حامل الطرود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حامل الطرود

    حامل الطرود
    رمزي القحطاني 13 نوفمبر 2022
    قص
    (عبد الجبار نعمان)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    منذ خمسة أيام، وارينا جثمان جارتنا ماريا التراب. لقد قضت خمسة وعشرين عامًا تعمل بدون كلل لتكسب عيشها، وقد نالت حظها من الحياة فتزوجت رجلًا أحبته وأنجبت منه صبيتين وفتى كبروا وتركوها عندما اشتدوا قوةً وبأسًا.
    وقد اعتدتُ عليها بهذرها وكثرة شكواها، واعتادت هي على إصغائي ومواساتي، ولا أنكر أني كنت أُعجب بكل حديث يجري بيننا، أحب جُزءًا كبيرًا منه، وأمقتُ كل تحيز فيه.
    ففي أيام الصيف كُنا نجلس أنا وهي في فناء منزلي المُلاصق لمنزلها تمامًا. وفي الشتاء، ننزوي في الداخل الى جوار المَوقد، نرتشف أكواب القهوة المُحلاة بالسكر الناعم وهي تقول بصوت مُتشنج وحزين:
    ـ سياسة الحكومة تنحدر، دولتنا تتهدم، بلدنا يوشك على السقوط يا سيد ماريو.
    فأرد:
    ـ كيف ذاك يا سيدة ماريا؟
    ـ تعتزم الحكومة تبني مليون لاجئ من دول شرقية.
    ـ وماذا في ذاك؟ أردُ عليها بهدوء، فتستشيط غضبًا وتجيب وهي تحكّ جبينها وتعضّ على شفتيها وقد شدَّت حاجبيها إلى الداخل:
    ـ وماذا في ذاك!! يا لكَ من ساذج، تخيل.. لكَ أن تتخيل يا عزيزي ماريو أنَّ مليون لاجئ يعيشون بيننا، مليون هكذا دفعة واحدة، في الحي والشارع، وتلقاهم في محطات القطار وباحات المتاجر. يقتاتون من ضرائبنا، ويأكلون مما تجنيه أنت وأنا، يعني نحن من نطعمهم ونبقى جوعى.
    ـ هل تقصدين أنكِ ستستضيفينهم في داركِ؟
    ـ في داري؟!! يا لكَ من أحمق، كُلهم في داري؟ مليون؟!!
    ـ إذا لم تقدري على استضافتهم كلهم دفعة واحدة فليكن على فترات متفرقة.
    يزداد تشنجها واضطرابها ويعلو صوتها وهي تردّ:
    ـ أنتَ أحمق، بل أحمق وغبي.
    ـ إذًا، فلنقُل أنكِ لن تقدري على استضافتهم كلهم دفعةً واحدة، وليس بين أزمنة متعددة، ولكن فلربما تأخذي منهم القدر الذي تستطيعين عليه، مثلًا مئة فرد، وإن لم يكن فخمسين، ولنفترض أن هذا العدد كبير عليكِ فلتأخذي عشرة أشخاص؛ عائلتان مكونتان من خمسة أفراد.. ثلاثة أطفال وأبويهما.
    ترد عليَّ بصوت بائس وحزين:
    ـ لقد تأكدتُ الآن أنك مجنون.. فاقد لعقلك حقًا.
    أردّ عليها بابتسامة مُشرقة:
    ـ يا لكِ من ذكية يا سيدة ماريا، هل تتوسمين بي الجنون؟
    ـ هذا ما أستنتجه. هذا ما يُوحي لي كلامك ـ تنظر في عينيَّ باستغرابٍ وازدراء ـ أنا أعيل عائلتين لاجئتين غريبتين جاءتا من الشرق؟
    ـ ولمَ لا؟
    ـ هذا ضربٌ من الخيال، بل محال أن يدخل منزلي لاجئون غُرباء ودُخلاء من تلك الأمكنة. تقول هذا ثم تشيح بوجهها صوب النافذة وتلوذ بالصمت، فأردُ قائلًا:
    ـ ماذا سيحدث لو أنكِ أخذتِ شخصين وآويتهما في داركِ، طفلان صغيران ابتعدا عن قصف المدافع وضرب الصواريخ، وتمكنا من النجاة من الموت في النهر والبحر وقفار الغابات أثناء قدومهما، امنحيهما حياة جديدة وأملًا.
    تسند ماريا رأسها على راحة كفها وقد اتكأت إلى حافة الأريكة تنظر إلى بريق الضوء المتسلل من النافذة نحو الخارج إذ وقع على شجرة الزيزفون المُتجردة من أوراقها بفعل ثلج الشِتاء. تُفكِر باستغراق ثم تقول:
    ـ لا، مُستحيل.. محال أن يحدث شيءٌ مما في مخيلتك.
    أردُ معاتبًا:
    ـ ولمَ لا؟! أنت سيدة كريمة ولطيفة، وتحسنين صنع المعروف، وبذر الخير.
    تندفع للحديث بحزمٍ شديد وهي تُلوّح بسبابتها:
    ـ سأفعله مع أي إنسان من أبناء هذا البلد، لكن لن أفعله مع لاجئين.. مُشردين من الشرق!! لا أحب.
    أصمتُ قليلًا، ثم أرد بيأس ورجاء:
    ـ إذًا، يا عزيزتي ماريا، جارتي الفاضلة، إن لم يكن لك يد بيضاء تودين مدّها إلى هؤلاء البؤساء، فلتكفي عنهم أذى لسانك، ودعي السلطات ترعاهم، فهي أدرى بمصلحة الوطن وشعبه.
