الحبيب السائح: لا ينبغي أن ننسى أن الرواية بلاغة
فائزة مصطفى 1 نوفمبر 2022
حوارات
شارك هذا المقال
حجم الخط
مرة أخرى يحفر الكاتب والمترجم الجزائري الحبيب السائح (72 عامًا) في الدوائر المحرمة والشائكة سواء التاريخ والدين والسياسة، فبعد روايته الجريئة والمهمة "أنا وحاييم" التي حازت على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2019، يقارع صاحب "زمن النمرود" في عمله الجديد "تِيبْحِيرِينْ، محنة الرهبان السبعة" المسكوت عنه في قضية اغتيال رهبان دير سيدة الأطلس بالجزائر في ربيع عام 1996، مستحضرًا مشاهد مؤلمة من العشرية السوداء وكذلك فترة الاستعمار الفرنسي، موظفا لغة تفيض بعبارات التسامح والغفران، بدون أن يغفل صاحب " تلك المحبة" عن إثارة الشعور الجماعي بالذنب داخل ثنايا النص.
هنا حوار معه:
(*) لماذا اخترت طباعة هذه الرواية لدى منشورات تكوين، بدلا من الجزائر أو حتى فرنسا، لكونهما البلدين المعنيين بالقصة؟ وهل تفكر بترجمتها إلى اللغة الفرنسية؟
منشورات تكوين (الكويتية العراقية) أصبحت من أبرز دور النشر العربية احترافية. ولها قدرة معتبرة على التوزيع، خارج المعارض العربية. وهذا أمر مهم جدًا في الانتشار بالنسبة إلي، وإلى كتابها. ولمنشورات تكوين اتفاقية شراكة نشر مع دار ضمة للنشر الجزائرية التي تتولى نشر الطبعة الجزائرية. هذا يعني أن "تِيبْحِيرِينْ" توزع أيضًا في الجزائر. أما في فرنسا فالأمر مرتبط، في الأول، بتواجد مكتبات تطلبها من الناشر. وثانيًا، وهو المهم، ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.
(*) قبل الولوج إلى عوالم هذا العمل وكل ما يتعلق بالحبكة والأسلوب وغيرهما، كما تعلم الكثير من الكتاب العرب المسيحيين خاضوا في روايات تاريخية تناولت مواضيع إسلامية، دون أن ينتبه القارئ إلى ذلك الفارق، فكيف خضت نفس التجربة بطريقة معاكسة، من خلال احاطتك بطقوس وشعائر الديانة المسيحية وحتى قيمها وتصوراتها اللاهوتية والفلسفية، وتلك التفاصيل الدقيقة للحياة داخل دير سيدة الأطلس؟
أعتقد أني بكتابة "تِيبْحِيرِينْ" أكون خضت تجربتي الخاصة؛ ولا أدري إن كانت معاكسة، كما تقولين. فضّلت دومًا، حين يسكنني موضوع روايتي الجديدة ويستقر في ذهني، ألا أطالع أو أقرأ ما كتبه غيري في التيمة ذاتها. أحب ألا أكون تحت أي من التأثيرات الخارجية. إن موضوعًا مثل الذي تناولته رواية "تِيبْحِيرِينْ" خطير، لأنه محفوف بمزالق شتى، وهو ما أرهقني تجنبه بالإرادة نفسها في مواجهته. وهو معقد، لأنه يتطلب خلفية معرفية ببعض جوانب الديانة المسيحية، لوحدها أو في علاقتها مع الإسلام، تؤثثه؛ وإلا تحول إلى مجرد نفايات سردية، مما يسيء إلى ضمير القارئ وعقله. فكان عليّ أن أقرأ كثيرًا وأدقق وأتحفظ، غالبًا. وذلك، حتى أستطيع أن أبث رسالتي من خلال شخصيات الرواية بكثير من الصواب والدقة.
وأخيرًا، هو موضوع عصيٌّ، لأنه يدعو إلى التحدي: تحدي المسكوت عنه وتحدي الرقابة وتحدي الخوف ولا سيما الإشكال البنائي واللغوي الذي يفرضه عليك موضوع مماثل.
