سردٌ بلا نهاية يَرويه القوم التحتيون.. خيّاطة الوجوه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سردٌ بلا نهاية يَرويه القوم التحتيون.. خيّاطة الوجوه

    سردٌ بلا نهاية يَرويه القوم التحتيون.. خيّاطة الوجوه
    سمر يزبك 10 نوفمبر 2022
    قص
    باسم دحدوح، سورية
    شارك هذا المقال
    حجم الخط




    سلمى أنا، خيّاطة الوجوه؛ وجوهٌ بلا هوية، وجوهٌ بلا عنوان، أتتبّع أثر أحدِ أفعال التَرْكِ اللانهائية في حياة البشر، أفعالٌ يواصلون حركتها بلا تردّد وهم يتأرجحون على حبل الحياة المشدود بين كوكبي الولادة والموت، أنا أعْبُر بهم في تَرْكهم الأخير؛ موتهم! عملي هذا يُتيح للوجوه الحيّة أن تتعرّف عليهم، أوعلى الأقلّ أن تنظر لهم دون أن ينتابها أي شكّ بأنها وجوهٌ آدمية.

    سلمى ليس اسمي الحقيقي، إنه نتيجةُ واحدٍ من أفعال التَرْك، لم أخترعْهُ، بل هبطَ عليّ فجأةً، ولم ألبث أن أحببته ووجدت أنه من الأسماء التي توحي بالطمأنينة؛ تهمس السين لتترك لللام أن تلّعب اللسان، ترفعه وترقص في جوف الفم وتترك الميم تطبق على الشفتين، ثم تطير الألف المقصورة كتعويذة.

    أقول للآخرين: اسمي سلمى، يطربون وكأنهم يسمعون أغنيةً، وتُرى أعينهم تشتعل برياءٍ عاطفي يجعلهم يردّدون: آه...آه… سلمى يا لعذوبة ذلك الاسم! رغم أن الصدفة التي جعلتني أنطق باسمي لم تكن على هذا القدر من البهجة. حصل ذلك بينما كنتُ أُمسك برأس أحدهم، من أولئك الذين أخيط لهم الوجوه؛ رجل يحدّق في مفرق شعري ويداري بيديه شيئًا ما في بطنه، لم ألمح ساعتها سوى شقّ عميق، يحجبه ويحجبني الغبارُ الكثيف، أحاول رفع رأسه، أحتضنه، لم تكفني قوّتي أن أُنهضَ رجلًا بحجمه، ما حصل حينها أني مِلتُ برأسي وقرّبتُ شفتي من أذنه اليسرى وهمست: اسمي سلمى وسوف أساعدك، تماسكْ، لا أدري أين سمعتُ من قبل تلك العبارة، في فيلم سينمائي ربما! تجاوز الرجل الأربعين، أصفُه بالجميل رغم الغبار الذي غطّانا بالكامل، بدا كَمَنْ يُخفي عُريًّا ما بينما كانت أحشاؤه تحاول الظهور، قبل أن ينظر إليّ بتلك النظرة وأعيد الهمس: اسمي سلمى، حتى أنني لحّنت الاسم وراقبت عينيه، للحظةٍ خاطفة رأيت التماعًا أحمر، ومن ثَمَّ أسدل جفنيه بهدوء. تلك الحادثة هي مَنْ اخترعتْ اسم سلمى، واحتفظتُ بعدها به، وتركتُ اسمي الذي لا أعرفه الآن.

    أحاول أن أكون دقيقةً، والدقّة هنا تدفعني للقول: إن نظرة الرجل أوحتْ إليَّ لأنطق اسمي، أمّا اسمه هو فقد بقي مجهولًا، لم يكن بحاجة لأخيط وجهه، فقد كان كاملًا. رحتُ بيدي إلى بطنه لأخيطه، وهنا فكّرت أني لم ألمس جلد رجلٍ حيّ من قبل. لم يحتجْ أيًّا من أدوات التجميل كي ألتقط له الصورة، كان وجهه بلا أثرٍ لندوبٍ أو حتى خدشٍ بسيط؛ جبهةٌ عريضة وأنفٌ حادّ ومستقيم، وشفاهٌ مرسومة بلا شارب، شفاهٌ ممتلئةٌ وبيضاءُ! وكم أحبّته كاميرا موبايلي! كان أجمل وجه من بين الوجوه المصفوفة، راقبْتُه لساعات، وانتابتني الهواجس ما إن سمعتُ نباح الكلاب، فكّرت بآكلي لحوم البشر من الكلاب، وسارقي أعضاء البشر من البشر، والحشرات التي تطفو داخل القبو ثم تختفي بعد الغارة، جلستُ قرب الأجساد المتراصّة أُعيد تصفيف الشعور ورسم الحواجب، وقد كان وجهه لا يحتاج سوى لأن أُعالج بضع شعيراتٍ على ناصيته، وقد فكّرت أنها في الصورة لن تبدو واضحةً، وربما تكون هذه الخصلة التي تتوهّج ببياضٍ فضّي علامةً فارقة له، تركتُها على حالها، وارتحت عندما جاءني صوتٌ من أعلى باب القبو يقول إن هواجسي لا محلّ لها، فالكلاب لن تقترب من هذا المكان المحفور تحت الأرض.

