركية بموسيقاها، ونتج عن ذلك خليط راج وانتشر، واستخدم الآلات الشرقية، كالعود والقانون، وآلات أخرى مثل الكلارينيت والدف. في إيران، استخدم الغجر عددًا كبيرًا من الآلات الموسيقية الإيرانية المحلية، مثل الطنبورة، والسنطور، وطوعوها لتلائم موسيقاهم. كما طوّر الغجر الموسيقى البرتغالية والبرازيلية، بخاصّة السامبا.
في ساراييفو، عاصمة البوسنة، أسّس المؤلف الموسيقي، غوران بريغوفيتش، مؤسسة مهمتها مساعدة المواهب في صفوف غجر الروما في البوسنة للحصول على تربية موسيقية.
ويُرجع كثير من أصحاب الاختصاص روح موسيقى الفلامنكو الإسبانية وأجوائها إلى تأثيرات غجرية، إضافة طبعًا إلى التأثيرات الأندلسية في تلك الموسيقى التي تلقى رواجًا عالميًّا، ولها نكهة يصعب تركها وراء ظهورنا.
سطعوا في الأردن..
في الأردن، كان أبناء (بني مرّة)، كما يفضّل نَوَر الأردن تسميتهم، من طلائع من ساهم في تأسيس الإمارة، والدولة، والدفاع عن حلم الثورة العربية الكبرى، وهم من أوائل من شارك في رسم الهوية الموسيقية الأردنية. فلا يمكن أن تذكر الموسيقى في الأردن، ولا يمكن أن يشرع مؤرخ بالبحث والتوثيق، من دون أن يسطع أمامه مباشرة اسمان مؤسسان في الموسيقى الأردنية والغناء الطالع من أركان أثيرها: عبده موسى (1927 ـ 1977)، وجميل العاص (1929ـ 2003)، فهما مع ابن الحصن، الموسيقار توفيق النمري (1918 ـ 2011)، جدّلوا، تأليفًا وتلحينًا وغناء وعزفًا، دوزان الإرث الموسيقيّ الأردنيّ في مختلف تجلياته الشعبيّة والفولكلوريّة والكلاسيكيّة والوطنيّة والحديثة. هذا ما لا يختلف عليه اثنان متخصصان أمينان على الحقيقة، حريصان على تسمية الأشياء بمسمياتها.
وإن كانت قامة بحجم توفيق النمري لم يورث الغناء لأحد من أولاده، أو أحفاده، فإن عبده موسى بربابته التي لم تكن تفارقه، ولم يكن يفارقها، وجميل العاص ببزقه الذي انتقل منه لعدة آلات أخرى، فعلا ذلك. فواصل عدد من أولاد عبده موسى وأحفاده مسيرته الفنية التي انتهت مبكرًا بسبب رحيله المبكر، ولكن أثر هذه المسيرة وألحانها باقية، من: "جدلي يا ام الجدايل"، "سافر يا حبيبي وارجع"، "يا مدقدق بن عمي"، مرورًا بـ "نزلن على البستان يا عنيّد يا يابا"، و"مرين وما معهن حدا"، وليس انتهاء بـ"هي يام الشامة"، و"حط القهوة على النار"، و"غزلان العين"، وعشرات الألحان والأغنيات الأخرى. وحقق مؤيد، حفيد عبده موسى، تقدمًا لافتًا في العزف على آلة الكمان.
كما واصل العاص وجوده الغنائي من خلال إرثه الفذ أولًا، ومن خلال ابنته رويدا، وزوجته سلوى ثانيًا.
بالنسبة للإسهام الذي قدّمه (بنو مرّة) للموسيقى في الأردن، فهم تجلّوا بوصفهم جزءًا من هذا النبض الممتد على مساحة مئة عام ماضية، ولكنه إسهام ذاب في الهوية، وانصهر في السِمات الأردنية، وبالتالي يصعب أن نتحدث عن خصائص غنائية خاصّة بهم. فلا موسيقى نَوَر في الأردن تسير في ركب خاص بها يميّزها ويحدث قطعًا بينها وبين عموم المشهد الموسيقيّ المحليّ. كما لم أسمع عن أغنيات بلغتهم (العصفورية) الخاصة بهم، ربما يجري بعض ذلك في مجالسهم، ولكن المُعلن، والمُقدم من أعلامهم الذين هم في الوقت نفسه أعلام الغناء الأردني وروّاده الأوائل، هو ما شكّل لَبِناتٍ في المِعمار الموسيقيّ الأردنيّ العام. كما أن الاثنين: موسى والعاص، هما أساس القسم الموسيقيّ في إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية، وبالتالي أساس الموسيقى الأردنية بقضها وقضيضها، فحتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، لم يكن من فضاء موسيقيٍّ غنائيٍّ في الأردن خارج مبنى الإذاعة، وخارج تغريد أثيرها الذي وصل منجزه كل بيت عربي، فإن كان التردد لم يكن يصل دائمًا، فإن المنجز الذي استقطب أقطاب الطرب العربي ونجومه وألمع أصواته، وصل دون أدنى شك عواصم الفن العربي الكبرى من القاهرة إلى بيروت إلى دمشق إلى بغداد وأبعد.. أبعد.