(*) إذًا كيف تغلبت على الخوف وقفزت على مقص الرقيب؟
يجب أن أعترف أن الخوف من أخطاء التقدير ومن الفشل في الصياغة النهائية ظل يلازمني ويؤرقني إلى أن استلمت النسخة الأولى التي خرجت من المطبعة فتأملتها وتنفست وعلى رعشة قرأت الجملة الأولى كيلا أتوقف إلا مع نهاية الجملة الأخيرة. حدث لي أني أعدت قراءة رواية "تلك المحبة" أكثر من عشر مرات، ولا يزال عندي استعداد لقراءتها كل مرة. وكذلك قرأت "تِيبْحِيرِينْ" ولا أزال أعود إليها من حين لآخر منذ صدورها في سبتمبر/ أيلول الماضي؛ على غير ما حدث لي مع بقية رواياتي، التي لا أذكر أني قرأتها أكثر من مرة بعد صدورها.
هناك شيء لا يفسر تجاه بعض ما نكتبه وكأن شخصًا آخر في داخلنا هو الذي يفعل فنصير نحن قراءه!
أما التفاصيل فشرط ضروري وحيوي وفاصل في السرد، باعتبار الرواية هي التفاصيل التي تتركب منها المشاهد، مثل "البازل" أو مثل الصورة التي هي جملة من التفاصيل تتجانس أو تتنافر لتحدث هذا الذي يشد بصرنا إليه فيحدث فينا ردة الفعل اللإرادية.
(*) في لغة الرواية هناك معركة شرسة يخوضها الكاتب مع كلمات حرون كي يطوعها إلى أن تستجيب واحدة واحدةً لتدخل مع غيرها ضمن إطار الصورة/ المشهد المحدد، فتحدث عند القارئ مثل هذا التساؤل: كيف لها أن اجتمعت في هذا التركيب بهذا الشكل؟
التفاصيل هي صنعة. إن أعقد ما واجهني في تفاصيل "تِيبْحِيرِينْ" هو وصف الأمكنة والألبسة وإقامة الشعائر والطبيعة المحيطة بالدير والدير نفسه. لا بد من أنه ستكون هناك فرص أخرى للحديث بشيء من التفصيل عن هذا. إني أحب ألا أشوش على القارئ ذهنه الآن.
(*) بالتأكيد ستعيد هذه الرواية النقاش حول هذا الموضوع الذي يثير الى غاية اليوم جدلًا في البلدين، الى أي مدى من الضروري أن يتم مساءلة مثل هذه القضايا المعقدة والمؤلمة من الناحية الأدبية؟
فعلًا! فما حدث في دير سيدة الأطلس بـ "تِيبْحِيرِينْ" عام 1996 أمر لن يطاله النسيان. وسيظل أثره المؤلم مستقرًا في الذاكرة. ويبقى يستدعي الضمائر من أجل المراجعة والاعتراف والتوبة حتى لا يتكرر، هنا، أو في أي مكان من الأرض. وإذًا، فكيف لرواية مثل "تِيبْحِيرِينْ" أن تسهم في ذلك؟ ضميري لم يكن ليغفر لي أبدًا لو أني آثرت الصمت و"التزام التقية"، كما يقال في موروثنا الإسلامي. وكان طبيعيًا، لما تجاوزت عقبة ترددي تجاه الكتابة في الموضوع، أن يواجهني السؤال الحرج: كيف ستتناوله روائيًا، مجتازًا الألغام المزروعة حوله، متحررًا من جملة ما سبقك غيرك إليه ولا سيما من الصحافة بأنواعها؟
(*) لكون النص يقارب وقائع حقيقية، وبعيدا عن لغة الإعلام والسينما والتصريحات السياسية، كيف استعدت هذه الأحداث أدبيا، وكيف وظفت كل ما كتب وصور عنها؟
خضت مقاومة شديدة ضد ما ترسب في ذهني عن الموضوع، بلغة الإعلام والسينما والتصريحات السياسية، كما تقولين. واعتبرت، بيني وبين نفسي، أني الوحيد من له علاقة بالموضوع. وأنا الوحيد من يستطيع أن يوصل عنه رسالة في شكل رواية أدبية. تلك حقيقة عشتها فعلًا. وكم كانت سعادتي غامرة لما قرأت "تِيبْحِيرِينْ" وهي في كتاب، لأنها استطاعت أن تعلو، أدبيًا، على لغة الإعلام والسينما والتصريحات السياسية، وأن تكون لها بصمتها الخاصة! قلت لناشري في "تكوين" الأستاذ محمد ماجد العتابي بعد أن فرغت من مشاهدة أحد الأفلام السينمائية الذي تناول الموضوع نفسه: "كم كانت غبطتي عظيمة لأني وجدت رواية "تِيبْحِيرِينْ" أكبر وأعمق من ذلك الفيلم!".