    خيّم الصمت بعد ذلك، صمتٌ سريعٌ ومتواتر ولكنه يأتي بين حين وآخر، حيث تختفي أصوات الحشرات وأسمع ذلك الهسيس، لا شهيق ولا زفير. كنتُ أحتملُ الصمتَ بإغماض عيني، وأتخيّل أني عمياء وبحاجة لتلَمُّسِ العالم ومعرفته عبر أصواته. إلى أذني تسير كل الحواس، لم يكن هذا الأمر يستمرّ سوى دقائقَ خلالها أجتاز قرنًا من الزمن بسرعة السمع، كنتُ عندما ألتقط إشارةً ما، حركة، أو حتى صوت نحنحة في أعلى الدّرَج، أقفز من مكاني وأفتح عيني، فلا أرى سوى خيالات الشموع والأجساد التي تحجبها الستائر عني، أوالوجوه التي تصطفّ أمامي. كان القبو واسعًا وكبيرًا يغطّي بمساحته الطابق السفلي لمبنى المشفى الذي تتكدّس طبقاته الخمس فوقنا. المساحة الكبيرة مع الأعمدة الإسمنتية الضخمة أتاحت لنا العمل في وردياتٍ مختلفة، وفي أقسامٍ صنعتها الستائر بيننا ليقوم كل منّا بعمله الخاصّ، ستائر صنعناها من أغطية الأسرّة.

    أنا لا أخيطُ الوجوه وحسب، بل أجّملها، وأصوّرها وأحفظها. صوري مرقّمةٌ. إلى جانب كل صورة العنوان ومكان الدفن، وتاريخه، وسبب الموت. صورٌ آدمية مقبولة للغاية لأناسٍ اِحتاج تجميلهم عملَ ساعاتٍ كثيرة، كل ما كنتُ أبغيه هو إعادة الوجوه إلى بشريّتها بعد أن نزعها عنهم بشرٌ آخرون، إخفاء الشقوق المُخاطة بين الخدود والجبهات كان مهمًّا، وهكذا أضفتُ عملًا آخر لي وهو تجميلُ الوجه ووضعُ بعضٍ من الأحمر الخفيف فوق الشفاه ما يكفي لجعلها واضحةً ومرئيةً، أقلام حمرة الشفاه والكحل وغيرها من أدوات التجميل إضافةً إلى المآبر شكّلت عدّة شغلي، كان يجب إخفاء أثر الخياطة، وتلوين الوجه، أرسم الحواجب بالكحل، وهذا أمر تطلّب مني الحذر حتى تبدو تلك الأقواس المتباينة الانحناءات طبيعيةً، بالرسم أجعلها أقرب ما يكون إلى شعيرات دقيقة، وأضيف حمرة الخدّين، القليل جدًا منها ليكسر الشحوب الأبيض، أمرغُ الوجهَ بالحمرة على عدّة جهاتٍ؛ الجبهة، الذقن، الخدود، أمّا باقي الجسد فلا يهمّ، الصورة لن تلتقطه، ولن يظهر في الكادر.

    عليّ الاحتفاظ بكل الوجوه هنا؛ عضلات بعضها يرتخي وينبسط، وأخرى تبدو مشدودةً، قبل الخياطة وبعدها، لا فرق، فتلك الشقوق المُخاطة تخفي معالم طبيعتها الآدمية أيضًا، يبدو أني أفشل! وجوهٌ أخرى تبدو أسطوانيةً، وكأنها تستشيط غضبًا فتتطاول، الوجوه العدائية لم تكن بحاجة لتفسير، ما إن تقع عيناي عليها حتى أظن أنها ستنقض عليّ، شيءٌ ما غريزي لا يمكن تفسيره مثل أمورٍ متروكة للمجهول، لكنه يجعل الخوف يقرقر البطن! أمّا الوجوه النحيلة التي كانت تبدو من ذلك النوع الرقيق فتحتفظ بطبقة ناعمة من الجلد حتى أني كنتُ أخشى تمزّقها أثناء الخياطة، وبعضها يخفي بين طيّاته تلك السذاجة التي تجعلني أعتقد أن أصحابها ماتوا مرتاحي البال، وهم يردّدون كلماتٍ حماسيةً عن التضحية والشجاعة، وأشياء من هذا القبيل.

