طرق المذاكرة والتفكير الصحيحة: لماذا التفكير ثقيل على الإنسان؟ وكيف تسهله؟
لعل أكبر لغز واجه عقل الإنسان هو عقل الإنسان. هذا العقل البشري الذي فُضلنا به على سائر أمم الحيوان وممالكه، والذي استطاع به الإنسان أن يبلغ ما بلغه من تكنولوجيا وعلوم تشعبت حتى لا تكاد تعد، ثم لم يعجزه إلا أن يعرف نفسه، وكيف يعمل. فإن كان الكون لغزًا، فإن العقل على صغره وبساطته لغز أكبر. وقد كنت أريد أن أتكلم عن العقل كله بجميع وظائفه وأعاجيبه، ولكن خشية أن يطول المقالُ ويسأم القارئُ جعلته عن الذاكرة والتعلم وحدهما، ثم وصلت هذا بأثر التعلم في التفكير، وأثر الحفظ والذكر في الفهم والفكر. وبثثت خلال المقال إبطالًا لبعض الأوهام المتعلقة بالحفظ، وبالتعلم، وحِيَلًا تعين الطلبة على استخدام هذه المعلومات في الطلب والمذاكرة.
خلافًا لما قد تتوقع، فإن العقل لم يصمم للتفكير، بل صمم ليريحك منه، لأن العقل في الحقيقة ليس جيدًا جدًا فيه. فالتفكير عملية بطيئة لا يعتمد عليها. فانظر إلى المفارقة العجيبة، لو سئل الناس ما الشيء الذي يفصلنا عن باقي الحيوانات؟ لقالوا التفكير، ومع ذلك فالعقل ليس جيدًا جدًا فيه، بل هو مرهق مُكِدُّ للعقل ثقيل عليه، وعلى ذلك قال هنري فورد:
“التفكير هو أصعب الأعمال، ولعل هذا هو السبب في قلة من يخوضون فيه”
وقال برتراند رسِل:
“معظم الناس يؤثرون أن يموتوا على أن يفكروا، بل في الحقيقة هم يفعلون ذلك
وقال توماس إيدسون:
“خمسة بالمئة من الناس يفكرون، وعشرة بالمئة يظنون أنهم يفكرون، أما الخمسة والثمانون الباقون فيؤثرون أن يموتوا على أن يفكروا”
كل هذه الأقوال تدل على أننا وإن كنا فُضلنا على سائر الحيوانات بالتفكير، فإنا نمارسه قليلًا.
وتفسير هذا عند علماء المعرفة، فإنهم يقولون إن الإنسان لا يفكر كثيرًا لأن عقله لم يُهيَّأ للتفكير بل لاجتناب التفكير. فالتفكير ليس متعبًا فقط كما في هذه الأقوال، بل لا يُعتمد عليه كذلك. فالتفكير ثقيل لأنه بخلاف أعمال العقل الأخرى كوعي ما يُرى ويسمع والمشي قائمًا والاتزان وغير ذلك يحتاج إلى تركيز. فإنك لا تحتاج كي ترى أن تركز أو أن تشغل عقلك به، بل ما هو إلا أن تفتح عينيك حتى يعالج العقل كل ما ترى وتعي كل ما حولك. وكذلك السمع، وإن كان يختلف عن الإبصار بأنك لا تحتاج إلى فتح أذنك كي تسمعَ ويبلغَ المسموع العقل ليَعِيَه. وكذلك الاتزان والاعتدال الذي منَّ الله على الإنسان به فقال: “الذي خلقك فسواك فعدلك” فهذا العدل أمر صعب للغاية، فضلنا به على الحيوانات.