(*) لا نريد أن نغوص في أحداث القصة حتى نبقي شغف وفضول القراء للاطلاع عليها، لكن هل يمكن ان تحدثنا عن الحبكة التي اعتمدتها والشخصيات المتخيلة التي اخترتها إلى جانب الشخصيات التي كان لها وجود في الواقع وأبرزها الرهبان السبعة: برينو، كريستيان، بول، ميشيل، كريستوف، والطبيب لوقا الذي كان يحمل الجنسية الجزائرية، وسليستان الذي شارك في علاج أحد الثوار الجزائريين.
حتى أرفع الموضوع من مستواه الواقعي إلى درجة عليا من التخييل، تحتم عليّ أن أوجد توازنًا بين الحقيقة، حقيقة مقتل الرهبان، وقبلها حياتهم الشخصية كبشر عاديين وحياة رهبنتهم في الدير، وبين الخيال الذي أعطيت نفسي الحق في توظيفه كي أرقى بالرواية إلى أدبيتها. فما التخييل، في النهاية، سوى إلقاء ظل شفاف من البلاغة على الحقيقة. الرواية بلاغة، لا ينبغي لنا أن ننسى هذا الشرط.
من هنا وجود شخصيات أخرى في الرواية وظفتها للسند وللتسويغ في شكل شبكة من العلاقات. ومن هنا، أيضًا، وجود أمكنة ومساحات وفضاءات وأشياء أخرى ذات وظيفة أدبية تخيلتها لتكون مسرحًا لما يجري في زمن الرواية.
(*) في الفصل الأول من الكتاب، اخترت شخصية الراهب أو الشيخ أميدي، وهو الناجي الثاني من المذبحة، ليكون الراوي، وهو يدون دفاتر يومياته، وقرأ دفاتر الرهبان السبعة، لماذا اخترته بدلا من زميله الراهب جان بيار شوماخر الذي توفي العام الماضي في المغرب؟
هناك شخصيات، في عمل روائي، لسنا نحن الذين نختارها إنما النص هو الذي يستدعيها خلال تشكله. كان السؤال الآخر الذي واجهني هو: من يسرد؟ لا أحب أن أفصّل في هذا الأمر. سأترك للقراء والمهتمين أن يفعلوا، بناء على النص.
(*) بالحديث عن شخصية أميدي، فقد منحت حيزًا لوصف الصداقة والتقارب الروحي بينه وبين الشيخ عبد الرحمان، إمام المدية، إلى أي مدى القارئ يحتاج إلى هذا النوع من خطابات التسامح وفلسفة التعايش؟
أعتقد أن قارئ الرواية سيجيب. ولا أشك في ألا يكون له تأويله الخاص. أنا كتبت هذه الرواية. وهنا انتهى تدخلي. أتوقع أن تكون هناك تأويلات كثيرة. وهذا ما يفيد في النهاية الرواية ذاتها، لأنها به تحيا. كان رهاني على أن أسلك أصعب طريق وأشقها؛ باعتبار الكتابة شقاوة أساسا. وذلك بأن أعيد صياغة الموضوع، الذي صار مشاعًا ومطروحًا "على جانبي الطريق" كما يقال في أدبنا العربي، حسب رؤيتي إلى حيثياته، وبناء على قناعاتي، أنا شخصيًا، تجاه الجريمة وعلاقتها بالشر والمعصية في صلتها بالإله. ثم، وهو المهم، بصْمتي الأدبية التي يمكن لي أن أطبع بها على فترة محددة من تاريخ الجزائر، تميزت بالعنف والعنف المضاد الذي ترك، في النفوس، آثارًا عميقة الألم.
