صباح فخري وارث رحيق الغناء الحلبي العظيم
صقر أبو فخر
موسيقى
شارك هذا المقال
حجم الخط
لمدينة حلب، وهي من أعظم مدائن الشرق، حارسان يصونان جمالها وبهاءها هما: قلعتها الشامخة وصباح فخري. وعندما أقول صباح فخري في هذا المقام فإنني أستخدم المجاز بالتأكيد، لأن صباح فخري، قبل أي تصنيف، هو الفوح الأخير لعطر الجمال في مدرسة الغناء العربي الراقي. والمشهور أن الغناء العربي انتصب، في ذروة تجلياته وابداعاته، على قائمتين: مدرسة الطرب في مصر، ومدرسة حلب الباهرة والفريدة. ولا ريب عندي أن صباح فخري ومحمد عبد الوهاب هما أعظم صوتين في تاريخ الغناء العربي خلال المئة سنة الأخيرة، وهذا الحُكم لا يمنعني من الالتفات إلى ثراء الغناء في مصر والشام، كما تجسّد في أصوات كثيرين من عيار سيد درويش وصالح عبد الحي وفتحية أحمد ونجاة علي وحياة محمد وعصمت عبد العليم وأم كلثوم ومحمد عبد المطلب وعبد العزيز محمود ومحمد رشدي وعبد الحليم حافظ وكارم محمود وشادية في مصر، ثم فريد الأطرش وأسمهان وفايزة أحمد ورفيق شكري ونادرة الشامية وماري جبران وميادة الحناوي وليلى مراد وفهد بلان وصبري مدلل ومحمد خيري وأديب الدايخ وحسن الحفار ونجيب السراج في سورية، علاوة على فيروز ونور الهدى ونجاح سلام وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين في لبنان، ووردة وناظم الغزالي في الجزائر والعراق.
صباح فخري عبقرية صوتية وموسيقية نادرة لا تدانيها أي قامة غنائية أخرى، فهو يمتلك جمالًا صوتيًا متفردًا لم تعرفه الأذن المدرّبة منذ ما لا يقل عن ثلاثة أرباع القرن، وصوته العجيب قادر على التنقل بين المقامات والسعي بين القرارات والجوابات، والتحليق بحروف الكلمات إلى سماوات مدهشة من الوجد والسمو، والتحكم بالعُرَب كأنه يغزلها بأصابعه. لقد امتلك صباح فخري، بالتدريب والصقل والاختبار، صوتًا مذهلًا ذا خصائص قلّما اجتمعت في صوت أحد غيره هي القوة والجمال والحلاوة والرقة والعذوبة. وللمقارنة الأولية يمكن القول إن صوت وديع الصافي هو صوت قوي وجميل، لكنه لم يمتلك حلاوة الصوت لدى نصري شمس الدين مثلًا. ووردة لها صوت قوي بلا شك، لكنه صوت حاد افتقر إلى عذوبة الصوت لدى فايزة أحمد أو حتى ميادة الحناوي. وكان لشادية، وحتى هدى سلطان، صوت جميل ورشيق ويتغلغل في المشاعر بسرعة، ويثير الاحساس بالجمال والمرح، لكنها لم تمتلك دفء صوت نجاة الصغيرة.
غنّى صباح فخري أكثر من ألف دور وموشح وابتهال وقدّ وقصيدة وموّال، ونبش كنوز الغناء الحلبي ومطموراته وسجّل معظمها كلها كي لا تضيع أو تندثر أو يطويها الإهمال وانصراف الأجيال الجديدة عنها. وهو الوحيد، على الأرجح، بين المطربين العرب العظام، الذي يجتمع إليه "السمّيعة" والأجيال الشابة معًا، وهو الذي تمكن ببراعة من جذب الشبان والكهول إلى أغنياته الباهرة، وأدار ظهره للكلام المسلوق عن الأصالة والمعاصرة، لأنه كان، بابتكاراته الغنائية الفذة، التجسيد الحقيقي لاجتماع الأصالة والمعاصرة كما تجلت في أغنية "خمرة الحب اسقنيها" على سبيل المثال، أو في أغنية "ابعتلي جواب وطمّني" للموسيقي السوري بكري الكردي. وكان صباح فخري قد غنّى موشح "بالذي أسكر من عذب اللمى" وموشح "يا صاحِ الصبرُ "كما لم يغنهما أحد قبله. وغنّى "أنا في سكرين" التي ينسب البعض لحنها إلى الملحن السوري الأرمني سري طمبورجي، بطريقة أذهلت من استمع إليه. كذلك غنّى دور "أصل الغرام نظرة" لداود حسني (ويُنسب إلى محمد المسلوب) بأداء تساوى فيه مع المطربة السورية الراحلة ماري جبران التي أبدعت في غناء هذا الدور، وتفوقت على أم كلثوم في بعض مقاطعه.