    بعض الوجوه التي تصرّ على أن تبقى عيونها مفتوحةً كانت تزعجني، وأمتنع عن الاقتراب منها لبعض الوقت الذي لم أكن أملكه، إذ كان يتوجّب علينا تهيّئة الأجساد حتى لا تتحلّل، نحن لا نحتفظ بها في برادات هنا؛ البرادات في الطابق الثاني، كان القبو مخصّصًا لأولئك الذين سيذهبون إلى تحت التراب فقط.

    الوجوه المفتوحة العيون، طمّشتُها أثناء الخياطة، وبعد الانتهاء منها كنتُ أنادي لأحدٍ ليُطبقَ لي الجفنين، من المنتشرين في غرف الستائر، ثم أعود وأُكمل تزيين العينين والرمشين والجفنين، عمومًا لم أكن أقلقُ، فتلك العيون الجاحظة والمفتوحة تكون سليمةً ولا تحتاج الكثير من العمل. الوجوه المتفاجئة كانت بحاجة إلى عمل إضافي لأن الذقن يبدو وكأنه تطاول مع حركة الشفتين، خاصّة عندما لا أفلح في تغيير شكل الفكّين على هيئتهما لحظة التَرْك، وكنتُ أقوم بربط الوجه بالشاش الأبيض وأعيد إحكام ترابطه لتلتصق الشفتان. ربما أستطيع التحديد أكثر والقول إنها كانت مذعورةً أكثر من متفاجئة. أحيانًا كنتُ أعجز عن تحديد ماهية هذه الوجوه أو التكهّن بحياة أصحابها، فأحاول خياطة انطباعٍ ما يتشكّل في رأسي! في حال كانت الوجوه محترقة، أُعيد رسم بعض ملامحها بعد تكثيف طبقة البودرة البيضاء حين أنتهي من خياطة الجلد، أضع غطاءً فوق الرأس حتى تختفي الصلعة المتقرّحة، كنتُ عاجزةً عن رسم العيون في حال كانت مفقوءةً، تجرّأتُ مرّة واحدة وقمتُ برسم وجه كامل، حشوتُ تجويفي العينين بالقطن، وأعدتُ رسم ظلال خفيفة للحواجب والجفنين، ثم دهنتُ الوجه كاملًا بطبقة من البودرة.

    بعد أن قمتُ بتصوير ذلك الوجه ذي العينين القطنيتين بدا مثل تمثال خشبي، مع قليل من الرتوش والفلترة على الموبايل صار الوضع مقبولًا.