فائزة مصطفى 1 نوفمبر 2022
حوارات
شارك هذا المقال
حجم الخط
مرة أخرى يحفر الكاتب والمترجم الجزائري الحبيب السائح (72 عامًا) في الدوائر المحرمة والشائكة سواء التاريخ والدين والسياسة، فبعد روايته الجريئة والمهمة "أنا وحاييم" التي حازت على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2019، يقارع صاحب "زمن النمرود" في عمله الجديد "تِيبْحِيرِينْ، محنة الرهبان السبعة" المسكوت عنه في قضية اغتيال رهبان دير سيدة الأطلس بالجزائر في ربيع عام 1996، مستحضرًا مشاهد مؤلمة من العشرية السوداء وكذلك فترة الاستعمار الفرنسي، موظفا لغة تفيض بعبارات التسامح والغفران، بدون أن يغفل صاحب " تلك المحبة" عن إثارة الشعور الجماعي بالذنب داخل ثنايا النص.
هنا حوار معه:
(*) لماذا اخترت طباعة هذه الرواية لدى منشورات تكوين، بدلا من الجزائر أو حتى فرنسا، لكونهما البلدين المعنيين بالقصة؟ وهل تفكر بترجمتها إلى اللغة الفرنسية؟
منشورات تكوين (الكويتية العراقية) أصبحت من أبرز دور النشر العربية احترافية. ولها قدرة معتبرة على التوزيع، خارج المعارض العربية. وهذا أمر مهم جدًا في الانتشار بالنسبة إلي، وإلى كتابها. ولمنشورات تكوين اتفاقية شراكة نشر مع دار ضمة للنشر الجزائرية التي تتولى نشر الطبعة الجزائرية. هذا يعني أن "تِيبْحِيرِينْ" توزع أيضًا في الجزائر. أما في فرنسا فالأمر مرتبط، في الأول، بتواجد مكتبات تطلبها من الناشر. وثانيًا، وهو المهم، ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.
"إن موضوعًا مثل الذي تناولته رواية "تِيبْحِيرِينْ" خطير، لأنه محفوف بمزالق شتى، وهو ما أرهقني تجنبه بالإرادة نفسها في مواجهته. وهو معقد، لأنه يتطلب خلفية معرفية ببعض جوانب الديانة المسيحية، لوحدها أو في علاقتها مع الإسلام، تؤثثه؛ وإلا تحول إلى مجرد نفايات سردية، مما يسيء إلى ضمير القارئ" |
أعتقد أني بكتابة "تِيبْحِيرِينْ" أكون خضت تجربتي الخاصة؛ ولا أدري إن كانت معاكسة، كما تقولين. فضّلت دومًا، حين يسكنني موضوع روايتي الجديدة ويستقر في ذهني، ألا أطالع أو أقرأ ما كتبه غيري في التيمة ذاتها. أحب ألا أكون تحت أي من التأثيرات الخارجية. إن موضوعًا مثل الذي تناولته رواية "تِيبْحِيرِينْ" خطير، لأنه محفوف بمزالق شتى، وهو ما أرهقني تجنبه بالإرادة نفسها في مواجهته. وهو معقد، لأنه يتطلب خلفية معرفية ببعض جوانب الديانة المسيحية، لوحدها أو في علاقتها مع الإسلام، تؤثثه؛ وإلا تحول إلى مجرد نفايات سردية، مما يسيء إلى ضمير القارئ وعقله. فكان عليّ أن أقرأ كثيرًا وأدقق وأتحفظ، غالبًا. وذلك، حتى أستطيع أن أبث رسالتي من خلال شخصيات الرواية بكثير من الصواب والدقة.
وأخيرًا، هو موضوع عصيٌّ، لأنه يدعو إلى التحدي: تحدي المسكوت عنه وتحدي الرقابة وتحدي الخوف ولا سيما الإشكال البنائي واللغوي الذي يفرضه عليك موضوع مماثل.