قيل إنه غنّى عشر ساعات متواصلة مع بعض الاستراحات الضرورية في إحدى مدن فنزويلا التي يكثر فيها المهاجرون الشوام. ويروى أنه بدأ الحفل في العاشرة ليلًا وامتد حتى الثامنة من صباح اليوم التالي، حتى أن البعض غادر الحفل لينقل زوجته أو والدته إلى البيت، ثم عاد ليتابع الحفل. ولا أدري، على أي وجه من وجوه اليقين، هل إن حكاية الساعات العشر صحيحة أم لا، لكنها ليست غير قابلة للتصديق، فأنا نفسي حضرت له حفلة في قاعة أريسكو بالاس في بيروت، ظل يغني فيها من التاسعة ليلًا حتى السحور، فأذّن أذانًا مبهرًا وأنهى الحفلة. ولو لم يدهمنا موعد الإمساك، وكنا في شهر الصيام، لاستمر في الغناء حتى يشقشق الصبح.
الغناء والمدينة
ازدهر الغناء العربي في المدن، وبالتحديد في القاهرة وحلب ودمشق وبغداد، في أثناء صعود الطبقة الوسطى الجديدة التي تبلورت في سورية بعد الإصلاحات العثمانية في عام 1858 فصاعدًا، وبعد ظهور فئات الأفندية الذين تخرجوا في جامعات اسطمبول وباريس. وانتعش الغناء في مصر بعد ثورة 1919 التي قادتها الفئات العليا من الطبقة الوسطى، وجذبت إليها الشعراء والمغنين والموسيقيين من طراز محمود بيرم التونسي وأحمد رامي وسيد درويش وداود حسني وزكريا أحمد وصالح عبد الحي ومحمد القصبجي وغيرهم. واللافت أن الغناء العربي تألق على أيدي الشيوخ؛ ففي مصر كان هناك الشيخ سيد درويش والشيخ سلامة حجازي والشيخ سيد الصفتي والشيخ درويش الحفني والشيخ أبو العلا محمد والشيخ محمد المسلوب والشيخ يوسف المنيلاوي والشيخ زكريا أحمد والشيخ محمد القصبجي، ومعظم هؤلاء خلعوا العمة والجبة لاحقًا.