    قليل من الضبابية على الصورة لن يضرّ، مع مرور الوقت انتبهتُ لأمرغريب، ما إن تمرّ عدّة ساعاتٍ حتى تبدأ الوجوه بالتشابه! تتحوّل الوجوه إلى وجه واحد، تنصهر بملامحَ متقاربةٍ، هل يمكن أن يكون للحياة وجه متمايزٌ وللموت وجهٌ واحد؟ لقد نسيت كيف تختلف الوجوه عندما يكون هناك في العالم الخارجي حياةٌ ما، بحيث يمكن لي المشي في الشارع والتحديق في الوجوه، هل هذا ممكن؟ أن نمشي بشكل طبيعي وننظر في وجوه بعضنا؟ أحاول تذكّرَ إن كنتُ أفعل ذلك من قبل، إن كنتُ أحدّق أو حتى أنظر جيدًا في وجوه مَنْ حولي، إن كنتُ أعيش بوجهي هذا الذي نسيت ملامحه! وإن كانت هناك من طريقةٍ لحصر هذه الوجوه في ذلك المشهد، الوجوه نفسها التي أعيش معها، كيف يمكن لي أن أصادفها في حياة أخرى محتملة؟ ثم لا أستطيع فعل ذلك، لا يمكنني تخيّل أو تذكُّر أي شيء! وحين كنتُ أحاول إغماض عيني لاستدراج ولو مخيلةٍ ما لصُورِ الوجوه الحيّة، كنتُ أجد صعوبة في إيجاد الفروق بينها وهي حيّةٌ تضحك…تتكلّم. إنها هنا مصفوفة أمامي، كل وجه منها يحمل حكايته؛ حياة كاملة! كيف تتشكّل الوجوه وتتركُ لوجوه أخرى معرفتها، هكذا وهي صامتة؟ أظن أني أُشبهُ هذه الوجوه، مع فرق وحيد أني ما زلتُ أحمل وجهي فوق جسدي وأتنفس، كيف يمكن تفسير تعريف الوجه دون ذاكرة؟ إذ كنتُ لا أعرف ما هو الوجه الذي أحمله، نسيتُ ملامح وجهي، ضاعت مع اسمي السابق. كيف لم يخطر لي النظر في مرآة منذ مدّة طويلة؟ متى آخر مرّة رأيتُ فيها وجهي؟ هل يمكن أن يكون مثل وجوههم التي تصير أقنعةً جبصينيّةً متكرّرة؟! شيء غريب لم أفهمه، لا يمكن توصيفه ولا شرحه، حتى أني في كل مرّة ومع خياطة كل وجه أتلمّس وجهي، أتحسّسه بدقّة، بعد أن انتابني القلق أن هناك ما يشبه العدوى بتحوّل وجوهنا مثلهم، أقلقتني عدوى التشابه، وهكذا حدّدتُ هدفًا أن أجعل كل وجه مختلفًا عن الآخر، أعرف كم يبدو هذا صعبًا، لكنّ عنادًا تلبَّسني بتكرار بعض الرتوش وأنا أفكّر بما كان يتكرّر أمامي من كلام: بأن البشر يتساوون جميعًا في الموت، لو اتّضح أن هذا الأمر صحيحٌ فكيف سيتعرّف عليها أصحابها؟

    إضافةً إلى كتابة رقم الوجه ومكان الدفن، كنتُ أُلْحِقُ بعض الجمل بالصور. سكرين شات للصورة أكتب تحته العمر التقريبي؛ الجنس، الإصابة، مكان الحدث، وهذا كان يتطلّب الدقّة في الوصف أعني به مكان التَرْك! الموت! وهو على ما أظن أحدُ أشكال التَرْك الواضحة لي. وقد سمحت لنفسي بكتابة ملاحظات، من مثل أن صاحب هذه الصورة أو صاحبتها قد تركوا الجملة التالية في لحظاتهم الأخيرة، فأضيف: أحبّكم، ادعوا لي ليغفر الله لي، لا تنسوني، أولادي أمانة برقبتكم، الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله… ثم أُلْحِقُ الجملَ بتوصيف علاماتٍ مميزة، كأن أُصوّر خاتمًا في يد. حدث هذا ذات مرّة عندما وجدتُ إصبعًا لامرأة، صوّرتُ الخاتم في بنصرها، ثم وضعتُه كملحق سكرين شات مع وجهها، وعندما أضفتُه، صوّرت الخاتم؛ كان ذا فصّ أخضر، مُحاطًا بتزنيرة من الذهب، يتموّج بألوان خضراء غامقة وفاتحة، حتى أنه يبدو ككرة سحرية، عندما رأيته موضوعًا فوق الطاولة قرب الشموع، كان ينشر في المكان أشعةً متراقصةً على شكل حبيبات مثل جنّيات طائرة. اختفى الخاتم، أحدهم دسّه في جيبه، لكنه رحل معها في مقبرة الصور، وهذا طمأنني.