    ـ لكنها ستهدر أموالنا عليهم، نحن نعمل ونكد وهم يأكلون وينامون.. لا يفعلون شيئًا سوى النوم والأكل. قالت هذا والغضب يستبد بها، وهي تلوِّح بقبضتها في الهواء. سعى ماريو إلى تهدئتها، فما وجد غير أن يقول:
    ـ دعيني أصنع قهوة لنا، ومن ثم سأروي لكِ قصة أنا شاهد عليها.
    يذهب ماريو لتحضير كوبين من القهوة. يُقدِّم أحدهما لماريا، ويسرد لها حكاية كان يعرفَ بطلها معرفةً وثيقة: استمعي لي جيدًا، أرجوكِ! كانت لدي موظفة في شركتي تعمل منذُ زمن بعيد. كانت جميلة جدًا، ومغرورة بعض الشيء، وكان لها زميل عَمَلٍ يشتغل في قِسمها وهو ينحدر من الشرق، وبين وقتٍ وآخر كانت تتنمرَ عليه وتتهمه بالفشل والكسل والبلادة، ثم تسمعه كلامًا لا يليق بها كامرأةٍ أن تقوله، بل تجاوزت حَدَّها عندما قالت له إنه وأمثاله يعيشون بفضل ضرائبها السنوية المدفوعة للحكومة، وأن هذا المال يذهب من خزينة الدولة إليه. احمرَّ وجه الموظف وحَزِن. وبعد مُدةٍ ليست بالبعيدة، ترك العمل في شركتي، وافتتح متجرًا صغيرًا على الإنترنت، ولم تمر خمس سنواتٍ حتى أصبحت شركته من إحدى الشركات الكُبرى في بورصة البلد. ولما أفلست شركتي يا سيدة ماريا جاءني هنا في منزلي هذا الذي أوشكتُ على بيعه للوفاء بقروض البنوك. كان ماريو يتحدث بتوكيدٍ شديدٍ وهو يُشير بكفه إلى أرضية المنزل وسقفه: إن عواطفي تختلج وتوشك دموعي أن تنهمر، لقد أعاد لي الحياة، وملأ قلبي بالتفاؤل بعد أن فقدته. لقد كان رجلًا خَيِّرًا يستحيل نكران فعله على الرُغم من أني لم أُقدِّم له شيئًا سِوى وظيفة بسيطة وبعض التشجيع والمَحَبة، وقد ردهُما لي بكرم الإخاء وصدقِ الوفاء، وأنقذني من وحل الإفلاس الذي غرقتُ فيه. بل رفع عني حبل المشنقة التي نصبها أصحاب الديون. وسأل عن تلك المُوَظفة ومصيرها، فأخبرته أنها لا تعمل، وتتقاضى مساعداتٍ من الدولة، فطلب مني دعوتها، فأقبَلَتْ، ولم يقُل لها أن ما تعيش به الآن هو بفضل الملايين الممنوحة لخزينة الدولة كضرائب من شركاته وأعماله، لم يقل شيئًا مع اقتداره على رد الصاع صاعين في وقتٍ مناسبٍ كهذا، بل أدهشها بعظمة نفسه وتسامُحه. قَدَّم لها وظيفة عنده بأجر لم يكن ليمنحها أحد سواه، بل حتى أنا.
    وما إن سألته عن سخائه هذا اكتفى بقوله:
    ـ لقد كانتْ سببًا في ما أنا فيه.. لولاها يا سيد ماريو لبقيتُ حاملَ طرودٍ حتى الآن.
    يصمت ماريو لبُرهة بحزنٍ عميق أمام ضيفه القادم من مدينة في الغرب بعد أن روى له الأحداث التي جرتْ في غيابه، ثم يدعوه إلى الدخول.. لقد كان الضيف هو فابيان، نجل ماريا، إذ جاء لزيارتها، وقد استقبله ماريو عند باب منزله بعد أن وجد دار أُمه مغلقًا، ولا أحد يُجيب على الهاتف، أو قرع الباب. يسأل فابيان أثناء دخوله:
    ـ هل تركتْ أُمي شيئًا؟
    ـ مثل ماذا؟ يرد ماريو.
    ـ تأمين على الحياة، حساب في البنك، شيء ما له قيمة؟
    ـ لا أعرف يا بُني، الذي أعلمه أن ثمن القبر وتكاليف الدَفن تكفل بهما إبراهيم.
    ـ ومَنْ هو إبراهيم؟
    ـ رجلٌ الطرود الذي قَدِمَ من الشرق وازدرته أُمُك ذات يوم.
    كان فابيان قد ترك والدته بعد أن انفصلت عن أبيه، وغادر المنزل منذُ زمنٍ بعيد، ولم يكُن يعلم ماذا جرى في غيابه، فلم يكن يدري أن أمه قد تزوجت بعد ذهابه بوقتٍ قصير، ولم يَطّلع في يومٍ من الأيام أن ماريا أنجبت له أختين جميلتين وأخًا مُشاكسًا ومُستبدًّا، وأنها فقدتْ زوجها في حادث سير أثناء نُزهتهما عندما كان أخوه المشاكس والمُستَبِد لا يزال في المَهد.


    *كاتب من اليمن.
يعمل...
X