وفي سورية اشتُهر الشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش والشيخ أحمد الجندي والشيخ أحمد القباني (أبو خليل) والشيخ صالح الجذبة. والمشهور في هذا الحقل التاريخي أن الحلبيين علّموا المصريين فن الموشح، ولا سيما الشيخ علي الدرويش الذي علّمهم تدوين الموشحات في أثناء تدريسه في المعهد الملكي المصري للموسيقى. واشتُهر من بين الموسيقيين السوريين في مصر أنطوان الشوا وابنه سامي الشوا (من حلب) وكميل شمبير الذي كان مديرًا لمسرح نجيب الريحاني (من حلب) وجميل عويس (من جسر الشغور في حلب) الذي ترأس الفرقة الموسيقية لمحمد عبد الوهاب في أواسط الثلاثينيات، ونجح في إدخال الكمان الجهير (الفيولونسيل) والكمان الأجهر (الكونترباص) في التخت الشرقي، مثلما تمكن أنطوان الشوا بعد معاناة قاسية من إدخال الكمان في التخت الشرقي بدوره. ولا ننسى توفيق الصباغ، ملك الكمان في مصر، وهو سوري من حلب أيضًا. ومن أبرز المغنين السوريين أو من أصول سورية في مصر: أسمهان وفريد الأطرش وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وليلى مراد وزكي مراد ومنير مراد وفتحية أحمد ونادرة الشامية. وكانت عائلة ليلى مراد (مردخاي) نزحت من حلب إلى الاسكندرية فيما بقي نسيم مراد يغني في حلب حتى وفاته فيها. ولمع في القاهرة والدها زكي مراد وشقيقها منير (موريس). أما فتحية أحمد المولودة في مصر، واسمها الأصلي دولت أحمد الحمزاوي، فهي على الراجح دمشقية الأصول، وكانت تقسم أوقاتها نصفين: الخريف والشتاء في مصر، والربيع والصيف في سورية، وسُميت "مطربة القطرين" أي سورية ومصر على غرار الشاعر خليل المطران الذي لُقّب بـِ "شاعر القطرين" أيضًا أي مصر ولبنان.
ما سرّ حلب؟
حلب عالَم فسيح من التنوع الإثني والتعدد الثقافي والانفتاح والتمدن، وفيها من الجماعات البشرية عرب وسريان وأشوريون وكلدان وروم ويونان وأرمن وكرد وتركمان، وأخلاط من الإيطاليين والشركس والأبخاز والشيشان والداغستان. وفي هذه المدينة المتفردة برع الحلبيون، علاوة على التجارة والسياسة والثقافة واللاهوت، في الطعام والغناء، وتفننوا في صنع أصنافهما وضروبهما، وطبقوا الحكمة التي اقترضتها بغداد منهم وهي أن "الشواء والحلواء زينة الغداء، وهما أجرى في الحلوق وأمضى في العروق". ومن علائم المرح التي اكتنفت أهل حلب إطلاقهم على بعض الأكلات أسماء فيها من الدعابة والغرابة والذوق والفكاهة الكثير الكثير، مثل شلباطو (مسقعة ملفوف بائتة وبرغل)، يهودي مسافر (مسقعة باذنجان بائتة وبرغل)، شيخ وجماعتو (كبة وشيش بَرَك)، شيخ ولفتو (يقطينة محشوة)، شفايف الست (رقاقات عجين مع دبس)، مص وكب (أرضي شوكي مسلوق)، فتوش كلاب (بندورة وبصل وخبز بائت وزيت وسُمّاق)، حكاك دبرو (خبز وفليفلة حارة)، كبة شخاخة (كبة محشوة بالدهن)، محني دقنو، طباخ روحو، خرا ملايكة (الشوكولا)... وغير ذلك. ويقول الحلبيون في أمثالهم: "إذا جِعتْ غنّي، وإذا كِثْرِتْ عليكْ همومك نامْ". ومن أمثالهم أيضًا: أكّيل وانشرح إجا [جاء] ديقوم [ليقوم] انطرح وانشطح [استلقى]، أي أن الأكل والانشراح متلازمان. أما المصريون فيرددون: "بعد العِشا يحلى السهر والفرفشة"، والغناء هو أبو السهر وأمّه، والعزف هو الانشراح بعينه.
ولهذا عرفت حلب جميع أنواع الغناء مثل غناء الموشحات والأدوار والقدود والقصائد والموال والليالي (يا ليل يا عين) والنوبة والمونولوغ والغناء البدوي والغناء الريفي والطرب بصنوفه المتنوعة. وعرفت كذلك الغناء الديني كالمدائح (للنبي) والابتهالات (لله) والأوارد والأذكار والموالد. ومن الابتهالات الصوفية الجميلة فاصل "إسقِ العطاش"، وهو من أصول حلبية قديمة ظهر حين كان أهل حلب يتجمعون لإقامة صلاة الاستسقاء ويرددون: "ياذا العطا، ياذا الوفا، ياذا الرضا، ياذا السخا، إسقِ العطاش تكرما". وبعد نحو مئة عام من شيوع هذا الضرب من الابتهال جاء الشيخ عمر البطش ليجمع الشتات المتراكم لهذا الابتهال، ثم حققه الحلبي أحمد الأوبري. وقد أداه المطرب الفلسطيني محمد غازي مبتورًا من ألحان توفيق الباشا، وأداه المطرب السوري محمد خيري مبتورًا أيضًا، لكن صباح فخري، وحده من بين المطربين الكبار، أداه كاملًا وسجله في عام 1980. وفضلًا عن ذلك اشتهرت حلب برقص السماح وجعلوا المولوية (أسسها مولانا جلال الدين الرومي) تحمل رموزًا سامية؛ فاليدان المرفوعتان مع الطربوش الطويل ترمزان إلى التوجه نحو الله، وارتفاع الثوب عن الأرض في أثناء الدوران يعني التعالي والسمو.