وهو منجز لم يكن (جُمعة مشمشية)، فتأثير الإذاعة التي كان فيها موسى والعاص والنمري ومن بعدهم روحي شاهين، امتد لأكثر من ثلاثة عقود، بل ربما أربعة عقود (من 1958 إلى 1998)، عمل جميل العاص خلالها لأكثر من 18 عامًا متواصلة، رئيسًا للقسم الموسيقيّ الذي صنع كل هذا المجد.
نِعالُ الرّيح..
يلازم الغناءُ والرقصُ الغجريَّ منذ نعومة أظفاره، تمامًا كما يلازم هو بدوره آلته. وإن كان يناط العمل بالمرأة في سياق عاداتهم أكثر من الرجل، فإن معظم الرقص الاستعراضيّ الذي يُقدم في أماكن السهر داخل الأردن، على سبيل المثال، وسورية ولبنان، وربّما العراق، وبلدان كثيرة في العالم، تتصدى له راقصات غجريات، وترافقه في كثير من الأحيان أصوات غناء غجريّ أنثويّ حاد يشلع الأرواح في ليل السهارى، ويشكّل زاوية من علاقة الغجري والغجرية بالرقص والغناء والسهر والاحتفاء بالحياة، كان لا بد من الإشارة، ولو مجرد إشارة إليه.
بِنعالٍ من ريح يقطع الغجريّ فيافي الكوكب، متأبطًا نزعةَ حريةٍ لا تقبلُ التدْجين.. التنظيمات البشرية المعتادة لا تستهويه.. رحّالةٌ ظرفاء هم.. شكّلوا في حلّهم وترحالهم دفق فضولٍ رافقنا في طفولاتنا الأولى، عندما كنّا نشاهدهم يضربون فوق أرض غير صلبة خيامهم العابرة مثلهم في كلام عابر. نتراكض نحوهم. نراقب بإثارة كل نأمة تصدر عنهم. نحدّق بشغف في ألوان فساتين نسائهم.
لم نكن نبرح أمكنتنا حول مخيّمهم المؤقت، مثل أي إقامة مؤقتة، قبل أن يرنّ في أرواحنا، قبل آذاننا، صوت ناي يبوح عازف غجريّ عبر تنهداته بكل ما كان من الدنيا معهم، وكل ما كان منهم مع الحياة التي لا تشبه أيَّ حياة.
محمد جميل خضر 8 يناير 2022
موسيقى
هل الفلامنكو قبس من روح الغجر؟
شارك هذا المقال
حجم الخط
مع الترحال المتواصل الذي لا ينتهي للنَّوَر، أو الغجر، أو (الكَاوليّة)، أو (الدُّوم)، أو (الزّط)، أو (القرباط)، أو (المطاربة)، أو (الحَلَب)، أو (الزنجار)، أو (الزنكال)، أو الـ Gypsy (وهي جميعها أسماء تدل عليهم، إذ تختلف تسميتهم من بلد إلى آخر، ومن زاوية نظر إلى أخرى)، فإنهم لا يتمسكون بشيء إلا الموسيقى. الآلة الموسيقية بالنسبة للغجري هي بمثابة قلبه، لا تفارقه، ولا يستغني عنها، ويرى فيها مساحة بوح لكل عذاب واجهه، أو فرح حظي به. هو لا يتمسك بالناس الذين يخالطهم من مختلف الأجناس والأنواع والصفات وسرعان ما ينساهم وينغلق داخل مجتمعه الغجريّ، فقط يظل متمسّكًا بآلته التي قد تكون آلة نفخ هوائية، كالناي والمطبك والمزمار والكلارنيت، أو آلة وترية، كالكمان والبُزُق والربابة والغيتار، والعود أحيانًا، أو آلة إيقاعية، كالطبلة والرقّ والدف. أما الأكورديون فهو رفيق غجر وسط أوروبا وجنوبها، حالها حال آلة (اللوت) الوترية التي تشبه بصوتها وتصميمها إلى حدّ كبير آلة العود، وكانت شهدت عصرًا ذهبيًّا في أوروبا خلال عصر النهضة، حيث دخلت إلى أوروبا عن طريق عرب الأندلس، وغجر السفر الذي لا ينتهي، ولاقت اهتمام كثير من المؤلّفين الذين لم يترددوا في تخصيص أعمال منفردة، أو مرافقة، من الأوركسترا لهذه الآلة.
