العمل الفني بوصفه معمارا أركيولوجيا
بهجة النظر إلى مونوكرومات عبدالصمد بويسرامن
الخميس 2022/12/01
تجربة متفردة
تجربة متفردة
يمّحي الحرف في أعمال الفنان الغربي البصري المعاصر عبدالصمد بويسرامن الأخيرة، لصالح الحضور المكتف والمشهدي للكتابة في بعدها الأركيولوجي. أي حضور الشكل في بعده الكوني.. حيث الحركة والإيماءة هما أسّ الاشتغال البصري والغرافيكي للمنجز. غير أنه، وفي الوقت نفسه، يظل العمل محافظا على قدسيته الأيقونية، التي يتحصل عليها من قدسية
الحرف المُضمر وجوباً.
تجربة تتفرد في تعددها، وفيها يحضر ويغيب البعد التجريدي.. إذ تصير اللوحة شبه مشهدية رحبة تطل على العالم من نافذة بانورامية، مما يمنح العمل قوته وانفعاليته.. وإمكانية التأويل المفتوح على كل الاحتمالات والآفاق. تجربة إستتيقية ناطقة في صمتها، تتحدث من خلال صمت الأحرف التي تتجرد من كل قابلية للقراءة.. تجسيد حر لهمسات العالم اللامرئي. وما الفن إلا إثارة للانفعالات من خلال الرموز والأشكال والألوان والهيئات التي تكوّن العمل الفني، وإظهار للذي يستحيل إبصاره ولو كان مرئيا وعاديا.. نوع من “تجلي الجميل” (هانس غادامير) و”تجلي المبتذل” (أرتور دانتو).
بعد اشتغال فني، مال إلى مقاربة اتخذ الحرف فيها الشكل الدال في تشييد المعماري البصري للوحة.. استطاع بويسرامن أن يعرج، بعد سيرورة بحث وصيرورات تجريبية، إلى ما يمكن أن نصفه بـ”الخروج عن البنية”، إلى “المعمار الأركيولوجي” المشيّدة طبقاته تبعا لفعل الكتابة وما يستدعيه من حركية وإيماءات جسدية وذات انسيابية وتدفق روحانييْن في آن، إذ “الإيماءة هي شيء مّا يكون جسديا برمته وروحيا في وقت واحد. فالإيماءة لا تكشف عن أيّ معنى كامن وراء ذاتها (…). وفي الوقت نفسه فإن كل إيماءة تكون أيضا معتمة بطريقة ملغزة”، ّإذ يخبرنا غادامير؛ أما الحركية فتحافظ على روح الحرف تبعا لما يقدمه من سلاسة وانحناءات وعنفوان يقود إلى الدهشة
يستند العمل الفني المعاصر في تأويله على “الأنظمة الخطابية” الخارجية عنه، بالمعنى الفوكوي، لا على بنيته الداخلية فحسب؛ مما يدخلنا في حالة تيه لامتناهٍ أو بتعبير أدق “تأويل لانهائي”. مما يدفع بالمتلقي لأعمال بويسرامن إلى الانفلات من بنى تركيب المنجز البصري، وعدم الاكتفاء بما تظهره، والدخول في متاهة هيرمسية، تتصل دروبها ومنعرجاتها بالأبعاد الفلسفية والأركيولوجية والإنسانية (كتابة بكل اللغات). فقوام تجربة بويسرامن الجمالية تتأسس على استدعاء مثيرات الدهشة من موروثات محسوسة وغير محسوسة، مادية ولامادية، نابعة من عمق الفكر والثقافات البشرية المكتسبة بفعل الزمن وتعاقب اتصال الحضارات وانفصالها. لهذا يقول بأنه يهتم بـتحولات “أثر الإنسان وتأثيره بالنظر إلى تعاقب الزمن (وسيرورته)”. مما دفعه إلى الاهتمام جديّا، بالموروث المكتوب على اختلاف حوامله وطروسه، مكتوبا كان أو منقوشا، مسطحا أو بارزا. متعقبا، بالتالي، صخب المكتوب في صمت السند، معيدا إحياء العلامات المنسية بربطها بالإنساني، في معناه الشامل، المتجسد في فعل الكتابة التي لا تتخذ لنفسها أيّ قابلية للقراءة، إنها كتابة كونية ومتعالية -بهذا المعنى
في تقاطع جمالي مع قولة (عنوان كتاب) المفكر المغربي عبدالفتاح كيليطو “أتحدث كل اللغات لكن بالعربية”، يهتدي بويسرامن في عمله لتشييد الرؤية الفنية الخاصة، منطلقا من الحرف العربي وما يتيحه من انسيابية، ليعانق كل أبجديات اللغات الكونية، بشكل مجرد، لتصير اللغة، لا “الحرف”، هي العنصر الجمالي القادر على مطابقة الأشكال الجمالية، ومن ثم وسيلة بصرية وصباغية لإظهار المشترك الإنساني وإبراز المخفي والكشف على الـمُعتَم. كل ذلك داخل مساحات صباغية تراكبية تصير معمارا أركيولوجياً، يلزم الحفر بمعاول النظر وأزميل التأويل للكشف على طبقاتها المستثيرة في “عمق مسطح”، بتعبير نيتشه.
تعليق