اختصر موسيقيو حلب صنعة الموسيقى بعبارة "صُنع بسحر" وهي اختصار للنغمات السبع التالية: الصبا، النهاوند، العجم، البيات، السيكاه، الحجاز، الراست، وهي أكثر النغمات شيوعًا في حلب، وإذا كانت حلب قد جلست على عرش الموشحات والقدود في عالم الغناء العربي، وكانت الرائدة، في هذين الصنفين، فإنها، في الوقت نفسه، نافست القاهرة على "الدور" أيضًا. ومن أَعلام "الدور" الحلبيين الشيخ على الدرويش، ومن أبرز أعلامهم في الموشحات ورقص السماح الشيخ عمر البطش الذي أنجز نحو 130 موشحًا منها "يمر عجبًا ويمضي ولا يؤدي السلاما" و "يا قلبي ما لك والغرام" ودور "يا قلبي إفرح نلت المرام"، علاوة على بكري الكردي صاحب "إبعت لي جواب وطمّني" و "القلب مهما مال". والمشهور أن جميل عويس هو الذي علّم سيد درويش التدوين الموسيقي (النوطة)، ودوّن له جميع أعماله، ولولا صنيعه هذا لضاعت معظم أعمال سيد درويش. واستعان محمد عبد الوهاب بجميل عويس لتدوين أعماله الموسيقية والغنائية الأولى حينما كان لا يتقن التنويط. والمعروف أن سيد درويش أخذ من الملا عثمان الموصلي نزيل حلب بعض ألحانه مثل "زوروني كل سنة مرة" وأصله "زر قبر الحبيب مرة" و "طلعتْ يا محلى نورها" وأصله "بهوى المختار المهدي". وكان للملا عثمان الموصلي المولع بالطرق الصوفية وإيقاعاتها وحركاتها أثر مهم في ألحان عبده الحامولي وكامل الخلعي ومعهما أحمد أبو خليل القباني الدمشقي نزيل القاهرة. وقد تعلم سيد درويش الموشحات والقدود وأصول فن الانشاد على الشيخ صالح الجذبة في أثناء إقامته نحو السنة في حلب أول مرة (1909)، ثم حين عاد إليها في عام 1912 ليقيم فيها نحو السنتين. وكثير من موشحات سيد درويش غير كاملة وناقصة الخانات (الخانة هي الأبيات التي تلي مطلع الموشح الذي يُسمى "القفل")، وقد أكمل الشيخ عمر البطش تلك الخانات الناقصة، ومنها على سبيل المثال موشح "يا شادي الألحان" الذي وضع سيد درويش مطلعه هكذا: "يا شادي الألحان اسمعنا رنة العيدان" ثم وقف عنده. فأكمل عمر البطش الخانة ليصبح على النحو التالي: "هات يا فنان اسمعنا نغمة الكردان يا لا للي". وفي موشح "مُنيتي عز اصطباري" وقف سيد درويش عند المطلع "منيتي عز اصطباري زاد وجدي والهيام"، فأكمله عمر البطش بالخانة التالية: "من لحاظك كم أداري من سيوفٍ مع سهام".