ذاكرة الأسفار..
يرى الكاتب العراقيّ، جمال حيدر، في كتابه "الغجر.. ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب"، أن الموسيقى بالنسبة للغجري كديانته، تتأثر إلى حد كبير بما يعتقده الشعب الذي يعيش وسطه، وأنه ليس للغجري لغة موسيقية مشتركة، فهو يحفظ الأغنيات والموسيقى المحلية للشعوب التي يخالطها ويشاركها الحياة، ثم يضيف لها طابعه الخاص، ومنذ القرن الثامن عشر، أصبح للغجري هيمنته الواضحة على الموسيقى، إلى أن أصبحت مهنته التي يتكسّب منها قوته اليومي.
"يحفظ الغجري الأغنيات والموسيقى المحلية للشعوب التي يخالطها ويشاركها الحياة، ثم يضيف لها طابعه الخاص" |
وبحسب حيدر، فإن أول إطلالة موسيقية غجرية على العالم خارج الهند، كانت عبر الموسيقيين الذين أرسلهم الملك شانكال إلى ملك فارس بهرام جور، وكانوا من أشهر عازفي آلة السيتار الهندية الوترية الشبيهة بالبزق والعود والغيتار، جامعةً بعض صفات كل آلة من هذه الآلات الثلاث.
وعلى عكس الموسيقى الشركسية، فإن موسيقى الغجر كما هي تسميتهم في كثير من بلدان العالم، أو النَّوَر كما شاعت تسميتهم في الأردن وفلسطين وبعض مدن سورية، تفرد مساحتها وتفرض حضورها من خلال انصهارها بالهوية الموسيقية للبلد الذي تستقر فيه.
فقد خالط الغجر الشعوب، واستعاروا منهم الآلات الموسيقية والغناء، وأضافوا لها نكهتهم الخاصة، ما أضاف لهم تنوّعًا موسيقيًّا، فاستعاروا من بلغاريا، على سبيل المثال، الكوبزا (آلة موسيقية تشبه آلة العود)، وأضافوا لموسيقى الزفاف البلغارية روحًا جديدة. وخلال القرون الأخيرة من تجارة العبيد في رومانيا واسترقاق الغجر، حصل الموسيقيون من الغجر على كثير من الامتيازات التي لم يحصل عليها الفلاح الروماني، وتم توظيف العازفين في الفرق الموسيقية الكلاسيكية، وشاركوا في الحفلات الموسيقية داخل رومانيا وخارجها.
موسيقى الآهات..
هناك في رومانيا، مثلًا، تميل الموسيقى الغجرية للتعبير عن الأحزان والمعاناة والرثاء، تجسيدًا لِما لاقاه الغجري، الذي حثّ، في الوقت نفسه، موسيقاه على الأحلام وإشعال الحماس في ذاته المليئة بالهموم، من خلال طقوس خاصة ملحمية وشعبية، وطقوس تخص الأطفال وأعياد الميلاد ومناسبات أخرى.
وهنالك نوعان من الموسيقى لدى الموسيقى الغجرية في رومانيا؛ الأولى هي القديمة التي تتمركز حول الملاحم الشعبية لسيَر الأبطال المحليين وصفاتهم، والثانية المُطعّمة بموسيقى الجاز والغربية المعاصرة.