(*) إذًا كيف تغلبت على الخوف وقفزت على مقص الرقيب؟
يجب أن أعترف أن الخوف من أخطاء التقدير ومن الفشل في الصياغة النهائية ظل يلازمني ويؤرقني إلى أن استلمت النسخة الأولى التي خرجت من المطبعة فتأملتها وتنفست وعلى رعشة قرأت الجملة الأولى كيلا أتوقف إلا مع نهاية الجملة الأخيرة. حدث لي أني أعدت قراءة رواية "تلك المحبة" أكثر من عشر مرات، ولا يزال عندي استعداد لقراءتها كل مرة. وكذلك قرأت "تِيبْحِيرِينْ" ولا أزال أعود إليها من حين لآخر منذ صدورها في سبتمبر/ أيلول الماضي؛ على غير ما حدث لي مع بقية رواياتي، التي لا أذكر أني قرأتها أكثر من مرة بعد صدورها.
هناك شيء لا يفسر تجاه بعض ما نكتبه وكأن شخصًا آخر في داخلنا هو الذي يفعل فنصير نحن قراءه!
أما التفاصيل فشرط ضروري وحيوي وفاصل في السرد، باعتبار الرواية هي التفاصيل التي تتركب منها المشاهد، مثل "البازل" أو مثل الصورة التي هي جملة من التفاصيل تتجانس أو تتنافر لتحدث هذا الذي يشد بصرنا إليه فيحدث فينا ردة الفعل اللإرادية.
(*) في لغة الرواية هناك معركة شرسة يخوضها الكاتب مع كلمات حرون كي يطوعها إلى أن تستجيب واحدة واحدةً لتدخل مع غيرها ضمن إطار الصورة/ المشهد المحدد، فتحدث عند القارئ مثل هذا التساؤل: كيف لها أن اجتمعت في هذا التركيب بهذا الشكل؟
التفاصيل هي صنعة. إن أعقد ما واجهني في تفاصيل "تِيبْحِيرِينْ" هو وصف الأمكنة والألبسة وإقامة الشعائر والطبيعة المحيطة بالدير والدير نفسه. لا بد من أنه ستكون هناك فرص أخرى للحديث بشيء من التفصيل عن هذا. إني أحب ألا أشوش على القارئ ذهنه الآن.
(*) بالتأكيد ستعيد هذه الرواية النقاش حول هذا الموضوع الذي يثير الى غاية اليوم جدلًا في البلدين، الى أي مدى من الضروري أن يتم مساءلة مثل هذه القضايا المعقدة والمؤلمة من الناحية الأدبية؟
فعلًا! فما حدث في دير سيدة الأطلس بـ "تِيبْحِيرِينْ" عام 1996 أمر لن يطاله النسيان. وسيظل أثره المؤلم مستقرًا في الذاكرة. ويبقى يستدعي الضمائر من أجل المراجعة والاعتراف والتوبة حتى لا يتكرر، هنا، أو في أي مكان من الأرض. وإذًا، فكيف لرواية مثل "تِيبْحِيرِينْ" أن تسهم في ذلك؟ ضميري لم يكن ليغفر لي أبدًا لو أني آثرت الصمت و"التزام التقية"، كما يقال في موروثنا الإسلامي. وكان طبيعيًا، لما تجاوزت عقبة ترددي تجاه الكتابة في الموضوع، أن يواجهني السؤال الحرج: كيف ستتناوله روائيًا، مجتازًا الألغام المزروعة حوله، متحررًا من جملة ما سبقك غيرك إليه ولا سيما من الصحافة بأنواعها؟
(*) لكون النص يقارب وقائع حقيقية، وبعيدا عن لغة الإعلام والسينما والتصريحات السياسية، كيف استعدت هذه الأحداث أدبيا، وكيف وظفت كل ما كتب وصور عنها؟
خضت مقاومة شديدة ضد ما ترسب في ذهني عن الموضوع، بلغة الإعلام والسينما والتصريحات السياسية، كما تقولين. واعتبرت، بيني وبين نفسي، أني الوحيد من له علاقة بالموضوع. وأنا الوحيد من يستطيع أن يوصل عنه رسالة في شكل رواية أدبية. تلك حقيقة عشتها فعلًا. وكم كانت سعادتي غامرة لما قرأت "تِيبْحِيرِينْ" وهي في كتاب، لأنها استطاعت أن تعلو، أدبيًا، على لغة الإعلام والسينما والتصريحات السياسية، وأن تكون لها بصمتها الخاصة! قلت لناشري في "تكوين" الأستاذ محمد ماجد العتابي بعد أن فرغت من مشاهدة أحد الأفلام السينمائية الذي تناول الموضوع نفسه: "كم كانت غبطتي عظيمة لأني وجدت رواية "تِيبْحِيرِينْ" أكبر وأعمق من ذلك الفيلم!".