لمع في سماء حلب كثير من المغنين والموسيقيين أمثال مجدي العقيلي وبكري الكردي وعبد العال الجرشة (جدّ عبد الرحمن عبد العال الذي عُرف باسم عبود عبد العال، وهو من كبار عازفي الكمان) وأحمد عقيل ومحمد صالح الجذبة، ولاحقًا الشيخ صبري مدلل والشيخ حسن الحفار وأديب الدايخ. ثم جاء صباح فخري ليرث ذلك التراث العظيم، ويتفوّق على جميع مَن سبقه، ويبدع ألحانًا وأغنيات حملت رحيق الغناء الحلبي، وفاحت كالعطر الذي يتسلل إلى شغاف القلب والحس والأسماع بطريقة من المحال الفكاك من سحرها.
بعده، وقبل رحيله، صار الغناء في العالم العربي مثل أحوال العرب تمامًا: انحلال وانحطاط وتفاهة وجهل وبذاءة وسخافة وقلة ذوق وقرف. أما صباح فخري فظل حارسًا لذائقتنا الغنائية، وكان ملاذنا الدائم في مواجهة الابتذال والهبوط والسقوط والأصوات التي تبرهن في كل يوم على أن أصحابها حشوا أفواههم بالشوك وراحوا يتغرغرون بالعوسج.
صباح فخري هو حقًا آخر العباقرة العمالقة في ميدان الغناء الجميل والطرب العظيم. بعده ستصبح حلب عطشى بلا "دور" أو "قدّ" أو "توشيح"، وصرنا نحن في اضطراب وبلبال، ولا مَن يُسعف آذاننا أو نلوذ بصوته وألحانه وموسيقاه. فيا لهذه الغربة التي سربلت حواسنا بكآبة لا تنتهي.
صقر أبو فخر
موسيقى
شارك هذا المقال
حجم الخط
لمدينة حلب، وهي من أعظم مدائن الشرق، حارسان يصونان جمالها وبهاءها هما: قلعتها الشامخة وصباح فخري. وعندما أقول صباح فخري في هذا المقام فإنني أستخدم المجاز بالتأكيد، لأن صباح فخري، قبل أي تصنيف، هو الفوح الأخير لعطر الجمال في مدرسة الغناء العربي الراقي. والمشهور أن الغناء العربي انتصب، في ذروة تجلياته وابداعاته، على قائمتين: مدرسة الطرب في مصر، ومدرسة حلب الباهرة والفريدة. ولا ريب عندي أن صباح فخري ومحمد عبد الوهاب هما أعظم صوتين في تاريخ الغناء العربي خلال المئة سنة الأخيرة، وهذا الحُكم لا يمنعني من الالتفات إلى ثراء الغناء في مصر والشام، كما تجسّد في أصوات كثيرين من عيار سيد درويش وصالح عبد الحي وفتحية أحمد ونجاة علي وحياة محمد وعصمت عبد العليم وأم كلثوم ومحمد عبد المطلب وعبد العزيز محمود ومحمد رشدي وعبد الحليم حافظ وكارم محمود وشادية في مصر، ثم فريد الأطرش وأسمهان وفايزة أحمد ورفيق شكري ونادرة الشامية وماري جبران وميادة الحناوي وليلى مراد وفهد بلان وصبري مدلل ومحمد خيري وأديب الدايخ وحسن الحفار ونجيب السراج في سورية، علاوة على فيروز ونور الهدى ونجاح سلام وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين في لبنان، ووردة وناظم الغزالي في الجزائر والعراق.