فكل هذه العمليات وغيرها على صعوبتها لا تأخذ منا جهدًا كي نؤديها، وهي تحتل أكبر مساحة المخ. وإذا أردت أن تعرف شدة هذه العمليات وصعوبتها فانظر إلى الحواسيب والروبوتات التي اخترعت، فقد آتيك بحاسوب يحل أعقد مسائل الرياضيات، أو يغلب جميع حُذَّاق الشطرنج، ولكن أن آتي بحاسوب أو روبوت يمشي، أو يعي ما حوله، ويفهم ما يسمع فهذا شيء لا تجده إلا في الأفلام، وإن كان العلماء خطوا في سبيل ذلك بعض الخطوات، فعملوا المساعد الشخصي للأيفون “سيري”، ولويندوز 10 “كورتانا”، والحاسوب الذكي “واتسون” القادر على الإجابة عن أسئلة تُطرح بلغة البشر. فالتفكير عملية صعبة عسيرة، تحتاج إلى تركيز وتفرغ له. فلا تحتاج إلى أن تركز كي ترى أو كي تسمع، بل ترى وتسمع وأنت تعمل شيئا آخر، ولكن تحتاج إلى تركيز كي تفكر، فلذلك قلنا إنه مقارنةً بقدرتنا على البصر والسمع متعب.
معضلة الشمعة
قد تبين بذلك أن التفكير عملية متعبة، ولكن كيف يكون عملية بطيئة وغير معتمدة؟ حتى تشعر بما قلت فجرب أن تحل هذه الأحجية المشهورة عند علماء النفس.
“يوجد في غرفة شمعة وأعواد كبريت وعلبة مسامير. ونريد منك أن ترفع الشمعة مشتعلةً قريبًا من 5 أقدام فوق الأرض، وقد جربتَ أن تُذيب بعض الشمع أسفل الشمعة وأن تلزقها بالجدار ولكن لم ينجع ذلك، فكيف ترفعها فوق الأرض بخمسة أقدام من غير أن تحملها؟”
20 دقيقة هي أقصى ما يسمح به، وقليل من الناس يحلها، وإن كنت حين تعرف حلها ستستسهلها. الحل: تفرغ علبة المسامير، وتُسمِّر العلبة إلى الجدار إلى ما تريد من ارتفاع ثم تضع الشمعة فيها. فهذه الأحجية وغيرها تبين ما نريد من وصف التفكير بالثلاث صفات التي ذكرناها. فإذا كان التفكير على ما وصفنا فماذا تقول في كل القرارات التي نتخذها في يومنا بسرعة، أليس كل ذلك عن تفكير سريع غير مُتعب؟ لا، بل نتملص من التفكير فيها، فلا نفكر أصلًا في أكثر قراراتنا، ولكن نعتمد على الذاكرة. فأكثر ما نواجه من مشاكل في يومنا هي مشاكل قد حللناها من قبل، فنقتصر في حلها على كيف حللناها من قبل. وذلك كما قال علي بن أبي طالب: “واستدل على مالم يكن بما كان، فإن الأمور اشتباه”. فهذا الذي نظنه تفكيرًا ليس إلا اعتمادٌ على الذاكرة.
فهب أنك بعد أسبوع من الآن وقد عرفت حل هذه الأحجية، سئلت عنها مرة أخرى، فإنك ستقول من فورك: “نعم أعلمها، تلزق العلبة بالجدار وتضع الشمعة” فهذا هو التذكر، وهو أسهل وأسرع وأوثق من التفكر. والذاكرة نوعان: ذاكرة قصيرة المدى (الذاكرة العاملة)، لا تمكث الذكرى فيها إلا ريثما تقضي حاجتك منها ثم تمَّحِي، وأقصاها عشر دقائق، وإلا محيت أو انتقلت إلى الذاكرة الطويلة المدى، وهي النوع الثاني من الذاكرة. وفيها قد تمكث الذكريات والحقائق لسنين بل ربما لعقود، وفيها يكون جميع خبرتك وعلمك، وبين هذين الطرفين ذكريات مداها متوسط، تظل لأيام أو لشهور وربما لسنين ثم تُمحَى إذا أُهملت. فتخزن الذاكرة كل الأعمال التي تتكرر عليك، حتى تغني العقل عن التفكير، وتُخلي الذاكرة العاملة، وهي القصيرة المدى، من الأعمال المتكررة حتى تتفرغ إلى ما يجدُّ على العقل. فإن مَثَل الذاكرة