"خالط الغجر الشعوب، واستعاروا منهم الآلات الموسيقية والغناء، وأضافوا لها نكهتهم الخاصة، ما أضاف لهم تنوّعًا موسيقيًّا" |
على وجه العموم، شكّلت الموسيقى الغجرية تيارات موسيقية مختلفة في البلدان التي أقاموا ويقيمون فيها، ففي روسيا، في عهد الإمبراطورة كاثرين، كان ثمة تيار موسيقي هامشي ومحاصر في دائرة الجماعات الغجرية. وبعد ثورة 1917، منح البلاشفة للموسيقى الغجرية حريتها، فإذا بها تنتعش وتضعها الدولة نصب أعينها، إلى أن جاء الرئيس السوفييتيّ الحديديّ، جوزيف ستالين، (1878 ـ 1953)، وحاول تسخير الطاقة الموسيقية عند الغجريّ في تجربته السياسية، لكن محاولاته باءت بالفشل.
في تركيا، مزجت الموسيقى الغجرية الموسيقى الشعبية التركية بموسيقاها، ونتج عن ذلك خليط راج وانتشر، واستخدم الآلات الشرقية، كالعود والقانون، وآلات أخرى مثل الكلارينيت والدف. في إيران، استخدم الغجر عددًا كبيرًا من الآلات الموسيقية الإيرانية المحلية، مثل الطنبورة، والسنطور، وطوعوها لتلائم موسيقاهم. كما طوّر الغجر الموسيقى البرتغالية والبرازيلية، بخاصّة السامبا.
في ساراييفو، عاصمة البوسنة، أسّس المؤلف الموسيقي، غوران بريغوفيتش، مؤسسة مهمتها مساعدة المواهب في صفوف غجر الروما في البوسنة للحصول على تربية موسيقية.
ويُرجع كثير من أصحاب الاختصاص روح موسيقى الفلامنكو الإسبانية وأجوائها إلى تأثيرات غجرية، إضافة طبعًا إلى التأثيرات الأندلسية في تلك الموسيقى التي تلقى رواجًا عالميًّا، ولها نكهة يصعب تركها وراء ظهورنا.
سطعوا في الأردن..
في الأردن، كان أبناء (بني مرّة)، كما يفضّل نَوَر الأردن تسميتهم، من طلائع من ساهم في تأسيس الإمارة، والدولة، والدفاع عن حلم الثورة العربية الكبرى، وهم من أوائل من شارك في رسم الهوية الموسيقية الأردنية. فلا يمكن أن تذكر الموسيقى في الأردن، ولا يمكن أن يشرع مؤرخ بالبحث والتوثيق، من دون أن يسطع أمامه مباشرة اسمان مؤسسان في الموسيقى الأردنية والغناء الطالع من أركان أثيرها: عبده موسى (1927 ـ 1977)، وجميل العاص (1929ـ 2003)، فهما مع ابن الحصن، الموسيقار توفيق النمري (1918 ـ 2011)، جدّلوا، تأليفًا وتلحينًا وغناء وعزفًا، دوزان الإرث الموسيقيّ الأردنيّ في مختلف تجلياته الشعبيّة والفولكلوريّة والكلاسيكيّة والوطنيّة والحديثة. هذا ما لا يختلف عليه اثنان متخصصان أمينان على الحقيقة، حريصان على تسمية الأشياء بمسمياتها.
وإن كانت قامة بحجم توفيق النمري لم يورث الغناء لأحد من أولاده، أو أحفاده، فإن عبده موسى بربابته التي لم تكن تفارقه، ولم يكن يفارقها، وجميل العاص ببزقه الذي انتقل منه لعدة آلات أخرى، فعلا ذلك. فواصل عدد من أولاد عبده موسى وأحفاده مسيرته الفنية التي انتهت مبكرًا بسبب رحيله المبكر، ولكن أثر هذه المسيرة وألحانها باقية، من: "جدلي يا ام الجدايل"، "سافر يا حبيبي وارجع"، "يا مدقدق بن عمي"، مرورًا بـ "نزلن على البستان يا عنيّد يا يابا"، و"مرين وما معهن حدا"، وليس انتهاء بـ"هي يام الشامة"، و"حط القهوة على النار"، و"غزلان العين"، وعشرات الألحان والأغنيات الأخرى. وحقق مؤيد، حفيد عبده موسى، تقدمًا لافتًا في العزف على آلة الكمان.
"لا يمكن أن يشرع مؤرخ بالبحث والتوثيق من دون أن يسطع أمامه مباشرة اسمان مؤسسان في الموسيقى الأردنية والغناء الطالع من أركان أثيرها: عبده موسى (1927 ـ 1977)، وجميل العاص (1929ـ 2003)" |
كما واصل العاص وجوده الغنائي من خلال إرثه الفذ أولًا، ومن خلال ابنته رويدا، وزوجته سلوى ثانيًا.