    كانت المشكلة مع صاحبة الوجه ذاك أن الخيوط التي أستعملُها في خياطة الجروح قد نفدت، ونحن نحتفظ بالخيوط اللحمية للجرحى، الحيّ أبقى من الميت، كانت هذه جملتنا التي نردّدها ونحن نعيد تشكيل صفّ الأجساد أثناء حملها إلى الخارج، ثم كنّا نضع الحالات الميؤوس منها في درجة اهتمام أقلّ، فلا سبيل لإنقاذها سوى بتخفيف الألم، والمورفين الذي لم يكن متوفرًا بما فيه الكفاية ندّخره لجرحى قابلين للعيش أو متماثلين للشفاء، كنّا نفعل ذلك دون تردّد، نتحرّك بنشاطٍ وآليةٍ منتظمة دقيقة وحاسمة. كنّا خمسة؛ امرأتان وثلاثة رجال في القبو نتناوب العمل، ماتوا جميعًا، وهو أمر لم أفهمه حتى الآن، لِمَ أخرجُ حيّةً؟! لِمَ أنجو بينما يرحل مَنْ حولي ويتركونني، لِمَ كنتُ هدفًا للتَرْك، وهم كانوا التاركين؟ خرجتُ حيّةً ولم يتغير في جسدي شيء سوى أن بطني انتفخت كبالون، وهذا أمر لم أجد له تفسيرًا، فقد كنّا جوعى دائمًا ولا يتوفّر لنا الطعام، أمّا التغيير الثاني فقد كان في آثار شكّات المآبر التي امتلأت بها أصابعي، وتحوّلت مع مرور الوقت إلى حبيباتٍ زرقاءَ، سرعان ما بهتت وبدت مثل نقاط حناء كبرت مع مرور الوقت، ولكن حينها وأنا أحاول مع وجه تلك المرأة العثور على خيوط كنتُ في حيرة من أمري، ووجدتُ أخيرًا الحلّ المناسب، اضطررتُ لاستخدام خيوط من كمّ سترة ملقاة جانبًا، أظن أني عرفتُ نوع القماش من ملمسه، دي إم سيه، وهذا النوع سيكون مناسبًا لو كررتُ الكمّ كله واستخدمتُ خيوطه، ثم شعرتُ أني أحبّ هذا النوع من القماش، ولا بدّ أني كنتُ أستخدمه، ورغم أني فكّرتُ بأن مهنتي ربما لم تكن خيّاطةً قبلًا، فلا شك أني كنتُ من أولئك النساء اللاتي لديهن شغفٌ بأنواع الأقمشة، لقد أنقذني ذلك الكمّ، كان لونه غريبًا مغبّرًا، أظنه كان أصفر! وهذا ما سهّل عملي لأني لن أضطرّ إلى وضع كمّية كبيرة من البودرة لإخفاء القُطب.

    أمّا عن عملي الذي أدّيته دون خطأ- رغم تراكم أعبائه- فقد أنشأتُ ملفًّا خاصًّا لكل صورة، وكنتُ بين حين وآخر أضيف انطباعاتي عنها مع الملحقات الخاصّة بها، وهكذا كانت صفاتي تزداد يومًا بعد يوم، وعندما أنتهي من عملي ولا أجد ما أقوم به، كنتُ أحاول العودة إلى موبايلي، أفعل ذلك بحرص وتقنين، إذ إن الكهرباء لم تكن متوفّرةً دومًا، مع ذلك أجد ما يكفي من طاقة الشحن لأضيف إلى بعض الصور كلماتٍ قالها أصحابها، وفي كل مرّة أضيف جملة، حتى تشكّلت نصوصٌ مرافقة للصور، وهكذا صرتُ سلمى؛ خيّاطة الوجوه، رسّامة الوجوه، مصوّرة الوجوه، حارسة المقبرة المضيئة. سلمى كاتبة الخُطب الأخيرة.

    لدي ما أضيفه هنا، فأنا مَنْ كانت تُحضّر الجنازة اللائقة، أنا الحانوتية، نعم أنا مَنْ كانت تغشُّ الأحياء وهم يُودّعون موتاهم وتأخذهم إلى حدادهم آمنين! هذا الأمر جعلني لاحقًا عندما تركنا المدينة، وخرجنا أرتالًا وحشودًا متدافعةً في حافلاتٍ خضراءَ، أقول: اسمي سلمى، وبيني وبين نفسي، أردّد: سلمى الغشّاشة. لم أجرؤ مرّة واحدة على تحويل صوتي الداخلي إلى كلام... حتى لو تمتمة! الأسرار لا يمكن حفظها إلا بنسيانها.

    اللعنة! اعتقدتُ أن كل شيء يكبر في هذه الأوقات ويبتلع ما حوله إلا ذاكرتي، باتت تزحف كدودة تحت الأرض وتخاف النهار… هكذا اعتقدتُ حتى هذه اللحظة وأنا أقف في هذه الساحة، وأتذكّر أن تلك التمتمة وذلك السرّ المدفون في شاشة موبايلي قد تحوّل إلى حقيقة، كنتُ فعلًا أحدّق في الوجوه الحيّة من حولي، كان هواءٌ ثقيلٌ وحارّ يسقط على رأسي في شهر تموز، وأشمّ رائحة الأجساد المتدافعة، وهذا لم يمنعني من تخيّل كيف يمكن إعادة خياطتها ورسمها من جديد. وجوهٌ تصطفّ جانب بعضها كما لو أنها ما تزال هناك في القبو.

يعمل...
X