"صباح فخري عبقرية صوتية وموسيقية نادرة لا تدانيها أي قامة غنائية أخرى، فهو يمتلك جمالًا صوتيًا متفردًا لم تعرفه الأذن المدرّبة منذ ما لا يقل عن ثلاثة أرباع القرن" |
غنّى صباح فخري أكثر من ألف دور وموشح وابتهال وقدّ وقصيدة وموّال، ونبش كنوز الغناء الحلبي ومطموراته وسجّل معظمها كلها كي لا تضيع أو تندثر أو يطويها الإهمال وانصراف الأجيال الجديدة عنها. وهو الوحيد، على الأرجح، بين المطربين العرب العظام، الذي يجتمع إليه "السمّيعة" والأجيال الشابة معًا، وهو الذي تمكن ببراعة من جذب الشبان والكهول إلى أغنياته الباهرة، وأدار ظهره للكلام المسلوق عن الأصالة والمعاصرة، لأنه كان، بابتكاراته الغنائية الفذة، التجسيد الحقيقي لاجتماع الأصالة والمعاصرة كما تجلت في أغنية "خمرة الحب اسقنيها" على سبيل المثال، أو في أغنية "ابعتلي جواب وطمّني" للموسيقي السوري بكري الكردي. وكان صباح فخري قد غنّى موشح "بالذي أسكر من عذب اللمى" وموشح "يا صاحِ الصبرُ "كما لم يغنهما أحد قبله. وغنّى "أنا في سكرين" التي ينسب البعض لحنها إلى الملحن السوري الأرمني سري طمبورجي، بطريقة أذهلت من استمع إليه. كذلك غنّى دور "أصل الغرام نظرة" لداود حسني (ويُنسب إلى محمد المسلوب) بأداء تساوى فيه مع المطربة السورية الراحلة ماري جبران التي أبدعت في غناء هذا الدور، وتفوقت على أم كلثوم في بعض مقاطعه.
"أنا نفسي حضرت له حفلة في قاعة أريسكو بالاس في بيروت، ظل يغني فيها من التاسعة ليلًا حتى السحور، فأذّن أذانًا مبهرًا وأنهى الحفلة" |
الغناء والمدينة
ازدهر الغناء العربي في المدن، وبالتحديد في القاهرة وحلب ودمشق وبغداد، في أثناء صعود الطبقة الوسطى الجديدة التي تبلورت في سورية بعد الإصلاحات العثمانية في عام 1858 فصاعدًا، وبعد ظهور فئات الأفندية الذين تخرجوا في جامعات اسطمبول وباريس. وانتعش الغناء في مصر بعد ثورة 1919 التي قادتها الفئات العليا من الطبقة الوسطى، وجذبت إليها الشعراء والمغنين والموسيقيين من طراز محمود بيرم التونسي وأحمد رامي وسيد درويش وداود حسني وزكريا أحمد وصالح عبد الحي ومحمد القصبجي وغيرهم. واللافت أن الغناء العربي تألق على أيدي الشيوخ؛ ففي مصر كان هناك الشيخ سيد درويش والشيخ سلامة حجازي والشيخ سيد الصفتي والشيخ درويش الحفني والشيخ أبو العلا محمد والشيخ محمد المسلوب والشيخ يوسف المنيلاوي والشيخ زكريا أحمد والشيخ محمد القصبجي، ومعظم هؤلاء خلعوا العمة والجبة لاحقًا.
"اللافت أن الغناء العربي تألق على أيدي الشيوخ؛ ففي مصر كان منهم الشيخ سيد درويش والشيخ سلامة حجازي والشيخ سيد الصفتي والشيخ درويش الحفني والشيخ أبو العلا محمد والشيخ زكريا أحمد والشيخ محمد القصبجي، ومعظم هؤلاء خلعوا العمة والجبة لاحقًا" |
وفي سورية اشتُهر الشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش والشيخ أحمد الجندي والشيخ أحمد القباني (أبو خليل) والشيخ صالح الجذبة. والمشهور في هذا الحقل التاريخي أن الحلبيين علّموا المصريين فن الموشح، ولا سيما الشيخ علي الدرويش الذي علّمهم تدوين الموشحات في أثناء تدريسه في المعهد الملكي المصري للموسيقى. واشتُهر من بين الموسيقيين السوريين في مصر أنطوان الشوا وابنه سامي الشوا (من حلب) وكميل شمبير الذي كان مديرًا لمسرح نجيب الريحاني (من حلب) وجميل عويس (من جسر الشغور في حلب) الذي ترأس الفرقة الموسيقية لمحمد عبد الوهاب في أواسط الثلاثينيات، ونجح في إدخال الكمان الجهير (الفيولونسيل) والكمان الأجهر (الكونترباص) في التخت الشرقي، مثلما تمكن أنطوان الشوا بعد معاناة قاسية من إدخال الكمان في التخت الشرقي بدوره. ولا ننسى توفيق الصباغ، ملك الكمان في مصر، وهو سوري من حلب أيضًا. ومن أبرز المغنين السوريين أو من أصول سورية في مصر: أسمهان وفريد الأطرش وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وليلى مراد وزكي مراد ومنير مراد وفتحية أحمد ونادرة الشامية. وكانت عائلة ليلى مراد (مردخاي) نزحت من حلب إلى الاسكندرية فيما بقي نسيم مراد يغني في حلب حتى وفاته فيها. ولمع في القاهرة والدها زكي مراد وشقيقها منير (موريس). أما فتحية أحمد المولودة في مصر، واسمها الأصلي دولت أحمد الحمزاوي، فهي على الراجح دمشقية الأصول، وكانت تقسم أوقاتها نصفين: الخريف والشتاء في مصر، والربيع والصيف في سورية، وسُميت "مطربة القطرين" أي سورية ومصر على غرار الشاعر خليل المطران الذي لُقّب بـِ "شاعر القطرين" أيضًا أي مصر ولبنان.