العاملة كمثل سبُّورة لها مساحة معينة، تكتب فيها ما تحتاج إليه في حينه ثم تمحوه إذا انقضت الحاجة أو إذا انتقل إلى الذاكرة الطويلة المدى. فعودتك إلى بيتك من العمل لا يحتاج إلى تفكير في طريقه، ولا كيفية قيادة السيارة ولم يكن ذلك إلا عن تكرير لهذا الفعل. وكذلك حال كل الخبراء وأصحاب الحِرف والصناعات، قد جُعلت أكثر أعمالهم تلقائية لا تفكير فيها، وذلك لأنها متكررة عليهم، فلما تكررت أُدخلت الذاكرةَ الطويلة المدى، وإن كانت كل هذه الأعمال صعبة أول أمرها. وأمثل بأمثلة قريبة من القراء وقد جرب كثير منهم لعب البلاي ستيشن، فالمبتدئ فيه قد يغلب على فكره تَعرُّفه أزرار الذراع، ولا يهتم باللعب نفسه، ومستعمل الحاسوب ينشغل أول أمره بمواضع المفاتيح عن ما يريد أن يكتب، ثم إذا حذق هذا (أي أدخله الذاكرة الطويلة المدى) تفرغت ذاكرته العاملة للعبة نفسها، أو لما يريد أن يكتب. فتخزن الذاكرة الطويلة المدى كل الأعمال التي تتكرر عليك، حتى تغني العقل عن التفكير، وتُخلي الذاكرةَ العاملة، وهي القصيرة المدى، من الأعمال المتكررة حتى تتفرغ إلى ما يجدُّ على العقل. فلولا هذه الذاكرة الطويلة المدى لعسرت علينا حياتنا جدًا، ولانشغلنا بأعمالنا المتكررة علينا عن الأشغال الطارئة، ولما تقدمنا شبرًا في علومنا، إذ لانشغلنا كل مرة بتعلم ما يتكرر علينا عن الإبداع، فلولاها ما استطعت أنا أن أكتب هذا المقال! وأنصح من أراد أن يتخيل حاله بغير ذاكرة طويلة المدى أن يشاهد فِلم “Memento” فإن فيه تمثيل حسن لهذه الحالة، وتبيينًا لفضل هذه النعمة علينا، وهو مع ذلك ممتع.
أرجو أن أكون أوضحت الآن كيف أن التفكير ثقيل، وأن الذاكرة تخفف منه، وأن كثيرًا مما نعده تفكيرًا إنما هو استحضار لما في الذاكرة. ولكن هل يعني كون التفكير ثقيلًا أن الإنسان دائمًا لا يحب التفكير، أم إن هناك مواطن يحب الإنسان فيها أن يُعمل فكره؟ الإجابة هي نعم، هناك مواطن يحب فيها الإنسان التفكير وإن كان لا يحسنه. وذلك إذا كانت المشكلة بينَ بينَ، صعبةً سهلةً، فإن سهلت عليه جدًا استسهلها وعدها طفولية، وإن صعبت جدًا عدها مستحيلة فتركها. أما إذا كانت وسطًا بين ذلك فإنه يستمتع بحلها. والاستمتاع حينئذ يكون بحلك لها، لا بمعرفة إجابتها. وإلا فقد أخبرتك بمسألة الشمعة، فهل استمتعت إذ علمت حلها مني؟ فمن حلها بنفسه فقد استمتع بها، ومن لم يحلها لم يستمتع بمعرفة جوابها.
وفي قريب من هذا قال مسلمة بن عبد الملك: “ما شيء يؤتى العبدُ بعد الإيمان بالله أحب إليَّ من جواب حاضر، فإن الجواب إذا انعقب لم يك شيئًا” فتفرح إذا حضرك جوابٌ عن ما سُئلت في وقته، أما إذا جاءك بعد الحدث فتتحسر. وكذلك الأمر في الأضحوكات، وقد جربت هذا كثيرًا: أقول النكتة فمن فطن إلى معناها ضحك، ومن استفهمني عن معناها فأفهمته لم يضحك، وذلك لأن فهمه انعقب (أي لم يأت من فوره) ولم يأت من قبل نفسه. فقد قلت مرة: قال أبراهام لنكولن: “احذروا الاقتباسات المكذوبة على الإنترنت” فلم يضحك إلا من فهمها بغير إفهام، ولعلكم جربتم ذلك فرأيتم صحة ما أقول. ومثلها الأحازير والأحجيات كما مثلنا لها بالشمعة.