بالنسبة للإسهام الذي قدّمه (بنو مرّة) للموسيقى في الأردن، فهم تجلّوا بوصفهم جزءًا من هذا النبض الممتد على مساحة مئة عام ماضية، ولكنه إسهام ذاب في الهوية، وانصهر في السِمات الأردنية، وبالتالي يصعب أن نتحدث عن خصائص غنائية خاصّة بهم. فلا موسيقى نَوَر في الأردن تسير في ركب خاص بها يميّزها ويحدث قطعًا بينها وبين عموم المشهد الموسيقيّ المحليّ. كما لم أسمع عن أغنيات بلغتهم (العصفورية) الخاصة بهم، ربما يجري بعض ذلك في مجالسهم، ولكن المُعلن، والمُقدم من أعلامهم الذين هم في الوقت نفسه أعلام الغناء الأردني وروّاده الأوائل، هو ما شكّل لَبِناتٍ في المِعمار الموسيقيّ الأردنيّ العام. كما أن الاثنين: موسى والعاص، هما أساس القسم الموسيقيّ في إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية، وبالتالي أساس الموسيقى الأردنية بقضها وقضيضها، فحتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، لم يكن من فضاء موسيقيٍّ غنائيٍّ في الأردن خارج مبنى الإذاعة، وخارج تغريد أثيرها الذي وصل منجزه كل بيت عربي، فإن كان التردد لم يكن يصل دائمًا، فإن المنجز الذي استقطب أقطاب الطرب العربي ونجومه وألمع أصواته، وصل دون أدنى شك عواصم الفن العربي الكبرى من القاهرة إلى بيروت إلى دمشق إلى بغداد وأبعد.. أبعد.
وهو منجز لم يكن (جُمعة مشمشية)، فتأثير الإذاعة التي كان فيها موسى والعاص والنمري ومن بعدهم روحي شاهين، امتد لأكثر من ثلاثة عقود، بل ربما أربعة عقود (من 1958 إلى 1998)، عمل جميل العاص خلالها لأكثر من 18 عامًا متواصلة، رئيسًا للقسم الموسيقيّ الذي صنع كل هذا المجد.
نِعالُ الرّيح..
"معظم الرقص الاستعراضيّ الذي يُقدم في أماكن السهر داخل الأردن، على سبيل المثال، وسورية ولبنان، وربّما العراق، وبلدان كثيرة في العالم، تتصدى له راقصات غجريات" |
يلازم الغناءُ والرقصُ الغجريَّ منذ نعومة أظفاره، تمامًا كما يلازم هو بدوره آلته. وإن كان يناط العمل بالمرأة في سياق عاداتهم أكثر من الرجل، فإن معظم الرقص الاستعراضيّ الذي يُقدم في أماكن السهر داخل الأردن، على سبيل المثال، وسورية ولبنان، وربّما العراق، وبلدان كثيرة في العالم، تتصدى له راقصات غجريات، وترافقه في كثير من الأحيان أصوات غناء غجريّ أنثويّ حاد يشلع الأرواح في ليل السهارى، ويشكّل زاوية من علاقة الغجري والغجرية بالرقص والغناء والسهر والاحتفاء بالحياة، كان لا بد من الإشارة، ولو مجرد إشارة إليه.
بِنعالٍ من ريح يقطع الغجريّ فيافي الكوكب، متأبطًا نزعةَ حريةٍ لا تقبلُ التدْجين.. التنظيمات البشرية المعتادة لا تستهويه.. رحّالةٌ ظرفاء هم.. شكّلوا في حلّهم وترحالهم دفق فضولٍ رافقنا في طفولاتنا الأولى، عندما كنّا نشاهدهم يضربون فوق أرض غير صلبة خيامهم العابرة مثلهم في كلام عابر. نتراكض نحوهم. نراقب بإثارة كل نأمة تصدر عنهم. نحدّق بشغف في ألوان فساتين نسائهم.
لم نكن نبرح أمكنتنا حول مخيّمهم المؤقت، مثل أي إقامة مؤقتة، قبل أن يرنّ في أرواحنا، قبل آذاننا، صوت ناي يبوح عازف غجريّ عبر تنهداته بكل ما كان من الدنيا معهم، وكل ما كان منهم مع الحياة التي لا تشبه أيَّ حياة.