ما سرّ حلب؟
حلب عالَم فسيح من التنوع الإثني والتعدد الثقافي والانفتاح والتمدن، وفيها من الجماعات البشرية عرب وسريان وأشوريون وكلدان وروم ويونان وأرمن وكرد وتركمان، وأخلاط من الإيطاليين والشركس والأبخاز والشيشان والداغستان. وفي هذه المدينة المتفردة برع الحلبيون، علاوة على التجارة والسياسة والثقافة واللاهوت، في الطعام والغناء، وتفننوا في صنع أصنافهما وضروبهما، وطبقوا الحكمة التي اقترضتها بغداد منهم وهي أن "الشواء والحلواء زينة الغداء، وهما أجرى في الحلوق وأمضى في العروق". ومن علائم المرح التي اكتنفت أهل حلب إطلاقهم على بعض الأكلات أسماء فيها من الدعابة والغرابة والذوق والفكاهة الكثير الكثير، مثل شلباطو (مسقعة ملفوف بائتة وبرغل)، يهودي مسافر (مسقعة باذنجان بائتة وبرغل)، شيخ وجماعتو (كبة وشيش بَرَك)، شيخ ولفتو (يقطينة محشوة)، شفايف الست (رقاقات عجين مع دبس)، مص وكب (أرضي شوكي مسلوق)، فتوش كلاب (بندورة وبصل وخبز بائت وزيت وسُمّاق)، حكاك دبرو (خبز وفليفلة حارة)، كبة شخاخة (كبة محشوة بالدهن)، محني دقنو، طباخ روحو، خرا ملايكة (الشوكولا)... وغير ذلك. ويقول الحلبيون في أمثالهم: "إذا جِعتْ غنّي، وإذا كِثْرِتْ عليكْ همومك نامْ". ومن أمثالهم أيضًا: أكّيل وانشرح إجا [جاء] ديقوم [ليقوم] انطرح وانشطح [استلقى]، أي أن الأكل والانشراح متلازمان. أما المصريون فيرددون: "بعد العِشا يحلى السهر والفرفشة"، والغناء هو أبو السهر وأمّه، والعزف هو الانشراح بعينه.