"أعطيت نفسي الحق في توظيف الخيال كي أرقى بالرواية إلى أدبيتها. فما التخييل، في النهاية، سوى إلقاء ظل شفاف من البلاغة على الحقيقة. الرواية بلاغة، ولا ينبغي لنا أن ننسى هذا الشرط" |
حتى أرفع الموضوع من مستواه الواقعي إلى درجة عليا من التخييل، تحتم عليّ أن أوجد توازنًا بين الحقيقة، حقيقة مقتل الرهبان، وقبلها حياتهم الشخصية كبشر عاديين وحياة رهبنتهم في الدير، وبين الخيال الذي أعطيت نفسي الحق في توظيفه كي أرقى بالرواية إلى أدبيتها. فما التخييل، في النهاية، سوى إلقاء ظل شفاف من البلاغة على الحقيقة. الرواية بلاغة، لا ينبغي لنا أن ننسى هذا الشرط.
من هنا وجود شخصيات أخرى في الرواية وظفتها للسند وللتسويغ في شكل شبكة من العلاقات. ومن هنا، أيضًا، وجود أمكنة ومساحات وفضاءات وأشياء أخرى ذات وظيفة أدبية تخيلتها لتكون مسرحًا لما يجري في زمن الرواية.
(*) في الفصل الأول من الكتاب، اخترت شخصية الراهب أو الشيخ أميدي، وهو الناجي الثاني من المذبحة، ليكون الراوي، وهو يدون دفاتر يومياته، وقرأ دفاتر الرهبان السبعة، لماذا اخترته بدلا من زميله الراهب جان بيار شوماخر الذي توفي العام الماضي في المغرب؟
هناك شخصيات، في عمل روائي، لسنا نحن الذين نختارها إنما النص هو الذي يستدعيها خلال تشكله. كان السؤال الآخر الذي واجهني هو: من يسرد؟ لا أحب أن أفصّل في هذا الأمر. سأترك للقراء والمهتمين أن يفعلوا، بناء على النص.
(*) بالحديث عن شخصية أميدي، فقد منحت حيزًا لوصف الصداقة والتقارب الروحي بينه وبين الشيخ عبد الرحمان، إمام المدية، إلى أي مدى القارئ يحتاج إلى هذا النوع من خطابات التسامح وفلسفة التعايش؟
أعتقد أن قارئ الرواية سيجيب. ولا أشك في ألا يكون له تأويله الخاص. أنا كتبت هذه الرواية. وهنا انتهى تدخلي. أتوقع أن تكون هناك تأويلات كثيرة. وهذا ما يفيد في النهاية الرواية ذاتها، لأنها به تحيا. كان رهاني على أن أسلك أصعب طريق وأشقها؛ باعتبار الكتابة شقاوة أساسا. وذلك بأن أعيد صياغة الموضوع، الذي صار مشاعًا ومطروحًا "على جانبي الطريق" كما يقال في أدبنا العربي، حسب رؤيتي إلى حيثياته، وبناء على قناعاتي، أنا شخصيًا، تجاه الجريمة وعلاقتها بالشر والمعصية في صلتها بالإله. ثم، وهو المهم، بصْمتي الأدبية التي يمكن لي أن أطبع بها على فترة محددة من تاريخ الجزائر، تميزت بالعنف والعنف المضاد الذي ترك، في النفوس، آثارًا عميقة الألم.