فالإنسان يفكر إذا (1) اضطر كما قال الجاحظ: “ولن ينظر ناظر ولا يفكر مفكر دون الحاجة التي تبعث على الفكرة” (2) وإذا وجد لذة من وراء التفكير (وذلك إذا كانت المشكلة وسطًا يمكن حلها) وقد تكلم كثير من الفلاسفة عن اللذة وأن أسماها لذة العلم، وحل عويص المسائل، وجعلوها أحد أسباب جمال الرياضيات، أعني اللذة التي تعقب حل مسائله، والتي تحمل كثيرًا من علماء الرياضيات على التخصص في الرياضيات البحتة التي لا تطبيق ولا عمل من ورائها، وإنما ذلك لما وجدوه من لذتها.
ثم أزيد أمر التفكير وعلاقته بالذاكرة إيضاحًا، فهذا الشكل تمثيل يسير لأمر التذكر والتفكير، فعلى يساره المحيط أي ما تراه وتسمعه، وحتى المسائل التي تريد حلها، وهذا المقال الذي تقرأه. وعن يمينه تجد الذاكرة العاملة (قصيرة المدى)، وقد مثلت لها بالسبورة من قبل. وفيها يكون وعيك لما حولك، وتخزن الأمور التي تفكر فيها. والسهم الذي من المحيط إلى الذاكرة العاملة يبين أن الذاكرة العاملة هي حيث تعي ما حولك من صورة وصوت حاضرين. وقد تعي أشياء ليست حولك، ولكنك مررت بها من قبل ثم انقضت ومضت، وهذه تكون في الذاكرة الطويلة المدى، فقد تذكر صوت والدتك وإن لم تكن بالغرفة، وتذكر صورة الفيل وإن لم يكن أمامك، وكل ذلك استحضار من هذه الذاكرة. فهذه الذاكرة هي محل جميع ما تعلم من حقائق: من لغة وصور وأصوات وأفكار. وجميع هذه الذكريات الطويلة المدى تكمن في هذه الذاكرة ساكنةً، حتى إذا أُهيجَت واستُحضرت حَضرَت مباشرة إلى وعيك، أي إلى ذاكرتك العاملةِ القصيرةِ المدى. فلو سألتك ما لون الدب القطبي؟ لقلت “أبيض” من فورك، وقد كانت هذه المعلومة في ذاكرتك الطويلة المدى ساكنة غير حاضرة بوعيك من ثوانٍ، حتى إذا سئلت عنها واستحضرتها حضرت.
برج هانوي
ثم التفكير يحدث حين تجمع بين المعلومات (من المحيط ومن الذاكرة طويلة المدى) بطرق جديدة. هذا الجمع يحدث في الذاكرة العاملة. وحتى أريك كيف يكون هذا الجمع فجرب أن تحل هذه الأحجية، وهي مشهورة عند أهل الرياضيات واسمها “برج هانوي“. وفيها يجب أن تنقل الأقراص من العمود الأول إلى الأخير، وألا يعلو قرص كبير على قرص أصغر منه. فلو جربت أن تحلها (وليس الغرض هنا هو حلها ولكن لأن نجرب ماذا نعني بالتفكير والذاكرة العاملة) فتبدأ بأن تجمع المعلومات من المحيط، وهي هنا قواعد اللعبة وهيئتها، ثم تتصور أنك تحرك الأقراص لتحاول أن تبلغ الموضع الذي تريد، وفي ذاكرتك العاملة يجب أن تُبقي حالتك الراهنة في اللعبة وأين وضعت أقراصك، وكذلك أن تظل متذكرًا القواعد وما يُسمح به من تحركات وما لا يُسمح.
ومثلها Unblock Me، التي تحتاج إلى تصور كثير من الخطوات البعيدة التي تسمح لك بأن تخرج القالب دون أن يعوقه شيء. فهذه ومثلها كثير من الألعاب والأحجيات إنما صعبت لما فيها من تفكير، أي ملء للذاكرة العاملة بالمعلومات من المحيط أي اللعبة.