"كثير من موشحات سيد درويش غير كاملة وناقصة الخانات، وقد أكمل الشيخ عمر البطش تلك الخانات الناقصة، ومنها موشح "يا شادي الألحان" الذي وضع سيد درويش مطلعه: "يا شادي الألحان اسمعنا رنة العيدان" ثم وقف عنده، فأكمل عمر البطش الخانة" |
اختصر موسيقيو حلب صنعة الموسيقى بعبارة "صُنع بسحر" وهي اختصار للنغمات السبع التالية: الصبا، النهاوند، العجم، البيات، السيكاه، الحجاز، الراست، وهي أكثر النغمات شيوعًا في حلب، وإذا كانت حلب قد جلست على عرش الموشحات والقدود في عالم الغناء العربي، وكانت الرائدة، في هذين الصنفين، فإنها، في الوقت نفسه، نافست القاهرة على "الدور" أيضًا. ومن أَعلام "الدور" الحلبيين الشيخ على الدرويش، ومن أبرز أعلامهم في الموشحات ورقص السماح الشيخ عمر البطش الذي أنجز نحو 130 موشحًا منها "يمر عجبًا ويمضي ولا يؤدي السلاما" و "يا قلبي ما لك والغرام" ودور "يا قلبي إفرح نلت المرام"، علاوة على بكري الكردي صاحب "إبعت لي جواب وطمّني" و "القلب مهما مال". والمشهور أن جميل عويس هو الذي علّم سيد درويش التدوين الموسيقي (النوطة)، ودوّن له جميع أعماله، ولولا صنيعه هذا لضاعت معظم أعمال سيد درويش. واستعان محمد عبد الوهاب بجميل عويس لتدوين أعماله الموسيقية والغنائية الأولى حينما كان لا يتقن التنويط. والمعروف أن سيد درويش أخذ من الملا عثمان الموصلي نزيل حلب بعض ألحانه مثل "زوروني كل سنة مرة" وأصله "زر قبر الحبيب مرة" و "طلعتْ يا محلى نورها" وأصله "بهوى المختار المهدي". وكان للملا عثمان الموصلي المولع بالطرق الصوفية وإيقاعاتها وحركاتها أثر مهم في ألحان عبده الحامولي وكامل الخلعي ومعهما أحمد أبو خليل القباني الدمشقي نزيل القاهرة. وقد تعلم سيد درويش الموشحات والقدود وأصول فن الانشاد على الشيخ صالح الجذبة في أثناء إقامته نحو السنة في حلب أول مرة (1909)، ثم حين عاد إليها في عام 1912 ليقيم فيها نحو السنتين. وكثير من موشحات سيد درويش غير كاملة وناقصة الخانات (الخانة هي الأبيات التي تلي مطلع الموشح الذي يُسمى "القفل")، وقد أكمل الشيخ عمر البطش تلك الخانات الناقصة، ومنها على سبيل المثال موشح "يا شادي الألحان" الذي وضع سيد درويش مطلعه هكذا: "يا شادي الألحان اسمعنا رنة العيدان" ثم وقف عنده. فأكمل عمر البطش الخانة ليصبح على النحو التالي: "هات يا فنان اسمعنا نغمة الكردان يا لا للي". وفي موشح "مُنيتي عز اصطباري" وقف سيد درويش عند المطلع "منيتي عز اصطباري زاد وجدي والهيام"، فأكمله عمر البطش بالخانة التالية: "من لحاظك كم أداري من سيوفٍ مع سهام".
"بعده، وقبل رحيله، صار الغناء في العالم العربي مثل أحوال العرب تمامًا: انحلال وانحطاط وتفاهة وجهل وسخافة وقلة ذوق وقرف. أما صباح فخري فظلّ حارسًا لذائقتنا الغنائية، وكان ملاذنا الدائم في مواجهة الابتذال والسقوط" |
بعده، وقبل رحيله، صار الغناء في العالم العربي مثل أحوال العرب تمامًا: انحلال وانحطاط وتفاهة وجهل وبذاءة وسخافة وقلة ذوق وقرف. أما صباح فخري فظل حارسًا لذائقتنا الغنائية، وكان ملاذنا الدائم في مواجهة الابتذال والهبوط والسقوط والأصوات التي تبرهن في كل يوم على أن أصحابها حشوا أفواههم بالشوك وراحوا يتغرغرون بالعوسج.
صباح فخري هو حقًا آخر العباقرة العمالقة في ميدان الغناء الجميل والطرب العظيم. بعده ستصبح حلب عطشى بلا "دور" أو "قدّ" أو "توشيح"، وصرنا نحن في اضطراب وبلبال، ولا مَن يُسعف آذاننا أو نلوذ بصوته وألحانه وموسيقاه. فيا لهذه الغربة التي سربلت حواسنا بكآبة لا تنتهي.