لعل أكبر لغز واجه عقل الإنسان هو عقل الإنسان. هذا العقل البشري الذي فُضلنا به على سائر أمم الحيوان وممالكه، والذي استطاع به الإنسان أن يبلغ ما بلغه من تكنولوجيا وعلوم تشعبت حتى لا تكاد تعد، ثم لم يعجزه إلا أن يعرف نفسه، وكيف يعمل. فإن كان الكون لغزًا، فإن العقل على صغره وبساطته لغز أكبر. وقد كنت أريد أن أتكلم عن العقل كله بجميع وظائفه وأعاجيبه، ولكن خشية أن يطول المقالُ ويسأم القارئُ جعلته عن الذاكرة والتعلم وحدهما، ثم وصلت هذا بأثر التعلم في التفكير، وأثر الحفظ والذكر في الفهم والفكر. وبثثت خلال المقال إبطالًا لبعض الأوهام المتعلقة بالحفظ، وبالتعلم، وحِيَلًا تعين الطلبة على استخدام هذه المعلومات في الطلب والمذاكرة.
خلافًا لما قد تتوقع، فإن العقل لم يصمم للتفكير، بل صمم ليريحك منه، لأن العقل في الحقيقة ليس جيدًا جدًا فيه. فالتفكير عملية بطيئة لا يعتمد عليها. فانظر إلى المفارقة العجيبة، لو سئل الناس ما الشيء الذي يفصلنا عن باقي الحيوانات؟ لقالوا التفكير، ومع ذلك فالعقل ليس جيدًا جدًا فيه، بل هو مرهق مُكِدُّ للعقل ثقيل عليه، وعلى ذلك قال هنري فورد:
“التفكير هو أصعب الأعمال، ولعل هذا هو السبب في قلة من يخوضون فيه”
وقال برتراند رسِل:
“معظم الناس يؤثرون أن يموتوا على أن يفكروا، بل في الحقيقة هم يفعلون ذلك
وقال توماس إيدسون:
“خمسة بالمئة من الناس يفكرون، وعشرة بالمئة يظنون أنهم يفكرون، أما الخمسة والثمانون الباقون فيؤثرون أن يموتوا على أن يفكروا”
كل هذه الأقوال تدل على أننا وإن كنا فُضلنا على سائر الحيوانات بالتفكير، فإنا نمارسه قليلًا.
وتفسير هذا عند علماء المعرفة، فإنهم يقولون إن الإنسان لا يفكر كثيرًا لأن عقله لم يُهيَّأ للتفكير بل لاجتناب التفكير. فالتفكير ليس متعبًا فقط كما في هذه الأقوال، بل لا يُعتمد عليه كذلك. فالتفكير ثقيل لأنه بخلاف أعمال العقل الأخرى كوعي ما يُرى ويسمع والمشي قائمًا والاتزان وغير ذلك يحتاج إلى تركيز. فإنك لا تحتاج كي ترى أن تركز أو أن تشغل عقلك به، بل ما هو إلا أن تفتح عينيك حتى يعالج العقل كل ما ترى وتعي كل ما حولك. وكذلك السمع، وإن كان يختلف عن الإبصار بأنك لا تحتاج إلى فتح أذنك كي تسمعَ ويبلغَ المسموع العقل ليَعِيَه. وكذلك الاتزان والاعتدال الذي منَّ الله على الإنسان به فقال: “الذي خلقك فسواك فعدلك” فهذا العدل أمر صعب للغاية، فضلنا به على الحيوانات.
فكل هذه العمليات وغيرها على صعوبتها لا تأخذ منا جهدًا كي نؤديها، وهي تحتل أكبر مساحة المخ. وإذا أردت أن تعرف شدة هذه العمليات وصعوبتها فانظر إلى الحواسيب والروبوتات التي اخترعت، فقد آتيك بحاسوب يحل أعقد مسائل الرياضيات، أو يغلب جميع حُذَّاق الشطرنج، ولكن أن آتي بحاسوب أو روبوت يمشي، أو يعي ما حوله، ويفهم ما يسمع فهذا شيء لا تجده إلا في الأفلام، وإن كان العلماء خطوا في سبيل ذلك بعض الخطوات، فعملوا المساعد الشخصي للأيفون “سيري”، ولويندوز 10 “كورتانا”، والحاسوب الذكي “واتسون” القادر على الإجابة عن أسئلة تُطرح بلغة البشر. فالتفكير عملية صعبة عسيرة، تحتاج إلى تركيز وتفرغ له. فلا تحتاج إلى أن تركز كي ترى أو كي تسمع، بل ترى وتسمع وأنت تعمل شيئا آخر، ولكن تحتاج إلى تركيز كي تفكر، فلذلك قلنا إنه مقارنةً بقدرتنا على البصر والسمع متعب.
معضلة الشمعة
قد تبين بذلك أن التفكير عملية متعبة، ولكن كيف يكون عملية بطيئة وغير معتمدة؟ حتى تشعر بما قلت فجرب أن تحل هذه الأحجية المشهورة عند علماء النفس.
“يوجد في غرفة شمعة وأعواد كبريت وعلبة مسامير. ونريد منك أن ترفع الشمعة مشتعلةً قريبًا من 5 أقدام فوق الأرض، وقد جربتَ أن تُذيب بعض الشمع أسفل الشمعة وأن تلزقها بالجدار ولكن لم ينجع ذلك، فكيف ترفعها فوق الأرض بخمسة أقدام من غير أن تحملها؟”
20 دقيقة هي أقصى ما يسمح به، وقليل من الناس يحلها، وإن كنت حين تعرف حلها ستستسهلها. الحل: تفرغ علبة المسامير، وتُسمِّر العلبة إلى الجدار إلى ما تريد من ارتفاع ثم تضع الشمعة فيها. فهذه الأحجية وغيرها تبين ما نريد من وصف التفكير بالثلاث صفات التي ذكرناها. فإذا كان التفكير على ما وصفنا فماذا تقول في كل القرارات التي نتخذها في يومنا بسرعة، أليس كل ذلك عن تفكير سريع غير مُتعب؟ لا، بل نتملص من التفكير فيها، فلا نفكر أصلًا في أكثر قراراتنا، ولكن نعتمد على الذاكرة. فأكثر ما نواجه من مشاكل في يومنا هي مشاكل قد حللناها من قبل، فنقتصر في حلها على كيف حللناها من قبل. وذلك كما قال علي بن أبي طالب: “واستدل على مالم يكن بما كان، فإن الأمور اشتباه”. فهذا الذي نظنه تفكيرًا ليس إلا اعتمادٌ على الذاكرة.
فهب أنك بعد أسبوع من الآن وقد عرفت حل هذه الأحجية، سئلت عنها مرة أخرى، فإنك ستقول من فورك: “نعم أعلمها، تلزق العلبة بالجدار وتضع الشمعة” فهذا هو التذكر، وهو أسهل وأسرع وأوثق من التفكر. والذاكرة نوعان: ذاكرة قصيرة المدى (الذاكرة العاملة)، لا تمكث الذكرى فيها إلا ريثما تقضي حاجتك منها ثم تمَّحِي، وأقصاها عشر دقائق، وإلا محيت أو انتقلت إلى الذاكرة الطويلة المدى، وهي النوع الثاني من الذاكرة. وفيها قد تمكث الذكريات والحقائق لسنين بل ربما لعقود، وفيها يكون جميع خبرتك وعلمك، وبين هذين الطرفين ذكريات مداها متوسط، تظل لأيام أو لشهور وربما لسنين ثم تُمحَى إذا أُهملت. فتخزن الذاكرة كل الأعمال التي تتكرر عليك، حتى تغني العقل عن التفكير، وتُخلي الذاكرة العاملة، وهي القصيرة المدى، من الأعمال المتكررة حتى تتفرغ إلى ما يجدُّ على العقل. فإن مَثَل الذاكرة العاملة كمثل سبُّورة لها مساحة معينة، تكتب فيها ما تحتاج إليه في حينه ثم تمحوه إذا انقضت الحاجة أو إذا انتقل إلى الذاكرة الطويلة المدى. فعودتك إلى بيتك من العمل لا يحتاج إلى تفكير في طريقه، ولا كيفية قيادة السيارة ولم يكن ذلك إلا عن تكرير لهذا الفعل. وكذلك حال كل الخبراء وأصحاب الحِرف والصناعات، قد جُعلت أكثر أعمالهم تلقائية لا تفكير فيها، وذلك لأنها متكررة عليهم، فلما تكررت أُدخلت الذاكرةَ الطويلة المدى، وإن كانت كل هذه الأعمال صعبة أول أمرها. وأمثل بأمثلة قريبة من القراء وقد جرب كثير منهم لعب البلاي ستيشن، فالمبتدئ فيه قد يغلب على فكره تَعرُّفه أزرار الذراع، ولا يهتم باللعب نفسه، ومستعمل الحاسوب ينشغل أول أمره بمواضع المفاتيح عن ما يريد أن يكتب، ثم إذا حذق هذا (أي أدخله الذاكرة الطويلة المدى) تفرغت ذاكرته العاملة للعبة نفسها، أو لما يريد أن يكتب. فتخزن الذاكرة الطويلة المدى كل الأعمال التي تتكرر عليك، حتى تغني العقل عن التفكير، وتُخلي الذاكرةَ العاملة، وهي القصيرة المدى، من الأعمال المتكررة حتى تتفرغ إلى ما يجدُّ على العقل. فلولا هذه الذاكرة الطويلة المدى لعسرت علينا حياتنا جدًا، ولانشغلنا بأعمالنا المتكررة علينا عن الأشغال الطارئة، ولما تقدمنا شبرًا في علومنا، إذ لانشغلنا كل مرة بتعلم ما يتكرر علينا عن الإبداع، فلولاها ما استطعت أنا أن أكتب هذا المقال! وأنصح من أراد أن يتخيل حاله بغير ذاكرة طويلة المدى أن يشاهد فِلم “Memento” فإن فيه تمثيل حسن لهذه الحالة، وتبيينًا لفضل هذه النعمة علينا، وهو مع ذلك ممتع.
أرجو أن أكون أوضحت الآن كيف أن التفكير ثقيل، وأن الذاكرة تخفف منه، وأن كثيرًا مما نعده تفكيرًا إنما هو استحضار لما في الذاكرة. ولكن هل يعني كون التفكير ثقيلًا أن الإنسان دائمًا لا يحب التفكير، أم إن هناك مواطن يحب الإنسان فيها أن يُعمل فكره؟ الإجابة هي نعم، هناك مواطن يحب فيها الإنسان التفكير وإن كان لا يحسنه. وذلك إذا كانت المشكلة بينَ بينَ، صعبةً سهلةً، فإن سهلت عليه جدًا استسهلها وعدها طفولية، وإن صعبت جدًا عدها مستحيلة فتركها. أما إذا كانت وسطًا بين ذلك فإنه يستمتع بحلها. والاستمتاع حينئذ يكون بحلك لها، لا بمعرفة إجابتها. وإلا فقد أخبرتك بمسألة الشمعة، فهل استمتعت إذ علمت حلها مني؟ فمن حلها بنفسه فقد استمتع بها، ومن لم يحلها لم يستمتع بمعرفة جوابها.
وفي قريب من هذا قال مسلمة بن عبد الملك: “ما شيء يؤتى العبدُ بعد الإيمان بالله أحب إليَّ من جواب حاضر، فإن الجواب إذا انعقب لم يك شيئًا” فتفرح إذا حضرك جوابٌ عن ما سُئلت في وقته، أما إذا جاءك بعد الحدث فتتحسر. وكذلك الأمر في الأضحوكات، وقد جربت هذا كثيرًا: أقول النكتة فمن فطن إلى معناها ضحك، ومن استفهمني عن معناها فأفهمته لم يضحك، وذلك لأن فهمه انعقب (أي لم يأت من فوره) ولم يأت من قبل نفسه. فقد قلت مرة: قال أبراهام لنكولن: “احذروا الاقتباسات المكذوبة على الإنترنت” فلم يضحك إلا من فهمها بغير إفهام، ولعلكم جربتم ذلك فرأيتم صحة ما أقول. ومثلها الأحازير والأحجيات كما مثلنا لها بالشمعة.
فالإنسان يفكر إذا (1) اضطر كما قال الجاحظ: “ولن ينظر ناظر ولا يفكر مفكر دون الحاجة التي تبعث على الفكرة” (2) وإذا وجد لذة من وراء التفكير (وذلك إذا كانت المشكلة وسطًا يمكن حلها) وقد تكلم كثير من الفلاسفة عن اللذة وأن أسماها لذة العلم، وحل عويص المسائل، وجعلوها أحد أسباب جمال الرياضيات، أعني اللذة التي تعقب حل مسائله، والتي تحمل كثيرًا من علماء الرياضيات على التخصص في الرياضيات البحتة التي لا تطبيق ولا عمل من ورائها، وإنما ذلك لما وجدوه من لذتها.
ثم أزيد أمر التفكير وعلاقته بالذاكرة إيضاحًا، فهذا الشكل تمثيل يسير لأمر التذكر والتفكير، فعلى يساره المحيط أي ما تراه وتسمعه، وحتى المسائل التي تريد حلها، وهذا المقال الذي تقرأه. وعن يمينه تجد الذاكرة العاملة (قصيرة المدى)، وقد مثلت لها بالسبورة من قبل. وفيها يكون وعيك لما حولك، وتخزن الأمور التي تفكر فيها. والسهم الذي من المحيط إلى الذاكرة العاملة يبين أن الذاكرة العاملة هي حيث تعي ما حولك من صورة وصوت حاضرين. وقد تعي أشياء ليست حولك، ولكنك مررت بها من قبل ثم انقضت ومضت، وهذه تكون في الذاكرة الطويلة المدى، فقد تذكر صوت والدتك وإن لم تكن بالغرفة، وتذكر صورة الفيل وإن لم يكن أمامك، وكل ذلك استحضار من هذه الذاكرة. فهذه الذاكرة هي محل جميع ما تعلم من حقائق: من لغة وصور وأصوات وأفكار. وجميع هذه الذكريات الطويلة المدى تكمن في هذه الذاكرة ساكنةً، حتى إذا أُهيجَت واستُحضرت حَضرَت مباشرة إلى وعيك، أي إلى ذاكرتك العاملةِ القصيرةِ المدى. فلو سألتك ما لون الدب القطبي؟ لقلت “أبيض” من فورك، وقد كانت هذه المعلومة في ذاكرتك الطويلة المدى ساكنة غير حاضرة بوعيك من ثوانٍ، حتى إذا سئلت عنها واستحضرتها حضرت.
برج هانوي
ثم التفكير يحدث حين تجمع بين المعلومات (من المحيط ومن الذاكرة طويلة المدى) بطرق جديدة. هذا الجمع يحدث في الذاكرة العاملة. وحتى أريك كيف يكون هذا الجمع فجرب أن تحل هذه الأحجية، وهي مشهورة عند أهل الرياضيات واسمها “برج هانوي“. وفيها يجب أن تنقل الأقراص من العمود الأول إلى الأخير، وألا يعلو قرص كبير على قرص أصغر منه. فلو جربت أن تحلها (وليس الغرض هنا هو حلها ولكن لأن نجرب ماذا نعني بالتفكير والذاكرة العاملة) فتبدأ بأن تجمع المعلومات من المحيط، وهي هنا قواعد اللعبة وهيئتها، ثم تتصور أنك تحرك الأقراص لتحاول أن تبلغ الموضع الذي تريد، وفي ذاكرتك العاملة يجب أن تُبقي حالتك الراهنة في اللعبة وأين وضعت أقراصك، وكذلك أن تظل متذكرًا القواعد وما يُسمح به من تحركات وما لا يُسمح.
ومثلها Unblock Me، التي تحتاج إلى تصور كثير من الخطوات البعيدة التي تسمح لك بأن تخرج القالب دون أن يعوقه شيء. فهذه ومثلها كثير من الألعاب والأحجيات إنما صعبت لما فيها من تفكير، أي ملء للذاكرة العاملة بالمعلومات من المحيط أي اللعبة.
تعليق